الرّسول(ص) يبني المجتمع على دعائم العدل

الرّسول(ص) يبني المجتمع على دعائم العدل

كنّا بالأمس نعيش مع النبيّ محمّد(ص) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه في المدينة، وهو يؤسّس المجتمع الإسلامي الجديد كخطوة في تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة، وقلنا إنّ النبيّ(ص) ركّز قواعد هذا المجتمع وهذه الدولة على أساس العدالة لكل الناس، فقصة العدالة ليست قصة صفة الإنسان الذي تعدل معه، بل قصة حقّه.

كلّ من كان صاحب حقّ فالعدل له، وكلّ من لم يكن صاحب حقّ أو من كان عليه الحقّ، فالعدالة ضدّه.

اليهود يفتنون بين المسلمين
ونحن نلاحظ أن النبيّ(ص)، كما ذكرنا، عندما جاء إلى المدينة، كان اليهود يمثّلون جزءاً من مجتمع المدينة، وكان هؤلاء يحدّثون أهل المدينة ليستعلوا عليهم، أنه سيأتي نبي وسنكون نحن أتباعه، وستكون لنا الحظوة عنده: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}، وبدأوا يكيدون للنبيّ. حتى إنّ النبي بعد أن أخذ عليهم المواثيق، حاولوا أن يثيروا المشاكل في داخل ذلك المجتمع، من خلال إعادة العصبيّات والمشاكل بين أهل المدينة الّذين عاشوا حروباً كثيرة سابقة، ولكنّ الإسلام ألغى هذه الحروب، وجمعهم على كلمة الإسلام.

فكان اليهود يحاولون أن يشقّوا عصا هذا المجتمع، وأن يعيدوه ليكون مجتمع العصبيّات، لتسقط دعوة الإسلام في داخل مجتمع العصبيّات، لأنّ أيّة دعوة، أيّها الأحبّة، سواء كانت دعوة دينية أو سياسية، في أيّ موقع من المواقع، فإنها لا تستطيع أن تنجح عندما يعيش المجتمع عصبيّاته؛ عصبيّاته العائليّة أو الفئويّة الأخرى، لأن العصبية تأكل الفكر. المتعصبون لا يملكون فكراً ينفتحون به على الحقيقة، ولأنّ العصبية تأكل طهر الإنسان، فالمتعصبون يعيشون في وحول من أحاسيسهم ومشاعرهم. والعصبيّة تمنع الإنسان من السير على الخطّ المستقيم... لذلك، أراد اليهود أن يثيروا العصبية بين المسلمين، وقد حدث ذلك في أوائل هجرة النبيّ(ص) إلى المدينة، وقد خلّد القرآن هذه المسألة.

قصّة الفتنة
ما هي القصّة التي حدثت؟

مرّ أحد كبار اليهود على مجتمع الأنصار في المدينة من الأوس والخزرج؛ العشيرتين الكبيرتين اللتين عاشتا عشرات السنين في قتال، فرآهم مجتمعين متحابّين منفتحين على أساس الإسلام، فغاظه ذلك، فدعا أحد شباب اليهود وقال له: اجلس إليهم، وحاول أن تقرأ بعض الشعر الذي كان يطلقه بعض شعراء الأوس ضدّ الخزرج، ثم بعض شعراء الخزرج ضدّ الأوس، لتذكّرهم وتثير عصبيّاتهم، وكيف انتصر هؤلاء على هؤلاء، وكيف قال شاعرهم ضدّ هؤلاء. ..

وهكذا كان، إذ جاء إليهم وجلس، واللّيل طويل، وبدأ يقول: والله لقد أحسن شاعر الأوس عندما انتصر الأوس على الخزرج، وقرأ الشعر. هنا انتفض شخص من الخزرج: لكنَّ شاعرنا يقول كلاماً آخر ضدّ الأوس عندما انتصرنا عليهم... وبدأ هذا يقرأ الشّعر ويستعيد انتصارات عشيرته على أولئك، وهكذا، حتى تنادوا: السّلاح السّلاح!...

وانطلقت العصبيات الكامنة في النفوس التي غطّاها الإسلام. ولذلك، لم يشعروا بأنفسهم إلا وقد تنادوا: السلاح السلاح... جاء الخبر إلى رسول الله(ص): أدرك الأنصار، فقد بدأت الفتنة فيما بينهم.

الردّ القرآنيّ

جاء النبي(ص) بكلّ هيبته ووقاره وروحانيّته ومحبته، وكان(ص) من صفاته، أنه عندما يقبل على المجتمع، يرى الناس المحبّة والروحانية تفيض من وجهه، ولذلك، عندما أقبل إليهم وقال لهم: أكفراً بعد إيمان؟ وبدأ يتحدَّث، خجلوا من النبي(ص)، وألقوا سلاحهم، ونزل جبرائيل بهذه الآيات من سورة آل عمران.

وأنا أنصح دائماً، أيّها الأحبَّة، عندما تقرأون القرآن، أن تتفهّموا الموارد أو المناسبات التي نزلت فيها الآيات، حتى تعرفوا كيف كان القرآن يتحرَّك في حياة المسلمين، بحيث كان يواكب كلّ قضاياهم ومشاكلهم. ولهذا، لم ينزل القرآن جملةً واحدة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}، حتى نثبت المسلمين عندما تأتيهم أيّ مشكلة... فالناس يعيشون المشكلة الحارّة، ويأتي القرآن ليبرّد المشكلة.

ولذلك، نزلت هذه الآيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}. اتّقوا الله كما يجب أن يتَّقى، اتقوا الله من حيث إنّه ربّكم وخالقكم وموجدكم والمنعم عليكم، اتّقوه وراقبوه واخشوه، ولا تستسلموا لكلّ من يريد أن يبعدكم عن تقوى الله بالعصبيّات التي يثيرها بينكم من أجل أن يعيدكم إلى الماضي.

ولهذا، أيّها الأحبّة، من خلال هذه القصَّة، نحن هنا لنتعلّم ولنتغيّر، وليس لنبكي فقط. نريد تغيير نمط حياتنا، ولتكون ذهنيّاتنا قرآنيّة، وعقولنا وقلوبنا قرآنيّة، حتى نعيش كما يحبّ الله لنا أن نعيش...

هذا كلّ جهدي، أيّها الأحبَّة، أنا معكم منذ أكثر من 30 سنة، وكلّ جهدي هو أن أعمل معكم حتى نكون مسلمين، وهذا كلام الله وليس كلامي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}.

تحرّكوا في كلّ حياتكم على خطّ الإسلام؛ في كلماتكم، في أعمالكم، في علاقاتكم، في مواقعكم، وفي مواقفكم... حتى إذا جاءكم الموت، جاء وأنتم مسلمون. لأن لو فرضنا عشتم مع عصبيّاتكم، مع غرائزكم، ربما يأتيكم الموت وأنتم متعصّبون لا مسلمون.

احذروا مثيري العصبيّات
لذلك، علينا الانتباه أنّ الكثيرين من الناس، من الداخل ومن الخارج، يريدون أن يثيروا بيننا العصبيّات العائليّة، والعصبيّات الحزبيّة، والعصبيّات السياسية والمذهبيّة والطائفية، حتى نعيش كما عشنا أثناء الحرب اللبنانيّة؛ مذهب يقاتل مذهباً، حزب يقاتل حزباً، طائفة تقاتل طائفة... تقاتلنا، وسفكنا الكثير من الدماء، وأجرينا الدماء أنهاراً، ودمّرنا البيوت بأيدينا.. ما هي النّتيجة؟ تعالوا لا غالب ولا مغلوب.

فمن البداية، لماذا لا نكون لا غالب ولا مغلوب؟!

منذ ذاك الوقت ونحن نقول: يا جماعة، آخر الأمر ستصلون إلى هذه النتيجة، فاعملوا عليها من الآن، آخر الأمر ستتحاورون، تحاوروا من الآن، ولكنّها العصبيات.. الإمام الباقر(ع) يقول: "أيّ شيء أشدّ من الغضب؟! إنّ المرء ليغضب فيقتل النفس المحترمة...". هذه هي حركة الانفعال...

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}.

كتاب الله هو حبلٌ ممدودٌ من السَّماءِ إلى الأرض، {واعتصمُوا بحبْلِ الله جميعاً}، تمسَّكوا به، بتعاليمه، بمفاهيمه، بأحكامه، بكلّ ما ينفتح به عليكم، {ولا تفرّقوا..} ليكن القرآن هو قاعدة الوحدة التي توحِّدكم، ليكن القرآن المعتصَم الذي تعتصمون به، اعتبروا القرآن هو الأساس للحلِّ وللمشاكل فيما بينكم.

{وَاذْكُرُواْ} يذكّر المسلمين كيف كانوا أعداء فأصبحوا بنعمته إخواناً. ونحن كنا كذلك، ولكنّنا الآن إخوان، والحمد لله. وعندما أصبحنا منفتحين على بعضنا البعض، هناك من يحاول أن يعيد المسألة إلى الوراء. وهذا الذي أريد أن أذكِّر به للمرة الثانية؛ هذه المشاكل التي تحدث في القرى والضاحية اليوم، اختلف هذا الحزب وهذه الحركة، وهذه الجماعة وتلك الجماعة على يافطة وعلى كذا، ادعوهم ليسمعوا هذه الآية، {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}.

فالتّآلف بينكم هو من نعم الله عليكم، فلا تكفروا بنعمة الله بإعادة هذه الأحقاد والمنازعات.. {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ}، على حدّ حفرة من النار {فأنقذكم منها} بالإسلام {كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تهتدون}.

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، لتكن منكم أمّة عقلاء، نصحاء، واعون، ينظرون بعيداً، يفهمون قضيّة التحدّيات التي تواجه الأمّة ...{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

هذه وصيّة الله ووصيّة النبيّ ووصيّة عليّ والحسن والحسين وأولادهما، وصيّتهم: لا تسمعوا لكلّ من يريد أن يفرّقكم، لكلّ من يريد أن يثير الفتنة بينكم، لا تسمعوا لكلّ من يريد أن يشغلكم بالهوامش.

بالتفرقة ينتصر العدوّ
اليهود حاولوا أن يقسموا المسلمين في بداية الدّعوة، وهم يعملون على أن يقسموا المسلمين في هذه المرحلة وغيرها.

لم ينتصر العدوّ علينا بالسّلاح، فالمقاومة البطلة وقفت في وجهه، وهي تهزمه بين وقتٍ وآخر، ولكن أخشى أنَّ اليهود بدأوا ينتصرون علينا بالتفرقة، بإثارة القضايا الصغيرة، بإثارة أحقاد صغيرة، أهداف صغيرة، هوامش صغيرة...

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ}. هذا نداء؛ نداء سياسي، نداء اجتماعي، نداء إسلامي... دائماً اذكروا هذه المسألة: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}. لا تستمعوا إلى أيّ وسواسٍ خنّاسٍ يحاول أن يفتن بينكم. وكم عندنا من الوسواسين الخنّاسين! الله يقول: {... مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}. فكلّ من يأتي ويرمي كلمة أمامك حتّى تحقد على مؤمن، وحتى يثير فتنة ومشكلة، اعرف أنّه وسواس خنّاس، وإن صام وصلّى، لأنّ المؤمن لا يقوم بهذا.

عدل النبيّ(ص) مع اليهود
تعالوا لنرى كيف تعامل النبيّ(ص) مع اليهود.

هناك قصَّة حدثت، أنزل الله فيها أربع عشرة آية، من أجل أن يبرِّئ يهوديّاً من سرقة. فقد حدثت سرقة في المدينة لبعض المسلمين، وكان السّارق مسلماً، وكانت كلّ الدلائل والقرائن تدين هذا المسلم.

ولكنَّ عشيرته اجتمعت، واستصعبت أن تظهر أمام النبيّ(ص) بأنَّ السارق من بينهم، وهذا عندهم عار. فما الحلّ؟ جلس العقلاء والكبار من العشيرة لحلّ المشكلة، وخلصوا إلى أن يكون الحلّ باتهام يهوديّ بالمسألة، والقيام بوضع بعض العلامات التي تدينه، باعتبار أنّ القضيّة عندما تكون بين مسلم ويهوديّ، فالنبيّ سيكون مع المسلم في تصوّرهم.

رتَّبوا القضيّة بشكل مركَّز، وكانت كلّ الدلائل الجديدة تجهَّز لاتهام اليهودي...

هنا، أنزل الله سبحانه وتعالى جبرائيل على النبيّ(ص)، وبيَّن له المسألة. والنبيّ(ص) عندما يقضي بين النّاس، يقول لهم: "إنما اقضي بينكم بالبيِّنات والأيمان"، أنا لا أقضي بعلمي، أنا أقضي بحسب ما يقدَّم لي من معطيات. "ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجَّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحقِّ أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النّار".

فالله تعالى قال له إنّ هذه المعطيات التي قدِّمت إليك هي معطيات خاطئة، والجماعة ركَّبوا المؤامرة ورتّبوا المسألة. فقد أراد الله أن يظهر الحقَّ مع اليهودي ضدَّ هذا المسلم، وهكذا كان.

فالنبيّ(ص) بعد أن سدَّده الوحي، حكم على هذا المسلم وبرّأ اليهودي. ولنقرأ، ولو بشكل سريع، الآيات، لنعرف كيف أنزل الله عزَّ وجلَّ أربع عشرة آية موجّهة إلى النبيّ والمسلمين، يركّز فيها عدّة مبادئ من أجل إقامة العدل لمصلحة اليهودي ضدّ المسلم... أيّ عدالة أعظم من هذه العدالة؟!

هل نحن مستعدّون لنعمل هكذا؟! نصلّي ونصوم ونحجّ، ولكنّنا لا نحكم بهذا الشّكل:

{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ – لأنّ الحقّ هو الأساس الذي أراد الله للناس أن يسيروا عليه...

– لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً – الخائن هو الذي لا يكون أميناً، سواء خان مالياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً أو سياسياً أو اقتصادياً... لا تدافع عنه ولو كان أقرب الناس إليك.

– وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً - النبيّ معصوم لا يخطئ، ولكنّ الله أراد أن يعطي الخطّ للنّاس، الإمام الباقر(ع) يقول: "نزل القرآن على طريقة إيّاك أعني واسمعي يا جارة".

القرآن يوجّه الخطاب إلى النبيّ، ولكن المقصود فيه الناس الآخرون.

– وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ – بخيانتهم للمجتمع، بانحرافهم عن الخطّ – إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً – لا يحبّ الله الخونة، والمؤمن هو الذي يحبّ من يحبّه الله، ويكره من يكرهه الله...

– يسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ – يغلقون الأبواب لترتيب الخطّة لمصلحة الخائن السّارق.

- وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ – وهذا موجَّه إلينا في كثير من الحالات- وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ – يقرّرون الكلام الذي لا يقبله الله - وكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً – {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور}... عند الموت سنسأل:

ولو أنّا إذا متنا تُرِكنا لكانَ المَوْتُ راحَة َ كُلِّ حَيِّ
ولكنّا إذا متنا بُعثنا ونُسأَل بعد ذا عن كلّ شيِّ
– هَا أَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ –"أنظر مرّة عن يميني، وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، لكلّ امرئ يومئذٍ منهم شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذٍ عليها غبرة...".

– أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا – ليس في القيامة مكتب محاماة ليدافع عنك وتلجأ إليه.

– وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا – الله فتح لنا الباب، إذا ظلمت نفسك بالمعصية والذّنب، ووقعت في الخطيئة، فقل: اللّهم اغفر ذنبي، اللّهمّ أتوب إليك. فالله فتح لنا باب التوبة بأوسع مما في السّماء والأرض. لا تتعقَّد، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}. وفي آية أخرى {ويحبّ التوّابين}.

– ومَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً – ليس هناك شرف العائلة وشرف البلد، كلّ واحد يحمل شرفه لنفسه.. نسمع كثيراً: فلان أخطأ وفلانة أخطأت ومرّغا شرف العائلة!! المسؤوليَّة في الإسلام فرديّة {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

هذه كلّها مبادئ إسلاميَّة تنظِّم المجتمع وتنظِّم العلاقات والمسؤوليَّات، وهذا ما يجب، أيّها الأحبَّة، أن نضعه في عقولنا، حتى تكون عقولنا تحمل قيماً إسلاميّة إنسانيّة تجعلنا نعيش في الحياة وندرك حدود مسؤوليَّات بعضنا البعض.

– وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً - البهتان هو أن تنسب إلى غيرك ما لم يفعله، والبهتان أشدّ من الغيبة.

– وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ – بحيث عرَّفك الحقيقة - لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ – أن يقدِّموا لك المعطيات التي تدين اليهوديّ وهو بريء - وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}.

أن نكون الأمَّة العادلة!

أيّها الأحبَّة، هذه هي مسألة العدل في الإسلام، وهذا ما انطلق به رسول الله(ص) وأرادنا أن ننطلق به.

أن نكون الأمَّة العادلة مع كلّ أمَّة أخرى، عندما يكون الحقّ للأمم الأخرى عندنا، وأن نطالب بالعدل عندما يكون الحقّ لنا في هذا المجال. ولذلك، نحن عندما نقف ضدّ إسرائيل، ونطالب كلّ أمم العالم والأمم المتحدة أن تقف معنا ضدّها، لأنهم جاؤوا وظلموا الشعب الفلسطيني كلّه، بإخراجه من أرضه واضطهاده في داخل أرضه، ولأنهم ظلموا الشعوب العربيّة كلّها... فنحن عندما ننطلق في العالم، فلا ننطلق من حالة سياسية طارئة، بل إننا ننطلق في ذلك من حقٍّ تضمنه لنا كلّ الأديان وكلّ الحضارات، وما ضاع حقّ وراءه مطالب.

المهمّ أيّها الأحبّة، أن نبقى مع حقّنا مهما كانت الظروف، وقد قال الصحابي الجليل عمّار بن ياسر، وكان مع عليّ(عليه السلام) في صفّين، وقد هزم جيش عليّ في بعض الحملات، قال: والله لو هزمونا، لو ضربونا، حتى يبلغوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنَّا على الحقّ وأنهم على الباطل.

إنَّ صاحب الحقّ يبقى مع حقِّه، وليس في قانوننا الإسلامي أنَّ الحقَّ يسقط بمرور الزّمن، بل يبقى الحقّ ما بقي الزّمن، وما بقي إنسان ينطق بالحقّ، سواء كان الحقّ في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في الأمن والاجتماع {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

والحمد لله ربِّ العالمين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ألقاها سماحته في اللّيلة السّابعة من عاشوراء، بتاريخ 22/4/ 1999.

كنّا بالأمس نعيش مع النبيّ محمّد(ص) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه في المدينة، وهو يؤسّس المجتمع الإسلامي الجديد كخطوة في تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة، وقلنا إنّ النبيّ(ص) ركّز قواعد هذا المجتمع وهذه الدولة على أساس العدالة لكل الناس، فقصة العدالة ليست قصة صفة الإنسان الذي تعدل معه، بل قصة حقّه.

كلّ من كان صاحب حقّ فالعدل له، وكلّ من لم يكن صاحب حقّ أو من كان عليه الحقّ، فالعدالة ضدّه.

اليهود يفتنون بين المسلمين
ونحن نلاحظ أن النبيّ(ص)، كما ذكرنا، عندما جاء إلى المدينة، كان اليهود يمثّلون جزءاً من مجتمع المدينة، وكان هؤلاء يحدّثون أهل المدينة ليستعلوا عليهم، أنه سيأتي نبي وسنكون نحن أتباعه، وستكون لنا الحظوة عنده: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}، وبدأوا يكيدون للنبيّ. حتى إنّ النبي بعد أن أخذ عليهم المواثيق، حاولوا أن يثيروا المشاكل في داخل ذلك المجتمع، من خلال إعادة العصبيّات والمشاكل بين أهل المدينة الّذين عاشوا حروباً كثيرة سابقة، ولكنّ الإسلام ألغى هذه الحروب، وجمعهم على كلمة الإسلام.

فكان اليهود يحاولون أن يشقّوا عصا هذا المجتمع، وأن يعيدوه ليكون مجتمع العصبيّات، لتسقط دعوة الإسلام في داخل مجتمع العصبيّات، لأنّ أيّة دعوة، أيّها الأحبّة، سواء كانت دعوة دينية أو سياسية، في أيّ موقع من المواقع، فإنها لا تستطيع أن تنجح عندما يعيش المجتمع عصبيّاته؛ عصبيّاته العائليّة أو الفئويّة الأخرى، لأن العصبية تأكل الفكر. المتعصبون لا يملكون فكراً ينفتحون به على الحقيقة، ولأنّ العصبية تأكل طهر الإنسان، فالمتعصبون يعيشون في وحول من أحاسيسهم ومشاعرهم. والعصبيّة تمنع الإنسان من السير على الخطّ المستقيم... لذلك، أراد اليهود أن يثيروا العصبية بين المسلمين، وقد حدث ذلك في أوائل هجرة النبيّ(ص) إلى المدينة، وقد خلّد القرآن هذه المسألة.

قصّة الفتنة
ما هي القصّة التي حدثت؟

مرّ أحد كبار اليهود على مجتمع الأنصار في المدينة من الأوس والخزرج؛ العشيرتين الكبيرتين اللتين عاشتا عشرات السنين في قتال، فرآهم مجتمعين متحابّين منفتحين على أساس الإسلام، فغاظه ذلك، فدعا أحد شباب اليهود وقال له: اجلس إليهم، وحاول أن تقرأ بعض الشعر الذي كان يطلقه بعض شعراء الأوس ضدّ الخزرج، ثم بعض شعراء الخزرج ضدّ الأوس، لتذكّرهم وتثير عصبيّاتهم، وكيف انتصر هؤلاء على هؤلاء، وكيف قال شاعرهم ضدّ هؤلاء. ..

وهكذا كان، إذ جاء إليهم وجلس، واللّيل طويل، وبدأ يقول: والله لقد أحسن شاعر الأوس عندما انتصر الأوس على الخزرج، وقرأ الشعر. هنا انتفض شخص من الخزرج: لكنَّ شاعرنا يقول كلاماً آخر ضدّ الأوس عندما انتصرنا عليهم... وبدأ هذا يقرأ الشّعر ويستعيد انتصارات عشيرته على أولئك، وهكذا، حتى تنادوا: السّلاح السّلاح!...

وانطلقت العصبيات الكامنة في النفوس التي غطّاها الإسلام. ولذلك، لم يشعروا بأنفسهم إلا وقد تنادوا: السلاح السلاح... جاء الخبر إلى رسول الله(ص): أدرك الأنصار، فقد بدأت الفتنة فيما بينهم.

الردّ القرآنيّ

جاء النبي(ص) بكلّ هيبته ووقاره وروحانيّته ومحبته، وكان(ص) من صفاته، أنه عندما يقبل على المجتمع، يرى الناس المحبّة والروحانية تفيض من وجهه، ولذلك، عندما أقبل إليهم وقال لهم: أكفراً بعد إيمان؟ وبدأ يتحدَّث، خجلوا من النبي(ص)، وألقوا سلاحهم، ونزل جبرائيل بهذه الآيات من سورة آل عمران.

وأنا أنصح دائماً، أيّها الأحبَّة، عندما تقرأون القرآن، أن تتفهّموا الموارد أو المناسبات التي نزلت فيها الآيات، حتى تعرفوا كيف كان القرآن يتحرَّك في حياة المسلمين، بحيث كان يواكب كلّ قضاياهم ومشاكلهم. ولهذا، لم ينزل القرآن جملةً واحدة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}، حتى نثبت المسلمين عندما تأتيهم أيّ مشكلة... فالناس يعيشون المشكلة الحارّة، ويأتي القرآن ليبرّد المشكلة.

ولذلك، نزلت هذه الآيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}. اتّقوا الله كما يجب أن يتَّقى، اتقوا الله من حيث إنّه ربّكم وخالقكم وموجدكم والمنعم عليكم، اتّقوه وراقبوه واخشوه، ولا تستسلموا لكلّ من يريد أن يبعدكم عن تقوى الله بالعصبيّات التي يثيرها بينكم من أجل أن يعيدكم إلى الماضي.

ولهذا، أيّها الأحبّة، من خلال هذه القصَّة، نحن هنا لنتعلّم ولنتغيّر، وليس لنبكي فقط. نريد تغيير نمط حياتنا، ولتكون ذهنيّاتنا قرآنيّة، وعقولنا وقلوبنا قرآنيّة، حتى نعيش كما يحبّ الله لنا أن نعيش...

هذا كلّ جهدي، أيّها الأحبَّة، أنا معكم منذ أكثر من 30 سنة، وكلّ جهدي هو أن أعمل معكم حتى نكون مسلمين، وهذا كلام الله وليس كلامي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}.

تحرّكوا في كلّ حياتكم على خطّ الإسلام؛ في كلماتكم، في أعمالكم، في علاقاتكم، في مواقعكم، وفي مواقفكم... حتى إذا جاءكم الموت، جاء وأنتم مسلمون. لأن لو فرضنا عشتم مع عصبيّاتكم، مع غرائزكم، ربما يأتيكم الموت وأنتم متعصّبون لا مسلمون.

احذروا مثيري العصبيّات
لذلك، علينا الانتباه أنّ الكثيرين من الناس، من الداخل ومن الخارج، يريدون أن يثيروا بيننا العصبيّات العائليّة، والعصبيّات الحزبيّة، والعصبيّات السياسية والمذهبيّة والطائفية، حتى نعيش كما عشنا أثناء الحرب اللبنانيّة؛ مذهب يقاتل مذهباً، حزب يقاتل حزباً، طائفة تقاتل طائفة... تقاتلنا، وسفكنا الكثير من الدماء، وأجرينا الدماء أنهاراً، ودمّرنا البيوت بأيدينا.. ما هي النّتيجة؟ تعالوا لا غالب ولا مغلوب.

فمن البداية، لماذا لا نكون لا غالب ولا مغلوب؟!

منذ ذاك الوقت ونحن نقول: يا جماعة، آخر الأمر ستصلون إلى هذه النتيجة، فاعملوا عليها من الآن، آخر الأمر ستتحاورون، تحاوروا من الآن، ولكنّها العصبيات.. الإمام الباقر(ع) يقول: "أيّ شيء أشدّ من الغضب؟! إنّ المرء ليغضب فيقتل النفس المحترمة...". هذه هي حركة الانفعال...

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}.

كتاب الله هو حبلٌ ممدودٌ من السَّماءِ إلى الأرض، {واعتصمُوا بحبْلِ الله جميعاً}، تمسَّكوا به، بتعاليمه، بمفاهيمه، بأحكامه، بكلّ ما ينفتح به عليكم، {ولا تفرّقوا..} ليكن القرآن هو قاعدة الوحدة التي توحِّدكم، ليكن القرآن المعتصَم الذي تعتصمون به، اعتبروا القرآن هو الأساس للحلِّ وللمشاكل فيما بينكم.

{وَاذْكُرُواْ} يذكّر المسلمين كيف كانوا أعداء فأصبحوا بنعمته إخواناً. ونحن كنا كذلك، ولكنّنا الآن إخوان، والحمد لله. وعندما أصبحنا منفتحين على بعضنا البعض، هناك من يحاول أن يعيد المسألة إلى الوراء. وهذا الذي أريد أن أذكِّر به للمرة الثانية؛ هذه المشاكل التي تحدث في القرى والضاحية اليوم، اختلف هذا الحزب وهذه الحركة، وهذه الجماعة وتلك الجماعة على يافطة وعلى كذا، ادعوهم ليسمعوا هذه الآية، {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}.

فالتّآلف بينكم هو من نعم الله عليكم، فلا تكفروا بنعمة الله بإعادة هذه الأحقاد والمنازعات.. {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ}، على حدّ حفرة من النار {فأنقذكم منها} بالإسلام {كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تهتدون}.

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، لتكن منكم أمّة عقلاء، نصحاء، واعون، ينظرون بعيداً، يفهمون قضيّة التحدّيات التي تواجه الأمّة ...{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

هذه وصيّة الله ووصيّة النبيّ ووصيّة عليّ والحسن والحسين وأولادهما، وصيّتهم: لا تسمعوا لكلّ من يريد أن يفرّقكم، لكلّ من يريد أن يثير الفتنة بينكم، لا تسمعوا لكلّ من يريد أن يشغلكم بالهوامش.

بالتفرقة ينتصر العدوّ
اليهود حاولوا أن يقسموا المسلمين في بداية الدّعوة، وهم يعملون على أن يقسموا المسلمين في هذه المرحلة وغيرها.

لم ينتصر العدوّ علينا بالسّلاح، فالمقاومة البطلة وقفت في وجهه، وهي تهزمه بين وقتٍ وآخر، ولكن أخشى أنَّ اليهود بدأوا ينتصرون علينا بالتفرقة، بإثارة القضايا الصغيرة، بإثارة أحقاد صغيرة، أهداف صغيرة، هوامش صغيرة...

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ}. هذا نداء؛ نداء سياسي، نداء اجتماعي، نداء إسلامي... دائماً اذكروا هذه المسألة: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}. لا تستمعوا إلى أيّ وسواسٍ خنّاسٍ يحاول أن يفتن بينكم. وكم عندنا من الوسواسين الخنّاسين! الله يقول: {... مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}. فكلّ من يأتي ويرمي كلمة أمامك حتّى تحقد على مؤمن، وحتى يثير فتنة ومشكلة، اعرف أنّه وسواس خنّاس، وإن صام وصلّى، لأنّ المؤمن لا يقوم بهذا.

عدل النبيّ(ص) مع اليهود
تعالوا لنرى كيف تعامل النبيّ(ص) مع اليهود.

هناك قصَّة حدثت، أنزل الله فيها أربع عشرة آية، من أجل أن يبرِّئ يهوديّاً من سرقة. فقد حدثت سرقة في المدينة لبعض المسلمين، وكان السّارق مسلماً، وكانت كلّ الدلائل والقرائن تدين هذا المسلم.

ولكنَّ عشيرته اجتمعت، واستصعبت أن تظهر أمام النبيّ(ص) بأنَّ السارق من بينهم، وهذا عندهم عار. فما الحلّ؟ جلس العقلاء والكبار من العشيرة لحلّ المشكلة، وخلصوا إلى أن يكون الحلّ باتهام يهوديّ بالمسألة، والقيام بوضع بعض العلامات التي تدينه، باعتبار أنّ القضيّة عندما تكون بين مسلم ويهوديّ، فالنبيّ سيكون مع المسلم في تصوّرهم.

رتَّبوا القضيّة بشكل مركَّز، وكانت كلّ الدلائل الجديدة تجهَّز لاتهام اليهودي...

هنا، أنزل الله سبحانه وتعالى جبرائيل على النبيّ(ص)، وبيَّن له المسألة. والنبيّ(ص) عندما يقضي بين النّاس، يقول لهم: "إنما اقضي بينكم بالبيِّنات والأيمان"، أنا لا أقضي بعلمي، أنا أقضي بحسب ما يقدَّم لي من معطيات. "ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجَّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحقِّ أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النّار".

فالله تعالى قال له إنّ هذه المعطيات التي قدِّمت إليك هي معطيات خاطئة، والجماعة ركَّبوا المؤامرة ورتّبوا المسألة. فقد أراد الله أن يظهر الحقَّ مع اليهودي ضدَّ هذا المسلم، وهكذا كان.

فالنبيّ(ص) بعد أن سدَّده الوحي، حكم على هذا المسلم وبرّأ اليهودي. ولنقرأ، ولو بشكل سريع، الآيات، لنعرف كيف أنزل الله عزَّ وجلَّ أربع عشرة آية موجّهة إلى النبيّ والمسلمين، يركّز فيها عدّة مبادئ من أجل إقامة العدل لمصلحة اليهودي ضدّ المسلم... أيّ عدالة أعظم من هذه العدالة؟!

هل نحن مستعدّون لنعمل هكذا؟! نصلّي ونصوم ونحجّ، ولكنّنا لا نحكم بهذا الشّكل:

{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ – لأنّ الحقّ هو الأساس الذي أراد الله للناس أن يسيروا عليه...

– لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً – الخائن هو الذي لا يكون أميناً، سواء خان مالياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً أو سياسياً أو اقتصادياً... لا تدافع عنه ولو كان أقرب الناس إليك.

– وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً - النبيّ معصوم لا يخطئ، ولكنّ الله أراد أن يعطي الخطّ للنّاس، الإمام الباقر(ع) يقول: "نزل القرآن على طريقة إيّاك أعني واسمعي يا جارة".

القرآن يوجّه الخطاب إلى النبيّ، ولكن المقصود فيه الناس الآخرون.

– وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ – بخيانتهم للمجتمع، بانحرافهم عن الخطّ – إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً – لا يحبّ الله الخونة، والمؤمن هو الذي يحبّ من يحبّه الله، ويكره من يكرهه الله...

– يسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ – يغلقون الأبواب لترتيب الخطّة لمصلحة الخائن السّارق.

- وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ – وهذا موجَّه إلينا في كثير من الحالات- وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ – يقرّرون الكلام الذي لا يقبله الله - وكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً – {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور}... عند الموت سنسأل:

ولو أنّا إذا متنا تُرِكنا لكانَ المَوْتُ راحَة َ كُلِّ حَيِّ
ولكنّا إذا متنا بُعثنا ونُسأَل بعد ذا عن كلّ شيِّ
– هَا أَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ –"أنظر مرّة عن يميني، وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، لكلّ امرئ يومئذٍ منهم شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذٍ عليها غبرة...".

– أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا – ليس في القيامة مكتب محاماة ليدافع عنك وتلجأ إليه.

– وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا – الله فتح لنا الباب، إذا ظلمت نفسك بالمعصية والذّنب، ووقعت في الخطيئة، فقل: اللّهم اغفر ذنبي، اللّهمّ أتوب إليك. فالله فتح لنا باب التوبة بأوسع مما في السّماء والأرض. لا تتعقَّد، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}. وفي آية أخرى {ويحبّ التوّابين}.

– ومَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً – ليس هناك شرف العائلة وشرف البلد، كلّ واحد يحمل شرفه لنفسه.. نسمع كثيراً: فلان أخطأ وفلانة أخطأت ومرّغا شرف العائلة!! المسؤوليَّة في الإسلام فرديّة {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

هذه كلّها مبادئ إسلاميَّة تنظِّم المجتمع وتنظِّم العلاقات والمسؤوليَّات، وهذا ما يجب، أيّها الأحبَّة، أن نضعه في عقولنا، حتى تكون عقولنا تحمل قيماً إسلاميّة إنسانيّة تجعلنا نعيش في الحياة وندرك حدود مسؤوليَّات بعضنا البعض.

– وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً - البهتان هو أن تنسب إلى غيرك ما لم يفعله، والبهتان أشدّ من الغيبة.

– وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ – بحيث عرَّفك الحقيقة - لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ – أن يقدِّموا لك المعطيات التي تدين اليهوديّ وهو بريء - وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}.

أن نكون الأمَّة العادلة!

أيّها الأحبَّة، هذه هي مسألة العدل في الإسلام، وهذا ما انطلق به رسول الله(ص) وأرادنا أن ننطلق به.

أن نكون الأمَّة العادلة مع كلّ أمَّة أخرى، عندما يكون الحقّ للأمم الأخرى عندنا، وأن نطالب بالعدل عندما يكون الحقّ لنا في هذا المجال. ولذلك، نحن عندما نقف ضدّ إسرائيل، ونطالب كلّ أمم العالم والأمم المتحدة أن تقف معنا ضدّها، لأنهم جاؤوا وظلموا الشعب الفلسطيني كلّه، بإخراجه من أرضه واضطهاده في داخل أرضه، ولأنهم ظلموا الشعوب العربيّة كلّها... فنحن عندما ننطلق في العالم، فلا ننطلق من حالة سياسية طارئة، بل إننا ننطلق في ذلك من حقٍّ تضمنه لنا كلّ الأديان وكلّ الحضارات، وما ضاع حقّ وراءه مطالب.

المهمّ أيّها الأحبّة، أن نبقى مع حقّنا مهما كانت الظروف، وقد قال الصحابي الجليل عمّار بن ياسر، وكان مع عليّ(عليه السلام) في صفّين، وقد هزم جيش عليّ في بعض الحملات، قال: والله لو هزمونا، لو ضربونا، حتى يبلغوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنَّا على الحقّ وأنهم على الباطل.

إنَّ صاحب الحقّ يبقى مع حقِّه، وليس في قانوننا الإسلامي أنَّ الحقَّ يسقط بمرور الزّمن، بل يبقى الحقّ ما بقي الزّمن، وما بقي إنسان ينطق بالحقّ، سواء كان الحقّ في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في الأمن والاجتماع {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

والحمد لله ربِّ العالمين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ألقاها سماحته في اللّيلة السّابعة من عاشوراء، بتاريخ 22/4/ 1999.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية