{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: 190، 191].
هاتان الآيتان المليئتان بالدروس والعِبَر والمفاهيم، يستلهم الإنسان منهما تعاليم تهدف إلى بنائه وتأصيل شخصيّته ووجوده.
ففي هاتين الآيتين، دعوة صريحة للناس للتفكُّر والتدبُّر بعظيم آيات الله ونعمه السماويّة والأرضيّة الّتي لا تعدّ ولا تُحصى، في تعاقب اللّيل والنّهار، وما ينتج من حركة الزمن واختلاف الفصول والأزمنة، ليعرف المرء أنّ كل شيء قائم على نظام دقيق، ويخضع لحكمة إلهية وإرادة ربانية تسيّره وتستحثّ عقله وشعوره، للإيمان بالله عن وعي وقناعة ومعرفة ناجمة عن إعمال العقل في اكتشاف الحق والحقيقة، بحيث يقوى على مواجهة التحديات الفكرية والوجودية.
وفي تفسيرهما، يقول سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض): "{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ}، إنّ القرآن يحدّد المنهج في الفكر الّذي يلاحق الظواهر الكونيّة في عمليّة تأمّل وتدبُّر وتفكير، فيكتشف أنّ هناك عقلاً واسعاً كاملاً يخطّط للكون ونظامه، وإرادة قوية فاعلة قادرة تسيطر عليه، وتوجّه حركته، وتمسكه، وتحفظه من الانهيار والضّياع، فذلك هو النهج الذي يمكن أن يكون آيةً للعقول التي تفكّر في كلّ ما حولها ومَن حولها، ولأصحابها الّذين لا يتحركون في الحياة ولا يحكمون على الأشياء، سلباً أو إيجاباً، إلا من خلالها، وبهذا يلتقي العلم والدين في وجود الله، وفي تكامل الإنسان من خلال هذه الوجود، على أساس النتائج التي يتوصّل إليها في أبحاثه ودراساته، لأنّ الدين لا يدعو إلى الإيمان الأعمى ـ في ما يدعو إليه من إيمان ـ بل يعمل على خطّ الإيمان المنفتح الواعي المبني على التّحليل والتفكير الدقيق..."[من وحي القرآن، ج 6، ص 454].
وجاء في (تفسير القرطبي): "ختم تعالى هذه السّورة بالأمر بالنّظر والاستدراك في آياته، إذ لا تصدر إلا عن حيّ قيّوم وقدّوس سلام غني عن العالمين، حتى يكون إيمانهم مستنداً إلى اليقين لا إلى التقليد. {لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ}، الذين يستعملون عقولهم في تأمّل الدلائل. وروي عن عائشة أنها قالت: لما نزلت هذه الآية على النبي، قام يصلّي، فأتاه بلال يؤذِنُه بالصّلاة، فرآه يبكي، فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! فقال(ص): "يا بلال، أفلا أكون عبداً شكوراً ـ ولقد أنزل الله عليَّ اللّيلة آية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ} ـ ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها".[الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص310].
فالله تعالى دائم الحضور في دائرة الشّعور والفكر، لا يغيب عن حركة الإنسان المؤمن، بحيث يقيم كلّ حساباته على أساس مرضاة الله، فيذكر الله على الدّوام، فتأتي تصرّفاته من خلال وعيه الكامل لله تعالى، لتأصيل موقفه وشخصيّته وتفاعله مع قضايا الوجود من حوله.
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}. وفي تفسيرها، يقول المرجع فضل الله(رض): "لأنهم يرونه في كلّ ظاهرة خارج نطاق الجسم، وفي كلّ حركة من حركات الجسد في داخله وخارجه، فلا يغيب عنهم لحظة واحدة، لأنّه يملك عليهم الحسّ والشعور، وإذا ذكروا الله في ذلك كلّه، فإنّ هذا الذّكر لا يتحول إلى حالة صوفية متشنّجة تجعل الإنسان يغرق في الذات في مثل الغيبوبة الروحية التي تربطه باللاوعي، بل يتحوّل إلى وعي كامل للكون من خلال الله...". [من وحي القرآن، ج 6، ص 456].
المؤمنون إذاً يذكرون الله في كلّ أوقاتهم وأوضاعهم، لأنّه مرتكز في عقولهم وقلوبهم، ويتحرّكون وفق تعاليمه، فيقبلون على الحياة بقلوب مفعمة بالطمأنينة والسلام، وبعقول واعية منتجة تعمر الحياة بكلّ منفعة.
وفي (تفسير القرطبي): "{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}، ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصر زمانه، ومن هذا المعنى قول عائشة: كان رسول الله(ص) يذكر الله على كلّ أحيانه".
ويتابع سماحة المرجع السيّد فضل الله تفسيره للآية الكريمة: "{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}، فقد انطلقت الحياة من خلال الحكمة في ظواهرها الخاضعة للنّظام الكوني الشّامل. وهكذا، أرادت للإنسان أن يتحرّك على أساس الحكمة في أقواله وأفعاله، باعتباره المظهر الحيّ المتحرّك للحياة النابضة بالروح، لتتكامل الحياة في ظواهرها الكونيّة والإنسانيّة، فتنطلق من قاعدة النظام الكامل الحكيم.
{فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} التي تمثّل الخزي، كلّ الخزي، للإنسان، في ما تمثّله من أوضاع مهينة يتحول فيها إلى كمية مهملة وشيء حقير، كأية حجارة مرميّة في أية زاوية من زوايا جهنّم، في الوقت الذي يواجه الذلّ والحقارة في صورة العذاب الّذي يتعرّض له...".[من وحي القرآن، ج 6، ص 456].
هاتان الآيتان المباركتان يقف عندهما المؤمنون الذّاكرون، ليزدادوا إيماناً بربهم وقدرته، وذكراً له، وشكراً وحمداً، وليحرّكوا كلّ قدراتهم وأحاسيسهم في التدبّر والتفكّر والتأمّل الإيجابي، الّذي ينعكس على صاحبه قوّةً في الإيمان، وقوّةً في وعي الحياة والوجود، وقوّةً في المسؤوليّة الملقاة عليه، حيث يقيم كلّ حركته على أساس ذكر الله ومرضاته، ويخضع كلّ حساباته، مهما كان نوعها، لحسابات الله والآخرة.
إنّ من تمام النّعمة وكمالها على العبد أن يكون من المتفكّرين المتدبّرين، الذاكرين لله، الشاكرين له، العاملين في خطّه، لأنّ من يغيب الله عن دائرة شعوره وفكره، يسير في الحياة أعمى البصر والبصيرة، ويخسر دنياه وآخرته، كالصمّ البكم الّذين لا يعقلون، وكما يقول تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف: 105]، فالتذكّر حياة للنّفوس، والغفلة موت للفكر والشّعور.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .