المزاوجة بين الفكر والعاطفة في عاشوراء

المزاوجة بين الفكر والعاطفة في عاشوراء

يثير الكثيرون الجدل حول مبرّر الإصرار على مسألة العاطفة في عاشوراء، والَّتي تتمثّل في عدة مستويات:

أ ـ المضمون الفكري الَّذي يحرّك كل العناصر المثيرة للحزن في مفردات القضيَّة، بالطَّريقة الَّتي تستنزف الدموع بشكلٍ مثير.

ب ـ الأسلوب الفني البكائي المستغرق في اللحن الحزين الشجيّ، والذي يوزّع عناصر الإثارة في كل أنغامه وتقاطيعه.

ت ـ الممارسات الحادة المعبّرة عن صراخ الذات في تأثّرها بالمأساة وانفعالها بقضاياها المؤلمة، وذلك بالبكاء العنيف، أو لطم الصدور، أو ضرب الظهور بالسلاسل، أو جرح الرؤوس بالسيوف، أو غير ذلك مما اعتاد عليه فريق من الناس.

كل ذلك قد يجعل البعض يدعون إلى الاقتصار على الجانب الفكري والثقافي في عاشوراء، من أجل استلهام قيم عاشوراء على قاعدة العقل والفكر، وإلغاء الطرق التقليدية في إحيائها، والتي أصبحت تحمل الكثير من السلبيات، سواء على مستوى الذهنية الشعبيَّة في طريقة إحيائها للذكرى، أو على المستوى المذهبي فيما قد يثيره الإحياء في حساسيات مذهبيَّة.

ضرورة المحافظة على العاطفة

ولمعالجة هذا الطّرح الذي يختزن عدداً من القضايا، لا بدَّ من الوقوف على عدة نقاط:

إنَّ مسألة العاطفة هي من المسائل ذات الأهمية الكبرى في إحياء عاشوراء، والتي يجب المحافظة عليها، وذلك لعدّة أسباب:

1 ـ العاطفة هي من الخصوصيات الذاتية للذكرى، لأنَّ مضمون عاشوراء بطبيعته مأساوي حزين، والفصل بين إثارة الذكرى في وعي الناس والأسلوب العاطفي، يعني إبعاد الشيء عن ذاته وإفقاده أهم عنصر من عناصر حيويته.

2 ـ العاطفة تتيح للذكرى الاستمرار في الحياة من خلال تأثيرها في الشعور الإنساني، ما يؤصّل علاقة عاطفيّة للناس بأصحاب الذكرى، تماماً كما هي العلاقة بين الإنسان ومن يحبّ في انفعاله العفويّ بالمآسي الّتي تصيبه في نفسه وأهله، الأمر الّذي يحقّق النتائج الإيجابيّة الكبيرة في البُعد الإنساني الذاتي، في انفتاحه على البعد الحركي في الشعور، ما يؤدّي إلى نتائج مماثلة في البُعد الإسلامي الحركي في الواقع المعاصر للإنسان.

3 ـ الأسلوب العاطفي يمثّل لوناً من ألوان التربية الشعورية، ما يحوّل القضية إلى قضية متصلة بالذات، تماماً كما لو كانت قضية من قضايا الحاضر.. وهذا ما نلاحظه في المسيرة التقليدية لحركة الإنسان في ارتباطه بالمعاني الدينية، فإننا نجد الجانب الشعوري هو الذي يترك الإنسان في حالة استنفار دائم لتحريك تلك المعاني في الواقع وحمايتها بمواجهة كل التحديات المثارة ضدها من قبل الآخرين، نحو مسألة شخصية، وهذا ما يجعل من المسائل الدينية والمذهبية مسائل حسّاسة في ساحة الصراع.

4 ـ تفريغ عاشوراء من العاطفة والاكتفاء بالمضمون الفكري لها، يجعل القضية جامدة جافة في الوعي الإنساني، ككل القضايا التاريخية المتصلة بالصراع بين الحق والباطل التي يتجاوزها الزمن، لأن قضايا الصراع الكثيرة التي يحتكّ بها الإنسان في حاضره، قد تحمل الكثير من المشاكل الضاغطة على الفكر والشعور، بالمستوى الذي لا يجد فيه الإنسان فراغاً للاستغراق في التاريخ، فيؤدي ذلك ـ تدريجياً ـ إلى نسيان القضية وإهمالها، إلا في الحالات الطارئة التي قد تدفع ببعض قضايا التاريخ إلى الواقع، في عملية إثارة سريعة لا تلبث أن تذوب ـ بعد ذلك ـ في غمار الواقع الخطير الضاغط على الإنسان.

كل ذلك يحتّم أن تكون قضية عاشوراء مغسولة بالعاطفة فيما لو أُريد لها أن تستمر في وجدان الأجيال المتعاقبة، وإنَّ سلخ العاطفة عن عاشوراء يعني تحويلها إلى مجرد قضية من قضايا الصراع التاريخية التي تبقى في إطار الكتب أو في إطار الإحياء الجامد.

الموازنة بين الفكر والعاطفة

ولكن مع تأكيدنا أهمية العاطفة في عاشوراء، فإنَّ هناك بعض السلبيات الناجمة عن الاقتصار على عنصر العاطفة والمأساة في مقابل الجانب الفكري، الأمر الذي يجعل من الضروري الموازنة بين الجانب الفكري والعاطفي، فلا يطغى فيها جانب على آخر، وذلك لأسباب عديدة نوردها في نقاط:

أ ـ إن المسألة الفكرية مرتبطة بالهدف الكبير الذي انطلقت من أجله عاشوراء، وهي قضية التغيير والحياة والإنسان، من خلال كل العناصر المتنوّعة التي تختزنها الثورة الحسينية، ما يجعلها منفتحة على الحاضر والمستقبل، فإن الحسين(ع) لم ينطلق في ثورته على الواقع الجائر لكي نبكي عليه، بل خرج من أجل الإصلاح والتغيير..

نعم، العاطفة هي نتيجة من نتائج الثورة، حاول من خلالها أئمة أهل البيت(ع) أن يُبقوا القضية حيّة في شعور الإنسان المسلم على امتداد الزمن، بحيث تتحوّل إلى مسألة تتصل بالضمير الإنساني في علاقة الحاضر بالتاريخ، وهناك فرقٌ بين أن تكون العاطفة هدفاً للثورة، وأن تكون وسيلة من وسائل بقائها على المستوى الوجداني.

ب ـ إن القضية الحسينية ليست من القضايا الإنسانية الذاتية التي تتمحور حول الذات، بل هي من القضايا الإسلامية الكبيرة الخاضعة للعناوين العامة المتصلة بالمسؤولية الشرعية من جهة، وبالخط السياسي الثوري من جهة أخرى..

ولذلك، فإنَّ التركيز على العاطفة ـ بعيداً عن العقل ـ يبتعد بها عن الطابع الإسلامي العام، ويحوّلها إلى الطابع الذاتي، لأنَّ الاستغراق في المأساة بالطريقة البكائية، يملأ النفس بالكثير من الدخان العاطفي الذي يمنع وضوح الرؤية في النظر إلى العناصر الحقيقية المتمثلة في طبيعتها العامة، حتى إن الارتباط بالشخصيات القيادية الإسلاميَّة، قد يتحوّل إلى ارتباط شخصي متصل بالجوانب الذاتية في صفاتها الخاصة ومستغرق في التقليد الجامد الذي قد يبدو فيه البكاء ـ وأمثاله من الأساليب العاطفية ـ شيئاً يتكلفه الإنسان ليكون نوعاً من أنواع التباكي الذي قد يلتقي بالصورة في معنى الحزن أكثر مما يرتبط بالمضمون، وقد يتحول إلى حالة من التنفيس عن الآلام الذاتية التي يختزنها الإنسان في حياته الخاصة، أكثر من التفاعل الجدي بالقضية التاريخية.

ج ـ إنّ العنصر التقليدي في إثارة الذكرى قد يحوّل القضية إلى طقوس دينية عادية لا تحمل أي مضامين فكرية، سواء على المستوى السياسي في أبعاد الثورة، أو على المستوى الحركي الإسلامي، وربما لاحظنا ـ في واقعنا المعاصر ـ الطغاة المنحرفين من السياسيين الشيعة يقيمون الذكرى بالأساليب العاطفية، باعتبارها إحدى التقاليد الشيعية العريقة، ولا يسمحون لقارئ السيرة الحسينية أن يتجاوز المسألة العاطفية إلى المسألة السياسية.

د ـ إنَّ عدم الأخذ بالمنهج العلمي الفكري في دراسة القضية الحسينية، قد يؤدي إلى تشويه المفاهيم الصافية للثورة الحسينية، سواء انطلقت من طبيعة الثورة بشكل مباشر، أو استفيدت بشكل غير مباشر من المواقف التي وقفها أبطال كربلاء، مما نقلته لنا كتب السيرة، فقد يتنافى ما قد يطرحه قرّاء العزاء مع المفاهيم الإسلامية الأصيلة، أو يبتعد عن خط التوازن في دائرة التصور، أو يحصر الذكرى في دائرة معينة تنطلق بها العصبيات العائلية، بعيداً عن المشاعر والأفكار الرسالية وغير ذلك، ما ينعكس سلباً على الذهنية الشعبية العامة التي قد تختزن هذه المفاهيم التي تنفذ إلى منطقة الشعور من خلال الدموع والآلام التي قد تعمّق المضمون الفكري والشعوري في كل مواقع الإثارة في الذات، وهذه النقطة سنتعرّض لها بشيء من التفصيل في عنوان مستقل إن شاء الله.

ه ـ إنَّ إبعاد الفكر عن عاشوراء قد يكون أحد أسباب بعض الاتجاهات الخاطئة المتمثلة في عدم الموافقة على اعتبار النهج الحسيني، في مواجهة الباطل والحاكم المنحرف، نهجاً إسلامياً عاماً يتحرك به المسلمون، بل تعتبره نهجاً حسينياً خاصاً ينطلق من الخصوصيات الحسينية الذاتية فيما هي شخصية الحسين(ع) الخاصة في صفته الإمامية، وذلك على أساس أنَّ الاستغراق في الجانب الشخصي للمأساة جعل الارتباط بالحسين(ع) ارتباطاً ذاتياً يتّصل بشخصه ولا يتّصل برسالته، وبذلك، ابتعدت عاشوراء لدى هؤلاء عن معنى القدوة، مما يمكن استلهامه في الحركة للأجيال الإسلامية المتلاحقة.

و ـ إنَّ تأكيد الجانب الفكري للذكرى يسمح لنا بالاستفادة منها، من خلال تحديد الخطوط الفكرية والحركية والفقهية المتصلة بها، لأنَّ في عاشوراء الكثير من المضامين الفكرية والفقهية التي يجب الوقوف على مفرداتها بالتحليل العلمي الدقيق، ما يحوّل عاشوراء إلى محطة للتخطيط الدقيق للمسألة الإسلامية على مستوى المستقبل القريب والبعيد، ليكون الإسلام هو القاعدة للفكر وللعاطفة والحياة.

ز ـ إنَّ عدم الاعتناء بالجانب الفكري لعاشوراء، يفوّت علينا منبراً للدعوة الإسلامية، لأن المنبر الحسيني يجتذب الجماهير الإسلامية اجتذاباً تقليدياً، الأمر الذي يمنح الدعاة الكثير من الفرص للنفاذ إلى عقول الناس وقلوبهم، من خلال العنوان الإسلامي الكبير للذكرى، فيدفعهم ذلك إلى الانفتاح على إسلام الفكرة والحركة والثورة من خلال انفتاحهم على الحسين(ع)، الذي يمثّل التجسيد الحي لذلك كله، فتكون الذكرى ـ بذلك ـ مدرسة إسلامية شعبية متنوعة الأبعاد والأساليب، ووسيلة من وسائل الدعوة إلى الإسلام.

ح ـ إنَّ إطلاق العاطفة بمعزل عن العقل، قد يؤدّي إلى تكرار المأساة التي عاشها الحسين(ع)، لأن مأساته(ع) لم تكن في فقدان المسلمين للعاطفة تجاهه، فقد كانت كلّ قلوبهم تخفق بحبّه، لكنه كان حباً أعمى سطحياً، ولم ينطلق من عمق المعرفة والإرادة والمعاناة.

ولذلك، عندما تطلّب الأمر منهم التضحية بالمزاج أو المصلحة أو المال، انطلق الحب بعيداً وتقدمت المصلحة والمزاج، وقد عبّر الفرزدق عن حالة أهل الكوفة الذين خرجوا لقتال الحسين(ع) بقوله: "قلوب الناس معك وسيوفهم عليك".

ونحن نحتاج إلى أن نحب الحسين(ع) بوعيٍ وعقل، لا مجرد حبّ سطحي انفعالي أعمى لا يلبث أن يجمد عندما يصطدم بالواقع ويعيش التحدي، وهذا يتطلب وعي كل المضامين التي انطلقت من خلالها عاشوراء والتي هي مضامين الإسلام.

أمام هذه النقاط التي تجعل من الجانب الفكري في إحياء الذكرى أمراً حيوياً وضرورياً، وأمام ما تقدّم من ضرورة المحافظة ـ بقوة ـ على العنصر العاطفي في عاشوراء، نعود لنؤكّد أنَّ المسألة العاطفية هي مسألة إنسانيَّة الأبعاد، إسلامية الروح، غنية المؤثرات، كثيرة المعطيات، تمنح الفكر حرارته وحيويته، وتخرجه من جموده، وتقوده إلى النشاط والحركة، وتخرجه من حالة فكرية جامدة ليدخل في حالة إيمانية وجدانية، وهي تزيد الإنسان ارتباطاً بمواقعها واتصالاً بقضاياها، ما يجعل الحالة الفكرية ـ في خصوصيات المبدأ والشخص والموقف ـ حالةً قريبة من الشعور، منفتحةً على الوجدان، بحيث يمنحها ذلك بعضاً من القوة والانفتاح والثبات في النفس والامتداد في الواقع.

كما نشدّد على أن التزاوج بين الحالة العاطفية والحالة الفكرية، هو الذي يحقق للرسالة مضمونها العميق في وعي الإنسان وحركته، وبذلك تتطور الفكرة إلى إيمان، من خلال الفكر المنفتح على الشعور، ويتطوَّر الإيمان إلى حبّ أو بغض، من خلال انفتاح العقل على القلب.. وهذا ما نستوحيه من الحديث عن الحب لأولياء الله والبغض لأعدائه في الالتزام الإيماني للمسلم، باعتبارهما دليلاً على الجدية والإخلاص، فإنَّ الملحوظ أنَّ الغاية هنا ـ وهي العناوين التي انطلقت على أساسها عاشوراء ـ تلتقي بالوسيلة المتصلة بطريقة إحياء الذكرى ووسائلها، وأنَّ المضمون يتحرك في دائرة الالتزام في الواقع.

ونعود لنقول: إنَّ علينا أن نربي قلوبنا كما نربي عقولنا، وذلك بأن نربي قلوبنا بثقافة العاطفة، لأنَّ القلب عندما يخطئ الاتجاه الصحيح في العاطفة قد يدمّر حياة الإنسان، فإذا انطلقنا من سطحية في حبنا فمنحناه لمن لا يستحقه، فربما يكون في داخل من أحببناه خبث دفين يدمّر لنا حياتنا في المستقبل، وعندما نبغض إنساناً على غير أساس العناصر الموضوعية للبغض، فربما يكون في هذا الإنسان عنصر طيّب في العمق، في الوقت الذي يحرمنا بغضنا له من أن نتلمّس لحياتنا موقع الطيب في نفسه.

إنَّ علينا أن نرشّد عواطفنا لتنبض على أساس الوعي، وتنطلق من العمق لا من السطح، لا أن تكون عاطفة مجنونة، أو عاطفة تعيش الطفولة وتتحرك على طريقة الأطفال.

[المصدر: نظرة إسلامية حول عاشوراء].

يثير الكثيرون الجدل حول مبرّر الإصرار على مسألة العاطفة في عاشوراء، والَّتي تتمثّل في عدة مستويات:

أ ـ المضمون الفكري الَّذي يحرّك كل العناصر المثيرة للحزن في مفردات القضيَّة، بالطَّريقة الَّتي تستنزف الدموع بشكلٍ مثير.

ب ـ الأسلوب الفني البكائي المستغرق في اللحن الحزين الشجيّ، والذي يوزّع عناصر الإثارة في كل أنغامه وتقاطيعه.

ت ـ الممارسات الحادة المعبّرة عن صراخ الذات في تأثّرها بالمأساة وانفعالها بقضاياها المؤلمة، وذلك بالبكاء العنيف، أو لطم الصدور، أو ضرب الظهور بالسلاسل، أو جرح الرؤوس بالسيوف، أو غير ذلك مما اعتاد عليه فريق من الناس.

كل ذلك قد يجعل البعض يدعون إلى الاقتصار على الجانب الفكري والثقافي في عاشوراء، من أجل استلهام قيم عاشوراء على قاعدة العقل والفكر، وإلغاء الطرق التقليدية في إحيائها، والتي أصبحت تحمل الكثير من السلبيات، سواء على مستوى الذهنية الشعبيَّة في طريقة إحيائها للذكرى، أو على المستوى المذهبي فيما قد يثيره الإحياء في حساسيات مذهبيَّة.

ضرورة المحافظة على العاطفة

ولمعالجة هذا الطّرح الذي يختزن عدداً من القضايا، لا بدَّ من الوقوف على عدة نقاط:

إنَّ مسألة العاطفة هي من المسائل ذات الأهمية الكبرى في إحياء عاشوراء، والتي يجب المحافظة عليها، وذلك لعدّة أسباب:

1 ـ العاطفة هي من الخصوصيات الذاتية للذكرى، لأنَّ مضمون عاشوراء بطبيعته مأساوي حزين، والفصل بين إثارة الذكرى في وعي الناس والأسلوب العاطفي، يعني إبعاد الشيء عن ذاته وإفقاده أهم عنصر من عناصر حيويته.

2 ـ العاطفة تتيح للذكرى الاستمرار في الحياة من خلال تأثيرها في الشعور الإنساني، ما يؤصّل علاقة عاطفيّة للناس بأصحاب الذكرى، تماماً كما هي العلاقة بين الإنسان ومن يحبّ في انفعاله العفويّ بالمآسي الّتي تصيبه في نفسه وأهله، الأمر الّذي يحقّق النتائج الإيجابيّة الكبيرة في البُعد الإنساني الذاتي، في انفتاحه على البعد الحركي في الشعور، ما يؤدّي إلى نتائج مماثلة في البُعد الإسلامي الحركي في الواقع المعاصر للإنسان.

3 ـ الأسلوب العاطفي يمثّل لوناً من ألوان التربية الشعورية، ما يحوّل القضية إلى قضية متصلة بالذات، تماماً كما لو كانت قضية من قضايا الحاضر.. وهذا ما نلاحظه في المسيرة التقليدية لحركة الإنسان في ارتباطه بالمعاني الدينية، فإننا نجد الجانب الشعوري هو الذي يترك الإنسان في حالة استنفار دائم لتحريك تلك المعاني في الواقع وحمايتها بمواجهة كل التحديات المثارة ضدها من قبل الآخرين، نحو مسألة شخصية، وهذا ما يجعل من المسائل الدينية والمذهبية مسائل حسّاسة في ساحة الصراع.

4 ـ تفريغ عاشوراء من العاطفة والاكتفاء بالمضمون الفكري لها، يجعل القضية جامدة جافة في الوعي الإنساني، ككل القضايا التاريخية المتصلة بالصراع بين الحق والباطل التي يتجاوزها الزمن، لأن قضايا الصراع الكثيرة التي يحتكّ بها الإنسان في حاضره، قد تحمل الكثير من المشاكل الضاغطة على الفكر والشعور، بالمستوى الذي لا يجد فيه الإنسان فراغاً للاستغراق في التاريخ، فيؤدي ذلك ـ تدريجياً ـ إلى نسيان القضية وإهمالها، إلا في الحالات الطارئة التي قد تدفع ببعض قضايا التاريخ إلى الواقع، في عملية إثارة سريعة لا تلبث أن تذوب ـ بعد ذلك ـ في غمار الواقع الخطير الضاغط على الإنسان.

كل ذلك يحتّم أن تكون قضية عاشوراء مغسولة بالعاطفة فيما لو أُريد لها أن تستمر في وجدان الأجيال المتعاقبة، وإنَّ سلخ العاطفة عن عاشوراء يعني تحويلها إلى مجرد قضية من قضايا الصراع التاريخية التي تبقى في إطار الكتب أو في إطار الإحياء الجامد.

الموازنة بين الفكر والعاطفة

ولكن مع تأكيدنا أهمية العاطفة في عاشوراء، فإنَّ هناك بعض السلبيات الناجمة عن الاقتصار على عنصر العاطفة والمأساة في مقابل الجانب الفكري، الأمر الذي يجعل من الضروري الموازنة بين الجانب الفكري والعاطفي، فلا يطغى فيها جانب على آخر، وذلك لأسباب عديدة نوردها في نقاط:

أ ـ إن المسألة الفكرية مرتبطة بالهدف الكبير الذي انطلقت من أجله عاشوراء، وهي قضية التغيير والحياة والإنسان، من خلال كل العناصر المتنوّعة التي تختزنها الثورة الحسينية، ما يجعلها منفتحة على الحاضر والمستقبل، فإن الحسين(ع) لم ينطلق في ثورته على الواقع الجائر لكي نبكي عليه، بل خرج من أجل الإصلاح والتغيير..

نعم، العاطفة هي نتيجة من نتائج الثورة، حاول من خلالها أئمة أهل البيت(ع) أن يُبقوا القضية حيّة في شعور الإنسان المسلم على امتداد الزمن، بحيث تتحوّل إلى مسألة تتصل بالضمير الإنساني في علاقة الحاضر بالتاريخ، وهناك فرقٌ بين أن تكون العاطفة هدفاً للثورة، وأن تكون وسيلة من وسائل بقائها على المستوى الوجداني.

ب ـ إن القضية الحسينية ليست من القضايا الإنسانية الذاتية التي تتمحور حول الذات، بل هي من القضايا الإسلامية الكبيرة الخاضعة للعناوين العامة المتصلة بالمسؤولية الشرعية من جهة، وبالخط السياسي الثوري من جهة أخرى..

ولذلك، فإنَّ التركيز على العاطفة ـ بعيداً عن العقل ـ يبتعد بها عن الطابع الإسلامي العام، ويحوّلها إلى الطابع الذاتي، لأنَّ الاستغراق في المأساة بالطريقة البكائية، يملأ النفس بالكثير من الدخان العاطفي الذي يمنع وضوح الرؤية في النظر إلى العناصر الحقيقية المتمثلة في طبيعتها العامة، حتى إن الارتباط بالشخصيات القيادية الإسلاميَّة، قد يتحوّل إلى ارتباط شخصي متصل بالجوانب الذاتية في صفاتها الخاصة ومستغرق في التقليد الجامد الذي قد يبدو فيه البكاء ـ وأمثاله من الأساليب العاطفية ـ شيئاً يتكلفه الإنسان ليكون نوعاً من أنواع التباكي الذي قد يلتقي بالصورة في معنى الحزن أكثر مما يرتبط بالمضمون، وقد يتحول إلى حالة من التنفيس عن الآلام الذاتية التي يختزنها الإنسان في حياته الخاصة، أكثر من التفاعل الجدي بالقضية التاريخية.

ج ـ إنّ العنصر التقليدي في إثارة الذكرى قد يحوّل القضية إلى طقوس دينية عادية لا تحمل أي مضامين فكرية، سواء على المستوى السياسي في أبعاد الثورة، أو على المستوى الحركي الإسلامي، وربما لاحظنا ـ في واقعنا المعاصر ـ الطغاة المنحرفين من السياسيين الشيعة يقيمون الذكرى بالأساليب العاطفية، باعتبارها إحدى التقاليد الشيعية العريقة، ولا يسمحون لقارئ السيرة الحسينية أن يتجاوز المسألة العاطفية إلى المسألة السياسية.

د ـ إنَّ عدم الأخذ بالمنهج العلمي الفكري في دراسة القضية الحسينية، قد يؤدي إلى تشويه المفاهيم الصافية للثورة الحسينية، سواء انطلقت من طبيعة الثورة بشكل مباشر، أو استفيدت بشكل غير مباشر من المواقف التي وقفها أبطال كربلاء، مما نقلته لنا كتب السيرة، فقد يتنافى ما قد يطرحه قرّاء العزاء مع المفاهيم الإسلامية الأصيلة، أو يبتعد عن خط التوازن في دائرة التصور، أو يحصر الذكرى في دائرة معينة تنطلق بها العصبيات العائلية، بعيداً عن المشاعر والأفكار الرسالية وغير ذلك، ما ينعكس سلباً على الذهنية الشعبية العامة التي قد تختزن هذه المفاهيم التي تنفذ إلى منطقة الشعور من خلال الدموع والآلام التي قد تعمّق المضمون الفكري والشعوري في كل مواقع الإثارة في الذات، وهذه النقطة سنتعرّض لها بشيء من التفصيل في عنوان مستقل إن شاء الله.

ه ـ إنَّ إبعاد الفكر عن عاشوراء قد يكون أحد أسباب بعض الاتجاهات الخاطئة المتمثلة في عدم الموافقة على اعتبار النهج الحسيني، في مواجهة الباطل والحاكم المنحرف، نهجاً إسلامياً عاماً يتحرك به المسلمون، بل تعتبره نهجاً حسينياً خاصاً ينطلق من الخصوصيات الحسينية الذاتية فيما هي شخصية الحسين(ع) الخاصة في صفته الإمامية، وذلك على أساس أنَّ الاستغراق في الجانب الشخصي للمأساة جعل الارتباط بالحسين(ع) ارتباطاً ذاتياً يتّصل بشخصه ولا يتّصل برسالته، وبذلك، ابتعدت عاشوراء لدى هؤلاء عن معنى القدوة، مما يمكن استلهامه في الحركة للأجيال الإسلامية المتلاحقة.

و ـ إنَّ تأكيد الجانب الفكري للذكرى يسمح لنا بالاستفادة منها، من خلال تحديد الخطوط الفكرية والحركية والفقهية المتصلة بها، لأنَّ في عاشوراء الكثير من المضامين الفكرية والفقهية التي يجب الوقوف على مفرداتها بالتحليل العلمي الدقيق، ما يحوّل عاشوراء إلى محطة للتخطيط الدقيق للمسألة الإسلامية على مستوى المستقبل القريب والبعيد، ليكون الإسلام هو القاعدة للفكر وللعاطفة والحياة.

ز ـ إنَّ عدم الاعتناء بالجانب الفكري لعاشوراء، يفوّت علينا منبراً للدعوة الإسلامية، لأن المنبر الحسيني يجتذب الجماهير الإسلامية اجتذاباً تقليدياً، الأمر الذي يمنح الدعاة الكثير من الفرص للنفاذ إلى عقول الناس وقلوبهم، من خلال العنوان الإسلامي الكبير للذكرى، فيدفعهم ذلك إلى الانفتاح على إسلام الفكرة والحركة والثورة من خلال انفتاحهم على الحسين(ع)، الذي يمثّل التجسيد الحي لذلك كله، فتكون الذكرى ـ بذلك ـ مدرسة إسلامية شعبية متنوعة الأبعاد والأساليب، ووسيلة من وسائل الدعوة إلى الإسلام.

ح ـ إنَّ إطلاق العاطفة بمعزل عن العقل، قد يؤدّي إلى تكرار المأساة التي عاشها الحسين(ع)، لأن مأساته(ع) لم تكن في فقدان المسلمين للعاطفة تجاهه، فقد كانت كلّ قلوبهم تخفق بحبّه، لكنه كان حباً أعمى سطحياً، ولم ينطلق من عمق المعرفة والإرادة والمعاناة.

ولذلك، عندما تطلّب الأمر منهم التضحية بالمزاج أو المصلحة أو المال، انطلق الحب بعيداً وتقدمت المصلحة والمزاج، وقد عبّر الفرزدق عن حالة أهل الكوفة الذين خرجوا لقتال الحسين(ع) بقوله: "قلوب الناس معك وسيوفهم عليك".

ونحن نحتاج إلى أن نحب الحسين(ع) بوعيٍ وعقل، لا مجرد حبّ سطحي انفعالي أعمى لا يلبث أن يجمد عندما يصطدم بالواقع ويعيش التحدي، وهذا يتطلب وعي كل المضامين التي انطلقت من خلالها عاشوراء والتي هي مضامين الإسلام.

أمام هذه النقاط التي تجعل من الجانب الفكري في إحياء الذكرى أمراً حيوياً وضرورياً، وأمام ما تقدّم من ضرورة المحافظة ـ بقوة ـ على العنصر العاطفي في عاشوراء، نعود لنؤكّد أنَّ المسألة العاطفية هي مسألة إنسانيَّة الأبعاد، إسلامية الروح، غنية المؤثرات، كثيرة المعطيات، تمنح الفكر حرارته وحيويته، وتخرجه من جموده، وتقوده إلى النشاط والحركة، وتخرجه من حالة فكرية جامدة ليدخل في حالة إيمانية وجدانية، وهي تزيد الإنسان ارتباطاً بمواقعها واتصالاً بقضاياها، ما يجعل الحالة الفكرية ـ في خصوصيات المبدأ والشخص والموقف ـ حالةً قريبة من الشعور، منفتحةً على الوجدان، بحيث يمنحها ذلك بعضاً من القوة والانفتاح والثبات في النفس والامتداد في الواقع.

كما نشدّد على أن التزاوج بين الحالة العاطفية والحالة الفكرية، هو الذي يحقق للرسالة مضمونها العميق في وعي الإنسان وحركته، وبذلك تتطور الفكرة إلى إيمان، من خلال الفكر المنفتح على الشعور، ويتطوَّر الإيمان إلى حبّ أو بغض، من خلال انفتاح العقل على القلب.. وهذا ما نستوحيه من الحديث عن الحب لأولياء الله والبغض لأعدائه في الالتزام الإيماني للمسلم، باعتبارهما دليلاً على الجدية والإخلاص، فإنَّ الملحوظ أنَّ الغاية هنا ـ وهي العناوين التي انطلقت على أساسها عاشوراء ـ تلتقي بالوسيلة المتصلة بطريقة إحياء الذكرى ووسائلها، وأنَّ المضمون يتحرك في دائرة الالتزام في الواقع.

ونعود لنقول: إنَّ علينا أن نربي قلوبنا كما نربي عقولنا، وذلك بأن نربي قلوبنا بثقافة العاطفة، لأنَّ القلب عندما يخطئ الاتجاه الصحيح في العاطفة قد يدمّر حياة الإنسان، فإذا انطلقنا من سطحية في حبنا فمنحناه لمن لا يستحقه، فربما يكون في داخل من أحببناه خبث دفين يدمّر لنا حياتنا في المستقبل، وعندما نبغض إنساناً على غير أساس العناصر الموضوعية للبغض، فربما يكون في هذا الإنسان عنصر طيّب في العمق، في الوقت الذي يحرمنا بغضنا له من أن نتلمّس لحياتنا موقع الطيب في نفسه.

إنَّ علينا أن نرشّد عواطفنا لتنبض على أساس الوعي، وتنطلق من العمق لا من السطح، لا أن تكون عاطفة مجنونة، أو عاطفة تعيش الطفولة وتتحرك على طريقة الأطفال.

[المصدر: نظرة إسلامية حول عاشوراء].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية