في أجواء سورة الهمزة

في أجواء سورة الهمزة

نبقى مع سورة من سور القرآن الكريم العظيمة بمدلولاتها وإيحاءاتها، ألا وهي سورة "الهُمَزة"، وهي من السّور المكّيّة، وآياتها تسع، وتقوم على أساس تصوير من ينحرف في سلوكه، فيمارس الطّغيان والظّلم والتعدّي على حدود الله، الّذي أعطاه الغنى المادّيّ، فيشعر نتيجة لذلك بالانفتاح الشّخصيّ، فيأخذه الاستعلاء والتكبُّر مآخذ لا تنسجم مع حقيقة الشخصيّة الإيمانيّة، في التّواضع، والشعور بالتّضامن والانفتاح على كلّ شرائح المجتمع، كما لا تنسجم مع إنسانيّة الإنسان، لجهة احترام كرامات الآخرين، وممارسة الدور الاجتماعي المطلوب في تعزيز روح الجماعة، والمشاركة في ترسيخها، لجهة التعاطي مع كلّ الأمور العامّة والخاصة.

فالغنى المادّيّ له وظيفته في ضخّ كلّ ما يصلح الحياة ويعمرها، عبر التّكافل الاجتماعي، وإعانة الفقراء، وقضاء حوائج المحتاجين. فالمال أمانة الله لدى الإنسان، ويجب أن يعرف كيف يستثمره كطاقة للبناء والإنتاج، والمحافظة على توازن المجتمع وأمنه وأمانه، بما يقوّي أواصر الرّوابط الاجتماعيّة والإنسانيّة.

إذاً، المال يدخل كجزء أساس من ضمن مسؤوليّة الإنسان الكبرى الّتي تنفتح على كلّ المشاعر الإنسانيّة، بما لا يسيء إلى الفقراء والمحتاجين بأيّ شكل من الأشكال، على مستوى القول والفعل.

يفسّر سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) السّورة بقوله:

"{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}. والمعنى: ويلٌ للإنسان الّذي يعيش مع الناس ليطعن فيهم بمختلف وسائل الطعن في كرامتهم، فيسيء إليهم بذكر عيوبهم بغير حق، أو بنسبة العيوب التي لا وجود لها في واقعهم الذاتي الأخلاقي. إنّ الله ينذره بالويل الذي يصرخ في وجدانه ليعرّفه قدره ومصيره عنده.

{الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ}، حتى بلغ الحجم الكبير الّذي يرتفع به في حساباته الذاتيّة إلى المستوى الرفيع في الوضع الطبقي. وربما أدّى ذلك إلى الاستغراق في النتائج العمليّة التي تحدث له من خلال المال، بحيث يشعر بأنّ من الممكن أن يحقّق له حمايةً من الموت.

{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}، لأنّه يلبِّي له الكثير من حاجاته الحياتيّة، فيخيّل إليه أنّ من الممكن أن يلبّي له الحاجة إلى الخلود في الدّنيا، ولكنّه يعيش الوهم الكبير في ذلك، لأنّ المال قد يلبّي بعض حاجات الحياة، ولكنّه لن يمنح الحياة نفسها، أو الامتداد فيها.

{كَلاَّ}. إنّ الله يرفض هذه الظنون الخياليّة التي تضخّم للإنسان شخصيّته، ليتحوّل إلى حالة انتفاخيّة في أجواء الكبر والاستعلاء، كما يرفض هذا الإنسان نفسه في عقليّته وسلوكه، لأنّه يسيء إلى النّاس.

{لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} الّتي تحطِّم كلّ كيان الإنسان الذي يدخلها، لأنها تحرق كلّ شيء فيه. وهكذا يتحوّل مصير هذا المخلوق المستكبر المحتقر للآخرين ممن هم دونه مالاً، إلى أن ينبذ في النّار كما تنبذ الأشياء الحقيرة الّتي لا غنى فيها. {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} فهي من المفاهيم التي قد يدرك الإنسان معناها اللّغويّ في ما توحي به من معنى الموقع الّذي تتحطّم الأشياء فيه، ولكنّه لا يدرك حقيقته الواقعيّة في وجوده الفعلي.

{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} الّتي أوقدها الله وأشعلها لتكون محرقةً للكافرين والمستكبرين والطاغين. {الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ} فتنفذ إلى داخل الإنسان لتحرقه، كما تطلّ على الظّاهر لينال عذابه. والمراد بالأفئدة القلوب، وربما كان هذا كنايةً عن الكيان الإنساني الداخليّ، إمعاناً في صورة العذاب التي تحتوي الكيان كله.

{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أي مغلقةٌ مطبقةٌ، لا تسمح لأحد منهم بالخروج إلى خارجها للابتعاد عنها والنّجاة منها. {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} قيل إنها أوتاد الأطباق الّتي تطبق على أهل النار. وقيل: هي عمد ممدّدة يوثقون فيها مثل المقاطر، وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق توضع فيها أرجل المحبوسين من اللّصوص وغيرهم.

وهذه هي الصّورة البائسة التي يعيش فيها هؤلاء الأغنياء الطّغاة الذين استكبروا على رسالات الله، فكفروا بها، وكذبوا الرّسل الذين جاءوا بها، وعلى النّاس، فأساؤوا إليهم وأذلّوهم بمختلف الوسائل الّتي يملكونها. إنها صورة المصير الذّليل الّذي يريد الله أن يقدّمه إليهم وإلى الذين يريدون أن يقتدوا بهم، ليتراجعوا عن ذلك، فينفتحوا على الله، وعلى الجانب الخيّر من الحياة، في ما يؤكّده الله من السّير على الصّراط المستقيم في ذلك كلّه".[تفسير من وحي القرآن، ج 24، ص: 414-415].

ونتعلّم من هذه السورة المباركة، أنَّ الاستكبار والاستعلاء هو من أخلاقيّات الإنسان البعيد عن فطرته، والبعيد عن أوامر ربه وحدوده، وأنَّ الغنى الحقيقيّ هو في مرضاة الله، والإفادة من كلّ الطاقات المادية والمعنوية، في سبيل إعمار الواقع بكلّ ما ينفعه وينسجم مع مسيرة استخلاف الأرض.

كما نتعلَّم الحذر من الاستغراق في المادّة، من أموال وسلطة وجاه ومناصب وغير ذلك، لننسى الآخرة وحساباتها، ونغرق في الحسابات الدنيويّة التي لا تنتهي، فكلّ هذه الأمور لا تجلب خلوداً للمرء مهما بلغ شأنه، بل الخلود الحقيقيّ في الالتزام المسؤول والواعي لحدود الله تعالى.

ولا ضير في عرض ما ذكره القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن"، عن الآية الكريمة: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}، يقول: "سورة الهمزة مكيّة بإجماع، وقد تقدّم القول في "الويل" في غير موضع، ومعناه الخزي والعذاب والهلكة.. "لكلّ همزة لمزة"، قال ابن عباس: هم المشّاؤون بالنّميمة، المفسدون بين الأحبّة".

وقال النبيّ(ص): "شرار عباد الله تعالى، المشّاؤون بالنّميمة، المفسدون بين الأحبّة، الباغون للبُراء العيب"..

وعن ابن عباس: أنّ "الهُمَزة الذي يغتاب، واللّمزة العيّاب.. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح: الهمزة: الّذي يغتاب ويطعن في وجه الرّجل، واللّمزة: الّذي يغتابه من خلفه إذا غاب...".

على المرء الحذر الشّديد في تفاعله ومعايشته لأوضاعه المادّية والمعنويّة، بحيث يكون دقيقاً لجهة ضبط مواقفه وسلوكيّاته، بما يتناسب مع خطّ الله تعالى في حفظ حدوده، وأن يكون مثال الإنسان المؤمن بحقّ، الّذي يعيش المفاهيم الإسلاميّة شعوراً واعتقاداً وممارسةً...

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .



نبقى مع سورة من سور القرآن الكريم العظيمة بمدلولاتها وإيحاءاتها، ألا وهي سورة "الهُمَزة"، وهي من السّور المكّيّة، وآياتها تسع، وتقوم على أساس تصوير من ينحرف في سلوكه، فيمارس الطّغيان والظّلم والتعدّي على حدود الله، الّذي أعطاه الغنى المادّيّ، فيشعر نتيجة لذلك بالانفتاح الشّخصيّ، فيأخذه الاستعلاء والتكبُّر مآخذ لا تنسجم مع حقيقة الشخصيّة الإيمانيّة، في التّواضع، والشعور بالتّضامن والانفتاح على كلّ شرائح المجتمع، كما لا تنسجم مع إنسانيّة الإنسان، لجهة احترام كرامات الآخرين، وممارسة الدور الاجتماعي المطلوب في تعزيز روح الجماعة، والمشاركة في ترسيخها، لجهة التعاطي مع كلّ الأمور العامّة والخاصة.

فالغنى المادّيّ له وظيفته في ضخّ كلّ ما يصلح الحياة ويعمرها، عبر التّكافل الاجتماعي، وإعانة الفقراء، وقضاء حوائج المحتاجين. فالمال أمانة الله لدى الإنسان، ويجب أن يعرف كيف يستثمره كطاقة للبناء والإنتاج، والمحافظة على توازن المجتمع وأمنه وأمانه، بما يقوّي أواصر الرّوابط الاجتماعيّة والإنسانيّة.

إذاً، المال يدخل كجزء أساس من ضمن مسؤوليّة الإنسان الكبرى الّتي تنفتح على كلّ المشاعر الإنسانيّة، بما لا يسيء إلى الفقراء والمحتاجين بأيّ شكل من الأشكال، على مستوى القول والفعل.

يفسّر سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) السّورة بقوله:

"{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}. والمعنى: ويلٌ للإنسان الّذي يعيش مع الناس ليطعن فيهم بمختلف وسائل الطعن في كرامتهم، فيسيء إليهم بذكر عيوبهم بغير حق، أو بنسبة العيوب التي لا وجود لها في واقعهم الذاتي الأخلاقي. إنّ الله ينذره بالويل الذي يصرخ في وجدانه ليعرّفه قدره ومصيره عنده.

{الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ}، حتى بلغ الحجم الكبير الّذي يرتفع به في حساباته الذاتيّة إلى المستوى الرفيع في الوضع الطبقي. وربما أدّى ذلك إلى الاستغراق في النتائج العمليّة التي تحدث له من خلال المال، بحيث يشعر بأنّ من الممكن أن يحقّق له حمايةً من الموت.

{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}، لأنّه يلبِّي له الكثير من حاجاته الحياتيّة، فيخيّل إليه أنّ من الممكن أن يلبّي له الحاجة إلى الخلود في الدّنيا، ولكنّه يعيش الوهم الكبير في ذلك، لأنّ المال قد يلبّي بعض حاجات الحياة، ولكنّه لن يمنح الحياة نفسها، أو الامتداد فيها.

{كَلاَّ}. إنّ الله يرفض هذه الظنون الخياليّة التي تضخّم للإنسان شخصيّته، ليتحوّل إلى حالة انتفاخيّة في أجواء الكبر والاستعلاء، كما يرفض هذا الإنسان نفسه في عقليّته وسلوكه، لأنّه يسيء إلى النّاس.

{لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} الّتي تحطِّم كلّ كيان الإنسان الذي يدخلها، لأنها تحرق كلّ شيء فيه. وهكذا يتحوّل مصير هذا المخلوق المستكبر المحتقر للآخرين ممن هم دونه مالاً، إلى أن ينبذ في النّار كما تنبذ الأشياء الحقيرة الّتي لا غنى فيها. {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} فهي من المفاهيم التي قد يدرك الإنسان معناها اللّغويّ في ما توحي به من معنى الموقع الّذي تتحطّم الأشياء فيه، ولكنّه لا يدرك حقيقته الواقعيّة في وجوده الفعلي.

{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} الّتي أوقدها الله وأشعلها لتكون محرقةً للكافرين والمستكبرين والطاغين. {الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ} فتنفذ إلى داخل الإنسان لتحرقه، كما تطلّ على الظّاهر لينال عذابه. والمراد بالأفئدة القلوب، وربما كان هذا كنايةً عن الكيان الإنساني الداخليّ، إمعاناً في صورة العذاب التي تحتوي الكيان كله.

{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أي مغلقةٌ مطبقةٌ، لا تسمح لأحد منهم بالخروج إلى خارجها للابتعاد عنها والنّجاة منها. {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} قيل إنها أوتاد الأطباق الّتي تطبق على أهل النار. وقيل: هي عمد ممدّدة يوثقون فيها مثل المقاطر، وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق توضع فيها أرجل المحبوسين من اللّصوص وغيرهم.

وهذه هي الصّورة البائسة التي يعيش فيها هؤلاء الأغنياء الطّغاة الذين استكبروا على رسالات الله، فكفروا بها، وكذبوا الرّسل الذين جاءوا بها، وعلى النّاس، فأساؤوا إليهم وأذلّوهم بمختلف الوسائل الّتي يملكونها. إنها صورة المصير الذّليل الّذي يريد الله أن يقدّمه إليهم وإلى الذين يريدون أن يقتدوا بهم، ليتراجعوا عن ذلك، فينفتحوا على الله، وعلى الجانب الخيّر من الحياة، في ما يؤكّده الله من السّير على الصّراط المستقيم في ذلك كلّه".[تفسير من وحي القرآن، ج 24، ص: 414-415].

ونتعلّم من هذه السورة المباركة، أنَّ الاستكبار والاستعلاء هو من أخلاقيّات الإنسان البعيد عن فطرته، والبعيد عن أوامر ربه وحدوده، وأنَّ الغنى الحقيقيّ هو في مرضاة الله، والإفادة من كلّ الطاقات المادية والمعنوية، في سبيل إعمار الواقع بكلّ ما ينفعه وينسجم مع مسيرة استخلاف الأرض.

كما نتعلَّم الحذر من الاستغراق في المادّة، من أموال وسلطة وجاه ومناصب وغير ذلك، لننسى الآخرة وحساباتها، ونغرق في الحسابات الدنيويّة التي لا تنتهي، فكلّ هذه الأمور لا تجلب خلوداً للمرء مهما بلغ شأنه، بل الخلود الحقيقيّ في الالتزام المسؤول والواعي لحدود الله تعالى.

ولا ضير في عرض ما ذكره القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن"، عن الآية الكريمة: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}، يقول: "سورة الهمزة مكيّة بإجماع، وقد تقدّم القول في "الويل" في غير موضع، ومعناه الخزي والعذاب والهلكة.. "لكلّ همزة لمزة"، قال ابن عباس: هم المشّاؤون بالنّميمة، المفسدون بين الأحبّة".

وقال النبيّ(ص): "شرار عباد الله تعالى، المشّاؤون بالنّميمة، المفسدون بين الأحبّة، الباغون للبُراء العيب"..

وعن ابن عباس: أنّ "الهُمَزة الذي يغتاب، واللّمزة العيّاب.. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح: الهمزة: الّذي يغتاب ويطعن في وجه الرّجل، واللّمزة: الّذي يغتابه من خلفه إذا غاب...".

على المرء الحذر الشّديد في تفاعله ومعايشته لأوضاعه المادّية والمعنويّة، بحيث يكون دقيقاً لجهة ضبط مواقفه وسلوكيّاته، بما يتناسب مع خطّ الله تعالى في حفظ حدوده، وأن يكون مثال الإنسان المؤمن بحقّ، الّذي يعيش المفاهيم الإسلاميّة شعوراً واعتقاداً وممارسةً...

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .


اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية