مصلح اجتماعي مجدّد:
س: ما الأثر الذي خلَّفه رحيل سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(ره) في المجتمع؟ وما هي أبرز خصائص شخصيّته؟
ج: أولاً، نفتقد كثيراً هذا المرجع العظيم والمفكِّر المميَّز والمثقَّف الكبير الَّذي جمع بين الثَّقافة الدينيَّة وتشربها من أرفع مصادرها، والثّقافة العامَّة، فكان الشّاعر والأديب والخطيب والكاتب والمصلح الاجتماعي، وكان أحد القلائل المبشرين بالغد، كان يسكن في الغد، وأظنّه فتح أبواب الغد ليس فقط بالفقه وحده، بل أيضاً بالفكر عموماً وبالرؤيا والفهم العميق للواقع الاجتماعي...
كان أحد القلائل المبشرين بالغد، كان يسكن في الغد، وأظنّه فتح أبواب الغد ليس فقط بالفقه وحده، بل أيضاً بالفكر والرؤيا والفهم العميق للواقع
السيد فضل الله من موقعه الديني الرفيع، كان أحد القلائل الَّذين تعاملوا باحترام مع إنسانيَّة الإنسان وعقله، لم يتعامل معه باعتباره مجرد مؤمن حرفي يتبع التَّعليم، ولكنَّه تعامل مع عقل الإنسان، مع طموحاته، مع فكره الجديد، مع رغبته في التغيير.
لقد جدَّد سماحته ليس فقط في الفكر الديني، بل في الفكر الاجتماعي عموماً، فكان صاحب رؤية، وكان يستند إلى قاعدة فكريَّة وفقهيَّة غنيَّة جداً، ولعلَّه مزيج من المصلح الاجتماعي والداعية الثوري والشّاعر الَّذي يمد بصره إلى ما بعد الواقع...
تجربة فكريَّة ثريَّة:
س: ربطتكم علاقة صداقة متينة مع سماحة السيِّد(ره)، كيف نشأت هذه العلاقة؟
ج: تعرفت إلى سماحة السيد في أوائل الستينات، وكان يسكن عندها في برج حمود، وقد امتد حبل الصداقة بيننا حتى آخر أيامه، وهذا شرف كبير لي، وأظن أنَّ اللقاء الأخير معه كان قبل ثلاثة أيام من رحيله عن دنيانا.
كان يعطيني من وقته ويأنس إليَّ ويتفقدني إذا غبت طويلاً، فيتصل ويسألني عن السَّبب، وكنت أعود طبعاً إلى لقائه، كانت الأحاديث بيننا تمتد إلى وقتٍ طويل نسبياً، حتى خارج الصَّحافة، وكنا نتداول في الشؤون السياسيَّة عموماً، وفي الشَّأنين اللبناني والسّوري، وفي الشّؤون العربيَّة الأخرى، وخصوصاً مصر واليمن والعراق وبعض البلدان التي يعرف أنني زرتها وأقمت علاقات صداقات مع بعض كتّابها ومفكّريها، وكنا نتحدَّث أيضاً عن المناطق اللبنانية الَّتي أعطاها الكثير من اهتمامه، سواء في البقاع أو بعلبك أو الجنوب.
كان يسألني في السياسة والواقع، وكنت أسأله عن الغد، وكثيراً ما أسرّ لي ببعض مكنوناته وآرائه الخاصة التي لا يفصح عنها في الغالب العام، وكنا نشترك في تحليل الأوضاع السياسيَّة، فأسمع منه ويسمع مني ونتوصَّل إلى نوعٍ من المفهوم المشترك لمجريات الأمور، وكنت إذا تأخرت عن زيارته طلبني وسألني عن السبب، وكان يهتم بأن يسأل عن أفراد عائلتي فرداً فرداً.
كان كبيراً في صداقته بقدر ما كان عالي القامة في ثقافته وفي رؤياه للمستقبل، وكان مقاوماً عظيماً، وبالتأكيد عندما يؤرخ لتاريخ المقاومة في لبنان، سيذكر المرجع السيد محمد حسين فضل الله، باعتباره من كبار المؤسِّسين.
في المحاورات الفكريَّة، كان غني التَّجربة، كان يعرف العراق جيداً، ولا سيَّما الأوضاع السياسيَّة والاجتماعية، والتركيبة العراقيَّة والطوائف والمذاهب والعشائر، كما كان مهتماً بالخليج، كان يعرف الكثير عن الخليج عموماً وعن البحرين خصوصاً، وعن الجزيرة العربيَّة بشكلٍ عام واليمن، وكان مهتمّاً بأمر مصر، عارفاً بمدى تأثيرها سلباً أو إيجاباً في سائر البلاد العربيَّة.
في بعض الأحيان، كان يأخذه الانسجام إلى الشعر، فيروي بعض شعره، وقد أهداني بعض دواوينه، وكان يعتبر أنَّني شاعر مكتوم، لأنني أكتب على حافة الشعر، وكنت أقدر هذه الطاقة الهائلة التي يتمتع بها، فكل أيامه مبرمجة ومنظمة بالمعنى العصري للكلمة، ولكل يوم من أيام الأسبوع جدول بالأعمال التي ينوي القيام بها.
رجل المؤسسات:
س: ماذا عن العمل المؤسَّساتي والاستشراف للمستقبل في منهج السيّد(ره)؟
ج: كان المرجع فضل الله رجل مؤسَّسات، والدَّليل أنَّ المؤسَّسات الَّتي خلّفها تعتبر نموذجية، بدءاً بالمبرات والمدارس، وسواها من المشاريع. لقد كان كبيراً وعظيماً وصاحب رؤيا مستقبلية.
كنا نطمع بأن يمتد به العمر أكثر لنستفيد من ثقافته وخبراته ومن رؤيته، لكنَّه القدر، وسماحته كان مؤمناً بقدر الله سبحانه وتعالى، وكان قد أعدّ كل شيء لما بعد رحليه، ولذلك أظن أنَّ أهله لم يرتبكوا لحظة إلا بمعنى الفجيعة، لأنَّ كلّ شيء كان مرتباً ومنظماً.
لقد خسر لبنان، كما خسر العرب والمسلمون خسارةً فادحةً برحيل هذا المرجع الكبير، وهذا المثقَّف والشّاعر الكبير وهذا المصلح الاجتماعي الكبير وهذا المقاوم الكبير.. نأمل من الله أن يعوضنا بتلامذته عن غيابه الَّذي جاء مبكراً قياساً إلى حاجتنا إليه.
رؤية منفتحة على الغد:
س: نظَّر سماحة السيد على امتداد عمره الشريف للوحدة الإسلامية والوطنية من خلال مواقفه وأفكاره التي تتوجه إلى الإنسان كإنسان، بصرف النظره عن دين وفكره ومعتقده. كيف ينظر الجيل المثقف إلى فكر سماحة السيد وكيف يتعاطى معه؟
-كان زملائي في "السفير" يتنافسون حين نحدد موعداً للقاءٍ صحفي معه، فكان الكل يرغب بأن يجري المقابلة، ويتساوى في ذلك الزملاء والزميلات، وهم لم يكونوا جميعاً من طائفة واحدة أو من دين واحد.. على العكس كان بعض الأخوة والزملاء من المسيحيين تحديداً، يهتمون كثيراً لفتاويه المتقدمة نوعاً، ولآرائه الشجاعة التي اقتحم فيها بعض المحظورات التي كانت فرضت على العقول وعلى السلوك فيما يتصل بشأن المرأة عموماً، ابتداءً من حقها بالعلم وانتهاءً بثيابها، وكانت محاضراته التي يكرسها للنساء متميزة بتقدميتها وبالرؤية المنفتحة على الغد..
أظن أنَّ جيلاً من النساء قد أفاد من مطالعاته وخطبه ومن تعاليمه ومن قدرته على إعادة صياغة بعض المقولات والطروحات المذهبية والدينية بطريقة تليق بكرامة الإنسان.. كذلك، إن محاضراته في الفتية والشبان قد أنشأت جيلاً مختلفاً متمايزاً بثقافته التنويرية، وهو الذي كان يؤكد أنَّ الدين ليس التعصب وليس الانغلاق وليس مجافاة الآخر والنظر إليه كأنه خصم، سواء كان من أتباع دين آخر أو من أتباع مذهب آخر...