الحسابات الفلكيَّة ليست بديلاً من الرّؤية

الحسابات الفلكيَّة ليست بديلاً من الرّؤية

إنَّ الحسابات الفلكيّة ليست بديلاً من الرؤية. وتنحصر طرق إثبات الأهلّة للأشهر القمريّة بالرؤية، والبيّنة العادلة، والشّياع المفيد للعلم، ومرور ثلاثين يوماً على الشّهر السّابق.. فهذه الطرق لا يمكن أن تتغيَّر أو تتبدَّل مع مرور الزمن، مهما تطوَّرت الوسائل العلميَّة، فإنّه لا يحقّ للعلم مهما بلغ من تطوّر، أن يلغي موضوعاً من الموضوعات الشرعيّة أو يبدّله، وهذا محلّ وفاقٍ واتّفاق بين أهل الفقه والشرّع، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم.

والنّاظر في الأدلَّة الشرعيَّة ـ سواء كان فقيهاً أو متفقّهاً أو مدّعياً للفقاهة ـ يعرف أنَّ النبي(ص) والأئمَّة(ع) والصَّحابة(رض)، أكَّدوا مبدأ الرّؤية في تعيين بدايات الأشهر القمرية، ولم يختلف اثنان منهم في ذلك قديماً وحديثاً.

ألا يروي الكلّ قول النبيّ(ص): "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"؟ وألم يرد في بعض مرويّات أهل البيت(ع): "إنَّ شهر الله لا يؤدّى بالتظنّي، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.."؟ فكلّ طريقٍ يفيدنا الظّنّ بدخول الشهر القمري، لا يمكن الاعتماد عليه أبداً، لأن شهر الله لا يؤدّى بالطرق الظنيّة أبداً، بل لا بدّ من اليقين بدخول الشهر، حتى يمكن الابتداء بالصيام أو يمكن الإفطار، قضاءً لقوله(ص): "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، وهذا إنما يكون في ليلة الثلاثين من كلّ شهر، فإنَّ الشَّهر لا يكون إلا 29 يوماً أو 30 يوماً.

ونحن أمام حقيقة ناصعة لا لبس فيها أبداً، إلا لمن كان في قلبه مرض، أعاذنا الله من ذلك، فالشَّهر يبدأ إمَّا بالرؤية، أو بمضيّ ثلاثين يوماً على الشّهر السّابق، ولا ضرورة للرّؤية عندئذٍ، فبمجرّد مضيّ ثلاثين يوماً يبدأ الشَّهر الجديد، رؤي الهلال أو لم ير... لأنَّ الشَّهر لا يزيد عن ثلاثين يوماً. نعم، لا بدَّ في الأشهر النّاقصة من الرؤية الصَّحيحة للهلال، حتى نحكم ببداية الشَّهر الجديد.

والحاصل أنّه في الأشهر النّاقصة، لا بدَّ من رؤية الهلال الجديد، وإلا فلا بدَّ من اعتبار الشَّهر تامّاً، ويكون عندئذٍ ثلاثين يوماً.

والسؤال المثير للجدل: ما هو دور الحسابات الفلكيّة؟

ويكثر هذا السّؤال، وخصوصاً بعد التطوّر الهائل الذي أحرزه علم الفلك في الكثير والعديد من مجالاته، فهل يمكن اعتبار الحسابات الفلكيّة المتعلّقة بالأشهر القمرية طريقاً مغايراً لمبدأ الرّؤية، ولا بدَّ من طرحه ورفضه، لأنَّ الأدلّة الفقهيّة حصرت المسألة بالرؤية؟

لا بدّ من طرح هذه المسألة وتوضيحها، حتى يزول الكثير من الجدل حول طرق إثبات الأشهر القمريَّة.

دور الحسابات الفلكيَّة

يمكن للحسابات الفلكيّة أن تفيدنا غالباً أحد أمرين، فإمّا استحالة الرؤية وإمّا إمكانيّتها، فإذا اتّفقت كلمة الفلكيّين على الاستحالة أو تعذّر الرؤية ـ ونعني بالاستحالة عدم وجود الهلال في الأفق، وبالتعذّر وجوده في الأفق، لكونه خرج من المحاق، لكنّه لم يبلغ درجةً كافيةً من الضّوء تسمح برؤيته ـ فيمكن لنا الاعتماد على ذلك، لنفي دخول الشّهر الجديد، وعدم قبول الشّهادات، لأنّها تكون خاطئةً عندئذٍ، حيث تشهد بوجود شيءٍ غير موجود أصلاً، أو تتعذّر رؤيته لكونه غير قابلٍ للرّؤية.

وهذا هو الجانب السّلبي[1] للحسابات الفلكيّة، والعديد من الفقهاء يأخذون بهذا الجانب، لأنّ من شرط البيّنة أن لا تكون خاطئة، أو محتملة لذلك احتمالاً معتدّاً به، بحيث لا يمكن الاطمئنان بصحَّة ما تشهد به[2].

ويكفي ملاحظة العديد من الفتاوى في هذا المجال[3] الّتي لا تقبل الشَّهادة التي يعلم خطؤها، حيث نعلم بكذب[4] هذا النَّوع من الشَّهادات، وإن كنّا نريد أن نحسن الظّنّ بأصحابها، لأنَّ الأمر بتصديق العادل أو الثّقة، يعني أنّه لا يتعمَّد الكذب لوثاقته أو عدالته، والتي تمنعه من ذلك عادة، ولو تعبّداً، وأمّا أنه لا يخطئ أو فوق الشّبهة، فهذا ما لا يقول به أحد.

وهناك جانب آخر في الحسابات الفلكيّة، وهو الجانب الإيجابيّ، وهو الذي يثير الجدل في بدايات الأشهر القمرية، وخصوصاً في شهري رمضان وشوّال من كلّ عام، ويكثر القيل والقال حتى ممن لا يفقه شيئاً في هذا المجال.

وللتّوضيح أكثر، لا بدّ من بيان وظيفة الحسابات الفلكيَّة في تحديد بدايات الأشهر القمريَّة ودورها.

توجد مرحلتان في الجانب الإيجابيّ من الحسابات الفلكيَّة:

-المرحلة الأولى: تحديد ولادة الهلال الجديد وتوقيته، بمعنى تحديد فترة المحاق، عندما لا يعكس القمر أيَّ مقدار من الضوء، وتكون الزاوية بين القمر والشّمس صفراً، ويكون القمر والشَّمس والأرض على خطٍّ مستقيم واحد بحسب مراكزها ككرات، وهذا ما يعبَّر عنه بالاقتران المركزي[5].

وهذا بمجرّده لا يفيدنا شيئاً، إذ لا يكفي العلم بولادة الهلال للحكم ببداية الشهر القمري الجديد. ومن يرى صحّة الاعتماد على الحسابات الفلكيَّة، لا يكفه هذا المقدار، ولا يعوّل عليه أبداً، لأنّه وإن كان أمراً قطعيّاً لا يشوبه أدنى شكّ، لاعتماده على معادلات رياضيّة ونظريات فيزيائيّة قطعية، إلا أنّه لا يحقّق لنا موضوع دخول الشّهر، ولا ينقّح مسألة الرؤية التي هي الأساس في دخول الشّهر.

وهذا المقدار هو الّذي يمكن أن يطرح بديلاً من الرّؤية، ولكن لا دليل على جواز ذلك وصحته، ما دام أنَّ الشّريعة قد أناطت الشّهر بالرؤية، وهذا المقدار من الحساب لا يحقّق لنا الموضوع الشّرعيّ بأيّ حالٍ من الأحوال، فهو يبيّن لنا أنَّ الهلال قد دخل في المحاق وحصل الاقتران، ولذا، فلا ينبغي الخلط بين هذه المرحلة والمرحلة الثّانية.

-المرحلة الثانية: إذا كانت المرحلة الأولى استنباطيَّة وهي قطعيَّة، لأنها نتاج معادلات رياضيَّة بحتة، فإنَّ هذه المرحلة استقرائيَّة، بمعنى أنَّ الدّارسين والفلكيّين تتجمّع لديهم شهادات حول رؤية الهلال لفترة طويلة من الزّمن، كخمسين عاماً أو أكثر، وهي بالتّالي ليست شهادات عاديَّة، بل هي شهادات لخبراء في الرّصد، بحيث يعرفون مكان الهلال بدقّة. وميزة هذه الشَّهادات، أنه يقلّ معها احتمال الشّبهة، لأنّه لا بدَّ من توفر شروط في الراصد من خلال الخبرة وصحّة النّظر، ونحو ذلك مما يعرفه المختصّون.

ودراسة هذه الشّهادات تفيدنا في معرفة المواصفات الفنيّة للهلال، كارتفاعه عن الأفق، ومكثه بعد غروب الشّمس، وبعده عنها، وسماكة الهلال، ونسبة إضاءته، وغيرها من المعطيات.

وهذه المواصفات يمكن الاستفادة منها لتوقّع رؤية الهلال بشكلٍ يقلّ معه احتمال الخطأ، بل يكاد ينعدم... وهذا ما يعبّر عنه بإمكانيَّة الرّؤية، وبالتّالي يكون دور العلم بهذه المواصفات دور تشخيص الموضوع، ولا تعارض بين هذا المقدار وما دلّت عليه الأدلة الشرعيَّة من إناطة الشّهر بالرّؤية، لأنها تخبرنا بأنّ الهلال صار موجوداً في الأفق بنحوٍ يكون قابلاً للرّؤية، وهي تماماً كالبيّنة العادلة (البيّنة الشرعيَّة). نعم، الفارق بين الأمرين: أنَّ البيِّنة تقول إنَّ الهلال موجود في الأفق وقد رؤي فعلاً، وهذه (أي الحسابات) تقول إنّ الهلال موجود في الأفق، ويمكن رؤيته في حال عدم وجود ما يمنع من الرّؤية، كغيمٍ ونحو ذلك.

وهنا، لا بدَّ من العودة مرّة ثانية إلى الأدلة الشرعيَّة، لنرى ما هو المستفاد منها، هل هو الرؤية الفعليّة أو إمكانيّة الرؤية[6]، وهذا الخلاف موجود بين الفقهاء بصرف النّظر عن الحسابات الفلكيَّة، كما هو الخلاف حول طبيعة الرّؤية[7]، لأنّ الرؤية قد تكون بالعين المجرَّدة، وقد تكون بالعين المسلَّحة.

وحيث إنَّ المعتبر من خلال الأدلّة هو إمكانيّة الرّؤية، وحيث تبيّن أنَّ الحسابات الفلكيّة تُعين في تشخيص موضوع الحكم الشّرعيّ، لذلك، لا تعارض بينهما، فلا يمكن اعتبار الحسابات الفلكيّة ندّاً للرؤية، وبالتّالي، فلا يكون منهيّاً عنها لمجرّد قول النبيّ(ص): "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".

كيفيَّة الاستفادة من الشَّهادات الّتي يعتمد عليها أهل الخبرة:

من المعلوم أنَّ هناك عدّة عوامل دخيلة في إمكانيَّة رؤية الهلال، ولا يصحّ، بل لا يكفي الاعتماد على العامل الواحد للتنبّؤ بإمكانيّة رؤية الهلال.

وهذه العوامل هي كالتالي:

1 - ارتفاع الهلال فوق الأفق، والمقصود بذلك أن يرتفع الهلال فوق أفق معيّن، بحيث لا يغيب قبل غياب الشّمس، لأنه لا يكون له ارتفاع فوق الأفق يسمح برؤيته إذا غاب قبل غياب الشّمس، فقياس الارتفاع له تأثير كبير في إمكانيّة التنبّؤ برؤية الهلال الجديد.

2 - مكث الهلال، والمقصود بذلك أن يمكث الهلال فترةً زمنيّةً معيّنةً بعد غياب الشّمس حتى يمكن رؤيته، لأنّ المعتبر هو الرّؤية بعد غياب الشّمس، وهذه الفترة هي بين الغروبين؛ غروب الشّمس وغروب القمر. وقد سجّلت الأرصاد أنّ أقلّ فترة مكث هي 29 دقيقة، سواء كانت الرّؤية بالعين المجرّدة أو المسلّحة، ولكن لا يعني ذلك أنّه كلّما كان مكث الهلال بهذا المقدار أمكن رؤيته، لأنّ الأرصاد بيّنت أيضاً أنّه يمكن أن يمكث الهلال 75 دقيقة، ومع ذلك تتعذّر رؤيته، ولا يمكن ذلك حتى بالعين المسلَّحة.

3 - عمر الهلال، والمقصود بذلك أن يكون الهلال قد خرج من المحاق، وقد بلغ فترة زمنيَّة معيَّنة من لحظة الولادة إلى لحظة غروبه، وقد سجّلت الأرصاد أنّ أصغر عمرٍ للهلال أمكن رؤيته بالعين المجرّدة، كان 15 ساعةً و33 دقيقة، و13 ساعة و14 دقيقة بالعين المسلَّحة. ولا يمكن بحال اعتبار عمر الهلال هو العامل الوحيد لإمكانيّة الرّؤية، لأنّ الأرصاد بيّنت أنّ الهلال قد يكون عمره 24 ساعة أو أكثر ولا يمكن أن يرى.

4 - البعد الزاوي (الاستطالة)، والمقصود به بعد مركز الشّمس عن مركز القمر، فإنّه كلّما ابتعد القمر عن الشّمس، واتّسعت الزّاوية بينهما، صارت رؤية الهلال أكثر احتمالاً وإمكاناً، فإنَّ شدّة لمعان الشَّمس قد تمنع من رؤية الهلال. وقد سجَّلت الأرصاد أنَّ أصغر زاوية بينهما، أمكن معها رؤية الهلال، كانت 7:7 درجة بالعين المجرَّدة، و6:4 درجة بالعين المسلَّحة (المرقب).

5 - نسبة الإضاءة، والمقصود بذلك أنَّ الهلال لا بدَّ من أن يختزن كميّةً من الضّوء تسمح برؤيته عادةً، وكلَّما زادت هذه النِّسبة، زادت إمكانيّة الرّؤية.

هذه هي أهمّ العوامل الّتي تدخل في حساب التنبّؤ برؤية الهلال، ولكن لا بدَّ من اجتماعها واقترانها جميعاً كي يصبح بالإمكان الاعتماد على مثل هذا التنبّؤ، والّذي يؤكّد وجود الهلال القابل للرّؤية في الأفق، ولا يمكن الاعتماد على العامل الواحد، لأنّه لا يكون مطّرداً عادةً، كما قدّمنا الحديث على ذلك قبل قليل في عمر الهلال ومكثه، وهذا ما جعلنا نرفض أغلب المعايير القديمة والحديثة، والّتي لا تراعي إلا أحد هذه العوامل الّتي مرّت الإشارة إليها.

وممّا ينبغي التنبيه إليه، هو أنّ المراد من إمكانيّة الرؤية، هو الإمكانيّة المقابلة للاستحالة، وهذا يعني أنّ الهلال موجود في الأفق قطعاً وصار هلالاً، بحيث يمكن رؤيته بالعين المجرّدة أو المسلّحة لولا الموانع الطارئة، لا الموانع الّتي تجعل من الرّؤية أمراً مستحيلاً.

وخلاصة هذا البحث، أنّ دور الحسابات الفلكيَّة، بحسب ما ذكرناه من المرحلة الثّانية، هو تشخيص الموضوع، لا توسعة الموضوع كما قد يتخيَّل إلى البعض، ونعني بالموضوع هو الرّؤية ـ وفقط الرّؤية ـ وهذا يشبه أيّ فتوى وحكم كلّي يصدر عن الفقيه أو الفقهاء، فلو قيل مثلاً: الخمر حرام، فمعناه أنّ كلّيّ الخمر هو المحكوم بالحرمة، بالنّحو الّذي يكون المؤدَّى أن كلّ ما يفرض خمراً، فهو محكوم بالحرمة. وعندئذٍ، فلا ضرورة لتشخيص موضوع الخمر من الرّجوع إلى الفقيه، بل الأمر متروك إلى المكلَّف نفسه، ولو من خلال الاستعانة بأهل الخبرة.

ونحن نرى العديد من الفقهاء، بل الغالب منهم، يتحدَّثون عن جواز الاعتماد على قول أهل الخبرة من الفلكيّين إذا أفاد قولهم القطع بدخول الشَّهر، وإن كان صريح فتاواهم عدم صحَّة الأخذ بقول الفلكيّ على الإطلاق، وهذا لأنَّ القطع الحاصل للمكلَّف بدخول الشَّهر ـ مهما كان سبب هذا القطع، بل والاطمئنان الّذي يلحق بالقطع عادةً من حيث الحكم ـ يجعل المكلَّف مخاطباً فعلاً بالصّيام أو الإفطار، بحيث لا يجوز له المخالفة في ذلك.


[1] باعتبار أنَّ الحساب ينفي إمكانية الرؤية ولا يثبتها، ويكون الجانب الإيجابي هو إثبات الحساب لإمكانية الرؤية.

[2] البينة الشّرعيّة، وهي خبر عدلين، سواء شهدا عند الحاكم وقبل شهادتهما، أو لم يشهدا عنده، أو شهدا وردّ شهادتهما، فكل من شهد عنده عدلان يجوز، بل يجب عليه ترتيب الأثر من الصّوم أو الإفطار، ولا فرق بين أن تكون البيّنة من البلد أو من خارجه، ووجود العلّة في السماء وعدمها. نعم، يشترط توافقهما في الأوصاف، فلو اختلفا فيها لا اعتبار بها. نعم، لو أطلقا أو وصف أحدهما وأطلق الآخر، كفى، ولا يعتبر اتحادهما في زمان الرؤية مع توافقهما على الرؤية في اللّيل، ولا يثبت بشهادة النساء ولا بعدل واحد، ولو مع ضمّ اليمين.

لكن يعتبر احتمال صدقهما احتمالاً عقلائيّاً، فلو لم يكن في السماء علّة واستهلّ جماعة، فلم ير إلا واحد أو اثنان مع عدم الضّعف في أبصار غيرهما، أو كان في السّماء علّة لا يرى بحسب العادة، فحجيّتها محلّ خلاف بين الأعلام، وذلك لأن الفقهاء قد يفرقون في الأخذ بقول الفلكي العارف، والذي هو من أهل الخبرة في هذا المجال، بين الجانب السلبي والجانب الإيجابيّ. ولتوضيح ذلك نقول: إذا أخبر الفلكي باستحالة رؤية الهلال في مساء اليوم التاسع والعشرين من الشهر الهلالي، بناءً على الحسابات الفلكية الدقيقة، فإنّ من لا يأخذ بقول الفلكي في مقام الإثبات، فقد يأخذ بقوله في جانب النفي، وهو ما عبّرنا عنه بالجانب السلبي. ولذا، فإنَّ الشهادات هنا لا بدّ من أن تردّ، لعدم احتمال كون الشّهادة صادقةً في نفسها، لأنّ الشّاهد عندما يقول رأيت الهلال، فلا بدّ من أن يكون الهلال موجوداً في الأفق، ومع القطع بعدم وجوده، فلا بدّ من أن تحمل الشهادة على الخطأ والاشتباه أو الكذب، وهذا هو المراد من الأخذ بقول الفلكي في الجانب السلبي، وإن كان أصحاب هذا القول لا يرتضون قول الفلكي في إثبات أوائل الشّهور.

فالفقهاء في مسألة الأخذ بقول الفلكي، إمّا أن يقولوا بالحجيّة مطلقاً، أي في الجانبين السّلبيّ والإيجابيّ، وإما أن ينفوا ذلك مطلقاً، وإمّا أن يفصلوا بين الجانب السلبي والجانب الإيجابي، فيأخذوا بقوله في الجانب الأول، ويرفضوا ذلك في الجانب الثاني .

كما أنّه مع الصّحو واجتماع الناس للرؤية، وحصول الاختلاف والتكاذب بينهم، بحيث يقوى احتمال الاشتباه في العدلين، فإنه في هذه الصّورة، يشكل الأخذ بالشهادتين عندئذ، فلو رآه الواحد رآه الألف، ما دامت مبرّرات الرؤية متوفرةً، من صحو الجو ونحو ذلك من عوامل خارجيّة.

[3] وعلى سبيل المثال، فهذه فتوى للسيد السيستاني (حفظه المولى) في هذا المجال، حيث سئل عن ذلك: "في بعض الشّهور، يعلن عن ثبوت الهلال عند بعض العلماء في بعض بلاد الشّرق، استناداً إلى أقوال بعض من شهدوا برؤيته فيها، ولكن يقترن ذلك ببعض الأمور: كون الشّهود وعددهم 30 مثلاً، موزّعين على عدّة بلدان. صفاء الأفق في عدد من البلاد الغربيّة، واستهلال المؤمنين فيها مع عدم وجود مانع للرّؤية. إعلان المرصد الفلكي البريطاني أنّه يستحيل رؤية الهلال في تلك اللّيلة في بريطانيا ما لم يستخدم المنظار(التلسكوب)، وأنّ رؤيته بالعين المجرّدة إنما تتيسّر في الليلة اللاحقة. فما هو الحكم في هذه الحالة؟ أفتونا مأجورين؟

الجواب: إنَّ العبرة باطمئنان المكلّف نفسه بتحقّق الرؤية أو بقيام البيّنة عليها، من دون معارض، أو يکون الهلال في أفق البلد نفسه بنحوٍ قابلٍ للرّؤية بالعين المجرّدة لولا المانع، وفي الحالة المذكورة ونظائرها، لا يحصل عادة الاطمئنان بظهور الهلال على الأفق بنحوٍ قابلٍ للرّؤية بالعين المجرّدة.

[4] المراد بالكذب عدم المطابقة للواقع، لا تعمّد كذب أصحاب الشّهادات.

[5] هناك مصطلحان للاقتران، يطلق على الأوّل اسم الاقتران المركزي، والثاني الاقتران السطحي. المصطلح الأوّل يعتبر أنّ الأرض والشّمس والقمر عبارة عن نقاط (وهي المراكز) تسير في الفضاء، فإذا ما التقت هذه المراكز على استقامة واحدة، وكان القمر في المنتصف، حدث الاقتران. بالطبع، فإنّ لحظة الاقتران في هذه الحالة عبارة عن لحظة عالميّة واحدة، إلا أنّ عمليّة رصد الهلال تتمّ من على سطح الأرض وليس من مركزها! إذ يعتبر هذا المصطلح أنّ الأرض والشّمس والقمر عبارة عن كرات تسير في الفضاء، ويحدث الاقتران عندما يقع مركزا القمر والشّمس على استقامة واحدة، كما يرى من موقع الراصد على سطح الكرة الأرضيّة، وبالطبع، فإنَّ لكلّ منطقة على سطح الأرض موعدها المختلف لحدوث الاقتران، ويبلغ أقصى فرقٍ بين الاقتران المركزي والاقتران السّطحي حوالى ساعتين.

[6] يراجع حول هذا الموضوع بحث للسيّد الشهيد السيّد محمد باقر الصّدر في الفتاوى الواضحة في الحديث عن طرق ثبوت الهلال من كتاب الصّوم.

[7] هذا الخلاف لا يتوقّف عنده في حال الاعتماد على الحسابات الفلكيَّة، لأنها تفرّق بين الرؤية بالعين المسلَّحة والرؤية بالعين المجرَّدة، إذ لكلّ واحدة من الرؤيتين حسابها الخاصّ.

إنَّ الحسابات الفلكيّة ليست بديلاً من الرؤية. وتنحصر طرق إثبات الأهلّة للأشهر القمريّة بالرؤية، والبيّنة العادلة، والشّياع المفيد للعلم، ومرور ثلاثين يوماً على الشّهر السّابق.. فهذه الطرق لا يمكن أن تتغيَّر أو تتبدَّل مع مرور الزمن، مهما تطوَّرت الوسائل العلميَّة، فإنّه لا يحقّ للعلم مهما بلغ من تطوّر، أن يلغي موضوعاً من الموضوعات الشرعيّة أو يبدّله، وهذا محلّ وفاقٍ واتّفاق بين أهل الفقه والشرّع، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم.

والنّاظر في الأدلَّة الشرعيَّة ـ سواء كان فقيهاً أو متفقّهاً أو مدّعياً للفقاهة ـ يعرف أنَّ النبي(ص) والأئمَّة(ع) والصَّحابة(رض)، أكَّدوا مبدأ الرّؤية في تعيين بدايات الأشهر القمرية، ولم يختلف اثنان منهم في ذلك قديماً وحديثاً.

ألا يروي الكلّ قول النبيّ(ص): "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"؟ وألم يرد في بعض مرويّات أهل البيت(ع): "إنَّ شهر الله لا يؤدّى بالتظنّي، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.."؟ فكلّ طريقٍ يفيدنا الظّنّ بدخول الشهر القمري، لا يمكن الاعتماد عليه أبداً، لأن شهر الله لا يؤدّى بالطرق الظنيّة أبداً، بل لا بدّ من اليقين بدخول الشهر، حتى يمكن الابتداء بالصيام أو يمكن الإفطار، قضاءً لقوله(ص): "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، وهذا إنما يكون في ليلة الثلاثين من كلّ شهر، فإنَّ الشَّهر لا يكون إلا 29 يوماً أو 30 يوماً.

ونحن أمام حقيقة ناصعة لا لبس فيها أبداً، إلا لمن كان في قلبه مرض، أعاذنا الله من ذلك، فالشَّهر يبدأ إمَّا بالرؤية، أو بمضيّ ثلاثين يوماً على الشّهر السّابق، ولا ضرورة للرّؤية عندئذٍ، فبمجرّد مضيّ ثلاثين يوماً يبدأ الشَّهر الجديد، رؤي الهلال أو لم ير... لأنَّ الشَّهر لا يزيد عن ثلاثين يوماً. نعم، لا بدَّ في الأشهر النّاقصة من الرؤية الصَّحيحة للهلال، حتى نحكم ببداية الشَّهر الجديد.

والحاصل أنّه في الأشهر النّاقصة، لا بدَّ من رؤية الهلال الجديد، وإلا فلا بدَّ من اعتبار الشَّهر تامّاً، ويكون عندئذٍ ثلاثين يوماً.

والسؤال المثير للجدل: ما هو دور الحسابات الفلكيّة؟

ويكثر هذا السّؤال، وخصوصاً بعد التطوّر الهائل الذي أحرزه علم الفلك في الكثير والعديد من مجالاته، فهل يمكن اعتبار الحسابات الفلكيّة المتعلّقة بالأشهر القمرية طريقاً مغايراً لمبدأ الرّؤية، ولا بدَّ من طرحه ورفضه، لأنَّ الأدلّة الفقهيّة حصرت المسألة بالرؤية؟

لا بدّ من طرح هذه المسألة وتوضيحها، حتى يزول الكثير من الجدل حول طرق إثبات الأشهر القمريَّة.

دور الحسابات الفلكيَّة

يمكن للحسابات الفلكيّة أن تفيدنا غالباً أحد أمرين، فإمّا استحالة الرؤية وإمّا إمكانيّتها، فإذا اتّفقت كلمة الفلكيّين على الاستحالة أو تعذّر الرؤية ـ ونعني بالاستحالة عدم وجود الهلال في الأفق، وبالتعذّر وجوده في الأفق، لكونه خرج من المحاق، لكنّه لم يبلغ درجةً كافيةً من الضّوء تسمح برؤيته ـ فيمكن لنا الاعتماد على ذلك، لنفي دخول الشّهر الجديد، وعدم قبول الشّهادات، لأنّها تكون خاطئةً عندئذٍ، حيث تشهد بوجود شيءٍ غير موجود أصلاً، أو تتعذّر رؤيته لكونه غير قابلٍ للرّؤية.

وهذا هو الجانب السّلبي[1] للحسابات الفلكيّة، والعديد من الفقهاء يأخذون بهذا الجانب، لأنّ من شرط البيّنة أن لا تكون خاطئة، أو محتملة لذلك احتمالاً معتدّاً به، بحيث لا يمكن الاطمئنان بصحَّة ما تشهد به[2].

ويكفي ملاحظة العديد من الفتاوى في هذا المجال[3] الّتي لا تقبل الشَّهادة التي يعلم خطؤها، حيث نعلم بكذب[4] هذا النَّوع من الشَّهادات، وإن كنّا نريد أن نحسن الظّنّ بأصحابها، لأنَّ الأمر بتصديق العادل أو الثّقة، يعني أنّه لا يتعمَّد الكذب لوثاقته أو عدالته، والتي تمنعه من ذلك عادة، ولو تعبّداً، وأمّا أنه لا يخطئ أو فوق الشّبهة، فهذا ما لا يقول به أحد.

وهناك جانب آخر في الحسابات الفلكيّة، وهو الجانب الإيجابيّ، وهو الذي يثير الجدل في بدايات الأشهر القمرية، وخصوصاً في شهري رمضان وشوّال من كلّ عام، ويكثر القيل والقال حتى ممن لا يفقه شيئاً في هذا المجال.

وللتّوضيح أكثر، لا بدّ من بيان وظيفة الحسابات الفلكيَّة في تحديد بدايات الأشهر القمريَّة ودورها.

توجد مرحلتان في الجانب الإيجابيّ من الحسابات الفلكيَّة:

-المرحلة الأولى: تحديد ولادة الهلال الجديد وتوقيته، بمعنى تحديد فترة المحاق، عندما لا يعكس القمر أيَّ مقدار من الضوء، وتكون الزاوية بين القمر والشّمس صفراً، ويكون القمر والشَّمس والأرض على خطٍّ مستقيم واحد بحسب مراكزها ككرات، وهذا ما يعبَّر عنه بالاقتران المركزي[5].

وهذا بمجرّده لا يفيدنا شيئاً، إذ لا يكفي العلم بولادة الهلال للحكم ببداية الشهر القمري الجديد. ومن يرى صحّة الاعتماد على الحسابات الفلكيَّة، لا يكفه هذا المقدار، ولا يعوّل عليه أبداً، لأنّه وإن كان أمراً قطعيّاً لا يشوبه أدنى شكّ، لاعتماده على معادلات رياضيّة ونظريات فيزيائيّة قطعية، إلا أنّه لا يحقّق لنا موضوع دخول الشّهر، ولا ينقّح مسألة الرؤية التي هي الأساس في دخول الشّهر.

وهذا المقدار هو الّذي يمكن أن يطرح بديلاً من الرّؤية، ولكن لا دليل على جواز ذلك وصحته، ما دام أنَّ الشّريعة قد أناطت الشّهر بالرؤية، وهذا المقدار من الحساب لا يحقّق لنا الموضوع الشّرعيّ بأيّ حالٍ من الأحوال، فهو يبيّن لنا أنَّ الهلال قد دخل في المحاق وحصل الاقتران، ولذا، فلا ينبغي الخلط بين هذه المرحلة والمرحلة الثّانية.

-المرحلة الثانية: إذا كانت المرحلة الأولى استنباطيَّة وهي قطعيَّة، لأنها نتاج معادلات رياضيَّة بحتة، فإنَّ هذه المرحلة استقرائيَّة، بمعنى أنَّ الدّارسين والفلكيّين تتجمّع لديهم شهادات حول رؤية الهلال لفترة طويلة من الزّمن، كخمسين عاماً أو أكثر، وهي بالتّالي ليست شهادات عاديَّة، بل هي شهادات لخبراء في الرّصد، بحيث يعرفون مكان الهلال بدقّة. وميزة هذه الشَّهادات، أنه يقلّ معها احتمال الشّبهة، لأنّه لا بدَّ من توفر شروط في الراصد من خلال الخبرة وصحّة النّظر، ونحو ذلك مما يعرفه المختصّون.

ودراسة هذه الشّهادات تفيدنا في معرفة المواصفات الفنيّة للهلال، كارتفاعه عن الأفق، ومكثه بعد غروب الشّمس، وبعده عنها، وسماكة الهلال، ونسبة إضاءته، وغيرها من المعطيات.

وهذه المواصفات يمكن الاستفادة منها لتوقّع رؤية الهلال بشكلٍ يقلّ معه احتمال الخطأ، بل يكاد ينعدم... وهذا ما يعبّر عنه بإمكانيَّة الرّؤية، وبالتّالي يكون دور العلم بهذه المواصفات دور تشخيص الموضوع، ولا تعارض بين هذا المقدار وما دلّت عليه الأدلة الشرعيَّة من إناطة الشّهر بالرّؤية، لأنها تخبرنا بأنّ الهلال صار موجوداً في الأفق بنحوٍ يكون قابلاً للرّؤية، وهي تماماً كالبيّنة العادلة (البيّنة الشرعيَّة). نعم، الفارق بين الأمرين: أنَّ البيِّنة تقول إنَّ الهلال موجود في الأفق وقد رؤي فعلاً، وهذه (أي الحسابات) تقول إنّ الهلال موجود في الأفق، ويمكن رؤيته في حال عدم وجود ما يمنع من الرّؤية، كغيمٍ ونحو ذلك.

وهنا، لا بدَّ من العودة مرّة ثانية إلى الأدلة الشرعيَّة، لنرى ما هو المستفاد منها، هل هو الرؤية الفعليّة أو إمكانيّة الرؤية[6]، وهذا الخلاف موجود بين الفقهاء بصرف النّظر عن الحسابات الفلكيَّة، كما هو الخلاف حول طبيعة الرّؤية[7]، لأنّ الرؤية قد تكون بالعين المجرَّدة، وقد تكون بالعين المسلَّحة.

وحيث إنَّ المعتبر من خلال الأدلّة هو إمكانيّة الرّؤية، وحيث تبيّن أنَّ الحسابات الفلكيّة تُعين في تشخيص موضوع الحكم الشّرعيّ، لذلك، لا تعارض بينهما، فلا يمكن اعتبار الحسابات الفلكيّة ندّاً للرؤية، وبالتّالي، فلا يكون منهيّاً عنها لمجرّد قول النبيّ(ص): "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".

كيفيَّة الاستفادة من الشَّهادات الّتي يعتمد عليها أهل الخبرة:

من المعلوم أنَّ هناك عدّة عوامل دخيلة في إمكانيَّة رؤية الهلال، ولا يصحّ، بل لا يكفي الاعتماد على العامل الواحد للتنبّؤ بإمكانيّة رؤية الهلال.

وهذه العوامل هي كالتالي:

1 - ارتفاع الهلال فوق الأفق، والمقصود بذلك أن يرتفع الهلال فوق أفق معيّن، بحيث لا يغيب قبل غياب الشّمس، لأنه لا يكون له ارتفاع فوق الأفق يسمح برؤيته إذا غاب قبل غياب الشّمس، فقياس الارتفاع له تأثير كبير في إمكانيّة التنبّؤ برؤية الهلال الجديد.

2 - مكث الهلال، والمقصود بذلك أن يمكث الهلال فترةً زمنيّةً معيّنةً بعد غياب الشّمس حتى يمكن رؤيته، لأنّ المعتبر هو الرّؤية بعد غياب الشّمس، وهذه الفترة هي بين الغروبين؛ غروب الشّمس وغروب القمر. وقد سجّلت الأرصاد أنّ أقلّ فترة مكث هي 29 دقيقة، سواء كانت الرّؤية بالعين المجرّدة أو المسلّحة، ولكن لا يعني ذلك أنّه كلّما كان مكث الهلال بهذا المقدار أمكن رؤيته، لأنّ الأرصاد بيّنت أيضاً أنّه يمكن أن يمكث الهلال 75 دقيقة، ومع ذلك تتعذّر رؤيته، ولا يمكن ذلك حتى بالعين المسلَّحة.

3 - عمر الهلال، والمقصود بذلك أن يكون الهلال قد خرج من المحاق، وقد بلغ فترة زمنيَّة معيَّنة من لحظة الولادة إلى لحظة غروبه، وقد سجّلت الأرصاد أنّ أصغر عمرٍ للهلال أمكن رؤيته بالعين المجرّدة، كان 15 ساعةً و33 دقيقة، و13 ساعة و14 دقيقة بالعين المسلَّحة. ولا يمكن بحال اعتبار عمر الهلال هو العامل الوحيد لإمكانيّة الرّؤية، لأنّ الأرصاد بيّنت أنّ الهلال قد يكون عمره 24 ساعة أو أكثر ولا يمكن أن يرى.

4 - البعد الزاوي (الاستطالة)، والمقصود به بعد مركز الشّمس عن مركز القمر، فإنّه كلّما ابتعد القمر عن الشّمس، واتّسعت الزّاوية بينهما، صارت رؤية الهلال أكثر احتمالاً وإمكاناً، فإنَّ شدّة لمعان الشَّمس قد تمنع من رؤية الهلال. وقد سجَّلت الأرصاد أنَّ أصغر زاوية بينهما، أمكن معها رؤية الهلال، كانت 7:7 درجة بالعين المجرَّدة، و6:4 درجة بالعين المسلَّحة (المرقب).

5 - نسبة الإضاءة، والمقصود بذلك أنَّ الهلال لا بدَّ من أن يختزن كميّةً من الضّوء تسمح برؤيته عادةً، وكلَّما زادت هذه النِّسبة، زادت إمكانيّة الرّؤية.

هذه هي أهمّ العوامل الّتي تدخل في حساب التنبّؤ برؤية الهلال، ولكن لا بدَّ من اجتماعها واقترانها جميعاً كي يصبح بالإمكان الاعتماد على مثل هذا التنبّؤ، والّذي يؤكّد وجود الهلال القابل للرّؤية في الأفق، ولا يمكن الاعتماد على العامل الواحد، لأنّه لا يكون مطّرداً عادةً، كما قدّمنا الحديث على ذلك قبل قليل في عمر الهلال ومكثه، وهذا ما جعلنا نرفض أغلب المعايير القديمة والحديثة، والّتي لا تراعي إلا أحد هذه العوامل الّتي مرّت الإشارة إليها.

وممّا ينبغي التنبيه إليه، هو أنّ المراد من إمكانيّة الرؤية، هو الإمكانيّة المقابلة للاستحالة، وهذا يعني أنّ الهلال موجود في الأفق قطعاً وصار هلالاً، بحيث يمكن رؤيته بالعين المجرّدة أو المسلّحة لولا الموانع الطارئة، لا الموانع الّتي تجعل من الرّؤية أمراً مستحيلاً.

وخلاصة هذا البحث، أنّ دور الحسابات الفلكيَّة، بحسب ما ذكرناه من المرحلة الثّانية، هو تشخيص الموضوع، لا توسعة الموضوع كما قد يتخيَّل إلى البعض، ونعني بالموضوع هو الرّؤية ـ وفقط الرّؤية ـ وهذا يشبه أيّ فتوى وحكم كلّي يصدر عن الفقيه أو الفقهاء، فلو قيل مثلاً: الخمر حرام، فمعناه أنّ كلّيّ الخمر هو المحكوم بالحرمة، بالنّحو الّذي يكون المؤدَّى أن كلّ ما يفرض خمراً، فهو محكوم بالحرمة. وعندئذٍ، فلا ضرورة لتشخيص موضوع الخمر من الرّجوع إلى الفقيه، بل الأمر متروك إلى المكلَّف نفسه، ولو من خلال الاستعانة بأهل الخبرة.

ونحن نرى العديد من الفقهاء، بل الغالب منهم، يتحدَّثون عن جواز الاعتماد على قول أهل الخبرة من الفلكيّين إذا أفاد قولهم القطع بدخول الشَّهر، وإن كان صريح فتاواهم عدم صحَّة الأخذ بقول الفلكيّ على الإطلاق، وهذا لأنَّ القطع الحاصل للمكلَّف بدخول الشَّهر ـ مهما كان سبب هذا القطع، بل والاطمئنان الّذي يلحق بالقطع عادةً من حيث الحكم ـ يجعل المكلَّف مخاطباً فعلاً بالصّيام أو الإفطار، بحيث لا يجوز له المخالفة في ذلك.


[1] باعتبار أنَّ الحساب ينفي إمكانية الرؤية ولا يثبتها، ويكون الجانب الإيجابي هو إثبات الحساب لإمكانية الرؤية.

[2] البينة الشّرعيّة، وهي خبر عدلين، سواء شهدا عند الحاكم وقبل شهادتهما، أو لم يشهدا عنده، أو شهدا وردّ شهادتهما، فكل من شهد عنده عدلان يجوز، بل يجب عليه ترتيب الأثر من الصّوم أو الإفطار، ولا فرق بين أن تكون البيّنة من البلد أو من خارجه، ووجود العلّة في السماء وعدمها. نعم، يشترط توافقهما في الأوصاف، فلو اختلفا فيها لا اعتبار بها. نعم، لو أطلقا أو وصف أحدهما وأطلق الآخر، كفى، ولا يعتبر اتحادهما في زمان الرؤية مع توافقهما على الرؤية في اللّيل، ولا يثبت بشهادة النساء ولا بعدل واحد، ولو مع ضمّ اليمين.

لكن يعتبر احتمال صدقهما احتمالاً عقلائيّاً، فلو لم يكن في السماء علّة واستهلّ جماعة، فلم ير إلا واحد أو اثنان مع عدم الضّعف في أبصار غيرهما، أو كان في السّماء علّة لا يرى بحسب العادة، فحجيّتها محلّ خلاف بين الأعلام، وذلك لأن الفقهاء قد يفرقون في الأخذ بقول الفلكي العارف، والذي هو من أهل الخبرة في هذا المجال، بين الجانب السلبي والجانب الإيجابيّ. ولتوضيح ذلك نقول: إذا أخبر الفلكي باستحالة رؤية الهلال في مساء اليوم التاسع والعشرين من الشهر الهلالي، بناءً على الحسابات الفلكية الدقيقة، فإنّ من لا يأخذ بقول الفلكي في مقام الإثبات، فقد يأخذ بقوله في جانب النفي، وهو ما عبّرنا عنه بالجانب السلبي. ولذا، فإنَّ الشهادات هنا لا بدّ من أن تردّ، لعدم احتمال كون الشّهادة صادقةً في نفسها، لأنّ الشّاهد عندما يقول رأيت الهلال، فلا بدّ من أن يكون الهلال موجوداً في الأفق، ومع القطع بعدم وجوده، فلا بدّ من أن تحمل الشهادة على الخطأ والاشتباه أو الكذب، وهذا هو المراد من الأخذ بقول الفلكي في الجانب السلبي، وإن كان أصحاب هذا القول لا يرتضون قول الفلكي في إثبات أوائل الشّهور.

فالفقهاء في مسألة الأخذ بقول الفلكي، إمّا أن يقولوا بالحجيّة مطلقاً، أي في الجانبين السّلبيّ والإيجابيّ، وإما أن ينفوا ذلك مطلقاً، وإمّا أن يفصلوا بين الجانب السلبي والجانب الإيجابي، فيأخذوا بقوله في الجانب الأول، ويرفضوا ذلك في الجانب الثاني .

كما أنّه مع الصّحو واجتماع الناس للرؤية، وحصول الاختلاف والتكاذب بينهم، بحيث يقوى احتمال الاشتباه في العدلين، فإنه في هذه الصّورة، يشكل الأخذ بالشهادتين عندئذ، فلو رآه الواحد رآه الألف، ما دامت مبرّرات الرؤية متوفرةً، من صحو الجو ونحو ذلك من عوامل خارجيّة.

[3] وعلى سبيل المثال، فهذه فتوى للسيد السيستاني (حفظه المولى) في هذا المجال، حيث سئل عن ذلك: "في بعض الشّهور، يعلن عن ثبوت الهلال عند بعض العلماء في بعض بلاد الشّرق، استناداً إلى أقوال بعض من شهدوا برؤيته فيها، ولكن يقترن ذلك ببعض الأمور: كون الشّهود وعددهم 30 مثلاً، موزّعين على عدّة بلدان. صفاء الأفق في عدد من البلاد الغربيّة، واستهلال المؤمنين فيها مع عدم وجود مانع للرّؤية. إعلان المرصد الفلكي البريطاني أنّه يستحيل رؤية الهلال في تلك اللّيلة في بريطانيا ما لم يستخدم المنظار(التلسكوب)، وأنّ رؤيته بالعين المجرّدة إنما تتيسّر في الليلة اللاحقة. فما هو الحكم في هذه الحالة؟ أفتونا مأجورين؟

الجواب: إنَّ العبرة باطمئنان المكلّف نفسه بتحقّق الرؤية أو بقيام البيّنة عليها، من دون معارض، أو يکون الهلال في أفق البلد نفسه بنحوٍ قابلٍ للرّؤية بالعين المجرّدة لولا المانع، وفي الحالة المذكورة ونظائرها، لا يحصل عادة الاطمئنان بظهور الهلال على الأفق بنحوٍ قابلٍ للرّؤية بالعين المجرّدة.

[4] المراد بالكذب عدم المطابقة للواقع، لا تعمّد كذب أصحاب الشّهادات.

[5] هناك مصطلحان للاقتران، يطلق على الأوّل اسم الاقتران المركزي، والثاني الاقتران السطحي. المصطلح الأوّل يعتبر أنّ الأرض والشّمس والقمر عبارة عن نقاط (وهي المراكز) تسير في الفضاء، فإذا ما التقت هذه المراكز على استقامة واحدة، وكان القمر في المنتصف، حدث الاقتران. بالطبع، فإنّ لحظة الاقتران في هذه الحالة عبارة عن لحظة عالميّة واحدة، إلا أنّ عمليّة رصد الهلال تتمّ من على سطح الأرض وليس من مركزها! إذ يعتبر هذا المصطلح أنّ الأرض والشّمس والقمر عبارة عن كرات تسير في الفضاء، ويحدث الاقتران عندما يقع مركزا القمر والشّمس على استقامة واحدة، كما يرى من موقع الراصد على سطح الكرة الأرضيّة، وبالطبع، فإنَّ لكلّ منطقة على سطح الأرض موعدها المختلف لحدوث الاقتران، ويبلغ أقصى فرقٍ بين الاقتران المركزي والاقتران السّطحي حوالى ساعتين.

[6] يراجع حول هذا الموضوع بحث للسيّد الشهيد السيّد محمد باقر الصّدر في الفتاوى الواضحة في الحديث عن طرق ثبوت الهلال من كتاب الصّوم.

[7] هذا الخلاف لا يتوقّف عنده في حال الاعتماد على الحسابات الفلكيَّة، لأنها تفرّق بين الرؤية بالعين المسلَّحة والرؤية بالعين المجرَّدة، إذ لكلّ واحدة من الرؤيتين حسابها الخاصّ.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية