عاشوراء: حركة للإصلاح وثورة للتغيير في الواقع

عاشوراء: حركة للإصلاح وثورة للتغيير في الواقع

إننا نمتلك الكثير ممن أن نستوحيه من ذكرى الحسين(ع)، لأنه في معنى عقله الذي اختزن الإسلام كلّه، وفي معنى قلبه الذي انفتح على الإنسان كلّه، وفي معنى حركته التي انطلقت من أجل العدل كلّه والخير كله والحق كله، كان اختصاراً لمعنى الإنسان الذي عاش مع الله واستوحى عناصر شخصيته كلّها من الله، ومن خلال ذلك، نعرف أنَّ الإمام الحسين(ع) لا يمكن أن يتجمّد في زمن، ولا يمكن أن يحاصره مكان، ولا يمكن أن تختصره حادثة، وقد رأينا أن بعض السِير تختصر الحسين(ع) في معنى كربلاء، وتختصر كربلاء في معنى المأساة، وإذا أرادت أن تطل على معنى الثورة في كربلاء، فإنها تحصرها في دائرة ضيقة.

ثورة لإصلاح الواقع

لهذا، علينا ـ أيها الأحبة ـ أن نفهم بعض النقاط في حركة الإمام الحسين(ع). والنقطة الأولى هي أن نجيب عن السؤال التالي: هل أطلق الإمام الحسين(ع) كلمة العنف في معنى القسوة في مسيرته من المدينة إلى مكة ومنها إلى كربلاء، أو أن الحسين(ع) كان في تلك المسيرة داعية إلى الله، متحركاً في خط الإصلاح، منفتحاً على الأمة كلها فيما كان يعيشه من المعاناة لكلّ آلام الأمة في انحرافاتها عن الخط المستقيم؟

ففي وصيته لأخيه محمد بن الحنفية، يعبّر عن مسيرته في عناوين قرآنية حركية تتغذى من الروحية العظيمة التي تندفع إلى الدعوة لهذه العناوين، وإلى تحقيقها بكلّ قلب مفتوح، فليس فيها أية حالة متشنّجة معقّدة تعمل من أجل قهر الذين يقفون في مواجهتها: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين". وهذه، حسب السيرة الحسينية، هي أول ما صدر عن الإمام الحسين(ع) من بيانات في بداية مسيرته، فماذا نقرأ فيها؟

إننا نقرأ أن الإمام الحسين(ع) أراد أن يجرّد حركته من العناوين التي كان الآخرون يتحركون فيها، على اعتبار أن أساس الحركة في واقعهم هي إعطاء الذات فرصتها لتحكم وتتسلط وتقهر وتتكبّر، فمن يخرج أشراً أو بطراً أو ظالماً للموقع، فإنه قد ينطلق لإفساد حياة الناس على مستوى المفاهيم والواقع، سواء كان واقعاً اجتماعياً أو سياسياً.

رسالية الحركة والموقف

كان المنطلق لدى الإمام الحسين(ع) هو أن ينفذ إلى واقع الأمة مجرداً عن ذاته بما هو معنى الذات في نطاقها الضيق، وإن كانت ذاته في معناها الرسالي هي الإسلام كلّه، لأن الإمام الحسين(ع) هو الإمام المعصوم، وهو سيد شباب أهل الجنة، ولا انفصال بين واقع الذات لديه وواقع الرسالة، وقد كانت كلمته رسالة، وعمله رسالة، وإقراره للواقع الذي لا يعترض عليه ويرضاه رسالة، لأنه عاش الرسالة في أنفاس رسول الله(ص) الذي كان يتنفس بها عليه من أجل أن يعطيه الطهر كلّه في أنفاسه، وعاش روح رسول الله(ص) التي كان يعمل على أن يغرسها في روحه خلال طفولته الأولى، فوجد في أحضان رسول الله(ص) حضن الإسلام الذي يضمّه، والذي يرتاح إليه، والذي عاش هدهداته كلّها ومشاعره كلّها وأحاسيسه كلّها، فعاش مع الحق الذي مثّله كلٌ من رسول الله(ص) وعلي(ع)، الذي قال عنه رسول الله(ص): "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار".

إننا عندما ندرس حياة الإمام الحسين(ع) بموضوعية وحيادية، فإننا لن نجد في التاريخ الذي أرخ طفولة الحسين(ع) وشبابه وبداية كهولته، كلمة في ذلك كلّه تحصي أو ترصد فيه خطأ في فكر أو قول أو فعل، فكان إسلاماً يتجسّد، ما يجعلنا نؤكد أنه ليس هناك انفصال بين الذات والرسالة.

ومن هنا، أراد الحسين(ع) أن يقول للناس: ادرسوا تاريخي كلّه وانظروا، هل ظلمت أحداً في كلمة أو فعل، وادرسوا حركتي في الحياة وانظروا، هل أفسدت على المستوى الفردي أو الاجتماعي؟ هل انطلقت في حالة خيلاء أو بطر أو كبرياء في حياتي كلها؟ ألم أكن المتواضع الذي يعيش مع الناس كواحد منهم، والذي يحترمهم في حقوقهم كلّها ومواقعهم كلّها؟!

إذاً، ليست المسألة مسألة ذات تريد أن تحكم أو تظلم أو تفسد، ولكنها ذاتٌ تريد أن تصلح، لأنَّ الواقع الَّذي يعيش فيه الناس، كان واقع الفساد في المفاهيم والحكم والعلاقات العامة، ولذلك قال(ع): "خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، ونسبة الأمة إلى جده(ص) ليست حصراً للأمة في الدائرة النسبية، ولكنها تعني أن الرسول(ص) الذي أطلق الرسالة وجسّدها، أراد لها أن تتحرك من بعده، لأن الله يقول {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[1]، فمعنى أن جدّه هو الرسول(ص)، يفيد أنه عاشه في رسالته فيه، وهو ما أوضحته كلمته(ص) "حسين مني وأنا من حسين".

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ثم يقول(ع) في وصيته:"أريد أن آمر بالمعروف"، والمعروف هو كل ما أحبه الله ورضيه، مما يرفع مستوى الإنسان في مجالاته كلّها، "وأنهى عن المنكر"، والمنكر هو كلّ ما كان ينال سخط الله وينحط بمستوى الإنسان إلى أسفل درك. وتلك هي صورة الحركة التي أراد الإمام الحسين(ع) أن يطلقها في الأمة، "فمن قبلني بقبول الحق" لا من خلال علاقته بي ذاتاً، فأنا لست ذاتاً تفرض على الناس حبّها في دائرتها الخاصة، ولكني رسالة تعيش في الذات لتجعل تجسد الرسالة في حركة الذات وليست في الذات، فكأنه أراد أن يقول للناس إنكم عندما تقبلونني في دعوتي، فإنكم تقبلون دعوة الله، لأنّ الدعوة ليست دعوة الحسين الشخص، ولكنها دعوة الحسين الرسالة بما تمثله من وحي الله وكلمته. "فالله أولى بالحق"، فجزاء من يقبل دعوتي على الله، "ومن رد عليّ" ورفضني، "أصبر" صبر الأنبياء والرسل والمصلحين لا صبر التراجع، ولكني أصبر لأعطي الذين يردون علي والذين يعيشون تحت رواسب الجاهلية وتحت تأثير الأجواء المنحرفة التي يتقلبون فيها، صورة عن صبر رسول الله(ص) عندما قال: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، فربما يلتقون بالنور في موقع هنا أو موقع هناك، لأن الإنسان يمكن أن يتكامل وينمو، وإذا ضغط عليه موقع فانحرف به، فقد ينفتح له موقع آخر فيستقيم، "حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق"، فالذي بيني وبين الذين يردون عليّ ليس شيئاً في الذات، بل هو شيء في الحق، ولا أملك الحق ولا يملكونه، ولكن الله ربي وربهم هو الذي يملك الحق وهو الذي يحكم بالحق: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[2]. ومن هنا، نعرف أن الأمر لم يكن عنفاً، وإنما رسالة تعمل على فتح قلوب الناس.

مفهوم الإمامة:

ويمكن أن نلاحظ أيضاً كيف كان الإمام الحسين(ع) يريد أن يؤكد مفهوم الإمام في نفوس الناس، لأن المشكلة منذ البداية، أي منذ أن أُقصي الإمام علي(ع) عن حقه، هي مشكلة الانحراف عن معنى إمامة المسلمين، وليست المسألة في سن متقدمة أو سن متأخرة، ولا هي صحبة متقدمة وصحبة متأخرة، بل كانت في عمقها الذي نعيه الآن، هي أن يكون الإمام الذي يحمل الرسالة يختزن في داخله شخصيتين متكاملتين: شخصية الذي يعرف الإسلام كله وعياً والتزاماً وحركة وتجربة ومنهجاً، وقضية الإنسان الذي يملك وعي الحركة الإسلامية في عناوينها الكبيرة في حركة الواقع.

أما المسلمون في ذلك العهد وبعده، فقد كانت الإمامة ملتبسة لديهم بالرغم من أن الرسول(ص) حدّثهم عن علي(ع) مما لم يتحدّث به عن أي صحابي آخر، فلقد حدثهم في يوم الغدير عن الولاية، وحدثهم في حديث المنزلة عن أنه بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده، وكان فهمهم للإمامة يتحرك في السطح. أما في العمق، فكان يتصل بشيء يقترب من رئيس العشيرة، ولهذا أبعدوا علياً(ع)، وقال البعض للزهراء(ع) عندما طالبتهم بحقه في الخلافة: لو أن علياً تقدم إلينا أن نبايع لكنا معه، وكأن المسألة مجرد بيعة في معنى الالتزام بالشخص لا بالمضمون والرسالة.

النظرة العشائرية للخلافة

ولقد رأينا كيف تحركت الأمور في الكثير من التعقيدات، وكيف أضحت المسألة عندما ولي علي(ع) الخلافة، وكيف انتفض طلحة والزبير باعتبار أنهما يريدان له أن يشركهما، تماماً كما لو كانت الخلافة والإمامة شركة في حكم الناس أو في الامتيازات.

وهكذا انطلقوا في أول حرب استخدموا فيها زوجة رسول الله(ص)، ورأينا أيضاً كيف أن معاوية بدأ يفكر في الخلافة باسم قميص عثمان، وقد حاوره علي(ع) كثيراً وسجّل عليه أكثر من نقطة، ومنها أن معاوية كان قادراً على أن ينصر عثمان ولم ينصره.

وعندما انطلق الإمام الحسين(ع) بعد أبيه وكان ما كان، انطلق الناس بأجمعهم، إلا قلة من المعارضة ليصنعوا من معاوية إماماً، ثم إنهم ومن خلال معاوية، صنعوا من يزيد إماماً وهم يعرفون ما معنى معاوية وما معنى يزيد، كما يعرفون ما معنى الإمام علي(ع) وما معنى الحسن(ع)، ولكنهم كانوا لا يعيشون عمق معنى الإمامة.

تصحيح مفهوم الإمامة

ولذلك، كان همّ الحسين(ع) كله القيام حملة توعية فيمن يكون الإمام، فكانت خطبته التي خطبها وقال فيها "أيها الناس، إنّ رسول الله(ص) قال من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعده، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقياً على الله أن يدخله مدخله، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرمّوا حلاله، وأني أحق بهذا الأمر". لقد قدم لهم صورة الإمام المنحرف، فالذي يحكم باسم الإسلام لا يمكن أن يكون ظالماً للناس: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[3]، ولا يمكن أن يكون ناكثاً بعهده، لأن الله يقول: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}[4]، ولا يمكن أن يخالف سنة رسول الله(ص)، لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[5]، ويقول: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[6]. ولا يمكن أن يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، لأن الله سبحانه وتعالى يرفض الظلم لعباد الله، ولذلك كان رسول الله(ص) يقول: حاولوا أن تغيّروا الإمام الذي يتصف بهذه الصفات، لأن المشكلة هي أنه سوف يهدم قواعد الإسلام في حركة حكمه، فمثل هذه العناوين التي تتمثل في الحكم، تقف في الضد من عناوين الإسلام الحقيقية.

ثم يحدّد الإمام الحسين(ع) الخطوط الشرعية العامة لمفهوم الإمام: "إنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله". لذلك قال: "أنا أحق من غيّر"، لأنني أنا الذي أحمل الإسلام عقلاً في عقلي، وقلباً في قلبي، وحركة في حركتي، ومنهجاً أنفتح به على قضايا الإنسان مما يريد الله له أن يتحرك فيه.

وإضافةً إلى هذا النص الذي يركّز على تصحيح مفهوم الإمامة، نتوقف عند نص آخر جاء فيه أن رجلاً من بني أسد سأل الإمام الحسين(ع) "يا بن بنت رسول الله، أخبرني عن قول عن الله عزّ وجل: يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم؟ فقال الحسين(ع): نعم يا أخا بني أسد، هم إمامان؛ إمام هدى دعا إلى هدى، وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة، فهدى من أجابه إلى الجنّة، ومن أجابه إلى الضلالة دخل النار". فكأنه يقول: ادرسوا الإمام الذي يؤم المسلمين من خلال سيرته، هل هي سيرة ضلال أو هدى؟ وادرسوا مضمون دعوته، هل هي دعوة إلى ضلالة أو هي دعوة إلى هدى؟ فإذا رأيتم أن دعوته دعوة هدى، وسيرته سيرة هدى، فاتبعوه، فإنه من اتبعه، لا بدّ من أن يصل إلى الجنّة، وإذا كانت سيرته سيرة ضلالة، ودعوته دعوة ضلالة، فإنه يسير به إلى النار.

ورأيناه أيضاً يتحدث في حديث آخر عن مفهوم الإمام، حيث يقول "ما الإمام إلا بالعامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله"، بحيث لا يتحرك في أي دائرة غير ما يمثله الله، ثم يقول "ليس الإمام العامل بالكتاب والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحق ولا يهدي ولا يهتدي، جمعنا الله وإيّاكم على الهدى، وألزمنا وإياكم التقوى، إنه لطيف لما يشاء".

وفي رسالته إلى أهل البصرة، نجد أن الإمام الحسين(ع) يؤكد لهم معنى الإمام في دعوته هو، وكأنه يجسّد لهم شخصه: "وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أميتت والبدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد".

وفي ضوء ذلك، نعرف أن الإمام الحسين(ع) انطلق من أجل أن يؤكد هذا المفهوم، وأن يرصد الواقع من خلاله، وعندما نزل ما نزل بسفيره مسلم بن عقيل(ع)، وعندما واجه الفئات المضادّة، تحدّث بمرارة عن ذلك الواقع في لقائه مع الحرّ، حيث قال: "إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا تغّيرت وتنكّرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقاً حقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً". وقال بعد ذلك مشيراً إلى الواقع الذي لم ينفتح على رسالته وعلى دعوته: "إن الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديانون".

وقال لجماعة الحرّ بعد صلاة العصر: "أمّا بعد، أيها الناس، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلا الكراهة لنا والجهل بحقنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت رسلكم، انصرفت عنكم"، ولم يواجههم بالتهديد بالعنف إطلاقاً.

الإمام الحق في الإسلام

أيها الأحبة، كانت رسالة الإمام الحسين(ع) في ذلك كلّه تتمثل في تأكيده للناس معنى الإمامة في الإسلام، وصفة الإمام الحقّ في الإسلام، وكان يريد أن يختصر المشكلة الإسلامية بعد رسول الله(ص) في هذه المسألة، باعتبار أن الناس لم ينفتحوا على مفهوم دور الإمامة في الإسلام، باعتبار أنه دور يتحرك في حماية الإسلام من الانحراف، ودعوة الناس إلى الإسلام في كلّ جيل، والقيام بالقسط في حياة الناس وواقع الحكم الإسلامي.

ولعلّ هذه المسألة التي ركز عليها الإمام الحسين(ع)، هي التي أراد للناس أن يعرفوا من خلالها أن مشكلتهم، التي يعيشون فيها الفساد الذي يتقبلون فيه المنكر الذي يفعلونه والمعروف الذي يتركونه، إنما حصلت لأنهم أفسحوا المجال للإمامة غير الشرعية، لأنّ الإمامة هي التي يمكن أن تقود الناس إلى الخط المستقيم، أو التي يمكن أن تنحرف بهم إلى الخط المنحرف. ولعلّ هذا هو ما عاشه المسلمون بعد ذلك، سواء فيما انطلقوا فيه في عهد الخلافة الأموية، أو عهد الخلافة العباسية، أو الخلافة العثمانية، أو ما يلتزم به المسلمون ممن ينفتحون به على سلطان هنا ليس له من معنى الشرعية الإسلامية أي موقع، وسلطان هناك لا يحمل من معنى الشرعية شيئاً، وهذا هو سرّ الواقع اللاإسلامي في الحياة الإسلامية، لأن الناس إذا عاشوا مع الحكم المنحرف والتيار الذي يبتعد عن الإسلام في مفاهيمه وشرائعه وتطبيقاته، فإنّ من الطبيعي أن يكون الإسلام شيئاً، ويكون المسلمون شيئاً آخر.

ومن هنا، فإننا عندما نثير مسألة الإمامة لا نثير مسالة تأريخية في تعقيدات التأريخ، ولكننا نتحدث عنها ونحرّك مفهومها كيما تمتد في الوجدان الإسلامي، حتى ينطلق المسلمون ليعرفوا أين هو إمام الهدى ليتبعوه، وأين هو إمام الضلالة ليتركوه، وتلك ـ أيها الأحبة ـ قصة امتداد قضية الإمام الحسين(ع)، فإن الأئمة من أهل البيت(ع) لم يريدوا لعاشوراء أن تكون مجرد دمعة وإثارة مأساة، وإنما أرادوا للدمعة أن تشير إلى تلك الدموع التي عاشها المسلمون عندما ابتعدوا عن الإسلام، وفرضت عليهم المشاكل الكثيرة التي صادرت حقوق المستضعفين وأبعدتهم عن معنى العدل والاستقامة، وأرادوا للمأساة أن تنطلق لتعيش في مشاعر الناس في مدى الزمن وفي مواقعهم كلّها، لا لتكون مأساة كربلاء معنى في ذاتية المأساة، ولكن لتكون واجهة لكل مآسي الإنسان التي يتحرك المستكبرون من أجل أن يصنعوها في واقع المستضعفين، والتي يتحرك فيها الظالمون ليصنعوها في واقع المظلومين.

كيف نكون مع كربلاء الحسين(ع)؟

أيها الأحبة، من كان مع كربلاء الحسين لا يمكن أن يبايع ظالماً، ومن كان مع كربلاء الحسين لا يمكن أن يقاتل مع ظالم، ولا يمكن أن يعذر ظالماً أو يبرّر لظالم ظلمه، لذلك، اختصروا دموعكم عندما تكون دموع التأريخ، وأطلقوها عندما تكون دموع الإنسان المظلوم والمقهور والمستضعف. لقد كانت كربلاء مظلومة كلّها، لأنها انطلقت بالرسالة في خط العدل، وانطلقت من قلب الواقع لتحتج عليه ولتثور عليه ولتغيّره. هل تريدون أن تكونوا حسينيين؟ ليست القضية إذاً أن تبكوا كثيراً، وإن كان للبكاء معناه، وليست القضية أن تلطموا كثيرا،ً وإن كان للطم رمزه، ولكن القضية هي أن تواجهوا الواقع كلّه، وأن تعيشوا الواقع كما عاشه الحسين(ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، وهم لم يكونوا حياديين أبداً أمام واقع الظلم والاستكبار.

أيها الأحبة، لا تتحركوا مع الحسين في التاريخ، بل تحركوا معه واقعاً وثورة وتغييراً، وليكن كل واحد منا حسيناً ولو بنسبة الواحد في المئة، فعندما نعيشه في منهجه وفكره وروحه وانفتاحه على قضية العدل والحرية في الإنسان، فإن كربلاء عند ذلك تستطيع أن تجد جمهورها فينا، وأن لا تتحدث فقط عن جمهورها في سنة 61 هـ.

المصدر: ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة


[1] [آل عمران: 144].

[2] [الانفطار: 19]

[3] [النحل: 90]

[4] [النحل: 91]

[5][الحشر: 7]

[6] [النساء: 80]

إننا نمتلك الكثير ممن أن نستوحيه من ذكرى الحسين(ع)، لأنه في معنى عقله الذي اختزن الإسلام كلّه، وفي معنى قلبه الذي انفتح على الإنسان كلّه، وفي معنى حركته التي انطلقت من أجل العدل كلّه والخير كله والحق كله، كان اختصاراً لمعنى الإنسان الذي عاش مع الله واستوحى عناصر شخصيته كلّها من الله، ومن خلال ذلك، نعرف أنَّ الإمام الحسين(ع) لا يمكن أن يتجمّد في زمن، ولا يمكن أن يحاصره مكان، ولا يمكن أن تختصره حادثة، وقد رأينا أن بعض السِير تختصر الحسين(ع) في معنى كربلاء، وتختصر كربلاء في معنى المأساة، وإذا أرادت أن تطل على معنى الثورة في كربلاء، فإنها تحصرها في دائرة ضيقة.

ثورة لإصلاح الواقع

لهذا، علينا ـ أيها الأحبة ـ أن نفهم بعض النقاط في حركة الإمام الحسين(ع). والنقطة الأولى هي أن نجيب عن السؤال التالي: هل أطلق الإمام الحسين(ع) كلمة العنف في معنى القسوة في مسيرته من المدينة إلى مكة ومنها إلى كربلاء، أو أن الحسين(ع) كان في تلك المسيرة داعية إلى الله، متحركاً في خط الإصلاح، منفتحاً على الأمة كلها فيما كان يعيشه من المعاناة لكلّ آلام الأمة في انحرافاتها عن الخط المستقيم؟

ففي وصيته لأخيه محمد بن الحنفية، يعبّر عن مسيرته في عناوين قرآنية حركية تتغذى من الروحية العظيمة التي تندفع إلى الدعوة لهذه العناوين، وإلى تحقيقها بكلّ قلب مفتوح، فليس فيها أية حالة متشنّجة معقّدة تعمل من أجل قهر الذين يقفون في مواجهتها: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين". وهذه، حسب السيرة الحسينية، هي أول ما صدر عن الإمام الحسين(ع) من بيانات في بداية مسيرته، فماذا نقرأ فيها؟

إننا نقرأ أن الإمام الحسين(ع) أراد أن يجرّد حركته من العناوين التي كان الآخرون يتحركون فيها، على اعتبار أن أساس الحركة في واقعهم هي إعطاء الذات فرصتها لتحكم وتتسلط وتقهر وتتكبّر، فمن يخرج أشراً أو بطراً أو ظالماً للموقع، فإنه قد ينطلق لإفساد حياة الناس على مستوى المفاهيم والواقع، سواء كان واقعاً اجتماعياً أو سياسياً.

رسالية الحركة والموقف

كان المنطلق لدى الإمام الحسين(ع) هو أن ينفذ إلى واقع الأمة مجرداً عن ذاته بما هو معنى الذات في نطاقها الضيق، وإن كانت ذاته في معناها الرسالي هي الإسلام كلّه، لأن الإمام الحسين(ع) هو الإمام المعصوم، وهو سيد شباب أهل الجنة، ولا انفصال بين واقع الذات لديه وواقع الرسالة، وقد كانت كلمته رسالة، وعمله رسالة، وإقراره للواقع الذي لا يعترض عليه ويرضاه رسالة، لأنه عاش الرسالة في أنفاس رسول الله(ص) الذي كان يتنفس بها عليه من أجل أن يعطيه الطهر كلّه في أنفاسه، وعاش روح رسول الله(ص) التي كان يعمل على أن يغرسها في روحه خلال طفولته الأولى، فوجد في أحضان رسول الله(ص) حضن الإسلام الذي يضمّه، والذي يرتاح إليه، والذي عاش هدهداته كلّها ومشاعره كلّها وأحاسيسه كلّها، فعاش مع الحق الذي مثّله كلٌ من رسول الله(ص) وعلي(ع)، الذي قال عنه رسول الله(ص): "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار".

إننا عندما ندرس حياة الإمام الحسين(ع) بموضوعية وحيادية، فإننا لن نجد في التاريخ الذي أرخ طفولة الحسين(ع) وشبابه وبداية كهولته، كلمة في ذلك كلّه تحصي أو ترصد فيه خطأ في فكر أو قول أو فعل، فكان إسلاماً يتجسّد، ما يجعلنا نؤكد أنه ليس هناك انفصال بين الذات والرسالة.

ومن هنا، أراد الحسين(ع) أن يقول للناس: ادرسوا تاريخي كلّه وانظروا، هل ظلمت أحداً في كلمة أو فعل، وادرسوا حركتي في الحياة وانظروا، هل أفسدت على المستوى الفردي أو الاجتماعي؟ هل انطلقت في حالة خيلاء أو بطر أو كبرياء في حياتي كلها؟ ألم أكن المتواضع الذي يعيش مع الناس كواحد منهم، والذي يحترمهم في حقوقهم كلّها ومواقعهم كلّها؟!

إذاً، ليست المسألة مسألة ذات تريد أن تحكم أو تظلم أو تفسد، ولكنها ذاتٌ تريد أن تصلح، لأنَّ الواقع الَّذي يعيش فيه الناس، كان واقع الفساد في المفاهيم والحكم والعلاقات العامة، ولذلك قال(ع): "خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، ونسبة الأمة إلى جده(ص) ليست حصراً للأمة في الدائرة النسبية، ولكنها تعني أن الرسول(ص) الذي أطلق الرسالة وجسّدها، أراد لها أن تتحرك من بعده، لأن الله يقول {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[1]، فمعنى أن جدّه هو الرسول(ص)، يفيد أنه عاشه في رسالته فيه، وهو ما أوضحته كلمته(ص) "حسين مني وأنا من حسين".

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ثم يقول(ع) في وصيته:"أريد أن آمر بالمعروف"، والمعروف هو كل ما أحبه الله ورضيه، مما يرفع مستوى الإنسان في مجالاته كلّها، "وأنهى عن المنكر"، والمنكر هو كلّ ما كان ينال سخط الله وينحط بمستوى الإنسان إلى أسفل درك. وتلك هي صورة الحركة التي أراد الإمام الحسين(ع) أن يطلقها في الأمة، "فمن قبلني بقبول الحق" لا من خلال علاقته بي ذاتاً، فأنا لست ذاتاً تفرض على الناس حبّها في دائرتها الخاصة، ولكني رسالة تعيش في الذات لتجعل تجسد الرسالة في حركة الذات وليست في الذات، فكأنه أراد أن يقول للناس إنكم عندما تقبلونني في دعوتي، فإنكم تقبلون دعوة الله، لأنّ الدعوة ليست دعوة الحسين الشخص، ولكنها دعوة الحسين الرسالة بما تمثله من وحي الله وكلمته. "فالله أولى بالحق"، فجزاء من يقبل دعوتي على الله، "ومن رد عليّ" ورفضني، "أصبر" صبر الأنبياء والرسل والمصلحين لا صبر التراجع، ولكني أصبر لأعطي الذين يردون علي والذين يعيشون تحت رواسب الجاهلية وتحت تأثير الأجواء المنحرفة التي يتقلبون فيها، صورة عن صبر رسول الله(ص) عندما قال: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، فربما يلتقون بالنور في موقع هنا أو موقع هناك، لأن الإنسان يمكن أن يتكامل وينمو، وإذا ضغط عليه موقع فانحرف به، فقد ينفتح له موقع آخر فيستقيم، "حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق"، فالذي بيني وبين الذين يردون عليّ ليس شيئاً في الذات، بل هو شيء في الحق، ولا أملك الحق ولا يملكونه، ولكن الله ربي وربهم هو الذي يملك الحق وهو الذي يحكم بالحق: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[2]. ومن هنا، نعرف أن الأمر لم يكن عنفاً، وإنما رسالة تعمل على فتح قلوب الناس.

مفهوم الإمامة:

ويمكن أن نلاحظ أيضاً كيف كان الإمام الحسين(ع) يريد أن يؤكد مفهوم الإمام في نفوس الناس، لأن المشكلة منذ البداية، أي منذ أن أُقصي الإمام علي(ع) عن حقه، هي مشكلة الانحراف عن معنى إمامة المسلمين، وليست المسألة في سن متقدمة أو سن متأخرة، ولا هي صحبة متقدمة وصحبة متأخرة، بل كانت في عمقها الذي نعيه الآن، هي أن يكون الإمام الذي يحمل الرسالة يختزن في داخله شخصيتين متكاملتين: شخصية الذي يعرف الإسلام كله وعياً والتزاماً وحركة وتجربة ومنهجاً، وقضية الإنسان الذي يملك وعي الحركة الإسلامية في عناوينها الكبيرة في حركة الواقع.

أما المسلمون في ذلك العهد وبعده، فقد كانت الإمامة ملتبسة لديهم بالرغم من أن الرسول(ص) حدّثهم عن علي(ع) مما لم يتحدّث به عن أي صحابي آخر، فلقد حدثهم في يوم الغدير عن الولاية، وحدثهم في حديث المنزلة عن أنه بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده، وكان فهمهم للإمامة يتحرك في السطح. أما في العمق، فكان يتصل بشيء يقترب من رئيس العشيرة، ولهذا أبعدوا علياً(ع)، وقال البعض للزهراء(ع) عندما طالبتهم بحقه في الخلافة: لو أن علياً تقدم إلينا أن نبايع لكنا معه، وكأن المسألة مجرد بيعة في معنى الالتزام بالشخص لا بالمضمون والرسالة.

النظرة العشائرية للخلافة

ولقد رأينا كيف تحركت الأمور في الكثير من التعقيدات، وكيف أضحت المسألة عندما ولي علي(ع) الخلافة، وكيف انتفض طلحة والزبير باعتبار أنهما يريدان له أن يشركهما، تماماً كما لو كانت الخلافة والإمامة شركة في حكم الناس أو في الامتيازات.

وهكذا انطلقوا في أول حرب استخدموا فيها زوجة رسول الله(ص)، ورأينا أيضاً كيف أن معاوية بدأ يفكر في الخلافة باسم قميص عثمان، وقد حاوره علي(ع) كثيراً وسجّل عليه أكثر من نقطة، ومنها أن معاوية كان قادراً على أن ينصر عثمان ولم ينصره.

وعندما انطلق الإمام الحسين(ع) بعد أبيه وكان ما كان، انطلق الناس بأجمعهم، إلا قلة من المعارضة ليصنعوا من معاوية إماماً، ثم إنهم ومن خلال معاوية، صنعوا من يزيد إماماً وهم يعرفون ما معنى معاوية وما معنى يزيد، كما يعرفون ما معنى الإمام علي(ع) وما معنى الحسن(ع)، ولكنهم كانوا لا يعيشون عمق معنى الإمامة.

تصحيح مفهوم الإمامة

ولذلك، كان همّ الحسين(ع) كله القيام حملة توعية فيمن يكون الإمام، فكانت خطبته التي خطبها وقال فيها "أيها الناس، إنّ رسول الله(ص) قال من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعده، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقياً على الله أن يدخله مدخله، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرمّوا حلاله، وأني أحق بهذا الأمر". لقد قدم لهم صورة الإمام المنحرف، فالذي يحكم باسم الإسلام لا يمكن أن يكون ظالماً للناس: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[3]، ولا يمكن أن يكون ناكثاً بعهده، لأن الله يقول: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}[4]، ولا يمكن أن يخالف سنة رسول الله(ص)، لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[5]، ويقول: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[6]. ولا يمكن أن يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، لأن الله سبحانه وتعالى يرفض الظلم لعباد الله، ولذلك كان رسول الله(ص) يقول: حاولوا أن تغيّروا الإمام الذي يتصف بهذه الصفات، لأن المشكلة هي أنه سوف يهدم قواعد الإسلام في حركة حكمه، فمثل هذه العناوين التي تتمثل في الحكم، تقف في الضد من عناوين الإسلام الحقيقية.

ثم يحدّد الإمام الحسين(ع) الخطوط الشرعية العامة لمفهوم الإمام: "إنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله". لذلك قال: "أنا أحق من غيّر"، لأنني أنا الذي أحمل الإسلام عقلاً في عقلي، وقلباً في قلبي، وحركة في حركتي، ومنهجاً أنفتح به على قضايا الإنسان مما يريد الله له أن يتحرك فيه.

وإضافةً إلى هذا النص الذي يركّز على تصحيح مفهوم الإمامة، نتوقف عند نص آخر جاء فيه أن رجلاً من بني أسد سأل الإمام الحسين(ع) "يا بن بنت رسول الله، أخبرني عن قول عن الله عزّ وجل: يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم؟ فقال الحسين(ع): نعم يا أخا بني أسد، هم إمامان؛ إمام هدى دعا إلى هدى، وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة، فهدى من أجابه إلى الجنّة، ومن أجابه إلى الضلالة دخل النار". فكأنه يقول: ادرسوا الإمام الذي يؤم المسلمين من خلال سيرته، هل هي سيرة ضلال أو هدى؟ وادرسوا مضمون دعوته، هل هي دعوة إلى ضلالة أو هي دعوة إلى هدى؟ فإذا رأيتم أن دعوته دعوة هدى، وسيرته سيرة هدى، فاتبعوه، فإنه من اتبعه، لا بدّ من أن يصل إلى الجنّة، وإذا كانت سيرته سيرة ضلالة، ودعوته دعوة ضلالة، فإنه يسير به إلى النار.

ورأيناه أيضاً يتحدث في حديث آخر عن مفهوم الإمام، حيث يقول "ما الإمام إلا بالعامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله"، بحيث لا يتحرك في أي دائرة غير ما يمثله الله، ثم يقول "ليس الإمام العامل بالكتاب والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحق ولا يهدي ولا يهتدي، جمعنا الله وإيّاكم على الهدى، وألزمنا وإياكم التقوى، إنه لطيف لما يشاء".

وفي رسالته إلى أهل البصرة، نجد أن الإمام الحسين(ع) يؤكد لهم معنى الإمام في دعوته هو، وكأنه يجسّد لهم شخصه: "وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أميتت والبدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد".

وفي ضوء ذلك، نعرف أن الإمام الحسين(ع) انطلق من أجل أن يؤكد هذا المفهوم، وأن يرصد الواقع من خلاله، وعندما نزل ما نزل بسفيره مسلم بن عقيل(ع)، وعندما واجه الفئات المضادّة، تحدّث بمرارة عن ذلك الواقع في لقائه مع الحرّ، حيث قال: "إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا تغّيرت وتنكّرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقاً حقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً". وقال بعد ذلك مشيراً إلى الواقع الذي لم ينفتح على رسالته وعلى دعوته: "إن الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديانون".

وقال لجماعة الحرّ بعد صلاة العصر: "أمّا بعد، أيها الناس، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلا الكراهة لنا والجهل بحقنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت رسلكم، انصرفت عنكم"، ولم يواجههم بالتهديد بالعنف إطلاقاً.

الإمام الحق في الإسلام

أيها الأحبة، كانت رسالة الإمام الحسين(ع) في ذلك كلّه تتمثل في تأكيده للناس معنى الإمامة في الإسلام، وصفة الإمام الحقّ في الإسلام، وكان يريد أن يختصر المشكلة الإسلامية بعد رسول الله(ص) في هذه المسألة، باعتبار أن الناس لم ينفتحوا على مفهوم دور الإمامة في الإسلام، باعتبار أنه دور يتحرك في حماية الإسلام من الانحراف، ودعوة الناس إلى الإسلام في كلّ جيل، والقيام بالقسط في حياة الناس وواقع الحكم الإسلامي.

ولعلّ هذه المسألة التي ركز عليها الإمام الحسين(ع)، هي التي أراد للناس أن يعرفوا من خلالها أن مشكلتهم، التي يعيشون فيها الفساد الذي يتقبلون فيه المنكر الذي يفعلونه والمعروف الذي يتركونه، إنما حصلت لأنهم أفسحوا المجال للإمامة غير الشرعية، لأنّ الإمامة هي التي يمكن أن تقود الناس إلى الخط المستقيم، أو التي يمكن أن تنحرف بهم إلى الخط المنحرف. ولعلّ هذا هو ما عاشه المسلمون بعد ذلك، سواء فيما انطلقوا فيه في عهد الخلافة الأموية، أو عهد الخلافة العباسية، أو الخلافة العثمانية، أو ما يلتزم به المسلمون ممن ينفتحون به على سلطان هنا ليس له من معنى الشرعية الإسلامية أي موقع، وسلطان هناك لا يحمل من معنى الشرعية شيئاً، وهذا هو سرّ الواقع اللاإسلامي في الحياة الإسلامية، لأن الناس إذا عاشوا مع الحكم المنحرف والتيار الذي يبتعد عن الإسلام في مفاهيمه وشرائعه وتطبيقاته، فإنّ من الطبيعي أن يكون الإسلام شيئاً، ويكون المسلمون شيئاً آخر.

ومن هنا، فإننا عندما نثير مسألة الإمامة لا نثير مسالة تأريخية في تعقيدات التأريخ، ولكننا نتحدث عنها ونحرّك مفهومها كيما تمتد في الوجدان الإسلامي، حتى ينطلق المسلمون ليعرفوا أين هو إمام الهدى ليتبعوه، وأين هو إمام الضلالة ليتركوه، وتلك ـ أيها الأحبة ـ قصة امتداد قضية الإمام الحسين(ع)، فإن الأئمة من أهل البيت(ع) لم يريدوا لعاشوراء أن تكون مجرد دمعة وإثارة مأساة، وإنما أرادوا للدمعة أن تشير إلى تلك الدموع التي عاشها المسلمون عندما ابتعدوا عن الإسلام، وفرضت عليهم المشاكل الكثيرة التي صادرت حقوق المستضعفين وأبعدتهم عن معنى العدل والاستقامة، وأرادوا للمأساة أن تنطلق لتعيش في مشاعر الناس في مدى الزمن وفي مواقعهم كلّها، لا لتكون مأساة كربلاء معنى في ذاتية المأساة، ولكن لتكون واجهة لكل مآسي الإنسان التي يتحرك المستكبرون من أجل أن يصنعوها في واقع المستضعفين، والتي يتحرك فيها الظالمون ليصنعوها في واقع المظلومين.

كيف نكون مع كربلاء الحسين(ع)؟

أيها الأحبة، من كان مع كربلاء الحسين لا يمكن أن يبايع ظالماً، ومن كان مع كربلاء الحسين لا يمكن أن يقاتل مع ظالم، ولا يمكن أن يعذر ظالماً أو يبرّر لظالم ظلمه، لذلك، اختصروا دموعكم عندما تكون دموع التأريخ، وأطلقوها عندما تكون دموع الإنسان المظلوم والمقهور والمستضعف. لقد كانت كربلاء مظلومة كلّها، لأنها انطلقت بالرسالة في خط العدل، وانطلقت من قلب الواقع لتحتج عليه ولتثور عليه ولتغيّره. هل تريدون أن تكونوا حسينيين؟ ليست القضية إذاً أن تبكوا كثيراً، وإن كان للبكاء معناه، وليست القضية أن تلطموا كثيرا،ً وإن كان للطم رمزه، ولكن القضية هي أن تواجهوا الواقع كلّه، وأن تعيشوا الواقع كما عاشه الحسين(ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، وهم لم يكونوا حياديين أبداً أمام واقع الظلم والاستكبار.

أيها الأحبة، لا تتحركوا مع الحسين في التاريخ، بل تحركوا معه واقعاً وثورة وتغييراً، وليكن كل واحد منا حسيناً ولو بنسبة الواحد في المئة، فعندما نعيشه في منهجه وفكره وروحه وانفتاحه على قضية العدل والحرية في الإنسان، فإن كربلاء عند ذلك تستطيع أن تجد جمهورها فينا، وأن لا تتحدث فقط عن جمهورها في سنة 61 هـ.

المصدر: ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة


[1] [آل عمران: 144].

[2] [الانفطار: 19]

[3] [النحل: 90]

[4] [النحل: 91]

[5][الحشر: 7]

[6] [النساء: 80]

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية