أصحاب الحسين (ع).. عندما اختاروا درب التّضحية

أصحاب الحسين (ع).. عندما اختاروا درب التّضحية

لعلَّكم عندما تدرسون شخصيّات أصحاب الحسين (ع) في مسألة عاشوراء، فإنّكم ستجدون خطّ الاستقامة هو الخطّ الذي يتحرَّكون فيه.

نحن نقرأ ونسمع في قصّة مسلم بن عقيل الّذي بايعه في الكوفة ثمانية عشر ألف رجل على أساس السّمع والطاعة للحسين (ع)، وأرسلت الكتب إلى الحسين ثانياً بعد أن كانت أُرسلت إليه أوّلاً، وكان أهل الكوفة يؤمنون بالحسين إيماناً حقيقيّاً، يحبُّونه، ويؤمنون به، وعندها أرسلوا إليه الكتب أن: "أَقْدِم إلينا قد أَيْنَعَتِ الثِّمار واخْضَرَّ الجناب، وإنَّما تقدم على جُنْدٍ لكَ مُجَنَّدة"، كانوا مؤمنين بذلك، وهكذا عندما بايعوا مسلم بن عقيل، بايعوه على أساس الإيمان. ولكن ماذا حدث؟!

لماذا انقلب أهل الكوفة؟!

الذي حدث أنَّهم لم يربُّوا إيمانهم تربية حركيّة ترصد النتائج السلبيّة والإيجابيّة لهذا الإيمان. كانوا يتصوَّرون الإيمان نزهة واسترخاءً لا يكلّفهم شيئاً من أمنهم، ولا يكلّفهم شيئاً من مصالحهم، حتّى إذا جاء ابن زياد إلى الكوفة، ولم يكن معه إلاَّ قليل من النّاس، بحيث كان من الممكن أن يطرد أو يقتل بشكلٍ بسيط جداً، لكن جاء ابن زياد وجاءت معه المخابرات الأمويّة التي اندسَّت في صفوف الناس، وكانت تهوّل على الناس؛ إنَّ يزيد سيرسل عليكم جيشاً عظيماً من الشّام، وإنّه سوف يقضي على كلّ مَن بايع مسلم ومن لم يعترف ببيعة يزيد. ثمّ في الجانب الآخر، أعطوا الناس مالاً ومنّوهم بمالٍ كثير. ثمّ بدأت المخابرات تأتي إلى مجموعة هنا لتثير إشاعة، وتأتي إلى مجموعة هناك لتثير خوفاً، واستخدموا عنصر النّساء، هذا العنصر العاطفي الذي يخاطب الولد بالعاطفة ليشغله عن والده، ويتحدَّث مع الأب أو الزوج أو الأخ بالعاطفة ليشغلهم عن مسؤوليّاتهم، تأتي المرأة إلى ولدها لتقول له إذا نقص من الثّمانية عشر ألفاً رجلاً واحداً فليس هناك مشكلة، وتأتي الأخت لأخيها لتقول له هذا.. وهكذا، حتّى انقضَّ الناس عن مسلم، فدخل إلى المسجد ومعه ثلاثون، وصلَّى المغرب ومعه عشرة، وصلَّى العشاء ولم يكن معه أحد أبداً.

ثمّ كان هؤلاء الناس الذين بايعوه، هم الذين حاربوه، وهم الذين ربطوا الحبال برجليه وجرّوه في شوارع الكوفة بعد أن قتلوه.

هؤلاء كانوا يعيشون الفكرة، ولكنّهم انحرفوا عندما جاءتهم صدمة الخوف، وعندما جاءتهم الإغراءات، وعندما فقدوا الوعي الذي يستطيعون من خلاله أن يواجهوا الأساليب المخابراتيّة التي تعمل على أن تفتّت وحدتهم وصفوفهم.

ثمَّ بعد ذلك، عندما دعاهم ابن زياد إلى قتال الحسين (ع)، انطلقوا على أساس أنّه زاد في أعطياتهم، ومنّن الكثير من قياداتهم بالوظائف، حتّى كان عمر بن سعد رافضاً للخروج لقيادة الجيش، فهدَّده أن يأخذ منه مرسوم ولايته لمنطقة الريّ، وعند ذلك قال له سأُفكِّر، وبعد أن فكَّر، تغلّبت مطامعه على مبادئه، وأصبح يقنع نفسه بأنَّه سيتوب إلى الله قبل سنتين من موته، بعد أن يقتل الحسين (ع).

وهكذا، عندما سأل الحسين (ع) الفرزدق (الشّاعر) عن خبر الناس بالكوفة، فقال له: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك". ما زالت قلوبهم مع الحسين، والعاطفة عندما تكون في مجتمع، فإنّها لا بدَّ أن تكون منطلقة من عقل ذلك المجتمع ومن فكره، على أساس أنَّ هناك عقيدة، ولكنَّهم لم يثبتوا عند الصّدمة، فلم يستقيموا، بل انحرفوا.

ثبات أصحاب الحسين (ع)

ونأتي إلى الجانب الثاني، جانب أصحاب الحسين (ع). لاحظوا حبيب بن مظاهر، أتعرفون كم كان عمره في كربلاء فيما تذكره السيرة الحسينيَّة؟ إنَّ عمر حبيب بن مظاهر كان تسعين سنة، شخص في التّسعين من عمره يدعوه الحسين (ع) إلى أن ينصره، فيبادر إلى نصرته ولا يعتذر بكبر سنّه، مع أنّ الإنسان الذي يعيش في التسعين يمكن أن يقبل عذره من كلّ أحد، لكنه رجلٌ كان يعيش العقيدة من موقع إصراره عليها، ومن موقع استقامته في خطّها.

منذ البداية، في زمن الرّسول (ص)، كان صحابيّاً آمن بالإسلام على أساس الخطّ الذي انطلق به الإمام عليّ (ع) أو الأئمّة من ولده، وعلى هذا الأساس، لم تزده السنون المتطاولة إلَّا إصراراً على الخطّ، حتّى انطلق ليقف هناك (في كربلاء)، ويقدّم نفسه شهيداً أمام الحسين (ع).

هناك بعض الناس في كربلاء كانوا في خطّ الانحراف، ولكنّهم لم يكونوا ملتزمين بالانحراف عن قناعة، بل كانوا يتحرَّكون مع الانحراف عن شبهة، حتّى إذا زالت الشّبهة عن أفكارهم، انطلقوا في خطّ الاستقامة بما لم ينطلق به أحد.

زهير بن القين، يعبّر عنه كتاب السّيرة بأنّه كان عثمانياً، يبغض عليّاً ويبغض أهل بيته، ولهذا عندما التقى بالحسين في الطّريق، كان أبغض شيء عنده أن يلتقي وجهه بوجه الحسين (ع)، ولهذا كان إذا نزل الحسين في جانب من الطّريق، نزل زهير وأهله في الجانب الآخر، حتّى لا يلتقي بالحسين، حتّى كانا في بعض مراحل التاريخ، وبينما زهير جالس في خيمته، وإذ برسول الحسين يأتي إليه ويقول له أَجِب الحسين، فإنّه يريد أن يتحدَّث إليك. ارتبك الرّجل وتململ، ولكن كانت عنده زوجة صالحة، فقالت له: يا زهير، يدعوك الحسين ابن بنت رسول الله فتمتنع، اذهب لترى ماذا يريد منك. فقام متثاقلاً، وذهب إلى الحسين، فتحادثا ساعة، ثمّ جاء إلى خيمته وقال لقومه: يا أصحابي، مَن كان يريد أن يأتي معي فأنا سائرٌ مع الحسين، ومَن كان يريد أن يترك فليذهب. وقال لزوجته الحقي بأهلك، فقالت له: ما الذي غيَّرك؟ قال: لقد ذكَّرني الحسين (ع) بقضيّةٍ كنتُ قد نسيتها؛ كنّا في بعض الحروب الإسلاميّة في بلنجر، وكان معنا سلمان الفارسي، ففتح الله علينا ففرحنا، فقال لنا سلمان: عليكم أن تكونوا أشدّ فرحاً عندما تكونون مع الحسين فتنصرونه.

هذا الرّجل سار مع الحسين، حتّى إذا وصلوا إلى كربلاء، وكانت ليلة عاشوراء، قال الحسين لأصحابه: اركبوا سواد هذا اللّيل واتّخذوه جَمَلاً، فإنَّ القوم لا يريدون غيري، وليأخذ كلّ واحدٍ منكم بيد واحد من أهل بيتي. فوقَفَ زهير بن القين وقال: "واللهِ لَوَدِدْتُ أنّي قُتِلتُ ثمّ نُشرِت، ثمّ قُتلت، حتّى أُقتلَ هكذا ألفَ مرّة، وأنّ اللهَ عزّ وجلّ يَدفَع بذلك القتلَ عن نفسك وعن أنفُس هؤلاء الفِتْيان مِن أهل بيتك".

هذه الإرادة الصامدة القويّة التي عندما انفتحت على الحقّ التزمت به، حتّى كانت مستعدة أن تخضع لسبعين قتلة وسبعين إحراقاً بالنّار ـ إذا تمكّنت من ذلك ـ في سبيل أن تحتفظ بالقيادة قويّة حيّة.

وهذا الجوّ هو جوّ عاشوراء الّذي نريد أن نفهمه ونركّزه.

وعندما نلتقي بالخطّ الذي ينفتح فيه علينا الحرّ بن يزيد الرّياحي، الذي كان أوّل قائد خرج ليعطِّل مسيرة الحسين، مع أنّه كان يعيش العاطفة تجاه الحسين، ولكنّها لم تصل إلى أن يلتزم الحسين التزام الخطّ، لهذا قال له: اتبع طريقاً لا يدخلك الكوفة، ولا يرجعك إلى المدينة.. وهكذا جاءت المسألة، ودخل الحرّ كربلاء بعد دخول الحسين، وجاءت الجيوش والحرّ يفكّر.. وهكذا يجب أن يفعل الكثيرون، عندما تكون في الموقع الخطأ لا تتعصَّب للخطأ، بل يجب أن يظلّ فكرك مفتوحاً لإمكانيّة أن تكون على الخطأ، حتّى إذا جاءت الكلمة الحقّ والفكر الحقّ انفتح عليه.

والحرّ قائد، وبعض الناس في عصرنا يقولون: أنا مسؤول في هذا المحور السياسي، كيف سأترك وأفقد هذا المنصب، فيتعصَّب حتّى لو كان يجد الخطأ في طريقه.

ولكنَّ الحرّ لم يفعل ذلك، وهو قائد لألف فارس ورئيس عشيرة بني رياح، وفي الوقت نفسه هو لا يزال شاباً.. أخذ يفكِّر أين موقع الحقّ؛ مع الحسين أو مع ابن زياد؟ وحاول أن يجمع بين الدّنيا والآخرة، ولكن رأى أن لا فائدة. جاء إلى ابن سعد وقال له: أمقاتلُ أنتَ هذا الرّجل؟ قال: إي والله، قتالاً أهونه أن تسقط الرّؤوس وتطيح الأيدي. قال: فليس هناك حلّ آخر؟ قال: أميرك لا يقبل إلّا أن يضع الحسين يده بيده ويعطيه إعطاء الذّليل، والحسين لا يقبل.

فعرف الحرّ أنّ المسألة حدٌّ فاصل؛ إمّا أن يبقى في مركزه فالنّار أمامه، وإمّا أن يسير إلى الحسين (ع) فالجنّة أمامه، ولكن عليه أن يترك كلّ الدنيا. وبدأ الحرّ يرتعد، أخذته الهزّة الجسديّة، تماماً كما هو الإنسان الذي أصابته الحمّى الشّديدة أو البرد الشّديد، وجاءه أحد أصحابه وسأله: أترتعد؟ والله لو قيل مَن أشجع أهل الكوفة ما عدوتك. قال لا أرتعد من جبن، ولكن "أُخيِّرُ نفسي بين الجنّة والنّار، ووالله لا أختار على الجنّة شيئاً، ولو قُطِّعْت وحُرِّقت". لتأت الرئاسات كلّها، الإغراءات كلّها، الأجواء كلّها، لا يمكن أن أقدّم شيئاً على الجنّة.

وهذا يمثّل خطّ الصّلابة في الإرادة والاستقامة على الخطّ، بالرّغم من الظروف الصّعبة كلّها التي تواجه الإنسان. وعند ذلك، ذهب مطأطئاً رأسه إلى الحسين (ع)، وقد تاب إلى الله، وقال للحسين: هل من توبة؟ فقال له الحسين: "إن تبت تابَ الله عليك". وعندما استشهد، قال له الحسين: "أنتَ الحرّ كما سمَّتك أمّك؛ حرٌّ في الدّنيا، وسعيدٌ في الآخرة".

ماذا تعلّمنا عاشوراء؟!

هذا الموقف لا بدّ لنا أن نلتزمه. وقيمة عاشوراء ـ إذا كنتم تخلصون لعاشوراء ـ أن تأخذوا دروسها، لا أن تستنزفوا دموعكم فيها. قيمة عاشوراء أن تختاروا نموذجاً منها لتجعلوه المثل أمامكم الّذي تركّزون حياتكم على أساسه؛ هل يعجبكم الحرّ أن يكون القدوة لكم؟! إنّه مثل كبير، إنّكم ستواجهون ـ وربّما واجَهَ بعضكم ـ خياراً بين الجنّة والنار ـ ربّما واجه بعضكم مسؤوليّات أو مواقع أو مواقف تعطيكم الدّنيا، ولكنّكم تفقدون رضا الله وتفقدون الآخرة، ومواقف قد لا تعطيكم شيئاً من الدّنيا، ولكنّكم تحصلون على رضا الله. فكِّروا في داخل نفوسكم وأنتم في جوّ عاشوراء؛ هل تريدون أن تكونوا مع الحرّ، أن تقولوا لكلّ إنسان يخيّركم بين خطّ الدين وخطّ الكفر، بين خطّ الظلم وخطّ العدل، أن يقول كلّ واحدٍ إنّي أُخيِّرُ نفسي بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعْتُ وحرّقْت.

لهذا، لنكن المستقيمين في خطّ الإسلام، والمستقيمين في خطّ عاشوراء، ولندرس في واقع السّاحة كلّه المستقيمين الذين لا يتغيَّر خطّهم، ولا تتغيَّر مواقفهم، ولا تتغيَّر مواقعهم، إلاَّ إذا تغيّرت الظّروف بما يوجب تغيير المواقع لمصلحة الإسلام.

* من كتاب "آفاق إسلاميّة".

لعلَّكم عندما تدرسون شخصيّات أصحاب الحسين (ع) في مسألة عاشوراء، فإنّكم ستجدون خطّ الاستقامة هو الخطّ الذي يتحرَّكون فيه.

نحن نقرأ ونسمع في قصّة مسلم بن عقيل الّذي بايعه في الكوفة ثمانية عشر ألف رجل على أساس السّمع والطاعة للحسين (ع)، وأرسلت الكتب إلى الحسين ثانياً بعد أن كانت أُرسلت إليه أوّلاً، وكان أهل الكوفة يؤمنون بالحسين إيماناً حقيقيّاً، يحبُّونه، ويؤمنون به، وعندها أرسلوا إليه الكتب أن: "أَقْدِم إلينا قد أَيْنَعَتِ الثِّمار واخْضَرَّ الجناب، وإنَّما تقدم على جُنْدٍ لكَ مُجَنَّدة"، كانوا مؤمنين بذلك، وهكذا عندما بايعوا مسلم بن عقيل، بايعوه على أساس الإيمان. ولكن ماذا حدث؟!

لماذا انقلب أهل الكوفة؟!

الذي حدث أنَّهم لم يربُّوا إيمانهم تربية حركيّة ترصد النتائج السلبيّة والإيجابيّة لهذا الإيمان. كانوا يتصوَّرون الإيمان نزهة واسترخاءً لا يكلّفهم شيئاً من أمنهم، ولا يكلّفهم شيئاً من مصالحهم، حتّى إذا جاء ابن زياد إلى الكوفة، ولم يكن معه إلاَّ قليل من النّاس، بحيث كان من الممكن أن يطرد أو يقتل بشكلٍ بسيط جداً، لكن جاء ابن زياد وجاءت معه المخابرات الأمويّة التي اندسَّت في صفوف الناس، وكانت تهوّل على الناس؛ إنَّ يزيد سيرسل عليكم جيشاً عظيماً من الشّام، وإنّه سوف يقضي على كلّ مَن بايع مسلم ومن لم يعترف ببيعة يزيد. ثمّ في الجانب الآخر، أعطوا الناس مالاً ومنّوهم بمالٍ كثير. ثمّ بدأت المخابرات تأتي إلى مجموعة هنا لتثير إشاعة، وتأتي إلى مجموعة هناك لتثير خوفاً، واستخدموا عنصر النّساء، هذا العنصر العاطفي الذي يخاطب الولد بالعاطفة ليشغله عن والده، ويتحدَّث مع الأب أو الزوج أو الأخ بالعاطفة ليشغلهم عن مسؤوليّاتهم، تأتي المرأة إلى ولدها لتقول له إذا نقص من الثّمانية عشر ألفاً رجلاً واحداً فليس هناك مشكلة، وتأتي الأخت لأخيها لتقول له هذا.. وهكذا، حتّى انقضَّ الناس عن مسلم، فدخل إلى المسجد ومعه ثلاثون، وصلَّى المغرب ومعه عشرة، وصلَّى العشاء ولم يكن معه أحد أبداً.

ثمّ كان هؤلاء الناس الذين بايعوه، هم الذين حاربوه، وهم الذين ربطوا الحبال برجليه وجرّوه في شوارع الكوفة بعد أن قتلوه.

هؤلاء كانوا يعيشون الفكرة، ولكنّهم انحرفوا عندما جاءتهم صدمة الخوف، وعندما جاءتهم الإغراءات، وعندما فقدوا الوعي الذي يستطيعون من خلاله أن يواجهوا الأساليب المخابراتيّة التي تعمل على أن تفتّت وحدتهم وصفوفهم.

ثمَّ بعد ذلك، عندما دعاهم ابن زياد إلى قتال الحسين (ع)، انطلقوا على أساس أنّه زاد في أعطياتهم، ومنّن الكثير من قياداتهم بالوظائف، حتّى كان عمر بن سعد رافضاً للخروج لقيادة الجيش، فهدَّده أن يأخذ منه مرسوم ولايته لمنطقة الريّ، وعند ذلك قال له سأُفكِّر، وبعد أن فكَّر، تغلّبت مطامعه على مبادئه، وأصبح يقنع نفسه بأنَّه سيتوب إلى الله قبل سنتين من موته، بعد أن يقتل الحسين (ع).

وهكذا، عندما سأل الحسين (ع) الفرزدق (الشّاعر) عن خبر الناس بالكوفة، فقال له: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك". ما زالت قلوبهم مع الحسين، والعاطفة عندما تكون في مجتمع، فإنّها لا بدَّ أن تكون منطلقة من عقل ذلك المجتمع ومن فكره، على أساس أنَّ هناك عقيدة، ولكنَّهم لم يثبتوا عند الصّدمة، فلم يستقيموا، بل انحرفوا.

ثبات أصحاب الحسين (ع)

ونأتي إلى الجانب الثاني، جانب أصحاب الحسين (ع). لاحظوا حبيب بن مظاهر، أتعرفون كم كان عمره في كربلاء فيما تذكره السيرة الحسينيَّة؟ إنَّ عمر حبيب بن مظاهر كان تسعين سنة، شخص في التّسعين من عمره يدعوه الحسين (ع) إلى أن ينصره، فيبادر إلى نصرته ولا يعتذر بكبر سنّه، مع أنّ الإنسان الذي يعيش في التسعين يمكن أن يقبل عذره من كلّ أحد، لكنه رجلٌ كان يعيش العقيدة من موقع إصراره عليها، ومن موقع استقامته في خطّها.

منذ البداية، في زمن الرّسول (ص)، كان صحابيّاً آمن بالإسلام على أساس الخطّ الذي انطلق به الإمام عليّ (ع) أو الأئمّة من ولده، وعلى هذا الأساس، لم تزده السنون المتطاولة إلَّا إصراراً على الخطّ، حتّى انطلق ليقف هناك (في كربلاء)، ويقدّم نفسه شهيداً أمام الحسين (ع).

هناك بعض الناس في كربلاء كانوا في خطّ الانحراف، ولكنّهم لم يكونوا ملتزمين بالانحراف عن قناعة، بل كانوا يتحرَّكون مع الانحراف عن شبهة، حتّى إذا زالت الشّبهة عن أفكارهم، انطلقوا في خطّ الاستقامة بما لم ينطلق به أحد.

زهير بن القين، يعبّر عنه كتاب السّيرة بأنّه كان عثمانياً، يبغض عليّاً ويبغض أهل بيته، ولهذا عندما التقى بالحسين في الطّريق، كان أبغض شيء عنده أن يلتقي وجهه بوجه الحسين (ع)، ولهذا كان إذا نزل الحسين في جانب من الطّريق، نزل زهير وأهله في الجانب الآخر، حتّى لا يلتقي بالحسين، حتّى كانا في بعض مراحل التاريخ، وبينما زهير جالس في خيمته، وإذ برسول الحسين يأتي إليه ويقول له أَجِب الحسين، فإنّه يريد أن يتحدَّث إليك. ارتبك الرّجل وتململ، ولكن كانت عنده زوجة صالحة، فقالت له: يا زهير، يدعوك الحسين ابن بنت رسول الله فتمتنع، اذهب لترى ماذا يريد منك. فقام متثاقلاً، وذهب إلى الحسين، فتحادثا ساعة، ثمّ جاء إلى خيمته وقال لقومه: يا أصحابي، مَن كان يريد أن يأتي معي فأنا سائرٌ مع الحسين، ومَن كان يريد أن يترك فليذهب. وقال لزوجته الحقي بأهلك، فقالت له: ما الذي غيَّرك؟ قال: لقد ذكَّرني الحسين (ع) بقضيّةٍ كنتُ قد نسيتها؛ كنّا في بعض الحروب الإسلاميّة في بلنجر، وكان معنا سلمان الفارسي، ففتح الله علينا ففرحنا، فقال لنا سلمان: عليكم أن تكونوا أشدّ فرحاً عندما تكونون مع الحسين فتنصرونه.

هذا الرّجل سار مع الحسين، حتّى إذا وصلوا إلى كربلاء، وكانت ليلة عاشوراء، قال الحسين لأصحابه: اركبوا سواد هذا اللّيل واتّخذوه جَمَلاً، فإنَّ القوم لا يريدون غيري، وليأخذ كلّ واحدٍ منكم بيد واحد من أهل بيتي. فوقَفَ زهير بن القين وقال: "واللهِ لَوَدِدْتُ أنّي قُتِلتُ ثمّ نُشرِت، ثمّ قُتلت، حتّى أُقتلَ هكذا ألفَ مرّة، وأنّ اللهَ عزّ وجلّ يَدفَع بذلك القتلَ عن نفسك وعن أنفُس هؤلاء الفِتْيان مِن أهل بيتك".

هذه الإرادة الصامدة القويّة التي عندما انفتحت على الحقّ التزمت به، حتّى كانت مستعدة أن تخضع لسبعين قتلة وسبعين إحراقاً بالنّار ـ إذا تمكّنت من ذلك ـ في سبيل أن تحتفظ بالقيادة قويّة حيّة.

وهذا الجوّ هو جوّ عاشوراء الّذي نريد أن نفهمه ونركّزه.

وعندما نلتقي بالخطّ الذي ينفتح فيه علينا الحرّ بن يزيد الرّياحي، الذي كان أوّل قائد خرج ليعطِّل مسيرة الحسين، مع أنّه كان يعيش العاطفة تجاه الحسين، ولكنّها لم تصل إلى أن يلتزم الحسين التزام الخطّ، لهذا قال له: اتبع طريقاً لا يدخلك الكوفة، ولا يرجعك إلى المدينة.. وهكذا جاءت المسألة، ودخل الحرّ كربلاء بعد دخول الحسين، وجاءت الجيوش والحرّ يفكّر.. وهكذا يجب أن يفعل الكثيرون، عندما تكون في الموقع الخطأ لا تتعصَّب للخطأ، بل يجب أن يظلّ فكرك مفتوحاً لإمكانيّة أن تكون على الخطأ، حتّى إذا جاءت الكلمة الحقّ والفكر الحقّ انفتح عليه.

والحرّ قائد، وبعض الناس في عصرنا يقولون: أنا مسؤول في هذا المحور السياسي، كيف سأترك وأفقد هذا المنصب، فيتعصَّب حتّى لو كان يجد الخطأ في طريقه.

ولكنَّ الحرّ لم يفعل ذلك، وهو قائد لألف فارس ورئيس عشيرة بني رياح، وفي الوقت نفسه هو لا يزال شاباً.. أخذ يفكِّر أين موقع الحقّ؛ مع الحسين أو مع ابن زياد؟ وحاول أن يجمع بين الدّنيا والآخرة، ولكن رأى أن لا فائدة. جاء إلى ابن سعد وقال له: أمقاتلُ أنتَ هذا الرّجل؟ قال: إي والله، قتالاً أهونه أن تسقط الرّؤوس وتطيح الأيدي. قال: فليس هناك حلّ آخر؟ قال: أميرك لا يقبل إلّا أن يضع الحسين يده بيده ويعطيه إعطاء الذّليل، والحسين لا يقبل.

فعرف الحرّ أنّ المسألة حدٌّ فاصل؛ إمّا أن يبقى في مركزه فالنّار أمامه، وإمّا أن يسير إلى الحسين (ع) فالجنّة أمامه، ولكن عليه أن يترك كلّ الدنيا. وبدأ الحرّ يرتعد، أخذته الهزّة الجسديّة، تماماً كما هو الإنسان الذي أصابته الحمّى الشّديدة أو البرد الشّديد، وجاءه أحد أصحابه وسأله: أترتعد؟ والله لو قيل مَن أشجع أهل الكوفة ما عدوتك. قال لا أرتعد من جبن، ولكن "أُخيِّرُ نفسي بين الجنّة والنّار، ووالله لا أختار على الجنّة شيئاً، ولو قُطِّعْت وحُرِّقت". لتأت الرئاسات كلّها، الإغراءات كلّها، الأجواء كلّها، لا يمكن أن أقدّم شيئاً على الجنّة.

وهذا يمثّل خطّ الصّلابة في الإرادة والاستقامة على الخطّ، بالرّغم من الظروف الصّعبة كلّها التي تواجه الإنسان. وعند ذلك، ذهب مطأطئاً رأسه إلى الحسين (ع)، وقد تاب إلى الله، وقال للحسين: هل من توبة؟ فقال له الحسين: "إن تبت تابَ الله عليك". وعندما استشهد، قال له الحسين: "أنتَ الحرّ كما سمَّتك أمّك؛ حرٌّ في الدّنيا، وسعيدٌ في الآخرة".

ماذا تعلّمنا عاشوراء؟!

هذا الموقف لا بدّ لنا أن نلتزمه. وقيمة عاشوراء ـ إذا كنتم تخلصون لعاشوراء ـ أن تأخذوا دروسها، لا أن تستنزفوا دموعكم فيها. قيمة عاشوراء أن تختاروا نموذجاً منها لتجعلوه المثل أمامكم الّذي تركّزون حياتكم على أساسه؛ هل يعجبكم الحرّ أن يكون القدوة لكم؟! إنّه مثل كبير، إنّكم ستواجهون ـ وربّما واجَهَ بعضكم ـ خياراً بين الجنّة والنار ـ ربّما واجه بعضكم مسؤوليّات أو مواقع أو مواقف تعطيكم الدّنيا، ولكنّكم تفقدون رضا الله وتفقدون الآخرة، ومواقف قد لا تعطيكم شيئاً من الدّنيا، ولكنّكم تحصلون على رضا الله. فكِّروا في داخل نفوسكم وأنتم في جوّ عاشوراء؛ هل تريدون أن تكونوا مع الحرّ، أن تقولوا لكلّ إنسان يخيّركم بين خطّ الدين وخطّ الكفر، بين خطّ الظلم وخطّ العدل، أن يقول كلّ واحدٍ إنّي أُخيِّرُ نفسي بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعْتُ وحرّقْت.

لهذا، لنكن المستقيمين في خطّ الإسلام، والمستقيمين في خطّ عاشوراء، ولندرس في واقع السّاحة كلّه المستقيمين الذين لا يتغيَّر خطّهم، ولا تتغيَّر مواقفهم، ولا تتغيَّر مواقعهم، إلاَّ إذا تغيّرت الظّروف بما يوجب تغيير المواقع لمصلحة الإسلام.

* من كتاب "آفاق إسلاميّة".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية