أيُّ نصرٍ حقَّقه الحسينُ (ع) في كربلاء؟!

أيُّ نصرٍ حقَّقه الحسينُ (ع) في كربلاء؟!

كان الحسين (ع) يعرف في البداية أنَّ النصر بالمعنى المادّيّ ليس وارداً في حساباته، لهذا حدَّث أخته العقيلة زينب (ع)، وبكت ليلة العاشر، وحدَّث أصحابه، وحدَّث أهل بيته (ع) - في ما يروى - جَمَعَهُم ليلة العاشر، وأخبرهم وقال لهم: "ألا وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ من بيعتي، ليس عليكم منِّي حرج ولا ذمام، وهذا اللَّيل قد غشيكم فاتخذوه جملاً - اركبوا اللَّيل كما تركبون الجمل لا يراكم أحد - وليأخذ كلّ رجلٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي - لأنَّ أهل البيت لا يعرفون البلاد هناك باعتبارهم حجازيّين - وتفرَّقوا في سواد هذا اللَّيل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنَّهم لا يريدون غيري"1، أنا سأموت، فلماذا تموتون معي؟!

ووقف أولئك، وقفت الأقليَّة التي كانت تجابه الأكثرية، ولكنَّها أقليّة الإيمان والإسلام والتقوى والإخلاص والتَّضحية في سبيل الله، أمام الأكثريَّة التي تختزن الضَّلال والفساد والأطماع والعمل في سبيل الشَّيطان، ووقفوا وقال له العباس: "لِمَ نفعلُ ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً؟"، وقال له زهيرُ بن القَيْن: "والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك"2.

وهكذا عاشوا وهم يترقَّبون الموت في اليوم التالي، وكانوا يعيشون مع الله كما كان الحسين (عليه السلام) يعيش مع الله، باتوا ليلة عاشوراء بين قائمٍ وقاعدٍ وراكعٍ وساجدٍ وقارئٍ للقرآن، كان هذا جوّهم، هذا جوّ الجيش المسلم، هذا جوّ المقاتِل المسلم الَّذي لا ينفصل عن الله في أيّ وقت.

وهكذا، عندما حان وقت الصَّلاة، وقد سَقَطَ بعض أصحاب الحسين، جاء شخص إلى الحسين (ع) وقال له: "يا أبا عبد الله، نفسي لك الفداء! إنِّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله، لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله، وأحبُّ أن ألقى ربِّي وقد صلَّيْت هذه الصَّلاة الَّتي دنا وقتها".

هكذا هم أصحاب الحسين (ع)؛ هم المصلُّون، وأمّا الذين لا يصلّون، فليس الحسين ولا أهل بيته ولا أصحابه منهم في شيءٍ، حتّى لو عملوا ألف مجلس عزاء. وقال الحسين: "ذكرت الصَّلاة، جعلك الله من المصلِّين الذَّاكرين! نعم، هذا أوَّل وقتها"3.

وصلَّى، والسِّهام من كلِّ جانبٍ تَتْرَى عليه، وسَقَطَ الذي كان يقف أمامه، وأكمل الحسين المسيرة.

وعندما أراد أن يلقى وجه ربِّه، قال آخر كلماته: "بسم الله وبالله وعلى مِلَّةِ رسول الله". هذه الكلمة التي لا بدَّ أن نعيشها، لن يقولها الإنسان بصدق إلَّا إذا كانت حياته باسم الله وفي سبيل الله وعلى مِلَّةِ رسول الله، سيقولها قبل أن يموت، وسيقولها في قبره، ولكنَّ الإنسان الذي كانت حياته بعيدة من الله ومن رسول الله، حتّى لو جاء الملقِّن ليقول له اسمع يا فلان، إذا جاءك المَلَكان وسألاك مَنْ ربُّك؟ قل الله ربّي، لن يسمع ذلك، لأنّه لم يكن يسمع ذلك في الحياة الدنيا، ليست كلمة يقولها الملقّن، ولكنّها موقف تقوله حياتك، أن تبدأ كلَّ حياتك باسم الله، وأنْ تتحرَّك في كلِّ حياتك على ملّة رسول الله، عند ذلك تكون مثل عليّ عندما قالها، ومثل الحسين (ع) عندما قالها، وقبل ذلك، مثل رسول الله (ص) عندما قالها.

وهكذا رأينا أنّ الحسين (ع) واجَهَ الشَّهادة، لأنّه أراد أن يصدم الواقع ليحرّك الواقع الذي عاشه، وليحرّك قواعد المستقبل، كان يقول لهؤلاء الَّذين وقف أمامهم من الطّغاة، إذا كنتم تسيطرون على الحاضر، فسأنسف المستقبل الذي تتطلَّعون إليه، وكان يقول للأجيال اللاحقة: ستمسكون ذلك المستقبل، وستصنعون في وعي الأُمّة روحاً جهاديَّة مصبوغة بالدّماء، وستسقطون كلّ العروش الظالمة.

وسقطت العروش بعد ذلك. هذا هو درس الحسين (ع)؛ أن لا يسقطكم الحاضر، فكِّروا أنّكم مسؤولون عن الحاضر ومسؤولون عن المستقبل بمقدار ما تستطيعون أن تهيّئوا للمستقبل من قوّة من خلال مواقفكم في الحاضر، في مقابل الناس الذين يهدمون المستقبل للأُمَّة على أساس أن يحقِّقوا لأنفسهم راحة في الحاضر.

الحسينيّون هم الَّذين يفكِّرون أن يعطوا الكثير من جهدهم وجهادهم في الحاضر، من أجل أن يرسموا لأولادهم مستقبلاً لا يضطرون فيه لأن يقبّلوا أعتاب الطّغاة.

* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".

[1]اللّهوف في قتلى الطّفوف، السيِّد ابن طاووس، ص 55.

[2]الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص 92.

[3]بحار الأنوار، ج 45، ص 21.

كان الحسين (ع) يعرف في البداية أنَّ النصر بالمعنى المادّيّ ليس وارداً في حساباته، لهذا حدَّث أخته العقيلة زينب (ع)، وبكت ليلة العاشر، وحدَّث أصحابه، وحدَّث أهل بيته (ع) - في ما يروى - جَمَعَهُم ليلة العاشر، وأخبرهم وقال لهم: "ألا وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ من بيعتي، ليس عليكم منِّي حرج ولا ذمام، وهذا اللَّيل قد غشيكم فاتخذوه جملاً - اركبوا اللَّيل كما تركبون الجمل لا يراكم أحد - وليأخذ كلّ رجلٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي - لأنَّ أهل البيت لا يعرفون البلاد هناك باعتبارهم حجازيّين - وتفرَّقوا في سواد هذا اللَّيل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنَّهم لا يريدون غيري"1، أنا سأموت، فلماذا تموتون معي؟!

ووقف أولئك، وقفت الأقليَّة التي كانت تجابه الأكثرية، ولكنَّها أقليّة الإيمان والإسلام والتقوى والإخلاص والتَّضحية في سبيل الله، أمام الأكثريَّة التي تختزن الضَّلال والفساد والأطماع والعمل في سبيل الشَّيطان، ووقفوا وقال له العباس: "لِمَ نفعلُ ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً؟"، وقال له زهيرُ بن القَيْن: "والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك"2.

وهكذا عاشوا وهم يترقَّبون الموت في اليوم التالي، وكانوا يعيشون مع الله كما كان الحسين (عليه السلام) يعيش مع الله، باتوا ليلة عاشوراء بين قائمٍ وقاعدٍ وراكعٍ وساجدٍ وقارئٍ للقرآن، كان هذا جوّهم، هذا جوّ الجيش المسلم، هذا جوّ المقاتِل المسلم الَّذي لا ينفصل عن الله في أيّ وقت.

وهكذا، عندما حان وقت الصَّلاة، وقد سَقَطَ بعض أصحاب الحسين، جاء شخص إلى الحسين (ع) وقال له: "يا أبا عبد الله، نفسي لك الفداء! إنِّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله، لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله، وأحبُّ أن ألقى ربِّي وقد صلَّيْت هذه الصَّلاة الَّتي دنا وقتها".

هكذا هم أصحاب الحسين (ع)؛ هم المصلُّون، وأمّا الذين لا يصلّون، فليس الحسين ولا أهل بيته ولا أصحابه منهم في شيءٍ، حتّى لو عملوا ألف مجلس عزاء. وقال الحسين: "ذكرت الصَّلاة، جعلك الله من المصلِّين الذَّاكرين! نعم، هذا أوَّل وقتها"3.

وصلَّى، والسِّهام من كلِّ جانبٍ تَتْرَى عليه، وسَقَطَ الذي كان يقف أمامه، وأكمل الحسين المسيرة.

وعندما أراد أن يلقى وجه ربِّه، قال آخر كلماته: "بسم الله وبالله وعلى مِلَّةِ رسول الله". هذه الكلمة التي لا بدَّ أن نعيشها، لن يقولها الإنسان بصدق إلَّا إذا كانت حياته باسم الله وفي سبيل الله وعلى مِلَّةِ رسول الله، سيقولها قبل أن يموت، وسيقولها في قبره، ولكنَّ الإنسان الذي كانت حياته بعيدة من الله ومن رسول الله، حتّى لو جاء الملقِّن ليقول له اسمع يا فلان، إذا جاءك المَلَكان وسألاك مَنْ ربُّك؟ قل الله ربّي، لن يسمع ذلك، لأنّه لم يكن يسمع ذلك في الحياة الدنيا، ليست كلمة يقولها الملقّن، ولكنّها موقف تقوله حياتك، أن تبدأ كلَّ حياتك باسم الله، وأنْ تتحرَّك في كلِّ حياتك على ملّة رسول الله، عند ذلك تكون مثل عليّ عندما قالها، ومثل الحسين (ع) عندما قالها، وقبل ذلك، مثل رسول الله (ص) عندما قالها.

وهكذا رأينا أنّ الحسين (ع) واجَهَ الشَّهادة، لأنّه أراد أن يصدم الواقع ليحرّك الواقع الذي عاشه، وليحرّك قواعد المستقبل، كان يقول لهؤلاء الَّذين وقف أمامهم من الطّغاة، إذا كنتم تسيطرون على الحاضر، فسأنسف المستقبل الذي تتطلَّعون إليه، وكان يقول للأجيال اللاحقة: ستمسكون ذلك المستقبل، وستصنعون في وعي الأُمّة روحاً جهاديَّة مصبوغة بالدّماء، وستسقطون كلّ العروش الظالمة.

وسقطت العروش بعد ذلك. هذا هو درس الحسين (ع)؛ أن لا يسقطكم الحاضر، فكِّروا أنّكم مسؤولون عن الحاضر ومسؤولون عن المستقبل بمقدار ما تستطيعون أن تهيّئوا للمستقبل من قوّة من خلال مواقفكم في الحاضر، في مقابل الناس الذين يهدمون المستقبل للأُمَّة على أساس أن يحقِّقوا لأنفسهم راحة في الحاضر.

الحسينيّون هم الَّذين يفكِّرون أن يعطوا الكثير من جهدهم وجهادهم في الحاضر، من أجل أن يرسموا لأولادهم مستقبلاً لا يضطرون فيه لأن يقبّلوا أعتاب الطّغاة.

* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".

[1]اللّهوف في قتلى الطّفوف، السيِّد ابن طاووس، ص 55.

[2]الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص 92.

[3]بحار الأنوار، ج 45، ص 21.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية