بما أنَّ الله تعالى منح الإنسان كلّ الحواسّ والإمكانات الَّتي تؤهِّله كي يكون خليفةً على الأرض، فلا بدَّ له من أن يعي حقيقة هذه الخلافة، وأن يكون على مستوى مسؤوليَّاتها، لجهة وعي دوره وما يتوجَّب عليه. فأن تكون خليفةً لله على أرضه، لا يعني ذلك أن تأخذك العزَّة والكبرياء، وتعيش حالة انتفاخ الشَّخصيَّة والاستعلاء، فهذا لا ينسجم مع طبيعة الإنسان وفطرته الَّتي تحثُّه على أن يكون الإنسان الخلوق المحبّ لله والمنفتح على النّاس، يواسيهم من ماله وقوَّته وعلمه، ويعطيهم من نفسه كلَّ خيرٍ ورحمة، بحيث تتكامل المشاعر وتتفاعل الطّاقات، فتغني الحياة بكلِّ صدقٍ وصفاء.
لقد منحنا الله تعالى العقل الَّذي نفكِّر به وننطلق لنتلاقى من خلاله مع كلِّ الجهود المخلصة الَّتي تدعو الإنسان إلى مراجعة أحواله، والوقوف على نقاط الضَّعف، وإصلاح ذات البين، وتقوية الشّعور الجمعيّ، فلا معنى للخلافة ما لم تكن متحقّقةً وممتدّةً في كلّ ساحات الحياة، وهذا يتطلَّب وجود أناسٍ لا يظلمون ولا يعتدون على الحقوق، ولا يسيرون في طريق الباطل والفساد، ولا يمشون في عكس طريق الله تعالى الَّذي جعلنا خلائف الأرض، بحيث نأتي ويأتي غيرنا من بعدنا، ونمنح الحياة كلّ الطّاقات والغنى والحركة الممتدّة في عمق الزّمن.
فقد أرادنا الله تعالى أن نستفيد من كلِّ التنوّع البشريّ، ومن كلِّ الخصائص والمواهب المتفاوتة بين البشر، وأن نحسن إدارة هذا التنوّع ونستثمره في سبيل حفظ نظام الحياة واستقرارها، بالشَّكل الَّذي يعود بالخير على الجميع. إنَّ الله تعالى يعطينا المواهب كي نستغلّها، ويجعلنا أمامها في دائرة الاختبار ليمحّصنا وينظر كيف نتعاطى مع هذه الإمكانات، أنحركها في خطِّ الخير والفلاح، أم في خطِّ الضّياع والفوضى والباطل؟!
فمن أعطاه الله موهبة العلم والإبداع والمعرفة، عليه ألا يعيش حالة التكبّر، بل يتواضع لمن حوله ويعطيهم من علمه ومعرفته، ومن منحه الله القوَّة والسّلطان، عليه أن يستغلَّهما في حفظ الحقّ والدِّفاع عن المحرومين والمستضعفين، وأن يستغلَّ القوَّة لمواجهة الباطل وأهله، لا للتسلُّط على رقاب النَّاس.
إنَّ التنوّع ساحة للاختبار الإلهيّ، فلنحسن إدارة هذه الخصائص فينا، ولنمنح السَّلامة للبلاد والعباد.
يقول تعالى في كتابه العزيز: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[الأنعام: 165].. وفي تفسيرها، يقول المرجع السيِّد محمّد حسين فضل الله(رض):
"{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ}، وربما استفاد البعض من هذه الكلمة، معنى الجماعات اللاحقة الَّتي تخلُف جماعات متقدّمة على أساس التَّتابع التاريخيّ في حركة الوجود الإنسانيّ، ولكنّ ذلك قد لا ينسجم مع ظاهر الآية في توجيه الخطاب إلى النَّاس كافّةً، بقرينة قوله ـ في ما بعد ـ : {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}، فإنَّ ذلك من خصائص البشر في جميع مراحل حياتهم، في اختلاف درجاتهم في المواهب والكفاءات الذّاتيّة، وفي القدرات الماليَّة والجسديَّة، وفي المواقع الجغرافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، وفي غير ذلك من الأمور، فإنَّ هذا التنوّع في الأوضاع الإنسانيَّة لا يختصّ بمرحلةٍ زمنيَّةٍ دون مرحلة زمنيَّة أخرى.
{لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}، والمراد من البلاء هنا ـ في ما يظهر ـ هو الاختبار في ما يتصرّف فيه الإنسان تجاه أخيه الإنسان، على أساس ما يختلف عنه في تلك الأمور، فقد يسقط البعض في الامتحان عندما يستخدم ذلك في كثيرٍ من الأجواء الاستعراضيّة الّتي يتمثَّل فيها الشّعور بالزّهو والتكبُّر والاستعلاء والخيلاء، من خلال النظرة الفوقيَّة إزاء الناس الآخرين الّذين لا يملكون ما يملكه..
وقد ينجح بعض آخر فيه عندما يعي معنى هذا التنوّع في ما أراده الله من توزيع الأدوار في حركة الإنسان في الوجود، ليتحقَّق التفاعل الإنسانيّ بين الطّاقات المختلفة، والتَّكامل بين المواقع والمواقف، عندما يقدِّم كلّ واحدٍ من النَّاس ما لديه لمن يحتاجه، في مقابل ما يقدِّمه الآخر إليه، في شعورٍ متبادل بينهما.
ويبقى النّداء الإلهيّ يوحي للنَّاس بعقاب الله السَّريع لو انحرفوا وتمرَّدوا وعصوا، كما يوحي لهم بمغفرته ورحمته إن استقاموا لله وخضعوا له وأطاعوه، وليس للنّاس إلا أن يستجيبوا لنداء الله، وينسجموا مع تعاليمه، ويتحركوا في حياتهم على أساس التّوازن بين خطّ الخوف وخطّ الرّجاء، فلا يتغلّب جانب على جانب، لأنَّ ذلك يؤدّي إلى فقدان التوازن، وبالتالي إلى فقدان الانضباط، وهذا ما ينبغي لهم أن يتذكّروه ويثيروه في أعماقهم ومشاعرهم وأفكارهم دائماً، {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}".[تفسير من وحي القرآن، ج9، ص402، 403].
وما علينا سوى أن نترجم معنى الخلافة الحقيقيَّة، بأن نعيش في ذاتنا، ونعي حجمها وأبعادها وغاياتها، فصحيحٌ أنَّ الله تعالى منحنا التنوّع، ولكنَّه لم يترك لنا حريّة الفساد والعدوان، فالإنسان موكّل بالحياة كي يحفظ توازنها عبر حفظ مصالح الأمّة ككلّ.
وعلينا أن نعكس قيمة الخلافة في سلوكنا العمليّ، فنتجنَّب كلَّ ما يسيء إلى كرامتنا وحضورنا ووجودنا، وأن نسلك خطَّ الله ونعيش الاستقامة في القول والعمل، ونلغي كلّ الحواجز بيننا، والّتي تعيق التفاعل والانفتاح والتّواصل.
إنّنا نحتاج في زماننا إلى الالتقاء على قيمة الخلافة ومعناها الحقيقيّ الَّذي يدفع الفرد والجماعة إلى التّعاون والتّضامن، بما يكفل تحقيق المعنى القيميّ والأخلاقيّ والإنسانيّ المرتبط بالخطِّ الإلهيّ.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن جهة نظر صاحبها.