ورد في "تفسير القرطبي"، أنَّ النسائي روى عن ابن عبّاس أنّه قال: "لما قدم النّبي(ص) المدينة، كانوا من أخبث النّاس كَيْلاً، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ}[1]، فأحسنوا الكيل بعد ذلك". وعن ابن عباس، أنّ "المطفّفين" هي أوّل سورة نزلت على الرّسول(ص) ساعة نزل في المدينة، وكان أهلها إذا اشتروا، استوفوا بكيل راجح، فإذا باعوا، بخسوا المكيال والميزان، فلمّا نزلت هذه السّورة انتهوا، فهم أوفى النّاس كيلاً إلى يومهم هذا.
ويقول سماحة المفسِّر المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض): "هذه السّورة يمكن أن تكون مكّيّة من خلال الطَّبيعة العامة للسّياق، الَّذي يتحدّث عن الضَّوضاء الّتي كان المشركون يثيرونها حول اليوم الآخر وحول المؤمنين، مما ينجسم مع الأجواء المكّيّة. ولكنّ هناك رواية رواها القمّي في تفسيره، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(ع)، قال: "نزلت ـ يعني سورة المطففين ـعلى نبي الله(ص) حين قدِم المدينة، وهم يومئذٍ أسوأ النّاس كيْلاً، فأحسنوا الكيل". [تفسير من وحي القرآن، ج24، ص:121].
قال أهل اللّغة: المطفِّف مأخوذ من الطَّفيف، وهو القليل. والمطفّف هو المُقلّ حقَّ صاحبه، بنقصانه عن الحقّ في كيْل أو وَزن. وقال الزّجّاج: إنما قيل للفاعل من هذا مطفِّف، لأنّه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشّيء الطفيف الخفيف، وإنما أخذ من طفّ الشّيء، وهو جانبه.
إذاً، التَّطفيف هو النّقص في المكيال والميزان، بمعنى عدم إعطاء الشّيء حقّه. وفي هذه السّورة المباركة من القرآن الكريم، إشارة واضحة وصريحة إلى هؤلاء الّذين يهدرون الكرامات، ويعتدون على الحُرُمات، ويتجاوزن حدود الخالق، فإذا بهم يُخلُّون بمبدأ العدل الّذي وضعه الله تعالى ميزاناً لضبط أمور الإنسان والحياة، كي تستقيم وتتقدّم، ولا يسيطر على مناحيها الطّغيان والفساد والإفساد، فيما يؤدّي إلى إثارة البغضاء والعداوات، وإلحاق الظّلم والغبن بالآخرين.
يقول الباري عزّ وجلّ: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ}. وفي تفسير هذه الآية، يقول السيّد محمد حسين فضل الله(رض): "هذه هي صورة هؤلاء الّذين يخلّون بالخطّ المتوازن للتَّعامل الاقتصاديّ بين النّاس، القائم على أساس العدل في المعاملة، الّذي يؤكّد للإنسان أنَّ له حقاً وللنّاس حقوقاً، فعليه أن يأخذ حقّه منهم دون زيادة، وأن يعطيهم حقّهم دون نقصان، ليتوازن الواقع في ذلك".
ويتابع: "وهذا الخطّ الرّافض للتَّطفيف، هو جزء من الخطّ الإسلاميّ العام، الّذي يؤكّد المبدأ القائل: "عامل النّاس بما تحبّ أن يعاملوك به"، ليكون الإنسان المسلم في خلقه الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسّياسيّ، إنسان العدالة الَّذي يفكِّر في الواقع من خلال المبدأ، لا من خلال الذّات، فيربّي ذاته على أساس التوازن في العلاقات والمعاملات بينه وبين النّاس.
{أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}[2]، ألا يطوف بأذهانهم أنَّ هناك يوماً يحاسبون فيه على هذه الجريمة... {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[3]، الَّذي يملك السّيطرة المطلقة على القيامة كلّها. {كَلاَّ}، إنَّه الرّفض للتَّطفيف، ولهذه الغفلة المطبقة على عقولهم، {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ}[4]، فلكلّ عملٍ في الحياة تقواه وفجوره، وهناك كتابهم الَّذي يحصي أعمالهم بكلّ دقّة، ويقول القرآن عنه: إنّه سجّين؛ هذه الكلمة الّتي توحي بالسّجن في الأسلوب الَّذي يوحي بالتّهويل، إذ يجمع الكتاب أعمال الفجار كلّها ويثبتها، بحيث لا يفوته شيء منها...
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[5]، الّذين يستحقّون هذا الدّعاء الموحي بالكارثة المصيريّة المعبِّرة عن الهلاك في ما يثيرونه في أقوالهم، وفي ما يجسّدونه في أفعالهم. {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[6]، من الذين يحملون في أنفسهم نزعة العدوان، ويعيشون في حياتهم حركة الإثم والمعصية. {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[7]، في ما توحي به كلمة الأساطير من معنى الأباطيل، لأنَّ الأسطورة تمثّل القصَّة الخرافيَّة الّتي لا تلتقي بالحقيقة الموضوعيَّة في الواقع.
{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[8]، فإنّ العمل السيّئ الَّذي يكسبه الإنسان بسوء اختياره، قد يترك تأثيراً سلبياً في عقله وقلبه، فيمنعه من وضوح الرؤية، كما هو الغشاء الّذي يحدث للعين، فيمنعها من الإبصار، وهذا ما توحي كلمة "الرّيْن"، وهو عبارة عن الصَّدأ الّذي يعلو الشّيء.. {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}[9]، لأنَّ الذّنوب العقيديَّة والعمليَّة تبعد الإنسان عن الله، بما تثيره من غضب الله عليه، فيطرده من رحمته، {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}[10]، في كلّ عذابها اللاهب، وذلّها المرير، وحزنها الكبير".[تفسير من وحي القرآن، ج24، ص:123-133].
إنَّ التَّطفيف يطاول مجالات الحياة الأخرى، كما يطاول المجال الاقتصاديّ، فترى الكثيرين لا يصلون إلى حقوقهم، وتُنقَّص أقدارهم، وتطلق حملات التشويش عل مسيرتهم، وهو ما يحرم الحياة من كثير من الطاقات والإمكانيّات. والتطفيف يطاول الفكر أيضاً، بمعنى أنّه لا يُعطى الفضاء الرّحب الذي يتنفّس فيه، ليعيش وينطلق في عمليّة بناء الذات والجماعة. وكلّ تعدٍّ على الحياة، والفكر، والعلاقات، والمعاملات الإنسانيّة، هو محقّق لمفهوم التطفيف.
فالقرآن الكريم يدعو إلى مواجهة الواقع المنحرف، ونسف المنطق الاستهلاكيّ والمادّيّ، الَّذي يهدر وجود الإنسان ومسيرته، كما يدعو إلى التنبّه إلى أمر الحساب الإلهي الَّذي لا يغفل شيئاً، والعمل لتأسيس الأجواء الطيّبة على الصّعد كافّةً في الواقع، بما يقوّي الإنسان، ويقرِّبه من الله، لينال الفوز برضوانه ونعيمه...
محمد فضل الله
[1] (المطففين: 1).
[2] (المطففين: 4 - 5 ).
[3] (المطففين: 6).
[4] (المطففين: 7 - 8 - 9 ).
[5] (المطففين: 10 - 11).
[6] (المطففين: 12).
[7] (المطففين: 13).
[8] (المطففين: 14).
[9] (المطففين: 15).
[10] (المطففين: 17).
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .