الرَّسول(ص) ينشئ دولة المسلمين

الرَّسول(ص) ينشئ دولة المسلمين

جاء النبي(ص) إلى المدينة، وكان المجتمع مجتمعاً عشائرياً يقوم على العصبيّة العشائريّة، وكان اليهود يعملون على إثارة العصبيات بين أفراد المجتمع. ومن هنا، كانت الحروب متحركة بين العشيرتين الكبيرتين الأوس والخزرج، فما إن تهدأ، حتى يتدخّل اليهود من أجل أن يثيروها من جديد.

من العشيرة إلى الدولة

وجاء الإسلام، ودخل النّاس في دين الله، وهدأت روح العصبيَّة، والتقى الأوس والخزرج على الإسلام، وكان النبيّ(ص) يعمل من أجل أن يصنع لهذا المجتمع قاعدةً فكريّةً، يلتقي فيها المجتمع على فكرٍ واحدٍ يتجاوز الجانب العشائريّ إلى الجانب الحقوقي، بحيث يشعر كلّ واحد من أفراد المجتمع، بأنّه يعيش على أساس القاعدة التي تقول له: إنَّ لك حقّاً وعليك حقّ، فلك حقّ على الناس من حولك بقدر ما تتّصل حياتك بحياتهم، وللناس عليك حقّ بقدر ما تلتقي قضاياهم بحياتك، لأنّ المجتمع، أيّها الأحبّة، إذا انطلق من قاعدة النظام الذي لا يفرض بالقوّة، ولكنه ينطلق من إيمان الناس به، ومن إحساسهم بأنّه يمثّل علاقتهم بالله، باعتبار أنه شريعة الله، فإنّ من الطبيعي أن يتحرّك الناس نحو الالتزام به بروحيّة متحمّسة، أكثر مما لو كان مفروضاً بالقوّة.

وهذا هو الفرق بين الدّولة التي تنشأ من عمق إيمان الناس، بحيث يرى الناس إيمانهم في حركة الدّولة، وبين الدّولة الّتي تنشأ بفعل القوَّة التي يفرضها أصحاب القوَّة على الناس. هناك فرقٌ بين قانونٍ تشعر بأنَّه خيارك، وبين قانونٍ تشعر بأنّه خيار الآخرين...

كان النبيّ(ص) يعمل على أن يخرج المجتمع من القانون الذي يتحرَّك من موقع القوَّة، فرئيس القبيلة هو الذي يحكم كلّ أفراد القبيلة، وهكذا نجد أنَّ الأغنياء يسيطرون على الفقراء، فلا حقَّ للفقراء مع الأغنياء، ورأينا أنّ المرأة لا حقّ لها أمام الرجل، فهي مجرّد كمية مهملة في حياة الرجل، حتى إنّ الناس كانوا يرثون النساء كما يرثون أيّ شيء آخر، وحتى إنّ الولد الأكبر كان يرث نساء أبيه، ويعتبرهن زوجاته. لذلك نزلت الآية {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَف}.

كانت القيم قيم الجاهليّة، فجاء الإسلام، وأراد أن يصنع للأمَّة قيماً جديدة تنطلق من إنسانيّة الإنسان، فالإسلام كان يريد أن يقول للإنسان احترم إنسانيّتك باحترام إنسانيّة الآخر، ولا تفرض نفسك على الآخر إلا من خلال الحقوق التي فرضها الله لك كما فرضها عليك، بحيث إن علاقتك مع الناس الآخرين تنطلق من خلال الحقوق التي وضعها الله سبحانه وتعالى.

العدل أساس الحكم

وبذلك، بدأت بداية الدّولة. ومن الطبيعي أنَّ المجتمع العربي لم يكن يضمّ دولة... لم تكن هناك أيّ حالة تنظيميّة للدّولة.. كان الواقع العشائريّ والقيم الجاهليّة هما اللذان يحكمان مسيرة الناس، ويحفظان توازن المجتمع.

وأراد النبيّ أن يبدأ الإسلام بالقيم الأساسيَّة للمسلم التي تمثِّل إنسانيَّة الإنسان، وأراد أن يخطِّط للشَّريعة في هذا الاتجاه، حتى يشعر النّاس بأنهم يعيشون في مجتمعٍ له قيادة وله نظام في الحرب وفي السِّلم وفي العلاقات الاجتماعيّة... وهكذا نرى أنَّ القيمة الإنسانيّة الكبيرة التي تحكم كلّ ما جاء به الإسلام من مفاهيم ومن تشريعات على مستوى التصرّفات الفرديّة، وعلى مستوى العلاقات الاجتماعيّة، وعلى كلّ المستويات، هي العدل، لأنَّ الله سبحانه وتعالى بما أنزله من كتابه، علّمنا أنَّ العدل هو أساس الديانات، وأنَّ الله أرسل نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّداً، كما أرسل أنبياء محلّيين هنا وهناك، وأنزل كتباً وشرائع من أجل هدف واحد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. فحركة الدّيانات منذ أوَّل ديانة إلى آخر ديانة، وهي الإسلام، هي حركة عدل، من أجل أن يقوم الناس بالقسط، فيقضي كلّ واحد للآخر حقّه، ولا يظلمه حقّه.

إقرار الحقوق

وقد حدّد الإسلام للناس حقوقهم في داخل الأسرة؛ حقّ الزوج على زوجته، وحقّ الزوجة على زوجها، وحقّ الأب على أولاده، والأمّ على أولادها، وحقّ الأولاد على آبائهم وأمّهاتهم، وحقّ الجار على جاره، وحقّ الحاكم على المحكومين، ومن الطبيعي أن الحقّ الأوّل هو حقّ الله على عباده، وليس لعباده أيّ حقّ عليه.

لهذا، بعض الناس يقول مثلاً: اللّهمّ بحقّ محمد وعليّ، أو بحقّهم عليك... والواقع أنّه ليس لهم حقّ على الله، ولكنّ الله بفضله جعل لهم حقّاً، ولذا نقول: بحقّهم الذي فرضته على نفسك.. ليس هناك لأحد حقّ على الله، لأنَّ الله هو الخالق للنّاس كلّهم وللكون كلّه، وهو الذي جعل الحقوق لأنبيائه وأوليائه، وهو الّذي جعل الحقوق لنا. يعني الآن عندما نطيع الله سبحانه وتعالى، هل نستحقّ على الله شيئاً في طاعتنا؟ لا نستحقّ. لماذا؟ لأننا لا نملك شيئاً لنا، لأنّنا عندما نطيع الله، بماذا نطيعه؟ أوّلاً إيماننا بعقلنا؛ من الّذي خلق لنا العقل؟ بلساننا؛ من الذي خلق لنا اللّسان؟ بأيدينا.. بأرجلنا.. بالأشياء التي بين أيدينا..كلُّها لله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}. فلنفتّش عن شيء لنا مئة في المئة، لن نجد.. ولكنّ الله تفضّل علينا، فجعل لنا حقّاً إذا أطعناه، حقّاً في الثواب.

فحقّنا في الثّواب، حقنا في الجنّة، حقّنا في زيادة النّعمة... هذا الحقّ أتى من الله سبحانه وتعالى، هو الّذي جعله لنا، وإلّا ليس هناك أيّ حقّ لنا على الله. لا أحد له حقّ على الله، لكنه سبحانه هو الذي جعل الحقّ لأنبيائه ولأوليائه وما إلى ذلك.

ولذلك، عندما كان الإمام عليّ(ع) يريد أن يبعدنا عن المعصية بطريقة أخرى، فقال ما مضمونه: إذا أردت أن تعصي الله، فخذ حريتك، ولكن اعص الله بشيء لم ينعم به عليك.. ولن نستطيع، باعتبار أنَّ كلّ شيء من الله سبحانه وتعالى.

لذلك، فإنّ الناس الّذين يعصون الله، ليست القصّة فقط معصيةً وعقاباً، بل إنّ هؤلاء لا إنسانيّة عندهم، لأنّهم يعصون الله بما أنعم به عليهم. هذا الواقع يصوّره الشاعر عندما يقول:

أعلّمه الرّماية كلّ يوم فلمّا اشتدّ ساعده رماني

وكم علَّمته نظم القوافي فلمّا قال قافية هجاني

لذلك، يقول الإمام عليّ(ع): "لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك، وبلاغة قولك على من سدّدك".

كيف نعصي الله بما أنعم علينا من نعم؟ وهذا دعاء الإمام زين العابدين(ع): "تتحبّب إلينا بالنعم ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل، وشرّنا إليك صاعد، ولم يزل ولايزال ملك كريم يأتيك عنّا في كلّ يوم بعمل قبيح، فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمك، وتتفضّل علينا بآلائك".

إنّ الله قرَّر الحقوق للناس على بعضهم البعض، وأراد لكلّ إنسان أن يعطي للإنسان الآخر ما جعله الله عليه من حقّ.

هناك حقوق أساسيّة فرضها الله على الناس، وهناك حقوق الناس على بعضهم البعض، وهو الحقّ التعاقدي، فعندما تتعاقد مع إنسان، فبلحاظ الحالة التعاقديّة، تكون قد جعلت لهذا الإنسان حقّاً عليك من خلال التزامك معه، وصار له حقّ عليك من خلال التزامه معك... هذه من الحقوق التعاقديّة كحقّ الزواج.. حقّ الأب على الأولاد، وحق الأولاد على الأب، ليست من الحقوق التعاقدية، ولكنها حقوق إلهيّة {وبالوالدين إحسان}. لكنّ ما بين الزوج والزوجة حقّ تعاقدي.. أنت عندما تتزوج، أو البنت عندما تتزوّج، فمعناها أنها أعطتك عهداً على نفسها بأن تقوم بما لك من حقّ عليها في الزواج، وأنت أعطيتها هذا الحقّ كذلك.

ولذلك، عبَّر الله تعالى عن الزواج بقوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظ}. هو ليس عهداً عادياً، بل هو ميثاق مؤكّد، لأنّ هناك فرقاً بين عقد الزواج والعقود الأخرى، فالعقود الأخرى قد تتعلق ببضاعة مثلاً وتشتريها، أمّا عقد الزواج، فهو عقد اندماج، بحيث يقول الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}، بحيث إنّ الإنسان يندمج في حياته مع الإنسان الآخر. والحقوق الروحية في الزواج أعظم من الحقوق القانونيّة. وهكذا حقوق الناس على بعضهم البعض، وعندنا كما قلنا، الحقوق المادية والقانونية والروحية، وحقوق الإخوان على بعضهم البعض، وما إلى ذلك.

مبدأ العدالة للجميع

فالإسلام أكّد أن العدالة هي عنوان المجتمع المسلم، وعنوان الفرد المسلم، وعنوان الدولة المسلمة، سواء في حياتهم داخل الواقع الإسلامي أو خارجه.

ومبدأ العدالة في الإسلام ليس فيه كافر ومسلم، ليس هناك قريب وبعيد، ليس هناك عدوّ وصديق .

العدالة لكلّ صاحب حقّ حتى لو كان كافراً، وحتى لو كان عدواً لك، وحتى لو كان بعيداً عنك.

القرآن كان واضحاً: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} قل كلمة الحقّ حتى على قريبك: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْط – القسط تعني العدل – شُهَدَاء للهِ – عندما تشهد فتذكّر أنّ الشهادة لله – وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ – اشهد على نفسك إذا كان الحقّ عليك – أَوِ الْوَالِدَيْنِ – اشهد على أبويك إذا كان الحقّ عليهما – وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُو}...

لا تحلّ مشكلة الفقير بأن تشهد له بالزّور مثلاً، ثم مع الأعداء، سواء كان عدواً في الدين أو في المذهب، أو عدواً في السياسة، أو كان عدواً في العصبيات العائلية أو العصبيات الاجتماعية والحزبية {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ – عداوة وبغض - قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. لا تمنعنّكم العداوة والخلافات من أن تعدلوا، ولو مع أعدائكم...

هذا هو الخطّ الإسلامي؛ على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع، وعلى مستوى الدولة. هذا موجّه إلى الحاكم، بأنّ على الدّولة أن تعدل مع الدّولة الأخرى في ضمن التعاقدات التي بينهما، حتى لو كانت الدولة الأخرى عدوّاً. دعوا العداوة جانباً، ودعوا خطّ العدل يتحرّك.

وهكذا على مستوى العلاقات.. بعض الناس يستحلّون أموال الكافر، ويتحركون على أساس بعض الفتاوى، ولكنّ الله يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ – عن الكافرين - وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

هذا الإنسان الكافر الّذي لم يقاتلك في دينك ليخرجك عن دينك، أو حقداً على دينك، ولم يخرجك من دارك، عليك أن تحسن إليه، وأن تقسط معه، أي أن تعدل معه. وهل من العدل أن تأخذ ماله أو تعتدي على عرضه أو على نفسه؟!

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ – أعلنوا الحرب عليكم، سواء أعلنوها بشكل مباشر أو غير مباشر – وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا - ساعدوا - عَلَى إِخْرَاجِكُم أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

ولأنَّ مجتمعنا مجتمع الظلم؛ ظلم في البيت، وظلم في الأسواق، وظلم في المجتمعات، وظلم في الأحزاب والعوائل والعشائر، وظلم القويّ للضَّعيف... وليس مجتمع العدل، لذلك نحتاج، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش قيمة العدل كقيمةٍ جعلها الله الصِّلة بينه وبين عباده، وهي الرّابطة التي تنظّم للمجتمع قواعده، وتجعل المجتمع يعيش في سلام.

وسلام المجتمع لا يأتي من فوق، بل يأتي من عمق إحساس الإنسان بحقّ الآخر على أن يكون أميناً من خلالك، بحيث لا تحتاج أن تأمن زوجتك في البيت على نفسها منك، أو أن يأمن جارك أو أن يأمن من تبايعه وتشاريه وتتعاقد معه على نفسه من خلال القانون... لأنّ القوّة لا تدخل في كلّ مكان، ونقصد بها الدولة. يعني إذا ظلمت زوجتك، هناك زوجات لا يشتكين للقانون، فالدّولة لا تصل إلى كلّ مكان، لهذا قيل: "المسلم من سلِمَ المسلمون من يده ولسانه".

وفي الحديث الوارد عن أئمّة أهل البيت(ع): "إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ من أنبيائه في مملكة جبّار من الجبّارين، أن ائت هذا الجبّار فقل له: إني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين – حتى تحكم بالعدل، ولا أسمع صوت المظلومين ليلاً يقولون يا ربنا احكم بيننا وبين فلان فقد ظلمنا - فإنّي لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفّاراً."

حتى لو كان كافراً، فإنّ الله لا يقبل أن يظلم الإنسان في حقّه، وهذا الحديث موجود في كتاب الكافي، يرويه أئمة أهل البيت(ع).

أيّها الأحبَّة، هذا هو نداء الله، وهو نداء رسول الله ونداء عليّ(ع)... الإمام عليّ(ع) ذكر في تقريره الّذي قدَّمه إلى الله لماذا يطلب الحكم، ما هو الأساس لطلب عليّ(ع) الحكم؟ "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، وَلَا الْتِمَاسَ شيء مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأْمَنَ المظلومون من عبادك، وَتُقَامَ المُعَطَّلَة مِنْ حُدُودك".

يا ربّ، أنا أريد هذا الحكم، ليس لمنفعة شخصيَّة، ولا لطلب المال، بل حتى يأمن المظلومون من عبادك، بأن لا يظلمهم أحد. هذه كانت مشكلة عليّ(ع): "وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ – الكون كلّه - بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ...".

علينا أن نفكِّر في هذا .. لأن لا شيء يدخل النّاس إلى النار يوم القيامة كالظلم، وخصوصاً ظلم الضعيف: "إيَّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله". ظلم الضَّعيف أفحش الظلم.

ذاك الشّاعر يقول: تنام عينك والمظلوم منتبهٌ يدعو عليك وعين الله لم تنمِ

هذه المسألة هي خلاصنا في الدّنيا وخلاصنا في الآخرة. وإذا كنتم تجتمعون الآن في مجلس الإمام الحسين - سلام الله عليه - أيضاً الحسين خرج من أجل العدل، ومن أجل مواجهة الظلم حتى لا يظلم أحداً...

شعار يوم القيامة: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}. {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}.

لذلك، علينا أن تكون شخصيّتنا الإسلاميّة التي نتقرَّب بها إلى الله، والتي نرجو بها جنّة الله، ونبتعد من خلالها عن نار جهنَّم، هي إقامة العدل.

صلّ ما شئت، وصم ما شئت، وحجّ ما شئت، ولكن إذا كنت ظالماً، فلن يقبل الله منك كلّ ذلك، سواء كنت ظالماً لزوجتك، أو لولدك، أو لجارك، أو للمجتمع من حولك...

أكثر ما يدخل الشّيطان معنا، في قصَّة الظلم، عندما يشعر الواحد منا بأنّه صار أقوى من الآخر، وقادراً على ظلمه.. هنا يدخل الشّيطان، ويقول له استعمل قوّتك وافرضها على الإنسان الآخر، واضطهده وصادر حقوقه.. أليس كذلك؟

من هو المؤمن؟!

في حديثٍ عن الإمام الباقر(ع) يحدِّد فيه مَن المؤمن.. وأنت إذا سألت أيَّ أحد مَن هو المؤمن؟ تكون الإجابة هو الَّذي يصلِّي ويصوم ويحجّ ويعتمر.. هذه أسس، ولكنَّ لها أهدافاً أيضاً {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} و"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً". وأيّ منكر أعظم من الظلم؟! يقول(ع): "إنما المؤمن الذي إذا رضي، لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل، وإذا سخط، لم يخرجه سخطه من قول الحقّ"... نحن نلاحظ أنَّ البعض عندهم عبادة للشخصيَّة، فإذا أحبّوا أحداً رفعوه إلى السَّماء، وإذا كرهوه أنزلوه إلى الأرض. ولكنَّ العدل يقتضي أنّك إذا كرهت إنساناً، أن لا تزيد عن صفاته شيئاً، ولا تنقصه من صفاته الإيجابيَّة شيئاً.

شخصيّة المسلم

أختم كلامي {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}... وكما أحبّ لنفسي أحبّ لكم، لأنّ الله سيحتجّ عليكم بكلّ ما سمعتموه {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَ}. لذلك، ما سمعتموه هو حجّة من الله عليكم يوم القيامة.

الإمام زين العابدين(ع) كيف يصوِّر لنا شخصيّة المسلم؟ كان يقول في الصحيفة السجاديّة – وأنا أريدكم أن تقرأوها، ففيها ثقافة وتوجيه، وفيها خطوط اجتماعية وروحيّة: "اللّهمّ وارزقني التحفّظ من الخطايا - أن لا أقع في الخطيئة - والاحتراس من الزّلل فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فِي حَالِ الرِّضَا والغضب، حتى أكون بما يرد عليَّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك – يهمّني رضاك يا ربّ، ولتغضب الناس كلّها عليّ، كما قال رسول الله(ص): "إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي". علينا أن نعمل حساباً لله وليس للناس - على ما سواهما، في الأولياء والأعداء، - نطلب رضاك عند تعاملنا مع الأولياء والأصدقاء ومع الأعداء - حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليّي – الوليّ الصديق والقريب - من ميلي وانحطاط هواي – إذا عاش عدوّي معي، يقول فلان لا يظلم، لأنّه مؤمن ولا يأكل الحقّ. المؤمن لا يضيّع دينه على حساب أقربائه وأصدقائه...

هذه تعاليم الإسلام، وهذه الصفات الإسلاميّة..

فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ

هذه هي علاقتنا بالله وبرسول الله وبأئمّة أهل البيت(ع)؛ أن نعمل بما قالوه، وأن نسير بسيرتهم، وأن نقف عند مواقفهم.

"اللّهمّ اجعل محياي محيا محمّد وآل محمّد، ومماتي ممات محمد وآل محمّد". وكما نذكر في صلاة العيد: "اللّهمّ أدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد، وأخرجني من كلّ سوء أخرجت منه محمّداً وآل محمّد".

إذاً، علينا أن نسير بسيرته، وأن نتحرَّك معهم.

أيّها الإخوة، هذا هو معنى التشيّع، وهذا هو معنى الولاية: "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع".

نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم، إنّه أرحم الراحمين، والحمد لله ربّ العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*محاضرة عاشوراءئيَّة ألقاها سماحته في اللَّيلة السادسة، بتاريخ: 21/4/1999م.

جاء النبي(ص) إلى المدينة، وكان المجتمع مجتمعاً عشائرياً يقوم على العصبيّة العشائريّة، وكان اليهود يعملون على إثارة العصبيات بين أفراد المجتمع. ومن هنا، كانت الحروب متحركة بين العشيرتين الكبيرتين الأوس والخزرج، فما إن تهدأ، حتى يتدخّل اليهود من أجل أن يثيروها من جديد.

من العشيرة إلى الدولة

وجاء الإسلام، ودخل النّاس في دين الله، وهدأت روح العصبيَّة، والتقى الأوس والخزرج على الإسلام، وكان النبيّ(ص) يعمل من أجل أن يصنع لهذا المجتمع قاعدةً فكريّةً، يلتقي فيها المجتمع على فكرٍ واحدٍ يتجاوز الجانب العشائريّ إلى الجانب الحقوقي، بحيث يشعر كلّ واحد من أفراد المجتمع، بأنّه يعيش على أساس القاعدة التي تقول له: إنَّ لك حقّاً وعليك حقّ، فلك حقّ على الناس من حولك بقدر ما تتّصل حياتك بحياتهم، وللناس عليك حقّ بقدر ما تلتقي قضاياهم بحياتك، لأنّ المجتمع، أيّها الأحبّة، إذا انطلق من قاعدة النظام الذي لا يفرض بالقوّة، ولكنه ينطلق من إيمان الناس به، ومن إحساسهم بأنّه يمثّل علاقتهم بالله، باعتبار أنه شريعة الله، فإنّ من الطبيعي أن يتحرّك الناس نحو الالتزام به بروحيّة متحمّسة، أكثر مما لو كان مفروضاً بالقوّة.

وهذا هو الفرق بين الدّولة التي تنشأ من عمق إيمان الناس، بحيث يرى الناس إيمانهم في حركة الدّولة، وبين الدّولة الّتي تنشأ بفعل القوَّة التي يفرضها أصحاب القوَّة على الناس. هناك فرقٌ بين قانونٍ تشعر بأنَّه خيارك، وبين قانونٍ تشعر بأنّه خيار الآخرين...

كان النبيّ(ص) يعمل على أن يخرج المجتمع من القانون الذي يتحرَّك من موقع القوَّة، فرئيس القبيلة هو الذي يحكم كلّ أفراد القبيلة، وهكذا نجد أنَّ الأغنياء يسيطرون على الفقراء، فلا حقَّ للفقراء مع الأغنياء، ورأينا أنّ المرأة لا حقّ لها أمام الرجل، فهي مجرّد كمية مهملة في حياة الرجل، حتى إنّ الناس كانوا يرثون النساء كما يرثون أيّ شيء آخر، وحتى إنّ الولد الأكبر كان يرث نساء أبيه، ويعتبرهن زوجاته. لذلك نزلت الآية {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَف}.

كانت القيم قيم الجاهليّة، فجاء الإسلام، وأراد أن يصنع للأمَّة قيماً جديدة تنطلق من إنسانيّة الإنسان، فالإسلام كان يريد أن يقول للإنسان احترم إنسانيّتك باحترام إنسانيّة الآخر، ولا تفرض نفسك على الآخر إلا من خلال الحقوق التي فرضها الله لك كما فرضها عليك، بحيث إن علاقتك مع الناس الآخرين تنطلق من خلال الحقوق التي وضعها الله سبحانه وتعالى.

العدل أساس الحكم

وبذلك، بدأت بداية الدّولة. ومن الطبيعي أنَّ المجتمع العربي لم يكن يضمّ دولة... لم تكن هناك أيّ حالة تنظيميّة للدّولة.. كان الواقع العشائريّ والقيم الجاهليّة هما اللذان يحكمان مسيرة الناس، ويحفظان توازن المجتمع.

وأراد النبيّ أن يبدأ الإسلام بالقيم الأساسيَّة للمسلم التي تمثِّل إنسانيَّة الإنسان، وأراد أن يخطِّط للشَّريعة في هذا الاتجاه، حتى يشعر النّاس بأنهم يعيشون في مجتمعٍ له قيادة وله نظام في الحرب وفي السِّلم وفي العلاقات الاجتماعيّة... وهكذا نرى أنَّ القيمة الإنسانيّة الكبيرة التي تحكم كلّ ما جاء به الإسلام من مفاهيم ومن تشريعات على مستوى التصرّفات الفرديّة، وعلى مستوى العلاقات الاجتماعيّة، وعلى كلّ المستويات، هي العدل، لأنَّ الله سبحانه وتعالى بما أنزله من كتابه، علّمنا أنَّ العدل هو أساس الديانات، وأنَّ الله أرسل نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّداً، كما أرسل أنبياء محلّيين هنا وهناك، وأنزل كتباً وشرائع من أجل هدف واحد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. فحركة الدّيانات منذ أوَّل ديانة إلى آخر ديانة، وهي الإسلام، هي حركة عدل، من أجل أن يقوم الناس بالقسط، فيقضي كلّ واحد للآخر حقّه، ولا يظلمه حقّه.

إقرار الحقوق

وقد حدّد الإسلام للناس حقوقهم في داخل الأسرة؛ حقّ الزوج على زوجته، وحقّ الزوجة على زوجها، وحقّ الأب على أولاده، والأمّ على أولادها، وحقّ الأولاد على آبائهم وأمّهاتهم، وحقّ الجار على جاره، وحقّ الحاكم على المحكومين، ومن الطبيعي أن الحقّ الأوّل هو حقّ الله على عباده، وليس لعباده أيّ حقّ عليه.

لهذا، بعض الناس يقول مثلاً: اللّهمّ بحقّ محمد وعليّ، أو بحقّهم عليك... والواقع أنّه ليس لهم حقّ على الله، ولكنّ الله بفضله جعل لهم حقّاً، ولذا نقول: بحقّهم الذي فرضته على نفسك.. ليس هناك لأحد حقّ على الله، لأنَّ الله هو الخالق للنّاس كلّهم وللكون كلّه، وهو الذي جعل الحقوق لأنبيائه وأوليائه، وهو الّذي جعل الحقوق لنا. يعني الآن عندما نطيع الله سبحانه وتعالى، هل نستحقّ على الله شيئاً في طاعتنا؟ لا نستحقّ. لماذا؟ لأننا لا نملك شيئاً لنا، لأنّنا عندما نطيع الله، بماذا نطيعه؟ أوّلاً إيماننا بعقلنا؛ من الّذي خلق لنا العقل؟ بلساننا؛ من الذي خلق لنا اللّسان؟ بأيدينا.. بأرجلنا.. بالأشياء التي بين أيدينا..كلُّها لله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}. فلنفتّش عن شيء لنا مئة في المئة، لن نجد.. ولكنّ الله تفضّل علينا، فجعل لنا حقّاً إذا أطعناه، حقّاً في الثواب.

فحقّنا في الثّواب، حقنا في الجنّة، حقّنا في زيادة النّعمة... هذا الحقّ أتى من الله سبحانه وتعالى، هو الّذي جعله لنا، وإلّا ليس هناك أيّ حقّ لنا على الله. لا أحد له حقّ على الله، لكنه سبحانه هو الذي جعل الحقّ لأنبيائه ولأوليائه وما إلى ذلك.

ولذلك، عندما كان الإمام عليّ(ع) يريد أن يبعدنا عن المعصية بطريقة أخرى، فقال ما مضمونه: إذا أردت أن تعصي الله، فخذ حريتك، ولكن اعص الله بشيء لم ينعم به عليك.. ولن نستطيع، باعتبار أنَّ كلّ شيء من الله سبحانه وتعالى.

لذلك، فإنّ الناس الّذين يعصون الله، ليست القصّة فقط معصيةً وعقاباً، بل إنّ هؤلاء لا إنسانيّة عندهم، لأنّهم يعصون الله بما أنعم به عليهم. هذا الواقع يصوّره الشاعر عندما يقول:

أعلّمه الرّماية كلّ يوم فلمّا اشتدّ ساعده رماني

وكم علَّمته نظم القوافي فلمّا قال قافية هجاني

لذلك، يقول الإمام عليّ(ع): "لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك، وبلاغة قولك على من سدّدك".

كيف نعصي الله بما أنعم علينا من نعم؟ وهذا دعاء الإمام زين العابدين(ع): "تتحبّب إلينا بالنعم ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل، وشرّنا إليك صاعد، ولم يزل ولايزال ملك كريم يأتيك عنّا في كلّ يوم بعمل قبيح، فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمك، وتتفضّل علينا بآلائك".

إنّ الله قرَّر الحقوق للناس على بعضهم البعض، وأراد لكلّ إنسان أن يعطي للإنسان الآخر ما جعله الله عليه من حقّ.

هناك حقوق أساسيّة فرضها الله على الناس، وهناك حقوق الناس على بعضهم البعض، وهو الحقّ التعاقدي، فعندما تتعاقد مع إنسان، فبلحاظ الحالة التعاقديّة، تكون قد جعلت لهذا الإنسان حقّاً عليك من خلال التزامك معه، وصار له حقّ عليك من خلال التزامه معك... هذه من الحقوق التعاقديّة كحقّ الزواج.. حقّ الأب على الأولاد، وحق الأولاد على الأب، ليست من الحقوق التعاقدية، ولكنها حقوق إلهيّة {وبالوالدين إحسان}. لكنّ ما بين الزوج والزوجة حقّ تعاقدي.. أنت عندما تتزوج، أو البنت عندما تتزوّج، فمعناها أنها أعطتك عهداً على نفسها بأن تقوم بما لك من حقّ عليها في الزواج، وأنت أعطيتها هذا الحقّ كذلك.

ولذلك، عبَّر الله تعالى عن الزواج بقوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظ}. هو ليس عهداً عادياً، بل هو ميثاق مؤكّد، لأنّ هناك فرقاً بين عقد الزواج والعقود الأخرى، فالعقود الأخرى قد تتعلق ببضاعة مثلاً وتشتريها، أمّا عقد الزواج، فهو عقد اندماج، بحيث يقول الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}، بحيث إنّ الإنسان يندمج في حياته مع الإنسان الآخر. والحقوق الروحية في الزواج أعظم من الحقوق القانونيّة. وهكذا حقوق الناس على بعضهم البعض، وعندنا كما قلنا، الحقوق المادية والقانونية والروحية، وحقوق الإخوان على بعضهم البعض، وما إلى ذلك.

مبدأ العدالة للجميع

فالإسلام أكّد أن العدالة هي عنوان المجتمع المسلم، وعنوان الفرد المسلم، وعنوان الدولة المسلمة، سواء في حياتهم داخل الواقع الإسلامي أو خارجه.

ومبدأ العدالة في الإسلام ليس فيه كافر ومسلم، ليس هناك قريب وبعيد، ليس هناك عدوّ وصديق .

العدالة لكلّ صاحب حقّ حتى لو كان كافراً، وحتى لو كان عدواً لك، وحتى لو كان بعيداً عنك.

القرآن كان واضحاً: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} قل كلمة الحقّ حتى على قريبك: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْط – القسط تعني العدل – شُهَدَاء للهِ – عندما تشهد فتذكّر أنّ الشهادة لله – وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ – اشهد على نفسك إذا كان الحقّ عليك – أَوِ الْوَالِدَيْنِ – اشهد على أبويك إذا كان الحقّ عليهما – وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُو}...

لا تحلّ مشكلة الفقير بأن تشهد له بالزّور مثلاً، ثم مع الأعداء، سواء كان عدواً في الدين أو في المذهب، أو عدواً في السياسة، أو كان عدواً في العصبيات العائلية أو العصبيات الاجتماعية والحزبية {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ – عداوة وبغض - قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. لا تمنعنّكم العداوة والخلافات من أن تعدلوا، ولو مع أعدائكم...

هذا هو الخطّ الإسلامي؛ على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع، وعلى مستوى الدولة. هذا موجّه إلى الحاكم، بأنّ على الدّولة أن تعدل مع الدّولة الأخرى في ضمن التعاقدات التي بينهما، حتى لو كانت الدولة الأخرى عدوّاً. دعوا العداوة جانباً، ودعوا خطّ العدل يتحرّك.

وهكذا على مستوى العلاقات.. بعض الناس يستحلّون أموال الكافر، ويتحركون على أساس بعض الفتاوى، ولكنّ الله يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ – عن الكافرين - وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

هذا الإنسان الكافر الّذي لم يقاتلك في دينك ليخرجك عن دينك، أو حقداً على دينك، ولم يخرجك من دارك، عليك أن تحسن إليه، وأن تقسط معه، أي أن تعدل معه. وهل من العدل أن تأخذ ماله أو تعتدي على عرضه أو على نفسه؟!

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ – أعلنوا الحرب عليكم، سواء أعلنوها بشكل مباشر أو غير مباشر – وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا - ساعدوا - عَلَى إِخْرَاجِكُم أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

ولأنَّ مجتمعنا مجتمع الظلم؛ ظلم في البيت، وظلم في الأسواق، وظلم في المجتمعات، وظلم في الأحزاب والعوائل والعشائر، وظلم القويّ للضَّعيف... وليس مجتمع العدل، لذلك نحتاج، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش قيمة العدل كقيمةٍ جعلها الله الصِّلة بينه وبين عباده، وهي الرّابطة التي تنظّم للمجتمع قواعده، وتجعل المجتمع يعيش في سلام.

وسلام المجتمع لا يأتي من فوق، بل يأتي من عمق إحساس الإنسان بحقّ الآخر على أن يكون أميناً من خلالك، بحيث لا تحتاج أن تأمن زوجتك في البيت على نفسها منك، أو أن يأمن جارك أو أن يأمن من تبايعه وتشاريه وتتعاقد معه على نفسه من خلال القانون... لأنّ القوّة لا تدخل في كلّ مكان، ونقصد بها الدولة. يعني إذا ظلمت زوجتك، هناك زوجات لا يشتكين للقانون، فالدّولة لا تصل إلى كلّ مكان، لهذا قيل: "المسلم من سلِمَ المسلمون من يده ولسانه".

وفي الحديث الوارد عن أئمّة أهل البيت(ع): "إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ من أنبيائه في مملكة جبّار من الجبّارين، أن ائت هذا الجبّار فقل له: إني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين – حتى تحكم بالعدل، ولا أسمع صوت المظلومين ليلاً يقولون يا ربنا احكم بيننا وبين فلان فقد ظلمنا - فإنّي لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفّاراً."

حتى لو كان كافراً، فإنّ الله لا يقبل أن يظلم الإنسان في حقّه، وهذا الحديث موجود في كتاب الكافي، يرويه أئمة أهل البيت(ع).

أيّها الأحبَّة، هذا هو نداء الله، وهو نداء رسول الله ونداء عليّ(ع)... الإمام عليّ(ع) ذكر في تقريره الّذي قدَّمه إلى الله لماذا يطلب الحكم، ما هو الأساس لطلب عليّ(ع) الحكم؟ "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، وَلَا الْتِمَاسَ شيء مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأْمَنَ المظلومون من عبادك، وَتُقَامَ المُعَطَّلَة مِنْ حُدُودك".

يا ربّ، أنا أريد هذا الحكم، ليس لمنفعة شخصيَّة، ولا لطلب المال، بل حتى يأمن المظلومون من عبادك، بأن لا يظلمهم أحد. هذه كانت مشكلة عليّ(ع): "وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ – الكون كلّه - بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ...".

علينا أن نفكِّر في هذا .. لأن لا شيء يدخل النّاس إلى النار يوم القيامة كالظلم، وخصوصاً ظلم الضعيف: "إيَّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله". ظلم الضَّعيف أفحش الظلم.

ذاك الشّاعر يقول: تنام عينك والمظلوم منتبهٌ يدعو عليك وعين الله لم تنمِ

هذه المسألة هي خلاصنا في الدّنيا وخلاصنا في الآخرة. وإذا كنتم تجتمعون الآن في مجلس الإمام الحسين - سلام الله عليه - أيضاً الحسين خرج من أجل العدل، ومن أجل مواجهة الظلم حتى لا يظلم أحداً...

شعار يوم القيامة: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}. {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}.

لذلك، علينا أن تكون شخصيّتنا الإسلاميّة التي نتقرَّب بها إلى الله، والتي نرجو بها جنّة الله، ونبتعد من خلالها عن نار جهنَّم، هي إقامة العدل.

صلّ ما شئت، وصم ما شئت، وحجّ ما شئت، ولكن إذا كنت ظالماً، فلن يقبل الله منك كلّ ذلك، سواء كنت ظالماً لزوجتك، أو لولدك، أو لجارك، أو للمجتمع من حولك...

أكثر ما يدخل الشّيطان معنا، في قصَّة الظلم، عندما يشعر الواحد منا بأنّه صار أقوى من الآخر، وقادراً على ظلمه.. هنا يدخل الشّيطان، ويقول له استعمل قوّتك وافرضها على الإنسان الآخر، واضطهده وصادر حقوقه.. أليس كذلك؟

من هو المؤمن؟!

في حديثٍ عن الإمام الباقر(ع) يحدِّد فيه مَن المؤمن.. وأنت إذا سألت أيَّ أحد مَن هو المؤمن؟ تكون الإجابة هو الَّذي يصلِّي ويصوم ويحجّ ويعتمر.. هذه أسس، ولكنَّ لها أهدافاً أيضاً {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} و"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً". وأيّ منكر أعظم من الظلم؟! يقول(ع): "إنما المؤمن الذي إذا رضي، لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل، وإذا سخط، لم يخرجه سخطه من قول الحقّ"... نحن نلاحظ أنَّ البعض عندهم عبادة للشخصيَّة، فإذا أحبّوا أحداً رفعوه إلى السَّماء، وإذا كرهوه أنزلوه إلى الأرض. ولكنَّ العدل يقتضي أنّك إذا كرهت إنساناً، أن لا تزيد عن صفاته شيئاً، ولا تنقصه من صفاته الإيجابيَّة شيئاً.

شخصيّة المسلم

أختم كلامي {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}... وكما أحبّ لنفسي أحبّ لكم، لأنّ الله سيحتجّ عليكم بكلّ ما سمعتموه {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَ}. لذلك، ما سمعتموه هو حجّة من الله عليكم يوم القيامة.

الإمام زين العابدين(ع) كيف يصوِّر لنا شخصيّة المسلم؟ كان يقول في الصحيفة السجاديّة – وأنا أريدكم أن تقرأوها، ففيها ثقافة وتوجيه، وفيها خطوط اجتماعية وروحيّة: "اللّهمّ وارزقني التحفّظ من الخطايا - أن لا أقع في الخطيئة - والاحتراس من الزّلل فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فِي حَالِ الرِّضَا والغضب، حتى أكون بما يرد عليَّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك – يهمّني رضاك يا ربّ، ولتغضب الناس كلّها عليّ، كما قال رسول الله(ص): "إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي". علينا أن نعمل حساباً لله وليس للناس - على ما سواهما، في الأولياء والأعداء، - نطلب رضاك عند تعاملنا مع الأولياء والأصدقاء ومع الأعداء - حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليّي – الوليّ الصديق والقريب - من ميلي وانحطاط هواي – إذا عاش عدوّي معي، يقول فلان لا يظلم، لأنّه مؤمن ولا يأكل الحقّ. المؤمن لا يضيّع دينه على حساب أقربائه وأصدقائه...

هذه تعاليم الإسلام، وهذه الصفات الإسلاميّة..

فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ

هذه هي علاقتنا بالله وبرسول الله وبأئمّة أهل البيت(ع)؛ أن نعمل بما قالوه، وأن نسير بسيرتهم، وأن نقف عند مواقفهم.

"اللّهمّ اجعل محياي محيا محمّد وآل محمّد، ومماتي ممات محمد وآل محمّد". وكما نذكر في صلاة العيد: "اللّهمّ أدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد، وأخرجني من كلّ سوء أخرجت منه محمّداً وآل محمّد".

إذاً، علينا أن نسير بسيرته، وأن نتحرَّك معهم.

أيّها الإخوة، هذا هو معنى التشيّع، وهذا هو معنى الولاية: "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع".

نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم، إنّه أرحم الراحمين، والحمد لله ربّ العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

*محاضرة عاشوراءئيَّة ألقاها سماحته في اللَّيلة السادسة، بتاريخ: 21/4/1999م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية