محاضرات
18/07/2024

الذِّهنيَّةُ الَّتي أرادَ الإمامُ الحسينُ (ع) تغييرَها

الذِّهنيَّةُ الَّتي أرادَ الإمامُ الحسينُ (ع) تغييرَها

عندما ندرس الواقع الإسلاميّ، نلاحظ أنَّ الواقع الإسلاميَّ كان في زمن النَّبيّ شيئاً وبعده صار شيئاً آخر، في زمن النَّبيّ (ص)، كان النَّبيّ يدعو النَّاس إلى الله، ويقرأ عليهم الوحي، ويجيب عن أسئلتهم، لأنَّه كان يريدهم أن يقتنعوا بالإسلام. لذلك، كانت مهمَّة النَّبيّ (ص) أن يركِّز نقطة الوعي في المجتمع الإسلامي الَّذين يؤمنون بالإسلام ويسلمون.
عندما عاش الإسلام الصِّراع مع المشركين، كان النَّبيّ (ص) يتقبَّل الَّذين يدخلون في الإسلام رغبةً أو رهبةً من دون اقتناع، حتَّى يحيِّدهم عن الكفر، فقد كان يعمل على تحييد أكبر قدرٍ ممكنٍ من الكافرين عن مجتمع الكفر، وكان يدخلهم في مجتمع الإسلام ويربّيهم، {قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ - لأنَّ الإيمان يحتاج إلى اقتناع - وَلَٰكِن قُولُو اْ أَسْلَمْنَا - أي سلّمنا مصيرنا للخطّ الإسلاميّ - وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ}[الحجرات: 14].
ولكنَّ الأساس عند النَّبيّ (ص) أنَّه كان يريد أن يغيِّر الذّهنيَّة، وأن يغيِّر الفكر، وكان يريد للنَّاس أن ترتبط بالتَّوحيد. لذلك، دعا القرآنُ الإنسانَ إلى أن يفكِّر ويشغل عقله، وكان يتحدَّث بشكل سلبيّ عن أولئك المشركين والكافرين، يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا - يعني عندهم عقول ولكن لا يشغلونها - وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا - لأنَّ بصرهم بصر ساذج وليس واعياً - وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا}[الأعراف: 179]، لأنَّهم لم ينطلقوا في السَّمع من وعي السَّمع للكلمة. وفي بعض تعبيرات القرآن الكريم عن المشركين، يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[البقرة: 118]، يعبِّر عنهم بأنَّ مشكلتهم أنّهم لا يعلمون {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔا}[النَّجم: 28].
لذلك، كانت مهمَّة النَّبيّ (ص) أن يجعل النَّاس تفكِّر، حتَّى وهي تلتزم الإسلام، وكان يطلب من النَّاس أن يكون عملهم صدى لتفكيرهم، ولذلك أكَّد: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، أي أنَّ حركتك في الواقع ينبغي أن تكون منطلقةً من حركة عقلك في الدَّاخل.
ما بعدَ مرحلةِ النَّبيّ (ص)
وبعد النَّبيّ (ص)، عندما انطلقت مسألة البيعة، وهنا لا نريد أن نناقش المسألة لمن الحقّ، لمن النَّصّ؛ هل هو لعليّ أو لغيره، ونحن مقتنعون بأنَّ الغدير مع كلِّ ملحقاته، يعطي عليّاً الحقّ، لكن لنفترض أنَّ الَّذي طرح هو انتخابات، فالمعروف أنَّه ينبغي في الانتخابات أن يكون كلّ المرشَّحين موجودين، وخصوصاً المرشَّحين الَّذين لهم علاقة بها، سواء على المستوى الذّهنيَّة العربيَّة، أو على مستوى الجانب السياسي والجانب الفكري والثَّقافي، وما إلى ذلك، ولكنَّ القوم اجتمعوا وقالوا: "منَّا أمير ومنكم أمير"، مع أنَّ هذه قصَّة أمَّة، فكيف تأتي فئة من النَّاس أو عشيرة وتقول تعالوا لنتقاسم.. مَنْ ملَّككم الأمَّة؟! ثمَّ اندفع من اندفع، قال أحدهم: ابسط يدك لأبايعك، وبايعت النَّاس. فعلى أيِّ أساس كانت البيعة؟ ما البرنامج؟ ما المنهج؟ ما هي الأسس؟ وإنَّما كان جوّاً عاطفيّاً، واندفعَ النَّاس في الجوِّ العاطفيّ، وكانت البيعة على هذا الأساس، وامتدَّت مسألة البيعة بهذا الأسلوب.
لم تكن المسألة أن تُطرَح البرامجُ أمام الأمَّة، وأن تُدرَس كفاءة الشَّخص أمام الأمَّة.. وفي كلِّ حركة البيعة في التَّاريخ، لم تكن هذه البيعة تنطلق من حالة عقلانيَّة موضوعيَّة تدرس نقاط الضّعف ونقاط القوَّة في الشَّخص، وتدرس السَّلبيَّات والإيجابيَّات في هذا الشَّخص أو ذاك، وتحركت العلاقات على هذا الأساس.
ولهذا، انطلقت المسألة أيضاً بعد ذلك من خلال الأمويّين.. في أيَّام ما يسمَّى بالخلفاء الرَّاشدين، لم يكن هناك مسألة سيف ومال، ولكن في عهد الأمويّين، صارت المسألة مسألة سيف ومال.. وكانت مشكلة الإمام الحسين (ع) هي قصَّة سيف ومال.. ولذلك، انطلق النَّاس لا من خلال التزامهم الموقف على أساس دراسته في مستوى ما يحملونه من الإيمان بالإسلام؛ لأنَّك عندما تلتزم بالإسلام، فعليك أن تفكِّر: هل هذا الشَّخص أو هذا الخطّ ينسجم مع الإسلام أو لا ينسجم، هل ينسجم مع مصلحتي أو لا، ولذلك كانت الكلمة المعروفة: "قلوبهم معك، وسيوفهم عليك"، يعني أنَّ الجماعة يؤمنون بأنَّك الشَّخص الَّذي يملك الحقّ والشَّرعيَّة، ولكنَّك لم تقدِّم إلى النَّاس ما يرضي مطامعَهم، كما قال الإمام عليّ (ع): "ليسَ أمري وأمرُكم واحداً؛ إنِّي أريدُكم للهِ، وأنتُمْ تريدونَني لأنْفسِكم"، أنا أعتبر أنَّ مسؤوليَّتي هي مسؤوليَّة إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وأنتم تعتبرون أنَّ مسؤوليَّتي أن ألبِّي مطامعكم وشهواتكم.
ذهنيَّةٌ غيرُ مسؤولة
هذه الذِّهنيَّة، أيُّها الأحبَّة، هي الَّتي استطاعت أن تخذل بقسوة الخطَّ المستقيم وأهلَ الحقّ، لأنَّه لا أحد دخل في هذا الموضوع من بابِ الموازنة بينَ هذا الجانب وذاكَ الجانب.. وهذه المسألة سيطرت على كلِّ التَّاريخ الإسلاميّ، فعندما نلاحظ مسألة امتداد التَّأريخ الإسلامي، في زمن الأمويّين والعباسيّين وزمن العثمانيِّين، وفي الإمارات الصَّغيرة الَّتي كانت هنا وهناك، في قضيَّة تنصيب ملكٍ على بلدٍ في العهود الأخيرة، أو أميرٍ على موقع، لم تكن المسألة ناشئةً من ذهنيَّةٍ مسؤولةٍ تدرس الموقف من خلال علاقته بمصير الأمَّة ومستقبلها، بل كانت تنطلق من خلال العاطفة والأجواء الانفعاليَّة الَّتي تحيط بالإنسان، ومن خلال الإعلام الَّذي يحاول أن يوظِّفه أصحابُ الشَّأن، من أجل تصوير إنسانٍ ما في مستوى عالٍ يصعد به إلى السَّماء، أو في مستوى ينزل به إلى الأرض.
هذه المؤثّرات الَّتي امتدَّت في العالم الإسلامي، هي الَّتي أصبحت تحكم مواقف النَّاس، وحتَّى مشاعرها؛ مؤثِّرات الإعلام، الأجواء العاطفيَّة الانفعاليَّة، العلاقات الشَّخصيَّة بالأشخاص، الأطماع المرتبطة بهذا الشَّخص أو ذاك الشَّخص، أو بهذه الجهة أو تلك الجهة...
ولذلك لاحظنا - وكلُّ واحد منكم يعرف جانباً من الواقع - في عالمنا العربيّ أو الشَّرقيّ، كيف ينتقل الإنسان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذا موجودٌ على مستوى الأحزاب، فهناك أحزاب بعد أن كانت يمينيَّة إلى أقصى اليمين، صارت يساريّة إلى أقصى اليسار، وعندما تبدّلت الظّروف صارت في الوسط.. فما السَّبب في ذلك؟ لأنَّ القضيَّة لم تنطلق من قاعدة تحرِّك الإنسان أو هذه الجهة.
ونلاحظ، مثلاً، أنَّ الشَّرق بشكل عامّ، يعيش عبادة الشَّخصيَّة، في رموزه السياسيَّة أو الدينيَّة أو الاجتماعيَّة، بحيث يحوِّل الشَّخص إلى صنم يعبده، بحيث يحاول أن يستغرق فيه من دون أن يدرسه ويدرس كفاءاته، ربَّما يملك أحد كفاءة اجتماعيَّة، ولكن قد لا يملك كفاءة ثقافيَّة، ويمكن أن يملك أحد كفاءة سياسيَّة ولكن لا يملك كفاءة علميَّة، وهكذا... "كلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له".
الآن لاحظوا، إذا فرضنا أردنا أن نرتبط بشخص، فإنَّنا نعطيه كلَّ الصِّفات الحسنة، حتَّى الصِّفات الَّتي ليست فيه، كما قال الإمام عليّ (ع): "إِذَاْ أَقْبَلَتِ الدُّنيا عَلَى أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أدْبرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ".
هذا المعنى، أيُّها الأحبَّة، يمثِّل الذِّهنيَّة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والدّينيَّة، وهذا هو المسؤول عن كثير من عناصر السقوط الاجتماعيّ والسياسيّ، لأنَّ النَّاس لا يعرفون كيف يؤكِّدون مواقفهم...
وهذه الذِّهنيَّة كانت موجودةً زمن الإمام الحسين (ع)، وكان يستهدف (ع) تغييرها، وهي موجودة في زماننا أيضاً في الشَّرق...

*محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 21/03/2002م.
عندما ندرس الواقع الإسلاميّ، نلاحظ أنَّ الواقع الإسلاميَّ كان في زمن النَّبيّ شيئاً وبعده صار شيئاً آخر، في زمن النَّبيّ (ص)، كان النَّبيّ يدعو النَّاس إلى الله، ويقرأ عليهم الوحي، ويجيب عن أسئلتهم، لأنَّه كان يريدهم أن يقتنعوا بالإسلام. لذلك، كانت مهمَّة النَّبيّ (ص) أن يركِّز نقطة الوعي في المجتمع الإسلامي الَّذين يؤمنون بالإسلام ويسلمون.
عندما عاش الإسلام الصِّراع مع المشركين، كان النَّبيّ (ص) يتقبَّل الَّذين يدخلون في الإسلام رغبةً أو رهبةً من دون اقتناع، حتَّى يحيِّدهم عن الكفر، فقد كان يعمل على تحييد أكبر قدرٍ ممكنٍ من الكافرين عن مجتمع الكفر، وكان يدخلهم في مجتمع الإسلام ويربّيهم، {قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ - لأنَّ الإيمان يحتاج إلى اقتناع - وَلَٰكِن قُولُو اْ أَسْلَمْنَا - أي سلّمنا مصيرنا للخطّ الإسلاميّ - وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ}[الحجرات: 14].
ولكنَّ الأساس عند النَّبيّ (ص) أنَّه كان يريد أن يغيِّر الذّهنيَّة، وأن يغيِّر الفكر، وكان يريد للنَّاس أن ترتبط بالتَّوحيد. لذلك، دعا القرآنُ الإنسانَ إلى أن يفكِّر ويشغل عقله، وكان يتحدَّث بشكل سلبيّ عن أولئك المشركين والكافرين، يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا - يعني عندهم عقول ولكن لا يشغلونها - وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا - لأنَّ بصرهم بصر ساذج وليس واعياً - وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا}[الأعراف: 179]، لأنَّهم لم ينطلقوا في السَّمع من وعي السَّمع للكلمة. وفي بعض تعبيرات القرآن الكريم عن المشركين، يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[البقرة: 118]، يعبِّر عنهم بأنَّ مشكلتهم أنّهم لا يعلمون {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔا}[النَّجم: 28].
لذلك، كانت مهمَّة النَّبيّ (ص) أن يجعل النَّاس تفكِّر، حتَّى وهي تلتزم الإسلام، وكان يطلب من النَّاس أن يكون عملهم صدى لتفكيرهم، ولذلك أكَّد: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، أي أنَّ حركتك في الواقع ينبغي أن تكون منطلقةً من حركة عقلك في الدَّاخل.
ما بعدَ مرحلةِ النَّبيّ (ص)
وبعد النَّبيّ (ص)، عندما انطلقت مسألة البيعة، وهنا لا نريد أن نناقش المسألة لمن الحقّ، لمن النَّصّ؛ هل هو لعليّ أو لغيره، ونحن مقتنعون بأنَّ الغدير مع كلِّ ملحقاته، يعطي عليّاً الحقّ، لكن لنفترض أنَّ الَّذي طرح هو انتخابات، فالمعروف أنَّه ينبغي في الانتخابات أن يكون كلّ المرشَّحين موجودين، وخصوصاً المرشَّحين الَّذين لهم علاقة بها، سواء على المستوى الذّهنيَّة العربيَّة، أو على مستوى الجانب السياسي والجانب الفكري والثَّقافي، وما إلى ذلك، ولكنَّ القوم اجتمعوا وقالوا: "منَّا أمير ومنكم أمير"، مع أنَّ هذه قصَّة أمَّة، فكيف تأتي فئة من النَّاس أو عشيرة وتقول تعالوا لنتقاسم.. مَنْ ملَّككم الأمَّة؟! ثمَّ اندفع من اندفع، قال أحدهم: ابسط يدك لأبايعك، وبايعت النَّاس. فعلى أيِّ أساس كانت البيعة؟ ما البرنامج؟ ما المنهج؟ ما هي الأسس؟ وإنَّما كان جوّاً عاطفيّاً، واندفعَ النَّاس في الجوِّ العاطفيّ، وكانت البيعة على هذا الأساس، وامتدَّت مسألة البيعة بهذا الأسلوب.
لم تكن المسألة أن تُطرَح البرامجُ أمام الأمَّة، وأن تُدرَس كفاءة الشَّخص أمام الأمَّة.. وفي كلِّ حركة البيعة في التَّاريخ، لم تكن هذه البيعة تنطلق من حالة عقلانيَّة موضوعيَّة تدرس نقاط الضّعف ونقاط القوَّة في الشَّخص، وتدرس السَّلبيَّات والإيجابيَّات في هذا الشَّخص أو ذاك، وتحركت العلاقات على هذا الأساس.
ولهذا، انطلقت المسألة أيضاً بعد ذلك من خلال الأمويّين.. في أيَّام ما يسمَّى بالخلفاء الرَّاشدين، لم يكن هناك مسألة سيف ومال، ولكن في عهد الأمويّين، صارت المسألة مسألة سيف ومال.. وكانت مشكلة الإمام الحسين (ع) هي قصَّة سيف ومال.. ولذلك، انطلق النَّاس لا من خلال التزامهم الموقف على أساس دراسته في مستوى ما يحملونه من الإيمان بالإسلام؛ لأنَّك عندما تلتزم بالإسلام، فعليك أن تفكِّر: هل هذا الشَّخص أو هذا الخطّ ينسجم مع الإسلام أو لا ينسجم، هل ينسجم مع مصلحتي أو لا، ولذلك كانت الكلمة المعروفة: "قلوبهم معك، وسيوفهم عليك"، يعني أنَّ الجماعة يؤمنون بأنَّك الشَّخص الَّذي يملك الحقّ والشَّرعيَّة، ولكنَّك لم تقدِّم إلى النَّاس ما يرضي مطامعَهم، كما قال الإمام عليّ (ع): "ليسَ أمري وأمرُكم واحداً؛ إنِّي أريدُكم للهِ، وأنتُمْ تريدونَني لأنْفسِكم"، أنا أعتبر أنَّ مسؤوليَّتي هي مسؤوليَّة إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وأنتم تعتبرون أنَّ مسؤوليَّتي أن ألبِّي مطامعكم وشهواتكم.
ذهنيَّةٌ غيرُ مسؤولة
هذه الذِّهنيَّة، أيُّها الأحبَّة، هي الَّتي استطاعت أن تخذل بقسوة الخطَّ المستقيم وأهلَ الحقّ، لأنَّه لا أحد دخل في هذا الموضوع من بابِ الموازنة بينَ هذا الجانب وذاكَ الجانب.. وهذه المسألة سيطرت على كلِّ التَّاريخ الإسلاميّ، فعندما نلاحظ مسألة امتداد التَّأريخ الإسلامي، في زمن الأمويّين والعباسيّين وزمن العثمانيِّين، وفي الإمارات الصَّغيرة الَّتي كانت هنا وهناك، في قضيَّة تنصيب ملكٍ على بلدٍ في العهود الأخيرة، أو أميرٍ على موقع، لم تكن المسألة ناشئةً من ذهنيَّةٍ مسؤولةٍ تدرس الموقف من خلال علاقته بمصير الأمَّة ومستقبلها، بل كانت تنطلق من خلال العاطفة والأجواء الانفعاليَّة الَّتي تحيط بالإنسان، ومن خلال الإعلام الَّذي يحاول أن يوظِّفه أصحابُ الشَّأن، من أجل تصوير إنسانٍ ما في مستوى عالٍ يصعد به إلى السَّماء، أو في مستوى ينزل به إلى الأرض.
هذه المؤثّرات الَّتي امتدَّت في العالم الإسلامي، هي الَّتي أصبحت تحكم مواقف النَّاس، وحتَّى مشاعرها؛ مؤثِّرات الإعلام، الأجواء العاطفيَّة الانفعاليَّة، العلاقات الشَّخصيَّة بالأشخاص، الأطماع المرتبطة بهذا الشَّخص أو ذاك الشَّخص، أو بهذه الجهة أو تلك الجهة...
ولذلك لاحظنا - وكلُّ واحد منكم يعرف جانباً من الواقع - في عالمنا العربيّ أو الشَّرقيّ، كيف ينتقل الإنسان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذا موجودٌ على مستوى الأحزاب، فهناك أحزاب بعد أن كانت يمينيَّة إلى أقصى اليمين، صارت يساريّة إلى أقصى اليسار، وعندما تبدّلت الظّروف صارت في الوسط.. فما السَّبب في ذلك؟ لأنَّ القضيَّة لم تنطلق من قاعدة تحرِّك الإنسان أو هذه الجهة.
ونلاحظ، مثلاً، أنَّ الشَّرق بشكل عامّ، يعيش عبادة الشَّخصيَّة، في رموزه السياسيَّة أو الدينيَّة أو الاجتماعيَّة، بحيث يحوِّل الشَّخص إلى صنم يعبده، بحيث يحاول أن يستغرق فيه من دون أن يدرسه ويدرس كفاءاته، ربَّما يملك أحد كفاءة اجتماعيَّة، ولكن قد لا يملك كفاءة ثقافيَّة، ويمكن أن يملك أحد كفاءة سياسيَّة ولكن لا يملك كفاءة علميَّة، وهكذا... "كلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له".
الآن لاحظوا، إذا فرضنا أردنا أن نرتبط بشخص، فإنَّنا نعطيه كلَّ الصِّفات الحسنة، حتَّى الصِّفات الَّتي ليست فيه، كما قال الإمام عليّ (ع): "إِذَاْ أَقْبَلَتِ الدُّنيا عَلَى أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أدْبرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ".
هذا المعنى، أيُّها الأحبَّة، يمثِّل الذِّهنيَّة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والدّينيَّة، وهذا هو المسؤول عن كثير من عناصر السقوط الاجتماعيّ والسياسيّ، لأنَّ النَّاس لا يعرفون كيف يؤكِّدون مواقفهم...
وهذه الذِّهنيَّة كانت موجودةً زمن الإمام الحسين (ع)، وكان يستهدف (ع) تغييرها، وهي موجودة في زماننا أيضاً في الشَّرق...

*محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 21/03/2002م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية