منافع الحجّ

منافع الحجّ
إنَّ أوَّل ما نلتقي به من نصوص الحجّ هو النّداء الأوّل الّذي وجّهه الله إلى النبيّ إبراهيم(ع) في دعوة النّاس إلى الحجّ، وذلك في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحجّ: 27-29].
فإنّنا نجد في هذا النّداء دعوة النّاس ليشهدوا منافع لهم من دون تحديدٍ لطبيعتها وحجمها، للإيحاء بضرورة الانطلاق في هذا الاتجاه للبحث عن كلّ المجالات النّافعة التي يمكن لهم أن يحقّقوها من خلال الحجّ، في حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة، إلى جانب الرّوح العباديّة المتمثّلة بذكر الله في أيّام معدودات، شكراً لنعمه، وتعظيماً لآلائه، وتطبيقاً لتعليماته في توجيه هذه النّعمة إلى ما أراده من الإنفاق على الفئات المحرومة البائسة.
وقد يثير القرآن أمام بعض المواضيع حالةً من حالات الإبهام والغموض، من أجل أن يدفع الإنسان إلى البحث في كلّ اتجاهٍ يتعلّق بالموضوع، ليحقّق الشّمول والامتداد في آفاقه، فلا يتجمّد أمام فرضيَّةٍ واحدةٍ، أو وجهٍ معيّن أو اتجاهٍ خاصّ. وبهذا يكون التّشريع حركةً متجدّدةً في خطّ الإبداع والنموّ والتقدّم.
وقد ورد في حديث عن الإمام جعفر الصّادق(ع): فيما حدّث به هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله جعفر الصّادق(ع) فقلت له: "ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحجّ والطّواف بالبيت؟ فقال: إنّ الله خلق الخلق (إلى أن قال) وأمرهم بما يكون من أمر الطّاعة في الدّين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشّرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قومٍ من التجارات من بلدٍ إلى بلد، وليتنفّع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله(ص)، وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كلُّ قومٍ إنَّما يتكلَّمون على بلادهم وما فيها، هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار، ولم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج".
كما ورد عن الفضل بن شاذان عن الإمام عليّ الرّضا(ع) قال: "إنما أمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله عزّ وجلّ، وطلب الزّيادة، والخروج من كلّ ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر الأنفس عن اللّذَّات، شاخصاً في الحرّ والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنابع في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر ممّن يحجّ وممّن لا يحجّ، من بين تاجرٍ وجالبٍ وبائعٍ ومشترٍ وكاسبٍ ومسلكيّ ومكارٍ وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، مع ما فيه من النَّفقة ونقل أخبار الأئمَّة (عليهم السلام) إلى كلّ صقعٍ وناحية، كما قال الله عزّ وجلّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}"[التّوبة: 122].الحج ملتقى المسلمينإنّنا نستوحي من هذين الحديثين، أنّ الإسلام أراد للحجّ أن يكون ملتقى للمسلمين جميعاً، من شرق الأرض وغربها، من أجل تحقيق التّعارف والتّواصل بينهم، وتحصيل المنافع الاقتصاديّة والاجتماعيّة لمن حجّ ولمن لم يحجّ، وتبادل التّجارب والخبرات المتنوّعة التي يملكها كلّ فريقٍ من خلال أوضاعه العامّة والخاصّة، وتسهيل حركة الدّعوة إلى الله، بالانطلاق من موسم الحجّ للاتّصال بكلّ المناطق الإسلاميّة التي تتمثّل بأفرادها الّذين يقصدون بيت الله الحرام لأداء الفريضة، فيما يتعلّمونه من ثقافة الإسلام وشريعته، وفيما يتعاونون فيه من مشاريع وأعمال وخطط على أساس المصلحة الإسلاميّة العليا، لينطلق العمل الإسلاميّ من قاعدةٍ مركزيّةٍ واسعة، في أجواء الإسلام التّاريخيّة التي شهدت مولد الدّعوة وعاشت حركيّتها، وحقّقت أهدافها الكبيرة في جهادها المرير الصّعب، فيكون التحرّك في الخطّ من موقع الفكرة والجوّ والخبرة المتبادلة والمعاناة الحاضرة.
وهكذا يعيش النّاس، فيما يقصدونه من مزارات، أجواء الإسلام الأولى التي يعيشون معها الإحساس بالانتماء الرّوحيّ والعمليّ لهذا التاريخ، الأمر الّذي يوحي لهم بأنّ الإسلام الّذي ينتمون إليه، يمتدّ إلى تلك الجذور العميقة في أعماق الزّمن، وبأنّ عليهم أن يعطوا هذا التّاريخ امتداداً من خلال جهادهم ومعاناتهم، كما استطاع المسلمون أن يحقّقوا لهم هذا الامتداد الّذي يتّصل بمسيرتنا الحاضرة.
وبذلك لن تكون الزّيارات تقليداً يفقد معناه، وعبادةً تتجمّد أمام المزار لتنفصل عن معنى التّوحيد العميق الّذي يخلص العبادة لله دون غيره، ولا يتحرّك نحو جهةٍ أو شخصٍ أو عملٍ إلا من خلال تعاليم الله الّتي أنزلها على رسوله.. الأمر الّذي يعطي كلّ تحرّكٍ معناه الرّوحيّ، فيما تعطيه حركة التّاريخ من مضمونٍ إنسانيّ إسلاميّ يغني التّجربة ويعمّق الإيمان.
لقاء حواريوفي ضوء ذلك، نفهم أنّ اللّقاءات التي يخطّط لها الإسلام من خلال هذه الفريضة العباديّة، لا بدّ من أن نعيش فيها الهدف الكبير في تحقيق لقاءٍ إسلاميّ شامل يستهدف إلغاء كلّ الفوارق الطبقيَّة واللّونيَّة والعرقيَّة والإقليميَّة، في جوٍّ من التّفاعل الإنسانيّ الرّوحيّ، يستشعر فيه الجميع القيمة الإسلاميَّة على هدى الممارسة في وحدة الموقف واللّباس والشّعار والتحرّك، فيلغي المشاعر الطَّارئة المضادَّة التي يمكن أن يتعامل من خلالها الاستكبار لتفتيت طاقاتهم وتدمير وحدتهم.. حتّى إذا نجح في بعض خطواته، فيما يستغلّه من بعض الأوضاع السلبيّة، كان الحجّ له بالمرصاد، ليبعثر تلك الخطوات الشرّيرة، ويفوّت عليه عمليّة الاستغلال هذه، بما يثيره الحجّ من مشاعر طاهرة وأفكار واعية، وخطواتٍ إيمانيّة متحرّكة يقظة..
ذلك هو بعض ما نستوحيه من تشريع الحجّ في مدلوله الاجتماعيّ والسياسيّ، إلى جانب مدلوله الرّوحيّ العباديّ التّربويّ. وذلك هو ما مارسه الأئمّة من أهل البيت(ع) عندما كانوا يعتبرون الحجّ قاعدةً للحوار مع كلّ الفئات المنحرفة، كما كانوا يحاولون أن يحقّقوا اللّقاء بكلّ العناصر الطيّبة التي يريدون لها أن تسير في الخطّ الإسلاميّ المستقيم، في خطّةٍ توجيهيّةٍ عمليّةٍ شاملة.

وعلينا العمل على تحويل موسم الحجّ إلى موسمٍ إسلاميّ كما أراده الله، ليكون مجمعاً للمسلمين يلتقي فيه المفكّرون في حوارٍ فكريّ إسلاميّ سليم، ليصلوا إلى القناعات المشتركة، أو المتقاربة، أو ليفهموا وجهة نظر كلّ منهم، ليعرفوا ارتكاز الجميع على أسسٍ فكريّةٍ إسلاميّة فيما يتوصّل إليه المجتهدون والمفكّرون، وليعملوا على أساس الوصول في نهاية المطاف ـ بالصّبر والفكر ـ إلى الوحدة في الفكر والأسلوب والعمل.
تبادل الأفكار والخبراتوفي هذا الاتّجاه، يعمل المخلصون على لقاء الحركات الإسلاميَّة، من سائر أنحاء العالم الإسلاميِّ من أجل أن يتبادلوا الأفكار والخبرات، ويتعارفوا فيما يحملون من تطلّعات وأهداف، وفيما يرتكزون عليه من منطلقاتٍ، ليكتشفوا من خلال ذلك في أنفسهم ما يختلفون فيه، ليبحثوا كيف يحوِّلونه إلى قناعاتٍ مشتركة، وما يتَّفقون عليه ليستزيدوا منه في الجوانب الأخرى، ويحوّلوه إلى خطواتٍ عمليَّةٍ للتَّعاون من أجل تكامل العمل الإسلاميّ من جهة، وتوحيد الطّاقات الفاعلة في سبيل حلّ مشاكل الإسلام والمسلمين من جهةٍ أخرى، وليبحثوا مشاكل التحرّر من الاستعمار، والخروج من سيطرة الضّغوط السياسيّة والاقتصاديّة، ليتحرّك الجهاد الإسلاميّ في حياة المسلمين من موقع الفكر الإسلاميّ الّذي يستهدف عزّة المسلمين وكرامتهم في دولةٍ إسلاميّةٍ هادفةٍ مظفّرة، على أساس الوسائل الإسلاميّة المشروعة، والخطط الواقعيّة المدروسة.

وإنّنا نؤكّد على مثل هذه اللّقاءات، لأنّ الاعتماد على المراسلة والقراءة الفكريّة لا تستطيع ـ غالباً ـ أن تمنح الموقف الإسلاميّ وضوحاً في الصّورة، بحيث تزيل الشّبهات العالقة في أذهان القائمين على الحركات ضدّ بعضهم البعض، ما جمّد كثيراً من فرص اللّقاء على الأسس الإسلاميّة المشتركة.
وقد نحتاج إلى توجيه العمل للقاء المسلمين ببعضهم البعض في أجواء إسلاميّة حميمة، يتحادثون فيها فيما بينهم في كلّ ما يهمّهم من قضايا، وذلك بالزّيارات الفرديّة والجماعيّة لجمعيّات الحجّاج وأماكن تجمّعهم، ليتحسّسوا الشّعور بالوحدة من خلال اكتشاف الهموم المشتركة، والقضايا الواحدة، والأهداف الكبيرة التي يلتقون فيها على اسم الله.. ليحقّق ذلك رفضاً لكلّ الخطط والمشاعر التي يعمل الكافرون من خلالها على عزل المسلمين بعضهم عن بعض، من خلال الشّعور القوميّ أو الإقليميّ أو غير ذلك.
كما نستفيد من موسم الحجّ بما يحقّقه من اجتماع القيادات الإسلاميّة الواعية التي لا تستطيع أن تجتمع في مكانٍ آخر؛ فإنّ مثل هذا الاجتماع يصحّح كثيراً من الانحرافات، ويوحّد كثيراً من الجهود، وينظّم كثيراً من الأعمال المتنوّعة المبعثرة.
وهناك الكثير الكثير من المنافع والفوائد الّتي نستطيع أن نحقّقها في هذا الموسم الإسلاميّ الكبير، مما يجب أن نفكّر فيه ونعمل له ونصل إليه.
إنّنا نعمل في سبيل الحصول على فرص الاجتماع، واللّقاء والدّراسة، والعمل الإسلاميّ المشترك، ليكون ذلك هدفاً من أهداف الحركات الإسلاميّة في العالم الإسلاميّ، ولكن لا بدّ من مواجهة الصّعوبات والتحدّيات والعقبات التي تعترضنا في الطّريق.
إنَّ علينا أن نستفيد من هذا الموسم حتَّى لا يتحوَّل إلى جهدٍ ضائعٍ، ليبقى لنا قاعدةً للعبادة المتحرّكة في اتجاه حياة الإنسان المسلم في كلّ زمان ومكان، وذلك من خلال حركتها الرّوحيّة الممتزجة بالواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والتّربويّ المنطلقة إلى الآفاق العليا بين يدي الله تعالى.

* المصدر: كتاب "رسالة الحج".
إنَّ أوَّل ما نلتقي به من نصوص الحجّ هو النّداء الأوّل الّذي وجّهه الله إلى النبيّ إبراهيم(ع) في دعوة النّاس إلى الحجّ، وذلك في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحجّ: 27-29].
فإنّنا نجد في هذا النّداء دعوة النّاس ليشهدوا منافع لهم من دون تحديدٍ لطبيعتها وحجمها، للإيحاء بضرورة الانطلاق في هذا الاتجاه للبحث عن كلّ المجالات النّافعة التي يمكن لهم أن يحقّقوها من خلال الحجّ، في حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة، إلى جانب الرّوح العباديّة المتمثّلة بذكر الله في أيّام معدودات، شكراً لنعمه، وتعظيماً لآلائه، وتطبيقاً لتعليماته في توجيه هذه النّعمة إلى ما أراده من الإنفاق على الفئات المحرومة البائسة.
وقد يثير القرآن أمام بعض المواضيع حالةً من حالات الإبهام والغموض، من أجل أن يدفع الإنسان إلى البحث في كلّ اتجاهٍ يتعلّق بالموضوع، ليحقّق الشّمول والامتداد في آفاقه، فلا يتجمّد أمام فرضيَّةٍ واحدةٍ، أو وجهٍ معيّن أو اتجاهٍ خاصّ. وبهذا يكون التّشريع حركةً متجدّدةً في خطّ الإبداع والنموّ والتقدّم.
وقد ورد في حديث عن الإمام جعفر الصّادق(ع): فيما حدّث به هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله جعفر الصّادق(ع) فقلت له: "ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحجّ والطّواف بالبيت؟ فقال: إنّ الله خلق الخلق (إلى أن قال) وأمرهم بما يكون من أمر الطّاعة في الدّين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشّرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قومٍ من التجارات من بلدٍ إلى بلد، وليتنفّع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله(ص)، وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كلُّ قومٍ إنَّما يتكلَّمون على بلادهم وما فيها، هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار، ولم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج".
كما ورد عن الفضل بن شاذان عن الإمام عليّ الرّضا(ع) قال: "إنما أمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله عزّ وجلّ، وطلب الزّيادة، والخروج من كلّ ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر الأنفس عن اللّذَّات، شاخصاً في الحرّ والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنابع في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر ممّن يحجّ وممّن لا يحجّ، من بين تاجرٍ وجالبٍ وبائعٍ ومشترٍ وكاسبٍ ومسلكيّ ومكارٍ وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، مع ما فيه من النَّفقة ونقل أخبار الأئمَّة (عليهم السلام) إلى كلّ صقعٍ وناحية، كما قال الله عزّ وجلّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}"[التّوبة: 122].الحج ملتقى المسلمينإنّنا نستوحي من هذين الحديثين، أنّ الإسلام أراد للحجّ أن يكون ملتقى للمسلمين جميعاً، من شرق الأرض وغربها، من أجل تحقيق التّعارف والتّواصل بينهم، وتحصيل المنافع الاقتصاديّة والاجتماعيّة لمن حجّ ولمن لم يحجّ، وتبادل التّجارب والخبرات المتنوّعة التي يملكها كلّ فريقٍ من خلال أوضاعه العامّة والخاصّة، وتسهيل حركة الدّعوة إلى الله، بالانطلاق من موسم الحجّ للاتّصال بكلّ المناطق الإسلاميّة التي تتمثّل بأفرادها الّذين يقصدون بيت الله الحرام لأداء الفريضة، فيما يتعلّمونه من ثقافة الإسلام وشريعته، وفيما يتعاونون فيه من مشاريع وأعمال وخطط على أساس المصلحة الإسلاميّة العليا، لينطلق العمل الإسلاميّ من قاعدةٍ مركزيّةٍ واسعة، في أجواء الإسلام التّاريخيّة التي شهدت مولد الدّعوة وعاشت حركيّتها، وحقّقت أهدافها الكبيرة في جهادها المرير الصّعب، فيكون التحرّك في الخطّ من موقع الفكرة والجوّ والخبرة المتبادلة والمعاناة الحاضرة.
وهكذا يعيش النّاس، فيما يقصدونه من مزارات، أجواء الإسلام الأولى التي يعيشون معها الإحساس بالانتماء الرّوحيّ والعمليّ لهذا التاريخ، الأمر الّذي يوحي لهم بأنّ الإسلام الّذي ينتمون إليه، يمتدّ إلى تلك الجذور العميقة في أعماق الزّمن، وبأنّ عليهم أن يعطوا هذا التّاريخ امتداداً من خلال جهادهم ومعاناتهم، كما استطاع المسلمون أن يحقّقوا لهم هذا الامتداد الّذي يتّصل بمسيرتنا الحاضرة.
وبذلك لن تكون الزّيارات تقليداً يفقد معناه، وعبادةً تتجمّد أمام المزار لتنفصل عن معنى التّوحيد العميق الّذي يخلص العبادة لله دون غيره، ولا يتحرّك نحو جهةٍ أو شخصٍ أو عملٍ إلا من خلال تعاليم الله الّتي أنزلها على رسوله.. الأمر الّذي يعطي كلّ تحرّكٍ معناه الرّوحيّ، فيما تعطيه حركة التّاريخ من مضمونٍ إنسانيّ إسلاميّ يغني التّجربة ويعمّق الإيمان.
لقاء حواريوفي ضوء ذلك، نفهم أنّ اللّقاءات التي يخطّط لها الإسلام من خلال هذه الفريضة العباديّة، لا بدّ من أن نعيش فيها الهدف الكبير في تحقيق لقاءٍ إسلاميّ شامل يستهدف إلغاء كلّ الفوارق الطبقيَّة واللّونيَّة والعرقيَّة والإقليميَّة، في جوٍّ من التّفاعل الإنسانيّ الرّوحيّ، يستشعر فيه الجميع القيمة الإسلاميَّة على هدى الممارسة في وحدة الموقف واللّباس والشّعار والتحرّك، فيلغي المشاعر الطَّارئة المضادَّة التي يمكن أن يتعامل من خلالها الاستكبار لتفتيت طاقاتهم وتدمير وحدتهم.. حتّى إذا نجح في بعض خطواته، فيما يستغلّه من بعض الأوضاع السلبيّة، كان الحجّ له بالمرصاد، ليبعثر تلك الخطوات الشرّيرة، ويفوّت عليه عمليّة الاستغلال هذه، بما يثيره الحجّ من مشاعر طاهرة وأفكار واعية، وخطواتٍ إيمانيّة متحرّكة يقظة..
ذلك هو بعض ما نستوحيه من تشريع الحجّ في مدلوله الاجتماعيّ والسياسيّ، إلى جانب مدلوله الرّوحيّ العباديّ التّربويّ. وذلك هو ما مارسه الأئمّة من أهل البيت(ع) عندما كانوا يعتبرون الحجّ قاعدةً للحوار مع كلّ الفئات المنحرفة، كما كانوا يحاولون أن يحقّقوا اللّقاء بكلّ العناصر الطيّبة التي يريدون لها أن تسير في الخطّ الإسلاميّ المستقيم، في خطّةٍ توجيهيّةٍ عمليّةٍ شاملة.

وعلينا العمل على تحويل موسم الحجّ إلى موسمٍ إسلاميّ كما أراده الله، ليكون مجمعاً للمسلمين يلتقي فيه المفكّرون في حوارٍ فكريّ إسلاميّ سليم، ليصلوا إلى القناعات المشتركة، أو المتقاربة، أو ليفهموا وجهة نظر كلّ منهم، ليعرفوا ارتكاز الجميع على أسسٍ فكريّةٍ إسلاميّة فيما يتوصّل إليه المجتهدون والمفكّرون، وليعملوا على أساس الوصول في نهاية المطاف ـ بالصّبر والفكر ـ إلى الوحدة في الفكر والأسلوب والعمل.
تبادل الأفكار والخبراتوفي هذا الاتّجاه، يعمل المخلصون على لقاء الحركات الإسلاميَّة، من سائر أنحاء العالم الإسلاميِّ من أجل أن يتبادلوا الأفكار والخبرات، ويتعارفوا فيما يحملون من تطلّعات وأهداف، وفيما يرتكزون عليه من منطلقاتٍ، ليكتشفوا من خلال ذلك في أنفسهم ما يختلفون فيه، ليبحثوا كيف يحوِّلونه إلى قناعاتٍ مشتركة، وما يتَّفقون عليه ليستزيدوا منه في الجوانب الأخرى، ويحوّلوه إلى خطواتٍ عمليَّةٍ للتَّعاون من أجل تكامل العمل الإسلاميّ من جهة، وتوحيد الطّاقات الفاعلة في سبيل حلّ مشاكل الإسلام والمسلمين من جهةٍ أخرى، وليبحثوا مشاكل التحرّر من الاستعمار، والخروج من سيطرة الضّغوط السياسيّة والاقتصاديّة، ليتحرّك الجهاد الإسلاميّ في حياة المسلمين من موقع الفكر الإسلاميّ الّذي يستهدف عزّة المسلمين وكرامتهم في دولةٍ إسلاميّةٍ هادفةٍ مظفّرة، على أساس الوسائل الإسلاميّة المشروعة، والخطط الواقعيّة المدروسة.

وإنّنا نؤكّد على مثل هذه اللّقاءات، لأنّ الاعتماد على المراسلة والقراءة الفكريّة لا تستطيع ـ غالباً ـ أن تمنح الموقف الإسلاميّ وضوحاً في الصّورة، بحيث تزيل الشّبهات العالقة في أذهان القائمين على الحركات ضدّ بعضهم البعض، ما جمّد كثيراً من فرص اللّقاء على الأسس الإسلاميّة المشتركة.
وقد نحتاج إلى توجيه العمل للقاء المسلمين ببعضهم البعض في أجواء إسلاميّة حميمة، يتحادثون فيها فيما بينهم في كلّ ما يهمّهم من قضايا، وذلك بالزّيارات الفرديّة والجماعيّة لجمعيّات الحجّاج وأماكن تجمّعهم، ليتحسّسوا الشّعور بالوحدة من خلال اكتشاف الهموم المشتركة، والقضايا الواحدة، والأهداف الكبيرة التي يلتقون فيها على اسم الله.. ليحقّق ذلك رفضاً لكلّ الخطط والمشاعر التي يعمل الكافرون من خلالها على عزل المسلمين بعضهم عن بعض، من خلال الشّعور القوميّ أو الإقليميّ أو غير ذلك.
كما نستفيد من موسم الحجّ بما يحقّقه من اجتماع القيادات الإسلاميّة الواعية التي لا تستطيع أن تجتمع في مكانٍ آخر؛ فإنّ مثل هذا الاجتماع يصحّح كثيراً من الانحرافات، ويوحّد كثيراً من الجهود، وينظّم كثيراً من الأعمال المتنوّعة المبعثرة.
وهناك الكثير الكثير من المنافع والفوائد الّتي نستطيع أن نحقّقها في هذا الموسم الإسلاميّ الكبير، مما يجب أن نفكّر فيه ونعمل له ونصل إليه.
إنّنا نعمل في سبيل الحصول على فرص الاجتماع، واللّقاء والدّراسة، والعمل الإسلاميّ المشترك، ليكون ذلك هدفاً من أهداف الحركات الإسلاميّة في العالم الإسلاميّ، ولكن لا بدّ من مواجهة الصّعوبات والتحدّيات والعقبات التي تعترضنا في الطّريق.
إنَّ علينا أن نستفيد من هذا الموسم حتَّى لا يتحوَّل إلى جهدٍ ضائعٍ، ليبقى لنا قاعدةً للعبادة المتحرّكة في اتجاه حياة الإنسان المسلم في كلّ زمان ومكان، وذلك من خلال حركتها الرّوحيّة الممتزجة بالواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والتّربويّ المنطلقة إلى الآفاق العليا بين يدي الله تعالى.

* المصدر: كتاب "رسالة الحج".
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية