السيّدة زينب (ع) بطلة كربلاء ورمز ثورتها

السيّدة زينب (ع) بطلة كربلاء ورمز ثورتها

لا بدَّ لنا أن نتعمَّق في شخصيّة السيّدة زينب (ع)، من خلال دلالات كلماتها ومواقفها وعناصر شخصيّتها الروحيّة والإنسانيّة، لأنَّ الصورة عندنا هي أنّ السيّدة زينب (ع) إنسانة نائحة يثقلها الحزن، فتبكي بشكل متتابع، وتنطح رأسها بمقدَّم المحمل، وتشقّ ثيابها وتلطم وجهها! هذه هي الصّورة العامّة، ولكنّنا عندما ندرس زينب (ع) من الداخل، ومن خلال ما تحرّكت به في الخارج، نجد أنّها الإنسانة الرّسالية التي ترفض كلّ شيء من أجل حركة الرّسالة في ساحة الصّراع، ونرى أنّ زينب (ع) هي الإنسانة القويّة قوّة الإنسان الذي يؤمن بالله ويثق به ويصبر على قضائه.

البطلة زينب (ع)

ونرى في زينب الإنسانة الصّلبة الشّجاعة التي تقول كلمة الحقّ أمام السّلطان الجائر الذي يملك أن يقتلها، كما سلّط الجيوش حتى قتل أهل بيتها، ونرى قمّة موقف زينب (ع) عندما وقفت أمام يزيد لتعطي الموقف الإسلامي الّذي يتحدّى الظالم ويتحدّى الظلم ويشمخ بالرّسالة ويعيش عنفوان الحقّ. إنّنا عندما نتصوَّر زينب في ذلك كلّه، نرى أنّ دموعها التي سالت في كربلاء كانت دموعاً حارّة من القلب، ولكنّ دموعها لم تغلب عنفوانها. أمّا أحزانها التي عاشتها في كربلاء، فقد كانت أحزاناً إنسانيّة تنفتح على عناصر الحزن في الواقع من موقع القلب الرّقيق، ومن قلب الإنسان الذي يعيش عمق آلام الإنسان الآخر، قريباً أو حبيباً أو أخاً أو مؤمناً.

ولكنّ حزنها لم يغلق عنها فرحها بالرّسالة، وتلك قيمة عاشوراء، فالحسين الذي كان مثقلاً بآلامه وأحزانه، كان يعيش الفرح العميق، عندما قال: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله".

فتعالوا نستعرض حركة زينب منذ المدينة حتى الشّام، فكيف هي زينب؟ لأنّنا نحتاج أن نجعل من زينب البطلة الرساليّة القويّة المصارعة المجاهدة قدوةً لكلّ امرأة، حتى تشعر المرأة بالشرعيّة في ساحة الصّراع السياسيّة حركةً وجهاداً وتحدّياً. فزينب ابنة عليّ وابنة فاطمة، كانت على خطى أمّها في الانطلاق في ساحة الصّراع، لتؤكّد موقف الحقّ بكلّ صلابته. لذلك قال بعض الشّعراء عنها:

بأبي التي ورثت مصائب أمّها       فغدت تقابلها بصبر أبيها

أمّا نحن، فنقول إنّها ورثت مواقف أمّها، وورثت قوَّة أمّها، وورثت رساليّة أمّها، وورثت حركيّة أمّها، وكان صبر أمّها صبرها، وهو صبر الرّسالة وصبر الحقّ.

خيار الجهاد

في البداية، ينقل تاريخ السيرة الحسينيّة أنّ ابن عباس جاء إلى الإمام الحسين (ع) ليقترح عليه أن لا يخرج النّساء معه، فاندفعت زينب لابن عباس بكلّ قوّة، وهي الزوجة وهي الأمّ، والزّوجة عادة تحبّ أن تجد لها مبرّراً أمام مسؤوليّاتها حتى لا تبتعد عن زوجها، والأم تحبُّ أن تبقى مع أولادها تحضنهم وتحميهم حتى تمتدّ بهم الحياة.

ولكن كان لزينب شأن آخر، فلقد كانت تفكّر في الحسين، لا على أساس أنّه أخ، ولكن على أساس أنّه الإمام، وحركة الإمام حركة الرّسالة، وكانت تعرف أنّ الحسين خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه، وأنّه خرج للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولذلك قالت ـ كما قيل ـ: "يا بن عباس، تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلفنا ها هنا ويمضي وحده، لا والله، بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزّمان لنا غيره؟!"، لأنَّ القضيّة هي أنّه سائر في طريق الأذى في الله، والألم في سبيل الله، وفي طريق أن يعيش كلّ المشقّة والجهد في سبيل الله. فهي تريد أن ينالها ما يناله، حتى تقترب من الله وتعذر إليه، كما يقترب هو إلى الله ويعذر إليه.

هذه زينب التي تمرّدت على كلّ عناصر الذات في حبّ الراحة مع الزّوج ومع الأولاد، لتنطلق في خطّ الجهاد ولو بطريقة أخرى.

امرأة لا يهزمها الحزن

وفي مواقفها في كربلاء، بعد مقتل الإمام الحسين (ع)، عندما خرجت إلى مصرعه بكامل حشمتها ووقارها، ووضعت يديها تحت الجسد الطّاهر، ورفعته قليلاً نحو السّماء وهي تقول، كما تروي أحاديث السيرة النبويّة: "اللّهمَّ تقبّل منّا هذا القليل من القربان". فكأني بزينب تقول إنّ كلّ ما نقدّمه في سبيلك يا ربّ قليل، فلو قدّمنا أنفسنا وإخوتنا وأولادنا وأحبابنا، فإنّنا لا نستطيع أن نفي حقّك يا ربنّا، إنّك خلقتنا وحمّلتنا مسؤوليّة دينك، وحمّلتنا مسؤوليّة سبيلك، فيا ربّ، هؤلاء الحسين وأولاده وإخوانه وأهل بيته وأصحابه، قربانٌ قليل فتقبّله، وكأنّها تتحسَّسُ ذلك فتقول: يا ربِّ، أقدّم لك كلَّ هذا القربان من خلال حزني العميق وألمي وجهدي وما أتحرّك به من السّبي، فتقبّله بأحسن القبول.

هل هذه شخصيّة امرأة يهزمها الحزن؟! وهل هذا هو كلام امرأة يسقطها الألم! إنّها كلمة إنسانة مسلمة مؤمنة تصلّي لله صلاةً من نوع آخر، وتبتهل إلى الله ابتهالاً من نوعٍ آخر. إنّ الحسين صريع بين يديها، وهو حبيبها وعزيزها وأخوها، ولو عرفنا العلاقة بين زينب وبين الحسين (ع)، لعرفنا أنّها علاقة الروح بالروح، والعمق بالعمق. ومن هنا نعرف معنى هذه الكلمة، إنَّها تنطلق من عمق هذه الإنسانة، ومن هنا أيضاً نعظّم زينب (ع) في عناصرها الروحيّة الإيمانيّة، لا من خلال نسبها فحسب.

وقفة أبيّة

وفي الكوفة، في مجلس ابن زياد، لمّا عرفها ابن زياد وقال لها شامتاً: كيف رأيتِ صنعَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ أراد من ذلك أن يعذّبها وأن يؤلمها، ممّا يمثّل عمق الخبث في شخصيّته، وعمق الرّعونة وعمق الوحشيّة، بعدما جاء جلاوزته بها إلى مجلسه، وهي ربّة الصّون والخدر والعفاف، جاءت وهي ثكلى بأخيها وأولادها وبكلّ أهل بيتها وأصحابها، فلو كان في هذا الإنسان ذرّة من الإنسانيّة، لتحدث بطريقة فيها شيء من اللّين، إذا لم يكن فيها شيء من العزاء، لكنّه قال: كيف رأيت صنع الله بأخيك والعتاة المردة من أهل بيته؟ إنّه يحمّل الله المسؤوليّة فكأنّ الله أراد ذلك وكأنّهم انحرفوا عن خطّه، فبماذا أجابته: "والله ما رأيت إلا جميلاً". أفتعتقد أنّني أسقط أمام هذا، أنا التي تعيش الفرح الرّساليّ، لأنّ فرحنا إنّما هو فيما يقرّبنا من الله، وحزننا هو فيما يبعدنا عن الله.

لذلك، ربّما رأيت ـ وهذا بلسان الحال ـ صوراً محزنة مؤلمة، ورأيت أجساداً فصلت عنها رؤوسها، ورأيت أجساداً مزّقت بالسّهام، ورأيت الطفل كيف يذبح من الوريد إلى الوريد، ورأيت البطل العبّاس كيف تقطع يداه، ورأيت ورأيت، لكنّ ذلك عندما أطرحه في رحاب الله، فإنّه يمثّل شيئاً جميلاً أفرح به، ويمثّل شيئاً عزيزاً أعتزّ له: "والله ما رأيتُ إلا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب اللهُ عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم". أنت الآن في سلطانك وعزّك تشتم وتأمر وتنهى، ولكن ماذا يوم يقوم النّاس لربّ العالمين؟ ماذا عندما تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها؟ "وسيجمع الله بينك وبينهم يوم القيامة، فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج"، مَن الذي يسكت ومَن الذي ينطق بالحقّ. "ثكلتك أمّك يا بن مرجانة". هذه الإنسانة الثكّلى تمثّل عمق القوّة، حتى إنّها تتحوّل إلى قوّة تجابه السلطان الذي يعيش خيلاء النّصر.. وليس فيها شيء من الضّعف، فلم يضعفها حزنها، ولم يضعفها سبيها، ولم يضعفها وقوفها بين يدي هذا الظالم، ولم يضعفها ما تُقبِل عليه من إذلال ومن إهانة، لأنّ قوّة الحقّ كانت في عقلها وفي قلبها وفي روحها، لذلك فكما تحدّاها تحدّته "ثكلتك أمّك"، تدعو عليه بأنْ تثكل به أمّه، فاشتدّ غضبه، فعزم أن يقتلها لولا أنْ تدخّل بعض أصحابه.

ووقفت مع أهل الكوفة الذين كانوا يتصدّقون على الأيتام، فأخذت ما في أفواههم، لأنّها تعتبر ذلك مظهَر ذلّ ومسكنة، وهي لا تريد لأيتام الحسين (ع) وأيتام إخوته وأصحابه أن يعيشوا تحت تأثير الشّفقة والمسكنة، ولذلك انتزعتها من أفواههم، وقالت: "الصّدقة علينا حرام".

وتأمّل في وقفتها الأبيّة وعندما خطبت خطبتها التي قرّعت بها أهل الكوفة الذين كانت قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه، والتي استطاعت أن تعرِّفهم من خلال مواقفهم كيف يعيشون الحقارة النفسيّة أمام ما قاموا به، كما تحدّث ابن زياد، ولذلك لا أفهم ما يقال من أنّها نطحت جبينها بمقدّم المحمل، لأنّ زينب كانت لا تقبل أن يشمت بها الشّامتون، وكانت لا تقبل أن تسيل منها دمعة لا لأنّها لم تعش عمق الحزن، ولكن لأنّها كانت تريد أن تقدّم صورة الّذين يعيشون حركة الشّهادة في سبيل الله، الذين لا يمكن أن يضعفوا، ولا يمكن أن يظهروا بمظهر الضّعفاء أمام الذين تسبّبوا في المأساة.

في مجلس يزيد

وفي نهاية المطاف، في مجلس يزيد الّذي أراد إذلال أهل البيت، كما في استعراض عضلات سلطانه، ماذا قالت له، وهو الخليفة الرسميّ آنذاك، وهو السلطان الذي كنّ هي وأخواتها أسارى لديه، ولا يعرفن ماذا يُفعَل بهنّ؟! ومع ذلك، يبقى القويّ قويّاً، ويبقى صاحب الحقّ ثابتاً في موقف الحقّ، لا تأخذه في الله لومة لائم، ويبقى الإنسان المسلم في شخص السيّدة زينب (ع) يقول كلمة الحقّ عند سلطان جائر، فضلاً عن أنّها أرادت أن تهدّم نفسيّة يزيد، وأن تحقّره عند نفسه وعند مَن حوله، وأن تضعف كلّ عنفوانه، بأن تعتبره كميّة مهملة لا قيمة لها ولا قوّة لها، ولا تستطيع أن تحقّق شيئاً، فماذا قالت؟

"فكد كيدك"، استخرج ما عندك من الكيد ومن التّآمر ومن الحيل وافعل ما تشاء "واسعَ سعيك" وخطّط ما تشاء "وناصب جهدك"، حاول أن تحرّك جهدك في كلّ سبيل "فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا". نحن باقون في الشّهادة الثّانية: "أشهد أنّ محمداً رسول الله"، ونحن أبناؤه إذا ذكر ذكرنا، ما دمنا سائرين في خطّه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. هل تستطيع أن تحذف هذه الآية من القرآن؟! ومَن هم أهل البيت؟ إنّهم أخي الحسن والحسين وأمّي وأبي وجدّي، فهل تستطيع أن تمحو ذكرهم "فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا"، لا بصفة أنّنا عائلة رسول الله، ولكن بصفة أنّنا الطليعة المؤمنة المسلمة المجاهدة في سبيل الله "وهل رأيك إلا فَنَد"، يزول مهما امتدّ بك العيش بعد ذلك، ولم يعمّر بعد ذلك إلا قليلاً "وأيّامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين".

ثمّ وبّخته "أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء"، إنّها تذكّرهُ أنّ جدّه وكل الذين كانوا معه، عندما وقفوا بين يدي جدّها وقال لهم ماذا ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، قال اذهبوا فأنتم الطلقاء، "أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء"، هل يجازى الجميل إلا بالجميل، فكيف جازيت جميل رسول الله بأجدادك "تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟!". وكانت تعنّفه وتحقّره وتضعفه.

إنّها قصّة المرأة المجاهدة عندما تستنفر كلّ إيمانها وكلّ عقلها وكلّ روحها وكلّ رساليّتها في موقفها... فلقد كانت زينب (ع)، كما سمّتها "بنت الشاطئ"، بطلة كربلاء في الوعي، وبطلتها في الروح وفي الإيمان وفي الموقف وفي التحدّي وفي ردّ التحدّي، وكأنّ ذلك القائل كان ينطق عن لسانها عندما قال:

ملكنا فكان العفوُ منّا سجيّةً        فلما ملكتم سالَ بالدَّم أبطحُ

وحلّلتم قتلَ الأسارى وطالما        غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ

فحسبكم هذا التّفاوت بيننا         وكل إناء بالّذي فيهِ ينضحُ

رمز الثّورة بعد الحسين (ع)

وهكذا ينقل في سيرتها أنّها عندما رجعت إلى المدينة، تحرّكت وانفتحت وعبّأت الناس، حتى كتب والي المدينة إلى يزيد: "إذا كان لك شغل في المدينة، فأخرج زينب بنت عليّ منها"، لأنّ زينب كانت رمز الثّورة، وكانت قوّة المعارضة، وكانت الإنسانة التي أكملت ثورة الحسين في الموقف وفي الكلمة وفي التحدّي الكبير.

* من كتاب "النّدوة"، ج2.

لا بدَّ لنا أن نتعمَّق في شخصيّة السيّدة زينب (ع)، من خلال دلالات كلماتها ومواقفها وعناصر شخصيّتها الروحيّة والإنسانيّة، لأنَّ الصورة عندنا هي أنّ السيّدة زينب (ع) إنسانة نائحة يثقلها الحزن، فتبكي بشكل متتابع، وتنطح رأسها بمقدَّم المحمل، وتشقّ ثيابها وتلطم وجهها! هذه هي الصّورة العامّة، ولكنّنا عندما ندرس زينب (ع) من الداخل، ومن خلال ما تحرّكت به في الخارج، نجد أنّها الإنسانة الرّسالية التي ترفض كلّ شيء من أجل حركة الرّسالة في ساحة الصّراع، ونرى أنّ زينب (ع) هي الإنسانة القويّة قوّة الإنسان الذي يؤمن بالله ويثق به ويصبر على قضائه.

البطلة زينب (ع)

ونرى في زينب الإنسانة الصّلبة الشّجاعة التي تقول كلمة الحقّ أمام السّلطان الجائر الذي يملك أن يقتلها، كما سلّط الجيوش حتى قتل أهل بيتها، ونرى قمّة موقف زينب (ع) عندما وقفت أمام يزيد لتعطي الموقف الإسلامي الّذي يتحدّى الظالم ويتحدّى الظلم ويشمخ بالرّسالة ويعيش عنفوان الحقّ. إنّنا عندما نتصوَّر زينب في ذلك كلّه، نرى أنّ دموعها التي سالت في كربلاء كانت دموعاً حارّة من القلب، ولكنّ دموعها لم تغلب عنفوانها. أمّا أحزانها التي عاشتها في كربلاء، فقد كانت أحزاناً إنسانيّة تنفتح على عناصر الحزن في الواقع من موقع القلب الرّقيق، ومن قلب الإنسان الذي يعيش عمق آلام الإنسان الآخر، قريباً أو حبيباً أو أخاً أو مؤمناً.

ولكنّ حزنها لم يغلق عنها فرحها بالرّسالة، وتلك قيمة عاشوراء، فالحسين الذي كان مثقلاً بآلامه وأحزانه، كان يعيش الفرح العميق، عندما قال: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله".

فتعالوا نستعرض حركة زينب منذ المدينة حتى الشّام، فكيف هي زينب؟ لأنّنا نحتاج أن نجعل من زينب البطلة الرساليّة القويّة المصارعة المجاهدة قدوةً لكلّ امرأة، حتى تشعر المرأة بالشرعيّة في ساحة الصّراع السياسيّة حركةً وجهاداً وتحدّياً. فزينب ابنة عليّ وابنة فاطمة، كانت على خطى أمّها في الانطلاق في ساحة الصّراع، لتؤكّد موقف الحقّ بكلّ صلابته. لذلك قال بعض الشّعراء عنها:

بأبي التي ورثت مصائب أمّها       فغدت تقابلها بصبر أبيها

أمّا نحن، فنقول إنّها ورثت مواقف أمّها، وورثت قوَّة أمّها، وورثت رساليّة أمّها، وورثت حركيّة أمّها، وكان صبر أمّها صبرها، وهو صبر الرّسالة وصبر الحقّ.

خيار الجهاد

في البداية، ينقل تاريخ السيرة الحسينيّة أنّ ابن عباس جاء إلى الإمام الحسين (ع) ليقترح عليه أن لا يخرج النّساء معه، فاندفعت زينب لابن عباس بكلّ قوّة، وهي الزوجة وهي الأمّ، والزّوجة عادة تحبّ أن تجد لها مبرّراً أمام مسؤوليّاتها حتى لا تبتعد عن زوجها، والأم تحبُّ أن تبقى مع أولادها تحضنهم وتحميهم حتى تمتدّ بهم الحياة.

ولكن كان لزينب شأن آخر، فلقد كانت تفكّر في الحسين، لا على أساس أنّه أخ، ولكن على أساس أنّه الإمام، وحركة الإمام حركة الرّسالة، وكانت تعرف أنّ الحسين خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه، وأنّه خرج للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولذلك قالت ـ كما قيل ـ: "يا بن عباس، تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلفنا ها هنا ويمضي وحده، لا والله، بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزّمان لنا غيره؟!"، لأنَّ القضيّة هي أنّه سائر في طريق الأذى في الله، والألم في سبيل الله، وفي طريق أن يعيش كلّ المشقّة والجهد في سبيل الله. فهي تريد أن ينالها ما يناله، حتى تقترب من الله وتعذر إليه، كما يقترب هو إلى الله ويعذر إليه.

هذه زينب التي تمرّدت على كلّ عناصر الذات في حبّ الراحة مع الزّوج ومع الأولاد، لتنطلق في خطّ الجهاد ولو بطريقة أخرى.

امرأة لا يهزمها الحزن

وفي مواقفها في كربلاء، بعد مقتل الإمام الحسين (ع)، عندما خرجت إلى مصرعه بكامل حشمتها ووقارها، ووضعت يديها تحت الجسد الطّاهر، ورفعته قليلاً نحو السّماء وهي تقول، كما تروي أحاديث السيرة النبويّة: "اللّهمَّ تقبّل منّا هذا القليل من القربان". فكأني بزينب تقول إنّ كلّ ما نقدّمه في سبيلك يا ربّ قليل، فلو قدّمنا أنفسنا وإخوتنا وأولادنا وأحبابنا، فإنّنا لا نستطيع أن نفي حقّك يا ربنّا، إنّك خلقتنا وحمّلتنا مسؤوليّة دينك، وحمّلتنا مسؤوليّة سبيلك، فيا ربّ، هؤلاء الحسين وأولاده وإخوانه وأهل بيته وأصحابه، قربانٌ قليل فتقبّله، وكأنّها تتحسَّسُ ذلك فتقول: يا ربِّ، أقدّم لك كلَّ هذا القربان من خلال حزني العميق وألمي وجهدي وما أتحرّك به من السّبي، فتقبّله بأحسن القبول.

هل هذه شخصيّة امرأة يهزمها الحزن؟! وهل هذا هو كلام امرأة يسقطها الألم! إنّها كلمة إنسانة مسلمة مؤمنة تصلّي لله صلاةً من نوع آخر، وتبتهل إلى الله ابتهالاً من نوعٍ آخر. إنّ الحسين صريع بين يديها، وهو حبيبها وعزيزها وأخوها، ولو عرفنا العلاقة بين زينب وبين الحسين (ع)، لعرفنا أنّها علاقة الروح بالروح، والعمق بالعمق. ومن هنا نعرف معنى هذه الكلمة، إنَّها تنطلق من عمق هذه الإنسانة، ومن هنا أيضاً نعظّم زينب (ع) في عناصرها الروحيّة الإيمانيّة، لا من خلال نسبها فحسب.

وقفة أبيّة

وفي الكوفة، في مجلس ابن زياد، لمّا عرفها ابن زياد وقال لها شامتاً: كيف رأيتِ صنعَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ أراد من ذلك أن يعذّبها وأن يؤلمها، ممّا يمثّل عمق الخبث في شخصيّته، وعمق الرّعونة وعمق الوحشيّة، بعدما جاء جلاوزته بها إلى مجلسه، وهي ربّة الصّون والخدر والعفاف، جاءت وهي ثكلى بأخيها وأولادها وبكلّ أهل بيتها وأصحابها، فلو كان في هذا الإنسان ذرّة من الإنسانيّة، لتحدث بطريقة فيها شيء من اللّين، إذا لم يكن فيها شيء من العزاء، لكنّه قال: كيف رأيت صنع الله بأخيك والعتاة المردة من أهل بيته؟ إنّه يحمّل الله المسؤوليّة فكأنّ الله أراد ذلك وكأنّهم انحرفوا عن خطّه، فبماذا أجابته: "والله ما رأيت إلا جميلاً". أفتعتقد أنّني أسقط أمام هذا، أنا التي تعيش الفرح الرّساليّ، لأنّ فرحنا إنّما هو فيما يقرّبنا من الله، وحزننا هو فيما يبعدنا عن الله.

لذلك، ربّما رأيت ـ وهذا بلسان الحال ـ صوراً محزنة مؤلمة، ورأيت أجساداً فصلت عنها رؤوسها، ورأيت أجساداً مزّقت بالسّهام، ورأيت الطفل كيف يذبح من الوريد إلى الوريد، ورأيت البطل العبّاس كيف تقطع يداه، ورأيت ورأيت، لكنّ ذلك عندما أطرحه في رحاب الله، فإنّه يمثّل شيئاً جميلاً أفرح به، ويمثّل شيئاً عزيزاً أعتزّ له: "والله ما رأيتُ إلا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب اللهُ عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم". أنت الآن في سلطانك وعزّك تشتم وتأمر وتنهى، ولكن ماذا يوم يقوم النّاس لربّ العالمين؟ ماذا عندما تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها؟ "وسيجمع الله بينك وبينهم يوم القيامة، فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج"، مَن الذي يسكت ومَن الذي ينطق بالحقّ. "ثكلتك أمّك يا بن مرجانة". هذه الإنسانة الثكّلى تمثّل عمق القوّة، حتى إنّها تتحوّل إلى قوّة تجابه السلطان الذي يعيش خيلاء النّصر.. وليس فيها شيء من الضّعف، فلم يضعفها حزنها، ولم يضعفها سبيها، ولم يضعفها وقوفها بين يدي هذا الظالم، ولم يضعفها ما تُقبِل عليه من إذلال ومن إهانة، لأنّ قوّة الحقّ كانت في عقلها وفي قلبها وفي روحها، لذلك فكما تحدّاها تحدّته "ثكلتك أمّك"، تدعو عليه بأنْ تثكل به أمّه، فاشتدّ غضبه، فعزم أن يقتلها لولا أنْ تدخّل بعض أصحابه.

ووقفت مع أهل الكوفة الذين كانوا يتصدّقون على الأيتام، فأخذت ما في أفواههم، لأنّها تعتبر ذلك مظهَر ذلّ ومسكنة، وهي لا تريد لأيتام الحسين (ع) وأيتام إخوته وأصحابه أن يعيشوا تحت تأثير الشّفقة والمسكنة، ولذلك انتزعتها من أفواههم، وقالت: "الصّدقة علينا حرام".

وتأمّل في وقفتها الأبيّة وعندما خطبت خطبتها التي قرّعت بها أهل الكوفة الذين كانت قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه، والتي استطاعت أن تعرِّفهم من خلال مواقفهم كيف يعيشون الحقارة النفسيّة أمام ما قاموا به، كما تحدّث ابن زياد، ولذلك لا أفهم ما يقال من أنّها نطحت جبينها بمقدّم المحمل، لأنّ زينب كانت لا تقبل أن يشمت بها الشّامتون، وكانت لا تقبل أن تسيل منها دمعة لا لأنّها لم تعش عمق الحزن، ولكن لأنّها كانت تريد أن تقدّم صورة الّذين يعيشون حركة الشّهادة في سبيل الله، الذين لا يمكن أن يضعفوا، ولا يمكن أن يظهروا بمظهر الضّعفاء أمام الذين تسبّبوا في المأساة.

في مجلس يزيد

وفي نهاية المطاف، في مجلس يزيد الّذي أراد إذلال أهل البيت، كما في استعراض عضلات سلطانه، ماذا قالت له، وهو الخليفة الرسميّ آنذاك، وهو السلطان الذي كنّ هي وأخواتها أسارى لديه، ولا يعرفن ماذا يُفعَل بهنّ؟! ومع ذلك، يبقى القويّ قويّاً، ويبقى صاحب الحقّ ثابتاً في موقف الحقّ، لا تأخذه في الله لومة لائم، ويبقى الإنسان المسلم في شخص السيّدة زينب (ع) يقول كلمة الحقّ عند سلطان جائر، فضلاً عن أنّها أرادت أن تهدّم نفسيّة يزيد، وأن تحقّره عند نفسه وعند مَن حوله، وأن تضعف كلّ عنفوانه، بأن تعتبره كميّة مهملة لا قيمة لها ولا قوّة لها، ولا تستطيع أن تحقّق شيئاً، فماذا قالت؟

"فكد كيدك"، استخرج ما عندك من الكيد ومن التّآمر ومن الحيل وافعل ما تشاء "واسعَ سعيك" وخطّط ما تشاء "وناصب جهدك"، حاول أن تحرّك جهدك في كلّ سبيل "فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا". نحن باقون في الشّهادة الثّانية: "أشهد أنّ محمداً رسول الله"، ونحن أبناؤه إذا ذكر ذكرنا، ما دمنا سائرين في خطّه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. هل تستطيع أن تحذف هذه الآية من القرآن؟! ومَن هم أهل البيت؟ إنّهم أخي الحسن والحسين وأمّي وأبي وجدّي، فهل تستطيع أن تمحو ذكرهم "فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا"، لا بصفة أنّنا عائلة رسول الله، ولكن بصفة أنّنا الطليعة المؤمنة المسلمة المجاهدة في سبيل الله "وهل رأيك إلا فَنَد"، يزول مهما امتدّ بك العيش بعد ذلك، ولم يعمّر بعد ذلك إلا قليلاً "وأيّامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين".

ثمّ وبّخته "أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء"، إنّها تذكّرهُ أنّ جدّه وكل الذين كانوا معه، عندما وقفوا بين يدي جدّها وقال لهم ماذا ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، قال اذهبوا فأنتم الطلقاء، "أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء"، هل يجازى الجميل إلا بالجميل، فكيف جازيت جميل رسول الله بأجدادك "تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟!". وكانت تعنّفه وتحقّره وتضعفه.

إنّها قصّة المرأة المجاهدة عندما تستنفر كلّ إيمانها وكلّ عقلها وكلّ روحها وكلّ رساليّتها في موقفها... فلقد كانت زينب (ع)، كما سمّتها "بنت الشاطئ"، بطلة كربلاء في الوعي، وبطلتها في الروح وفي الإيمان وفي الموقف وفي التحدّي وفي ردّ التحدّي، وكأنّ ذلك القائل كان ينطق عن لسانها عندما قال:

ملكنا فكان العفوُ منّا سجيّةً        فلما ملكتم سالَ بالدَّم أبطحُ

وحلّلتم قتلَ الأسارى وطالما        غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ

فحسبكم هذا التّفاوت بيننا         وكل إناء بالّذي فيهِ ينضحُ

رمز الثّورة بعد الحسين (ع)

وهكذا ينقل في سيرتها أنّها عندما رجعت إلى المدينة، تحرّكت وانفتحت وعبّأت الناس، حتى كتب والي المدينة إلى يزيد: "إذا كان لك شغل في المدينة، فأخرج زينب بنت عليّ منها"، لأنّ زينب كانت رمز الثّورة، وكانت قوّة المعارضة، وكانت الإنسانة التي أكملت ثورة الحسين في الموقف وفي الكلمة وفي التحدّي الكبير.

* من كتاب "النّدوة"، ج2.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية