مختارات
29/12/2013

أصالة احترام الإنسان

أصالة احترام الإنسان

هل الأصل في الإنسان أن يكون محترم النفس والعِرض والمال بصرف النظر عن معتقده ودينه وعرقه، أو أنَّ الأصل هو عدم احترام إلا مَنْ أخرجه الدليل، وهو المسلم، أو من كان بينه وبين المسلمين عقد معيّن يمنحه الاحترام؟!

يذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ غير المسلم، إنْ لم يكن ذمّياً معاهداً، فلا حرمة له في نفسه ولا في عرضه ولا في ماله[1]، حتى لو كان مسالماً وغير معادٍ لنا ولا لقضايانا. وأمّا الذمّي، فإنّ الذمّة هي التي تمنحه الاحترام، وهي إنّما تعطيه حرمة لنفسه ولماله فقط، دون عِرضه[2]، والحرمة هنا إنّما يكتسبها من خلال عقد الذمّة، لا بسبب حرمته في نفسه، تماماً كما هو الحال في المستجار: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}[التوبة6].

ولكن يمكننا أن نسجّل رأياً مخالفاً لما ذكروه، وهو رأي يذهب إلى أنّ الإنسان بشكلٍ مطلق، وبصرف النظر عن دينه، هو محترَم النفس والعِرض والمال، ما لم يَهْدر هو احترامه بارتكاب ما يوجب سقوط حرمته.

وهذا الرأي يأخذ بعين الاعتبار أنّ فتاوى الفقهاء التي لا ترى لغير المسلم حرمة، فتجوّز غيبته ولعنه وسبه، وتبيح التعامل معه بازدراء واحتقار، وتحكم بنجاسته الذاتية مع ما يخلقه ذلك من احتقار له، ولا تسمح له في ظلّ الدولة الإسلامية ببناء بيت أعلى من بيوت المسلمين، وتمنعه من دخول المسجد... إنّ هذه الفتاوى ليست من مسلَّمات الشريعة أو ضروريّات الفقه، ولذا، يحقّ لنا أن ندعو إلى إعادة قراءتها.

في المنهج

وأعتقد أنَّ المنهج الصحيح في عملية قراءة هذه الفتاوى المختلفة والمتعدّدة، يفرض علينا أن ندرسها بشكلٍ مجموعي، وليس على طريقة الدراسة التجزيئية التي تلاحظ كلّ فتوى وأدلّتها بعيداً عن سائر الفتاوى وأدلّتها. والفائدة المرجوّة من النظرة المجموعية إلى تلك الفتاوى، أنّها سوف تساهم في تشكيل تصوّر متكامل إزاء الآخر، وهذا التصوّر قد لا يمكننا الموافقة عليه، لمنافاته مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ولو أنّنا تعاملنا مع تلك الفتاوى بطريقة تجزيئية لما أحسسنا بهذه المنافاة، ما يفرض علينا بادئ ذي بدء، أن نسعى للتعرّف إلى الرؤية الإسلامية تجاه الآخر المختلف عنّا دينياً.

في المستند

والَّذي يمكننا قوله في بيان الرؤية الإسلاميَّة المذكورة: إنّ الأصل في الإنسان أن يكون محترم المال والعرض والدم، إلا ما خرج بدليل، فاحترام الإنسان هو المبدأ والقاعدة، وعدمه هو الاستثناء، وذلك كما في حالات العدوان، ففي حالة العدوان، فإنَّ الشخص هو الذي يُسقط حرمته. وما يمكن الاستدلال والاستشهاد به على أصالة احترام الإنسان هو:

أولاً: مبدأ التكريم الإلهي لبني الإنسان، فالإنسان ـ كإنسان ـ هو خليفة الله على الأرض، وهو في موضع التكريم الإلهي: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[الإسراء: 70]، فالتكريم هو لابن آدم، وليس لجماعة دينيّة أو عرقيّة أو قوميّة بعينها، لكن من الطبيعي أن يبقى التكريم قائماً ما دام الإنسان سائراً في خطّ الاستخلاف، غير متنكّر لخالقه ولا جاحد بربوبيّته، ولا يعمل على الإفساد في الأرض، لأنّه بذلك يخرج عن خطّ الاستخلاف، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود: 61].

ثانياً: مبدأ العدل، فإنّ الشريعة الإسلاميّة، وكذا كلّ الشرائع السماوية، تهدف إلى تحقيق العدل في الأرض، وقد أُرسلت الرسل للغاية نفسها، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 26]، ومبدأ العدل ـ كما غيره من المبادئ والقيم ـ لا يقبل التجزئة، لأنّه من المبادئ التي يحكم بها العقل. ومعروف أنَّ أحكام العقل لا تقبل التخصيص، كما أنّ الآيات والروايات الآمرة بالعدل، هي من النوع الأبي عن التقييد والتخصيص والاستثناء، كما يقول الأصوليون. ولذا، نصّ القرآن الكريم على التعامل مع الإنسان المسالم من غير ديننا على أساس العدل، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة: 8]، ومن الواضح أنّ القسط إليهم يفرض عدم التعرّض لكراماتهم وأعراضهم، فضلاً عن سفك دمائهم أو أموالهم، كما أنّ احترام موتى الناس هو من احترامهم.

ثالثاً: النصوص الخاصّة، وهي بعض الروايات التي تؤكّد القاعدة المذكورة، ومن أبرزها: الحديث المشهور المرويّ من طرق الفريقَيْن في صفة المسلم، فعن أبي هريرة عن رسول الله(ص): "المسلم من سَلِمَ الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم"[3]، والمعنى عينه ورد في الخبر المعتبَر عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: "المسلم من سَلِمَ الناس من يده ولسانه، والمؤمن مَن ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم"[4]، وتقريب الاستدلال: إنّ الخبر دلّ على انحصار المسلم بمن سَلِم الناس من لسانه ويده، فيُستفاد منه أنّ من لا يسلم الناس (مطلق الناس) من لسانه ويده ليس مسلماً، وإذا كانت بعض النصوص قد أكّدت أنَّ "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"[5]، فهي لا تنافي النص المتقدّم، لأنّه لا تنافي بين مثبتين، كما ذَكَر علماء الأصول.

رابعاً: النصوص التعاقدية، وثمة نصوص أخرى يمكن تسميتها بالنصوص التعاقدية، وهي التي تنظِّم علاقة المسلمين بغيرهم، إليك بعضها:

أ‌- وثيقة المدينة، أو ما عُرف بدستور المدينة، حيث نجد أنّ النبي(ص) أقرَّ لليهود بأنّهم أمّة واحدة مع المؤمنين، وجاء في الوثيقة المذكورة: "وأنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلاّ من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته، وأنّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.."[6].

إنّ معنى كون اليهود أمة مع المؤمنين، أنّ حرمتهم كحرمة المؤمنين، إلا من ظلم وبغى، فإنّه يُهلك نفسه، وهذه الوثيقة هي من أهمّ وأقوم العهود والوثائق السياسية والقانونية في الإسلام.

ب‌- وفي عهد علي(ع) إلى مالك الأشتر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان، إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"[7].

ت‌- وفي الخبر "أنّه مرّ شيخ مكفوف كبير، فقال أمير المؤمنين(ع): ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني! فقال أمير المؤمنين(ع): "استعملتموه، حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال"[8].

وربما يورد على النصوص التعاقديّة بأنّها، وإن استفيد منها احترام الآخر، لكن ربما كان عقد الذمّة هو منشأ الاحترام.

خامساً: الانسجام التشريعي. إنّ ثمة مفارقة في المقام نسجّلها للتأييد لا للاستدلال، وهي أنّ الإسلام يجيز للمسلم أن يتزوّج الكتابية، وأن ينجب منها أولاداً، ومع ذلك، فإنّ هذه المرأة ـ بحكم أنّها كافرة ـ لا حرمة لها في عِرضها وكرامتها، فيجوز لعنها وسبّها، ولا حرمة لجسدها بعد موتها، لأنّ عقد الذمّة إنّما أعطاها حرمة لنفسها ومالها فقط! إنّ هذه الفتاوى ليست منسجمة فيما بينها.

وخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الأدلّة والشواهد وغيرها، أنّ الأصل في الإنسان هو الاحترام، أي إنّه محترم النفس والمال والعرض، وإنّ كفره لا يسلبه الاحترام، وإنّما الذي يسلبه الاحترام هو عدوانه ومحاربته، أو خروجه على النظام.

على طبق القاعدة

وبناءً على هذا الرأي الذي اخترناه، ستكون الأحكام الشرعية التفصيلية التي نصّ عليها مشهور الفقهاء بشأن غير المسلمين، واعتبروها استثناءات من أصالة عدم الاحترام، من قبيل: حرمة التمثيل بأجساد موتاهم[9]، أو الحكم القاضي بوجوب ردّ الأمانة إليهم[10]، أو الحكم الآخر القاضي بشرعيّة عقودهم الزوجيّة وعدم بطلانها[11]، هذه الأحكام وأمثالها ستكون ـ بناءً على ما قلناه من أنَّ الأصل فيهم هو الاحترام ـ جارية على طبق القاعدة، بخلاف ما لو بنينا على الرأي الفقهي المشهور، والذي يرى أنّ الأصل فيهم هو عدم الاحترام، وأنّ الإسلام هو الذي يعطي الإنسان حرمة لماله ونفسه وعرضه، فإنّه، بناءً على هذا الرأي، ستغدو الأحكام المُشار إليها وأمثالها استثناءات جارية على خلاف القاعدة.

المجتمعات غير الإسلامية

ثم إنّه إذا تمّ الدليل على أصالة الاحترام، فسوف يكون أصل الاحترام هو الحاكم، ليس بخصوص أهل الكتاب الذين يعيشون بسلام في ظلِّ المجتمعات الإسلامية فقط، بل سيكون الأصل جارياً ومحكماً في الموارد التي يعيش فيها المسلم في المجتمعات غير الإسلاميَّة، والَّتي لا تصنَّف في عداد الدول المحاربة أو المعادية للمسلمين ولقضاياهم، أو يدخلها لاجئاً أو ضيفاً، فإنّه بناءً على رأي فقهي مشهور فلا حرمة ـ بالعنوان الأوّلي ـ لهؤلاء في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. ومن هنا، فقد لا يتورّع بعض المسلمين الذين يدخلون تلك البلاد عن ارتكاب السرقة والسَّلْب أحياناً، وإذا كان بعض الفقهاء يحرّمون هذا الأمر، وهو سرقة أموالهم أو التعدّي عليهم، فإنّما يحرمونه بالعنوان الثانوي لا بالعنوان الأوّلي، بينما بناءً على ما اخترناه، فإنّ هذا العمل سيغدو محرَّماً بالعنوان الأوّلي، لأنّ الأصل في الإنسان هو الاحترام، والموجب لهدر احترام دمه وماله وعرضه ليس هو كفره، بل حرابته وعدوانيّته.

مستند القول بعدم الاحترام

في المقابل، قد يُستدلّ على أصالة عدم احترام الكافر إلا ما خرج بالدليل ببعض الأدلة والشواهد، وبعضها عام، وبعضها خاص ووارد في موارد معيّنة. ويهمّنا هنا الحديث عن النوع الأول منها، وهي الأدلّة العامّة. أمّا الأدلّة الخاصة، فالبحث فيها متروك لمواردها الخاصة في مجال البحث الفقهي الاجتهادي. يقول بعض الأعلام المعاصرين، وهو الشيخ محمد المؤمن، بعد أن يذكر عدداً من الروايات الدالة على أنّ للكافر ـ حيّاً كان أو ميتاً ـ حرمةً في نفسه: "إنّ غاية المستفاد من الطائفتين المذكورتين (يقصد طائفتين من الأخبار)، أنّ لأهل الذمة الذين يعيشون تحت لواء الإسلام ملتزمين بشرائط الذمّة، هذه الأحكام وتلك الحقوق، وأمّا أنّ مبدأ هذه الحقوق ومنشأها هي حرمة أهل الذمّة أم أنّ منشأها حرمة ذمّة الإسلام، فلا دلالة لهما عليه".

ويضيف قائلاً: "بل إنّ من كان بنفسه محكوماً بأن يقاتل ويُقتل، فلا حرمة له في نفسه، إلا أنّ الدولة الإسلامية لمّا أذنت لهم بأن يلتزموا شرائط خاصة، ويعيشوا في البلاد الإسلامية، فنفس هذا الإذن المبني على رعاية مصالح عالية، أوجب أن يعامل معهم تلك المعاملة، فالحرمة حرمة ذمّة الإسلام، وهي تجري في كلِّ مورد أعطى الإسلام وأولياء أمور المسلمين أمناً وذمّة لأحد، حتى لو كان كافراً حربيّاً مشركاً"[12].

ولكنّنا نسجّل على كلامه ملاحظتين:

أولاً: فيما يرتبط بقوله: "إنّ الحرمة هي حرمة ذمّة الإسلام، لا حرمة أهل الذمة"، فإنّه مبني على أصالة عدم احترام الإنسان إلا إذا كان مسلماً أو دخل في ذمة المسلمين، وهذا محل اعتراضنا وإشكالنا كما عرفت، حيث قلنا: إنّ الأصل في الإنسان هو الاحترام إلا ما خرج بالدليل.

وربما يُعْترَض على ما قلناه بأنّه إذا كان الأصل في الإنسان هو الاحترام، فما الموجب لعقد الذمة؟ وما الذي يضيفه على احترامهم؟

ولكنّنا نجيب على ذلك: إنّ عقد الذمة هو نظام إسلامي هدف إلى تنظيم شؤون غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، وليس من دليل على أنّ من لم ينخرط في نظام الذمة فهو مهدور الدم والمال والعرض حتى مع افتراض كونه مسالماً، أو كان ثمّة عقد أو عهد آخر يحكم علاقته بالمسلمين، كما هو الحال في أنظمة الدولة الحديثة، فأنّ الصفة التعاقدية فيها والتي تنظم علاقة المسلمين بغيرهم ليست هي صفة نظام الذمة.

ثانياً: تعليقاً على قوله: "إنّ من كان بنفسه محكوماً بأن يُقاتل ويُقتل فلا حرمة له في نفسه"، فإنّا نقول:

أ‌- إنّ الدعوة إلى قتال الكفار ـ لو كانت واجبة ومطلوبة ـ فإنّها لا تعني إباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم قبل بدء القتال وإعلانه من قبل مَنْ له الحقّ بذلك، والقتال الابتدائي لا يصحّ الشروع به إلا بعد الدعوة إلى الإسلام، فإن لم تتم الاستجابة، فإنَّ الإمام يأمر بقتالهم.

ب‌- إنّ كلامه مبني على أنَّ الكافر إنّما يقاتل لكفره لا لحرابته وعداوته، وهو محلّ جدل وخلاف فقهيّ.

هل يقاتل الكافر لكفره أم لحرابته؟

ولأهمية هذا الأمر الأخير وصلته الوثيقة ببحثنا، فإنّنا نحاول الإطلالة عليه، ولو على نحو مختصر، تاركين التفصيل إلى المباحث الفقهية.

ولا يخفى أنَّ في المسألتين قولين لفقهاء المسلمين:

الأول: أنّ الكافر يُقاتَل لكفره، فمجرد عدم إسلامه يبرّر قتاله، ولو لم يكن معتدياً أو محارباً.

الثاني: أنّ الكافر إنما يُقاتل بسبب حرابته وعدوانيته، وليس بسبب كفره، وقد ذكر بعض الباحثين[13]، نقلاً عن جمهور الفقهاء من المالكية والحنفيّة والحنابلة، أنّ علة القتال هي المحاربة والمقاتلة والاعتداء، وليس مجرد الكفر، وقد تبنى هذا الرأي بعض أعلام الإمامية[14].

أدلّة القول بأنّ الكفر لا يجيز القتال:

وقد استدلَّ للرأي الثاني القائل إنّ الحرابة هي التي تبيح القتال، أمّا الكفر بمجرده، فلا يبيحه بعدّة وجوه، والذي أراه تاماً منها هو آيتان قرآنيتان:

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: 190]. دلّت هذه الآية المباركة على أنّ القتال المشروع والمأمور به، هو قتل من يقاتلنا، والوصف مشعر بالعلية، أي إنهم يُقَاتَلون لأنهم يُقَاتِلون، أما المسالمون فلا إذن في قتالهم، بل إن قتالهم داخل في العدوان.

الآية الثانية، وقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة: 8-9].

وهذه الآية الكريمة دالة على أنّ المسالمين من غير المسلمين، والذين لم يقاتلونا، لا بدّ من أن نتعامل معهم على أساس العدل، ومن العدل أن لا نعتدي عليهم في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم.

ومضمون هاتين الآيتين محكم وساري المفعول، إذ لم يثبت نسخه كما سنلاحظ، ولذا، فلا موجب لرفع اليد عنه.

أدلّة القول إنّ الكافر يُقاتَل لكفره:

وفي المقابل، استدلّ للقول الأول، وهو أنَّ الكافر يُقاتل لمجرد كفره، ولو لم يحارب أو يعتدِ، بعدّة آيات قرآنيّة وبعض النصوص الروائية:

آيات الكتاب

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}[التوبة: 31].

ويلاحظ على الاستدلال بهذه الآية:

أولاً: إنّ الآية ناظرة ـ على الأرجح ـ إلى حالة الدفاع ورد الاعتداء، فالمشركون إنّما يُقاتَلون إذا قاتلوا، وبعبارة أخرى: مفاد الآية هو حيث إنَّ المشركين يقاتلونكم كافة فقاتلوهم كافة، فتكون دلالتها أقرب إلى القول الثاني، وهو أنّ الكافر يقاتل لعدوانيته ومحاربته لا لكفره، ولعلّه لهذا نجد أنَّ بعضهم ذكرها في عداد أدلة القول الثاني، مع أنّ ذلك لا يخلو من تأمل، على اعتبار أنّ الآية الشريفة لا مفهوم لها، أي إنّها دلّت على مشروعية قتال الذين يقاتلوننا، ولكنّها لا تنفي مشروعية قتال الذين لا يقاتلوننا، فإذا تمّ دليل ذلك فلا تكون الآية منافية له.

ثانياً: إنّ الآية، كما يقول العلامة الطباطبائي، "تتعرّض لحال القتال مع المشركين، وهم عَبَدَة الأوثان غير أهل الكتاب، فإنّ القرآن، وإنْ كان ربَّما نسب الشرك تصريحاً أو تلويحاً إلى أهل الكتاب، لكنه لم يطلق "المشركين" على طريق التوصيف إلا على عبدة الأوثان، وأما الكفر فعلاً أو وصفاً، فقد نُسب إلى أهل الكتاب وأُطلق عليهم، كما نسب وأطلق على عبدة الأوثان"[15]، وعليه، فتكون دلالة الآية أخصّ من المدعى.

الآية الثانية: قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5].

ويلاحظ على الاستدلال بالآية الشريفة ـ إضافة إلى الإشكال الثاني المتقدّم ـ: بأنّ سياقها يدلّ على أنّ الكفر ليس سبباً مستقلاً للقتل والقتال، والقرائن السياقية الدالة على ذلك هي:

أولاً: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}[التوبة:6]، فإنّه لو كان الكفر علّة لقتله، "فإذا كان جائزاً إجارته حتى يسمع كلام الله تعالى، فأيُّ معنى يبقى لإبلاغه مأمنه ما دام بقي على كفره متلبساً به"[16].

ثانياً: إنّ قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة: 8]، يشرح السبب في أن لا يكون لهؤلاء المشركين عهد عند الله، والسبب هو أنّهم إذا تمكّنوا منكم لغدروا بكم. وهذه قرينة واضحة على أنّ هؤلاء إنّما يقاتَلون ولا يُصغى إلى عهودهم، لأنّهم مترصّدون للمؤمنين ويكيدون لهم، فلو كان هناك جماعة مسالمة من أهل الكتاب أو غيرهم، ولا يكيدون للمؤمنين، ولا يتربّصون بهم شرّاً، بل ربما تعاطفوا معهم، كما هو حال الكثيرين من المسالمين القاطنين في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، فهؤلاء لا تشملهم الآية.

الآية الثالثة: قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: 29]، فالآية أمرت بقتالهم لا لحرابتهم، بل لعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر.

ويلاحظ على ذلك:

أولاً: ما قدّمنا الإشارة إليه من أنّ الأمر بالقتل، لا يعني عدم الحرمة قبل القتال، ولا ملازمة بين الأمرين.

ثانياً: إنّ ثمة ملاحظة لا بدّ من أن نتوقّف عندها في هذه الآية، وهي أنّها أمرت بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر من الذين أوتوا الكتاب، فكيف نفهم ذلك، مع أنّ أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ لأنهم ـ أعني أهل الكتاب ـ وإن انحرفوا عن تعاليم أنبيائهم، لكن لا إلى الحدّ الذي جعلهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر؟

ذهب بعض العلماء، وهو المعروف في كتب التفاسير، إلى أنّ نفي الإيمان بالله واليوم الآخر عنهم مع أنّهم من أهل الكتاب هو من جهة أنّهم لا يرون ما هو الحقّ في باب التوحيد والمعاد ولا يلتزمون بلوازمه في مقام العمل، وقيل: "لأنّهم يضيفون إلى الله تعالى ما لا يليق بذاته، فكأنّهم لا يعرفونه حتى يؤمنوا به[17]". وبناءً على هذا الرأي المشهور في التفسير، تكون "مِنْ" في قوله تعالى {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بيانية.

ولكن هذا التفسير محلّ إشكال:

أ‌- إنّه خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر أنّ "مِنْ" تبعيضية لا بيانية، كيف وقد وصف الله في كتابه أهل الكتاب أنّهم يؤمنون بالله واليوم الآخر في أكثر من آية، ففي سورة البقرة يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62، وراجع المائدة].

ب‌- إنّ وجود انحرافات في عقيدتهم إزاء المبدأ أو المعاد، لا تسمح بنفي الإيمان عنهم بشكل مطلق، كيف وبعض المسلمين لديهم انحرافات في هذا الصدد بشأن الإيمان بالله، كاعتقاد بعضهم بما يلازم الجسميّة أو بما لا ينسجم مع العدل الإلهي، أو كاعتقاد البعض بالمعاد الروحاني فقط دون الجسماني؟

ثالثاً: وقد يقال إنّ الآية لا تدلّ على أنّ الكافر يُقاتَل لكفره فقط، لأنّها نصّت على أنّ نهاية القتال وغايته، هي الدخول في نظام الجزية وليس الدخول في الإسلام، فلو كان يُقاتل لكفره لكان المفروض أن تكون غاية القتال هي دخوله في الإسلام وليس دفع الجزية[18].

ولكن يمكن الجواب على ذلك بأنّ القائلين إنّ الكافر يُقاتل لكفره، ولو لم يكن محارباً، يلتزمون بالاستثناء في ذلك، أي يقولون: إنّه يقاتل لكفره، إلّا إذا أسلم أو خضع لنظام الذمة، فالمبدأ العام عندهم أنّ الكافر يقاتل ويحارب إلى أن يسلم أو يخضع لنظام الجزية.

رابعاً: "إنّ الآية لم تأمر بالقتل، وإنّما أمرت بالقتال، وثمة فارقٌ كبير في الدلالة اللغوية بين الاثنين، وبيان ذلك: أنّ كلمة (قَاتَل) على وزن (فَاعَل) تدلّ على المشاركة، وبالتالي هي تستلزم وجود طرفين يتشاركان فعلاً واحداً، وهو القتال في فرضنا الحالي، بل أكثر من ذلك، إنّ هذا اللفظ لا ينطبق إلّا تعبيراً عن مقاومة لبادئ سبق إلى قصد القتل، فالمقاوم للبادئ هو الذي يُسمّى مقاتلاً، أما البادي فهو أبعد من أن يُسمّى- عرفياً- مقاتلاً، بل هو في الاستخدام الشائع والمتداول معتدياً وقاتلاً، ولا يمكن تسميته مقاتلاً، من هنا، فالمقاتلة بما هي من أفعال المشاركة، إنّما تقوم مع فرض تصور معتدٍ أو قاتل ينهض للتصدّي له مقاتل، وإلا لما كان هناك معنى للمشاركة"[19].

ويلاحظ عليه: أنّه يكفي مبرّراً لاستخدامك صيغة المشاركة التي تختزنها صفة المفاعلة أن يكون الآخر مستعدّاً لقتالك في حال هاجَمْته ولو لم يكن معتدياً أو مبتدئاً بالقتال.

خامساً: إنّ هذه الآية، حتى لو تمّت دلالتها على لزوم مقاتلة الكافرين المسالمين غير المحاربين، لا بدّ من أن يجمع بينها وبين الآيات المتقدمة وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ...}[البقرة:190]، بناء على أنّ مقاتلة الذين لا يقاتلوننا هو عدوان، وكذا قوله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ}[الممتحنة: 8]، لتكون النتيجة بعد الجمع هي أنّه إنّما يُقَاتل المعتدون دون المسالمين والذين لا يعتدون.

الاستدلال بالروايات

وقد استدلّ أيضاً للقول المذكور، وهو أنَّ الكفر سبب كافٍ للقتال- ولو لم يكن الكافر محارباً- ببعض الروايات، وأبرزها:

1) ما رُوِي عنه(ص): "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله"[20].

ويلاحظ على هذا الحديث:

أولاً: إنّ سند الحديث موضع تأمّل، لأنّه وبصرف النظر عن مدى حصول الوثوق بروايات أبي هريرة وابن عمر، فإنّ ثمّة تساؤلاً مشروعاً طَرَحه الحافظ ابن حجر، ذكر فيه أنّ من العلماء مَنْ استبعد صحّته، مستدلاًّ بأنّ ابن عمر لو كان عنده علم بهذا الحديث لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة"[21].

وإنّنا نحتمل أن يكون هذا الحديث من الموضوعات لتبرير ما جرى بعد رسول الله(ص) فيما عُرف بحروب الردّة التي تمّت المبالغة فيها بشكلٍ كبير، إذ إنّ ما حُكِيَ عن هذه الردّة الواسعة هو مثار الارتياب.

وقد بحث الشيخ محمد حسن آل ياسين هذه المسألة في بحث جميل ودراسة مختصرة، بعنوان "نصوص الردّة في تاريخ الطبري"، وناقش فيها روايات الردّة سنداً ومضموناً، متسائلاً: كيف لنا أن نتقبّل حصول هذه الردّة الواسعة التي عمّت الأقطار وأطاحت بكلِّ جهود النبي(ص) على مدى عقدين ونيف، على أيدي أشخاص تافهين، كطلحة أو مسيلمة أو سجاح، الذين جاؤوا "بآيات كلامية" هي سفسطة كلام ليس فيه شيء من البلاغة والفصاحة، لتصارع القرآن الكريم، معجزة النبي(ص)! فهل تردّى الذوق العربي وقد كان في قمّة البلاغة، حتى استقرّ في مثل هذا الحضيض؟![22].

ثانياً: إنّ هذا الحديث حتى لو تمّ سنداً، فلا يمكننا القبول بمضمونه، لأنّه يلغي نظام الذمّة في الإسلام، لأنّ غاية الكفّ عن القتال- طبقاً للحديث- هو أن يُسلموا ويقيموا الصلاة والزكاة، مع أنّ نظام الذمّة ثابت بالقرآن الكريم والسُّنّة القطعية، ما يجعل هذا الحديث معارضاً لكتاب الله تعالى.

ثالثاً: كما أنّه ينافي ما رُوِي عن النبي(ص) أنّه أَمَرَ بمقاتلة الناس حتى يشهدوا بشهادة التوحيد، فإن شهدوا بها عُصمت دماؤهم وأموالهم، ما يعني أنّه(ص) مأمور بقتال خصوص الملحدين والمشركين، والحديث هو ما رواه أبو هريرة قال: "لما توفّي رسول الله(ص) وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: كيف تُقاتل الناس وقد قال رسول الله(ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله، فمَنْ قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلّا بحقّه، وحسابه على الله، فقال: والله، لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حقّ المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله(ص) لقاتلتهم على منعها"[23]، فالحديث الأول يرهن عصمة المال والدم بالإيمان بالتوحيد والنبوّة الخاصة وإقامة الصلاة وأداء الزكاة، بينما الحديث الثاني وفي خصوص ما نُقل عن رسول الله(ص)، وبصرف النظر عن اجتهاد أبي بكر، قد رهن عصمة المال والدم بشهادة التوحيد فقط، ومقتضى مفهومه أنّ مَنْ قالها عصم ماله ودمه ولو لم ينطق بالشهادة الثانية بالنبوّة، ولم يقم الصلاة ولم يؤدِّ الزكاة.

2) وهناك روايات أخرى استدلّ بها للقول إنّه "لا حرمة للكفار"، وذلك فيما ورد في الأحاديث المستفيضة من أنّ "الإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء" ، "فالإسلام هو الموجب لحقن الدم، فالكافر ليس- بما هو كافر- محقون الدم، فضلاً عن أن يكون له حرمة أزيد منه[24].

أقول: الروايات التي ينظر إليها هي من قبيل:

1- موثّقة سماعة "قال: أخبرني عن الإسلام والإيمان، أهما مختلفان؟ فقال: "إنّ الإيمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان"، فقلت: فصفهما لي؟ فقال: "الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس"[25].

2- صحيحة الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله(ع): "إنّ الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام، إنّ الإيمان ما وقر في القلوب، والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء والإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان"[26].

ويلاحظ على هذا الاستدلال: إنّه لا إطلاق للروايات ليدلّ على أنّ كلّ مَنْ ليس مسلماً فهو غير محقون الدم، لأنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وإنّما هي في مقام البيان من جهة إعطاء الفارق بين الإسلام والإيمان، فذكرت أنّ الإسلام ما جرت عليه المناكح، وهو الذي تُحقن به الدماء، ويكفي لصدق ذلك أن يكون المرء قبل إسلامه مهدور الدم كأن يكون حربيّاً، ولا دلالة فيها إطلاقاً على أنّ كلّ مَنْ ليس مسلماً فهو مهدور الدم.

وقد تبيّن أنّه لا دليل على عدم حرمة الكافر بمجرّد الكفر في نفسه أو ماله أو عِرْضه، وعليه فنبقى نحن والعمومات والإطلاقات المشار إليها سابقاً، والدالّة على أنّ الكافر لا يُقاتَل لكفره، وإنّما يقاتَل لحرابته وعدوانيّته.

أعاود تأكيد أنّ هذه إطلالة مختصِرة على هذا الموضوع، وتبقى بعض الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات شافية من قبيل:

- هل إنَّ غزوات رسول الله(ص) وحروبه في مواجهة المشركين والكافرين كانت بأجمعها دفاعية ولصدِّ عدوانهم أو أنَّ بعضها على الأقل كانت ابتدائية؟

- إذا قلنا بمشروعيّة الجهاد الابتدائي في زمن غيبة الإمام الثاني(ع)، فهل يختلف الموقف المتقدّم؟ وهذا السؤال جارٍ وفق المعتقدات الشيعيّة كما هو واضح.

- ما هو العدوان الذي يبيح قتال الكفّار؟ أهو الهجوم على ديار المسلمين واحتلال أرضهم؟ أم يكفي في صدق العدوان المبيح لقتالهم (بناء على القول الثاني المتقدّم) تعرّضهم لبعض الجماعات المستضعَفة ولو كانت غير مسلمة بالظلم والاضطهاد؟ وهل يَصْدُق العدوان أيضاً في حال منعهم للفكر الإسلامي من الوصول بطرق الدعوة السلميّة إلى غير المسلمين؟

******

[1]ومن هنا، يفتي الفقهاء بجواز سب من ليس مؤمناً، وجواز لعنه، وعدم حرمته حياً وميتاً، فيجوز نبش قبره ولا مانع من تشريح جثته، انظر بشأن جواز لعنه وسبّه: سبل السلام للكحلاني ج3 ص119، وتفسير الفخر ج28 ص134، وكتاب المكاسب المحرمة للشيخ الأنصاري ج1 ص255 وص319 والحدائق الناضرة ج18 ص164 ومصباح الفقاهة للسيد الخوئي ج1 ص436 والمكاسب المحرمة للإمام الخميني ج 1 ص250 ، وانظر حول عدم حرمته ميتاً منهاج الصالحين ج1 ص 426 وتحرير الوسيلة ج2 ص624.

[2] بمعنى أنّه لا حرمة من الناحية المعنوية له، ومن هنا، جاز سبّه ولعنه وغيبته، كما أسلفنا في الهامش السابق.

[3]سنن النسائي، ج8 ص105.

[4]رواه الصدوق عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (ع)، انظر: التوحيد، ص239.

[5]الكافي، ج 2 ص 234

[6]أنظر: السيرة النبوية لابن هاشم، ج2 ص351.

[7]نهج البلاغة، ج3 ص84 وهذا العهد معتبر من حيث السند، ويمتلك مضموناً عالياً.

[8]وسائل الشيعة، ج15 ص66 الباب 19 من أبواب جهاد العدو الحديث1.

[9]استناداً إلى ما ورد في الروايات المعتبرة، فقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص):"إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور"، أنظر نهج البلاغة ج3 ص78، ونحوه روايات أخرى تنهى عن التمثيل بأجساد أمواتهم.

[10]استناداً إلى ما ورد في الحديث:"أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً وفاجراً"، انظر: الكافي ج2 ص336، ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 57].

[11]استنادا إلى أنّ " فإنّ لكلِّ قوم نكاحاً" كما جاء في الحديث، انظر: تهذيب الأحكام، ج7 ص472.

[12]كلمات سديدة في مسائل جديدة، ص144- 145.

[13]انظر: الجهاد في الإسلام للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ص94، والمسلم مواطناً في أوروبا للشيخ فيصل المولوي ص95.

[14]الجهاد من تقريرات السيد فضل الله ص205 وما بعدها، ولكن يظهر من فقهاء آخرين (ومنهم السيد الخوئي رحمه الله) أنّ كل كافر يشرع جهاده، فإن كان الكافر مشركاً "فتجب دعوته إلى كلمة التوحيد والإسلام فإن قبلوا، وإلاّ وجب قتالهم وجهادهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا وتطهر الأرض من لوث وجودهم" ، وإن كان كتابياً فإنّه "تجب مقاتلتهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون" أنظر: منهاج الصالحين للسيد الخوئي ج1 ص360- 361.

[15]تفسير الميزان، ج9 ص270.

[16]الجهاد من تقريرات السيد فضل الله ص210، والجهاد للشيخ البوطي ص56.

[17]دراسات في ولاية الفقيه ج3 ص365، وراجع تفسير مجمع البيان والتبيان وغيرهما.

[18]انظر: كتاب الجهاد من تقريرات السيد فضل الله ص212.

[19]الجهاد للسيد فضل الله ص212- 213، وقد ذكر نظير هذا الكلام الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه: الجهاد في الإسلام ص 58- 59.

[20]رواه الشيخان عن أبي هريرة، وروي من طريق الشيخين مرفوعاً إلى ابن عمر عن رسول الله (ص)، انظر: صحيح البخاري ج1 ص12، وص102، وصحيح مسلم ج1 ص38 وما بعدها، وراجع بحار الأنوار ج1 ص11.

[21]فتح الباري ص57.

[22]انظر: نصوص الردّة في تاريخ الطبري ص 17-18.

[23]البخاري، ج2 ص110، وهذا الحديث مرويّ في مصادرنا عن علي (ع) عن رسول الله (ص)، انظر: عيون أخبار الرضا (ع) ج1 ص70، ونصّه: "أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماؤهم وأموالهم"، والرواية رواها محمد بن عمر الحافظ (وهو من مشايخ الصدوق ونقل عنه في موارد عديدة وهو المعروف بالجعابي) عن الحسن بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني سيدي علي بن موسى الرضا (ع).. والحسن بن عبد الله التميمي لم نعثر عليه في كتب الرجال.

[24] كلمات سديدة، ص145- 146.

[25]الكافي ج2 ص25.

[26]الكافي ج2 ص26، وانظر نحوه ما رواه البرقي في المحاسن ج1 ص185.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

هل الأصل في الإنسان أن يكون محترم النفس والعِرض والمال بصرف النظر عن معتقده ودينه وعرقه، أو أنَّ الأصل هو عدم احترام إلا مَنْ أخرجه الدليل، وهو المسلم، أو من كان بينه وبين المسلمين عقد معيّن يمنحه الاحترام؟!

يذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ غير المسلم، إنْ لم يكن ذمّياً معاهداً، فلا حرمة له في نفسه ولا في عرضه ولا في ماله[1]، حتى لو كان مسالماً وغير معادٍ لنا ولا لقضايانا. وأمّا الذمّي، فإنّ الذمّة هي التي تمنحه الاحترام، وهي إنّما تعطيه حرمة لنفسه ولماله فقط، دون عِرضه[2]، والحرمة هنا إنّما يكتسبها من خلال عقد الذمّة، لا بسبب حرمته في نفسه، تماماً كما هو الحال في المستجار: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}[التوبة6].

ولكن يمكننا أن نسجّل رأياً مخالفاً لما ذكروه، وهو رأي يذهب إلى أنّ الإنسان بشكلٍ مطلق، وبصرف النظر عن دينه، هو محترَم النفس والعِرض والمال، ما لم يَهْدر هو احترامه بارتكاب ما يوجب سقوط حرمته.

وهذا الرأي يأخذ بعين الاعتبار أنّ فتاوى الفقهاء التي لا ترى لغير المسلم حرمة، فتجوّز غيبته ولعنه وسبه، وتبيح التعامل معه بازدراء واحتقار، وتحكم بنجاسته الذاتية مع ما يخلقه ذلك من احتقار له، ولا تسمح له في ظلّ الدولة الإسلامية ببناء بيت أعلى من بيوت المسلمين، وتمنعه من دخول المسجد... إنّ هذه الفتاوى ليست من مسلَّمات الشريعة أو ضروريّات الفقه، ولذا، يحقّ لنا أن ندعو إلى إعادة قراءتها.

في المنهج

وأعتقد أنَّ المنهج الصحيح في عملية قراءة هذه الفتاوى المختلفة والمتعدّدة، يفرض علينا أن ندرسها بشكلٍ مجموعي، وليس على طريقة الدراسة التجزيئية التي تلاحظ كلّ فتوى وأدلّتها بعيداً عن سائر الفتاوى وأدلّتها. والفائدة المرجوّة من النظرة المجموعية إلى تلك الفتاوى، أنّها سوف تساهم في تشكيل تصوّر متكامل إزاء الآخر، وهذا التصوّر قد لا يمكننا الموافقة عليه، لمنافاته مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ولو أنّنا تعاملنا مع تلك الفتاوى بطريقة تجزيئية لما أحسسنا بهذه المنافاة، ما يفرض علينا بادئ ذي بدء، أن نسعى للتعرّف إلى الرؤية الإسلامية تجاه الآخر المختلف عنّا دينياً.

في المستند

والَّذي يمكننا قوله في بيان الرؤية الإسلاميَّة المذكورة: إنّ الأصل في الإنسان أن يكون محترم المال والعرض والدم، إلا ما خرج بدليل، فاحترام الإنسان هو المبدأ والقاعدة، وعدمه هو الاستثناء، وذلك كما في حالات العدوان، ففي حالة العدوان، فإنَّ الشخص هو الذي يُسقط حرمته. وما يمكن الاستدلال والاستشهاد به على أصالة احترام الإنسان هو:

أولاً: مبدأ التكريم الإلهي لبني الإنسان، فالإنسان ـ كإنسان ـ هو خليفة الله على الأرض، وهو في موضع التكريم الإلهي: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[الإسراء: 70]، فالتكريم هو لابن آدم، وليس لجماعة دينيّة أو عرقيّة أو قوميّة بعينها، لكن من الطبيعي أن يبقى التكريم قائماً ما دام الإنسان سائراً في خطّ الاستخلاف، غير متنكّر لخالقه ولا جاحد بربوبيّته، ولا يعمل على الإفساد في الأرض، لأنّه بذلك يخرج عن خطّ الاستخلاف، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود: 61].

ثانياً: مبدأ العدل، فإنّ الشريعة الإسلاميّة، وكذا كلّ الشرائع السماوية، تهدف إلى تحقيق العدل في الأرض، وقد أُرسلت الرسل للغاية نفسها، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 26]، ومبدأ العدل ـ كما غيره من المبادئ والقيم ـ لا يقبل التجزئة، لأنّه من المبادئ التي يحكم بها العقل. ومعروف أنَّ أحكام العقل لا تقبل التخصيص، كما أنّ الآيات والروايات الآمرة بالعدل، هي من النوع الأبي عن التقييد والتخصيص والاستثناء، كما يقول الأصوليون. ولذا، نصّ القرآن الكريم على التعامل مع الإنسان المسالم من غير ديننا على أساس العدل، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة: 8]، ومن الواضح أنّ القسط إليهم يفرض عدم التعرّض لكراماتهم وأعراضهم، فضلاً عن سفك دمائهم أو أموالهم، كما أنّ احترام موتى الناس هو من احترامهم.

ثالثاً: النصوص الخاصّة، وهي بعض الروايات التي تؤكّد القاعدة المذكورة، ومن أبرزها: الحديث المشهور المرويّ من طرق الفريقَيْن في صفة المسلم، فعن أبي هريرة عن رسول الله(ص): "المسلم من سَلِمَ الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم"[3]، والمعنى عينه ورد في الخبر المعتبَر عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: "المسلم من سَلِمَ الناس من يده ولسانه، والمؤمن مَن ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم"[4]، وتقريب الاستدلال: إنّ الخبر دلّ على انحصار المسلم بمن سَلِم الناس من لسانه ويده، فيُستفاد منه أنّ من لا يسلم الناس (مطلق الناس) من لسانه ويده ليس مسلماً، وإذا كانت بعض النصوص قد أكّدت أنَّ "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"[5]، فهي لا تنافي النص المتقدّم، لأنّه لا تنافي بين مثبتين، كما ذَكَر علماء الأصول.

رابعاً: النصوص التعاقدية، وثمة نصوص أخرى يمكن تسميتها بالنصوص التعاقدية، وهي التي تنظِّم علاقة المسلمين بغيرهم، إليك بعضها:

أ‌- وثيقة المدينة، أو ما عُرف بدستور المدينة، حيث نجد أنّ النبي(ص) أقرَّ لليهود بأنّهم أمّة واحدة مع المؤمنين، وجاء في الوثيقة المذكورة: "وأنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلاّ من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته، وأنّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.."[6].

إنّ معنى كون اليهود أمة مع المؤمنين، أنّ حرمتهم كحرمة المؤمنين، إلا من ظلم وبغى، فإنّه يُهلك نفسه، وهذه الوثيقة هي من أهمّ وأقوم العهود والوثائق السياسية والقانونية في الإسلام.

ب‌- وفي عهد علي(ع) إلى مالك الأشتر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان، إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"[7].

ت‌- وفي الخبر "أنّه مرّ شيخ مكفوف كبير، فقال أمير المؤمنين(ع): ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني! فقال أمير المؤمنين(ع): "استعملتموه، حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال"[8].

وربما يورد على النصوص التعاقديّة بأنّها، وإن استفيد منها احترام الآخر، لكن ربما كان عقد الذمّة هو منشأ الاحترام.

خامساً: الانسجام التشريعي. إنّ ثمة مفارقة في المقام نسجّلها للتأييد لا للاستدلال، وهي أنّ الإسلام يجيز للمسلم أن يتزوّج الكتابية، وأن ينجب منها أولاداً، ومع ذلك، فإنّ هذه المرأة ـ بحكم أنّها كافرة ـ لا حرمة لها في عِرضها وكرامتها، فيجوز لعنها وسبّها، ولا حرمة لجسدها بعد موتها، لأنّ عقد الذمّة إنّما أعطاها حرمة لنفسها ومالها فقط! إنّ هذه الفتاوى ليست منسجمة فيما بينها.

وخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الأدلّة والشواهد وغيرها، أنّ الأصل في الإنسان هو الاحترام، أي إنّه محترم النفس والمال والعرض، وإنّ كفره لا يسلبه الاحترام، وإنّما الذي يسلبه الاحترام هو عدوانه ومحاربته، أو خروجه على النظام.

على طبق القاعدة

وبناءً على هذا الرأي الذي اخترناه، ستكون الأحكام الشرعية التفصيلية التي نصّ عليها مشهور الفقهاء بشأن غير المسلمين، واعتبروها استثناءات من أصالة عدم الاحترام، من قبيل: حرمة التمثيل بأجساد موتاهم[9]، أو الحكم القاضي بوجوب ردّ الأمانة إليهم[10]، أو الحكم الآخر القاضي بشرعيّة عقودهم الزوجيّة وعدم بطلانها[11]، هذه الأحكام وأمثالها ستكون ـ بناءً على ما قلناه من أنَّ الأصل فيهم هو الاحترام ـ جارية على طبق القاعدة، بخلاف ما لو بنينا على الرأي الفقهي المشهور، والذي يرى أنّ الأصل فيهم هو عدم الاحترام، وأنّ الإسلام هو الذي يعطي الإنسان حرمة لماله ونفسه وعرضه، فإنّه، بناءً على هذا الرأي، ستغدو الأحكام المُشار إليها وأمثالها استثناءات جارية على خلاف القاعدة.

المجتمعات غير الإسلامية

ثم إنّه إذا تمّ الدليل على أصالة الاحترام، فسوف يكون أصل الاحترام هو الحاكم، ليس بخصوص أهل الكتاب الذين يعيشون بسلام في ظلِّ المجتمعات الإسلامية فقط، بل سيكون الأصل جارياً ومحكماً في الموارد التي يعيش فيها المسلم في المجتمعات غير الإسلاميَّة، والَّتي لا تصنَّف في عداد الدول المحاربة أو المعادية للمسلمين ولقضاياهم، أو يدخلها لاجئاً أو ضيفاً، فإنّه بناءً على رأي فقهي مشهور فلا حرمة ـ بالعنوان الأوّلي ـ لهؤلاء في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. ومن هنا، فقد لا يتورّع بعض المسلمين الذين يدخلون تلك البلاد عن ارتكاب السرقة والسَّلْب أحياناً، وإذا كان بعض الفقهاء يحرّمون هذا الأمر، وهو سرقة أموالهم أو التعدّي عليهم، فإنّما يحرمونه بالعنوان الثانوي لا بالعنوان الأوّلي، بينما بناءً على ما اخترناه، فإنّ هذا العمل سيغدو محرَّماً بالعنوان الأوّلي، لأنّ الأصل في الإنسان هو الاحترام، والموجب لهدر احترام دمه وماله وعرضه ليس هو كفره، بل حرابته وعدوانيّته.

مستند القول بعدم الاحترام

في المقابل، قد يُستدلّ على أصالة عدم احترام الكافر إلا ما خرج بالدليل ببعض الأدلة والشواهد، وبعضها عام، وبعضها خاص ووارد في موارد معيّنة. ويهمّنا هنا الحديث عن النوع الأول منها، وهي الأدلّة العامّة. أمّا الأدلّة الخاصة، فالبحث فيها متروك لمواردها الخاصة في مجال البحث الفقهي الاجتهادي. يقول بعض الأعلام المعاصرين، وهو الشيخ محمد المؤمن، بعد أن يذكر عدداً من الروايات الدالة على أنّ للكافر ـ حيّاً كان أو ميتاً ـ حرمةً في نفسه: "إنّ غاية المستفاد من الطائفتين المذكورتين (يقصد طائفتين من الأخبار)، أنّ لأهل الذمة الذين يعيشون تحت لواء الإسلام ملتزمين بشرائط الذمّة، هذه الأحكام وتلك الحقوق، وأمّا أنّ مبدأ هذه الحقوق ومنشأها هي حرمة أهل الذمّة أم أنّ منشأها حرمة ذمّة الإسلام، فلا دلالة لهما عليه".

ويضيف قائلاً: "بل إنّ من كان بنفسه محكوماً بأن يقاتل ويُقتل، فلا حرمة له في نفسه، إلا أنّ الدولة الإسلامية لمّا أذنت لهم بأن يلتزموا شرائط خاصة، ويعيشوا في البلاد الإسلامية، فنفس هذا الإذن المبني على رعاية مصالح عالية، أوجب أن يعامل معهم تلك المعاملة، فالحرمة حرمة ذمّة الإسلام، وهي تجري في كلِّ مورد أعطى الإسلام وأولياء أمور المسلمين أمناً وذمّة لأحد، حتى لو كان كافراً حربيّاً مشركاً"[12].

ولكنّنا نسجّل على كلامه ملاحظتين:

أولاً: فيما يرتبط بقوله: "إنّ الحرمة هي حرمة ذمّة الإسلام، لا حرمة أهل الذمة"، فإنّه مبني على أصالة عدم احترام الإنسان إلا إذا كان مسلماً أو دخل في ذمة المسلمين، وهذا محل اعتراضنا وإشكالنا كما عرفت، حيث قلنا: إنّ الأصل في الإنسان هو الاحترام إلا ما خرج بالدليل.

وربما يُعْترَض على ما قلناه بأنّه إذا كان الأصل في الإنسان هو الاحترام، فما الموجب لعقد الذمة؟ وما الذي يضيفه على احترامهم؟

ولكنّنا نجيب على ذلك: إنّ عقد الذمة هو نظام إسلامي هدف إلى تنظيم شؤون غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، وليس من دليل على أنّ من لم ينخرط في نظام الذمة فهو مهدور الدم والمال والعرض حتى مع افتراض كونه مسالماً، أو كان ثمّة عقد أو عهد آخر يحكم علاقته بالمسلمين، كما هو الحال في أنظمة الدولة الحديثة، فأنّ الصفة التعاقدية فيها والتي تنظم علاقة المسلمين بغيرهم ليست هي صفة نظام الذمة.

ثانياً: تعليقاً على قوله: "إنّ من كان بنفسه محكوماً بأن يُقاتل ويُقتل فلا حرمة له في نفسه"، فإنّا نقول:

أ‌- إنّ الدعوة إلى قتال الكفار ـ لو كانت واجبة ومطلوبة ـ فإنّها لا تعني إباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم قبل بدء القتال وإعلانه من قبل مَنْ له الحقّ بذلك، والقتال الابتدائي لا يصحّ الشروع به إلا بعد الدعوة إلى الإسلام، فإن لم تتم الاستجابة، فإنَّ الإمام يأمر بقتالهم.

ب‌- إنّ كلامه مبني على أنَّ الكافر إنّما يقاتل لكفره لا لحرابته وعداوته، وهو محلّ جدل وخلاف فقهيّ.

هل يقاتل الكافر لكفره أم لحرابته؟

ولأهمية هذا الأمر الأخير وصلته الوثيقة ببحثنا، فإنّنا نحاول الإطلالة عليه، ولو على نحو مختصر، تاركين التفصيل إلى المباحث الفقهية.

ولا يخفى أنَّ في المسألتين قولين لفقهاء المسلمين:

الأول: أنّ الكافر يُقاتَل لكفره، فمجرد عدم إسلامه يبرّر قتاله، ولو لم يكن معتدياً أو محارباً.

الثاني: أنّ الكافر إنما يُقاتل بسبب حرابته وعدوانيته، وليس بسبب كفره، وقد ذكر بعض الباحثين[13]، نقلاً عن جمهور الفقهاء من المالكية والحنفيّة والحنابلة، أنّ علة القتال هي المحاربة والمقاتلة والاعتداء، وليس مجرد الكفر، وقد تبنى هذا الرأي بعض أعلام الإمامية[14].

أدلّة القول بأنّ الكفر لا يجيز القتال:

وقد استدلَّ للرأي الثاني القائل إنّ الحرابة هي التي تبيح القتال، أمّا الكفر بمجرده، فلا يبيحه بعدّة وجوه، والذي أراه تاماً منها هو آيتان قرآنيتان:

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: 190]. دلّت هذه الآية المباركة على أنّ القتال المشروع والمأمور به، هو قتل من يقاتلنا، والوصف مشعر بالعلية، أي إنهم يُقَاتَلون لأنهم يُقَاتِلون، أما المسالمون فلا إذن في قتالهم، بل إن قتالهم داخل في العدوان.

الآية الثانية، وقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة: 8-9].

وهذه الآية الكريمة دالة على أنّ المسالمين من غير المسلمين، والذين لم يقاتلونا، لا بدّ من أن نتعامل معهم على أساس العدل، ومن العدل أن لا نعتدي عليهم في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم.

ومضمون هاتين الآيتين محكم وساري المفعول، إذ لم يثبت نسخه كما سنلاحظ، ولذا، فلا موجب لرفع اليد عنه.

أدلّة القول إنّ الكافر يُقاتَل لكفره:

وفي المقابل، استدلّ للقول الأول، وهو أنَّ الكافر يُقاتل لمجرد كفره، ولو لم يحارب أو يعتدِ، بعدّة آيات قرآنيّة وبعض النصوص الروائية:

آيات الكتاب

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}[التوبة: 31].

ويلاحظ على الاستدلال بهذه الآية:

أولاً: إنّ الآية ناظرة ـ على الأرجح ـ إلى حالة الدفاع ورد الاعتداء، فالمشركون إنّما يُقاتَلون إذا قاتلوا، وبعبارة أخرى: مفاد الآية هو حيث إنَّ المشركين يقاتلونكم كافة فقاتلوهم كافة، فتكون دلالتها أقرب إلى القول الثاني، وهو أنّ الكافر يقاتل لعدوانيته ومحاربته لا لكفره، ولعلّه لهذا نجد أنَّ بعضهم ذكرها في عداد أدلة القول الثاني، مع أنّ ذلك لا يخلو من تأمل، على اعتبار أنّ الآية الشريفة لا مفهوم لها، أي إنّها دلّت على مشروعية قتال الذين يقاتلوننا، ولكنّها لا تنفي مشروعية قتال الذين لا يقاتلوننا، فإذا تمّ دليل ذلك فلا تكون الآية منافية له.

ثانياً: إنّ الآية، كما يقول العلامة الطباطبائي، "تتعرّض لحال القتال مع المشركين، وهم عَبَدَة الأوثان غير أهل الكتاب، فإنّ القرآن، وإنْ كان ربَّما نسب الشرك تصريحاً أو تلويحاً إلى أهل الكتاب، لكنه لم يطلق "المشركين" على طريق التوصيف إلا على عبدة الأوثان، وأما الكفر فعلاً أو وصفاً، فقد نُسب إلى أهل الكتاب وأُطلق عليهم، كما نسب وأطلق على عبدة الأوثان"[15]، وعليه، فتكون دلالة الآية أخصّ من المدعى.

الآية الثانية: قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5].

ويلاحظ على الاستدلال بالآية الشريفة ـ إضافة إلى الإشكال الثاني المتقدّم ـ: بأنّ سياقها يدلّ على أنّ الكفر ليس سبباً مستقلاً للقتل والقتال، والقرائن السياقية الدالة على ذلك هي:

أولاً: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}[التوبة:6]، فإنّه لو كان الكفر علّة لقتله، "فإذا كان جائزاً إجارته حتى يسمع كلام الله تعالى، فأيُّ معنى يبقى لإبلاغه مأمنه ما دام بقي على كفره متلبساً به"[16].

ثانياً: إنّ قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة: 8]، يشرح السبب في أن لا يكون لهؤلاء المشركين عهد عند الله، والسبب هو أنّهم إذا تمكّنوا منكم لغدروا بكم. وهذه قرينة واضحة على أنّ هؤلاء إنّما يقاتَلون ولا يُصغى إلى عهودهم، لأنّهم مترصّدون للمؤمنين ويكيدون لهم، فلو كان هناك جماعة مسالمة من أهل الكتاب أو غيرهم، ولا يكيدون للمؤمنين، ولا يتربّصون بهم شرّاً، بل ربما تعاطفوا معهم، كما هو حال الكثيرين من المسالمين القاطنين في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، فهؤلاء لا تشملهم الآية.

الآية الثالثة: قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: 29]، فالآية أمرت بقتالهم لا لحرابتهم، بل لعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر.

ويلاحظ على ذلك:

أولاً: ما قدّمنا الإشارة إليه من أنّ الأمر بالقتل، لا يعني عدم الحرمة قبل القتال، ولا ملازمة بين الأمرين.

ثانياً: إنّ ثمة ملاحظة لا بدّ من أن نتوقّف عندها في هذه الآية، وهي أنّها أمرت بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر من الذين أوتوا الكتاب، فكيف نفهم ذلك، مع أنّ أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ لأنهم ـ أعني أهل الكتاب ـ وإن انحرفوا عن تعاليم أنبيائهم، لكن لا إلى الحدّ الذي جعلهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر؟

ذهب بعض العلماء، وهو المعروف في كتب التفاسير، إلى أنّ نفي الإيمان بالله واليوم الآخر عنهم مع أنّهم من أهل الكتاب هو من جهة أنّهم لا يرون ما هو الحقّ في باب التوحيد والمعاد ولا يلتزمون بلوازمه في مقام العمل، وقيل: "لأنّهم يضيفون إلى الله تعالى ما لا يليق بذاته، فكأنّهم لا يعرفونه حتى يؤمنوا به[17]". وبناءً على هذا الرأي المشهور في التفسير، تكون "مِنْ" في قوله تعالى {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بيانية.

ولكن هذا التفسير محلّ إشكال:

أ‌- إنّه خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر أنّ "مِنْ" تبعيضية لا بيانية، كيف وقد وصف الله في كتابه أهل الكتاب أنّهم يؤمنون بالله واليوم الآخر في أكثر من آية، ففي سورة البقرة يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62، وراجع المائدة].

ب‌- إنّ وجود انحرافات في عقيدتهم إزاء المبدأ أو المعاد، لا تسمح بنفي الإيمان عنهم بشكل مطلق، كيف وبعض المسلمين لديهم انحرافات في هذا الصدد بشأن الإيمان بالله، كاعتقاد بعضهم بما يلازم الجسميّة أو بما لا ينسجم مع العدل الإلهي، أو كاعتقاد البعض بالمعاد الروحاني فقط دون الجسماني؟

ثالثاً: وقد يقال إنّ الآية لا تدلّ على أنّ الكافر يُقاتَل لكفره فقط، لأنّها نصّت على أنّ نهاية القتال وغايته، هي الدخول في نظام الجزية وليس الدخول في الإسلام، فلو كان يُقاتل لكفره لكان المفروض أن تكون غاية القتال هي دخوله في الإسلام وليس دفع الجزية[18].

ولكن يمكن الجواب على ذلك بأنّ القائلين إنّ الكافر يُقاتل لكفره، ولو لم يكن محارباً، يلتزمون بالاستثناء في ذلك، أي يقولون: إنّه يقاتل لكفره، إلّا إذا أسلم أو خضع لنظام الذمة، فالمبدأ العام عندهم أنّ الكافر يقاتل ويحارب إلى أن يسلم أو يخضع لنظام الجزية.

رابعاً: "إنّ الآية لم تأمر بالقتل، وإنّما أمرت بالقتال، وثمة فارقٌ كبير في الدلالة اللغوية بين الاثنين، وبيان ذلك: أنّ كلمة (قَاتَل) على وزن (فَاعَل) تدلّ على المشاركة، وبالتالي هي تستلزم وجود طرفين يتشاركان فعلاً واحداً، وهو القتال في فرضنا الحالي، بل أكثر من ذلك، إنّ هذا اللفظ لا ينطبق إلّا تعبيراً عن مقاومة لبادئ سبق إلى قصد القتل، فالمقاوم للبادئ هو الذي يُسمّى مقاتلاً، أما البادي فهو أبعد من أن يُسمّى- عرفياً- مقاتلاً، بل هو في الاستخدام الشائع والمتداول معتدياً وقاتلاً، ولا يمكن تسميته مقاتلاً، من هنا، فالمقاتلة بما هي من أفعال المشاركة، إنّما تقوم مع فرض تصور معتدٍ أو قاتل ينهض للتصدّي له مقاتل، وإلا لما كان هناك معنى للمشاركة"[19].

ويلاحظ عليه: أنّه يكفي مبرّراً لاستخدامك صيغة المشاركة التي تختزنها صفة المفاعلة أن يكون الآخر مستعدّاً لقتالك في حال هاجَمْته ولو لم يكن معتدياً أو مبتدئاً بالقتال.

خامساً: إنّ هذه الآية، حتى لو تمّت دلالتها على لزوم مقاتلة الكافرين المسالمين غير المحاربين، لا بدّ من أن يجمع بينها وبين الآيات المتقدمة وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ...}[البقرة:190]، بناء على أنّ مقاتلة الذين لا يقاتلوننا هو عدوان، وكذا قوله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ}[الممتحنة: 8]، لتكون النتيجة بعد الجمع هي أنّه إنّما يُقَاتل المعتدون دون المسالمين والذين لا يعتدون.

الاستدلال بالروايات

وقد استدلّ أيضاً للقول المذكور، وهو أنَّ الكفر سبب كافٍ للقتال- ولو لم يكن الكافر محارباً- ببعض الروايات، وأبرزها:

1) ما رُوِي عنه(ص): "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله"[20].

ويلاحظ على هذا الحديث:

أولاً: إنّ سند الحديث موضع تأمّل، لأنّه وبصرف النظر عن مدى حصول الوثوق بروايات أبي هريرة وابن عمر، فإنّ ثمّة تساؤلاً مشروعاً طَرَحه الحافظ ابن حجر، ذكر فيه أنّ من العلماء مَنْ استبعد صحّته، مستدلاًّ بأنّ ابن عمر لو كان عنده علم بهذا الحديث لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة"[21].

وإنّنا نحتمل أن يكون هذا الحديث من الموضوعات لتبرير ما جرى بعد رسول الله(ص) فيما عُرف بحروب الردّة التي تمّت المبالغة فيها بشكلٍ كبير، إذ إنّ ما حُكِيَ عن هذه الردّة الواسعة هو مثار الارتياب.

وقد بحث الشيخ محمد حسن آل ياسين هذه المسألة في بحث جميل ودراسة مختصرة، بعنوان "نصوص الردّة في تاريخ الطبري"، وناقش فيها روايات الردّة سنداً ومضموناً، متسائلاً: كيف لنا أن نتقبّل حصول هذه الردّة الواسعة التي عمّت الأقطار وأطاحت بكلِّ جهود النبي(ص) على مدى عقدين ونيف، على أيدي أشخاص تافهين، كطلحة أو مسيلمة أو سجاح، الذين جاؤوا "بآيات كلامية" هي سفسطة كلام ليس فيه شيء من البلاغة والفصاحة، لتصارع القرآن الكريم، معجزة النبي(ص)! فهل تردّى الذوق العربي وقد كان في قمّة البلاغة، حتى استقرّ في مثل هذا الحضيض؟![22].

ثانياً: إنّ هذا الحديث حتى لو تمّ سنداً، فلا يمكننا القبول بمضمونه، لأنّه يلغي نظام الذمّة في الإسلام، لأنّ غاية الكفّ عن القتال- طبقاً للحديث- هو أن يُسلموا ويقيموا الصلاة والزكاة، مع أنّ نظام الذمّة ثابت بالقرآن الكريم والسُّنّة القطعية، ما يجعل هذا الحديث معارضاً لكتاب الله تعالى.

ثالثاً: كما أنّه ينافي ما رُوِي عن النبي(ص) أنّه أَمَرَ بمقاتلة الناس حتى يشهدوا بشهادة التوحيد، فإن شهدوا بها عُصمت دماؤهم وأموالهم، ما يعني أنّه(ص) مأمور بقتال خصوص الملحدين والمشركين، والحديث هو ما رواه أبو هريرة قال: "لما توفّي رسول الله(ص) وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: كيف تُقاتل الناس وقد قال رسول الله(ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله، فمَنْ قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلّا بحقّه، وحسابه على الله، فقال: والله، لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حقّ المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله(ص) لقاتلتهم على منعها"[23]، فالحديث الأول يرهن عصمة المال والدم بالإيمان بالتوحيد والنبوّة الخاصة وإقامة الصلاة وأداء الزكاة، بينما الحديث الثاني وفي خصوص ما نُقل عن رسول الله(ص)، وبصرف النظر عن اجتهاد أبي بكر، قد رهن عصمة المال والدم بشهادة التوحيد فقط، ومقتضى مفهومه أنّ مَنْ قالها عصم ماله ودمه ولو لم ينطق بالشهادة الثانية بالنبوّة، ولم يقم الصلاة ولم يؤدِّ الزكاة.

2) وهناك روايات أخرى استدلّ بها للقول إنّه "لا حرمة للكفار"، وذلك فيما ورد في الأحاديث المستفيضة من أنّ "الإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء" ، "فالإسلام هو الموجب لحقن الدم، فالكافر ليس- بما هو كافر- محقون الدم، فضلاً عن أن يكون له حرمة أزيد منه[24].

أقول: الروايات التي ينظر إليها هي من قبيل:

1- موثّقة سماعة "قال: أخبرني عن الإسلام والإيمان، أهما مختلفان؟ فقال: "إنّ الإيمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان"، فقلت: فصفهما لي؟ فقال: "الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس"[25].

2- صحيحة الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله(ع): "إنّ الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام، إنّ الإيمان ما وقر في القلوب، والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء والإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان"[26].

ويلاحظ على هذا الاستدلال: إنّه لا إطلاق للروايات ليدلّ على أنّ كلّ مَنْ ليس مسلماً فهو غير محقون الدم، لأنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وإنّما هي في مقام البيان من جهة إعطاء الفارق بين الإسلام والإيمان، فذكرت أنّ الإسلام ما جرت عليه المناكح، وهو الذي تُحقن به الدماء، ويكفي لصدق ذلك أن يكون المرء قبل إسلامه مهدور الدم كأن يكون حربيّاً، ولا دلالة فيها إطلاقاً على أنّ كلّ مَنْ ليس مسلماً فهو مهدور الدم.

وقد تبيّن أنّه لا دليل على عدم حرمة الكافر بمجرّد الكفر في نفسه أو ماله أو عِرْضه، وعليه فنبقى نحن والعمومات والإطلاقات المشار إليها سابقاً، والدالّة على أنّ الكافر لا يُقاتَل لكفره، وإنّما يقاتَل لحرابته وعدوانيّته.

أعاود تأكيد أنّ هذه إطلالة مختصِرة على هذا الموضوع، وتبقى بعض الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات شافية من قبيل:

- هل إنَّ غزوات رسول الله(ص) وحروبه في مواجهة المشركين والكافرين كانت بأجمعها دفاعية ولصدِّ عدوانهم أو أنَّ بعضها على الأقل كانت ابتدائية؟

- إذا قلنا بمشروعيّة الجهاد الابتدائي في زمن غيبة الإمام الثاني(ع)، فهل يختلف الموقف المتقدّم؟ وهذا السؤال جارٍ وفق المعتقدات الشيعيّة كما هو واضح.

- ما هو العدوان الذي يبيح قتال الكفّار؟ أهو الهجوم على ديار المسلمين واحتلال أرضهم؟ أم يكفي في صدق العدوان المبيح لقتالهم (بناء على القول الثاني المتقدّم) تعرّضهم لبعض الجماعات المستضعَفة ولو كانت غير مسلمة بالظلم والاضطهاد؟ وهل يَصْدُق العدوان أيضاً في حال منعهم للفكر الإسلامي من الوصول بطرق الدعوة السلميّة إلى غير المسلمين؟

******

[1]ومن هنا، يفتي الفقهاء بجواز سب من ليس مؤمناً، وجواز لعنه، وعدم حرمته حياً وميتاً، فيجوز نبش قبره ولا مانع من تشريح جثته، انظر بشأن جواز لعنه وسبّه: سبل السلام للكحلاني ج3 ص119، وتفسير الفخر ج28 ص134، وكتاب المكاسب المحرمة للشيخ الأنصاري ج1 ص255 وص319 والحدائق الناضرة ج18 ص164 ومصباح الفقاهة للسيد الخوئي ج1 ص436 والمكاسب المحرمة للإمام الخميني ج 1 ص250 ، وانظر حول عدم حرمته ميتاً منهاج الصالحين ج1 ص 426 وتحرير الوسيلة ج2 ص624.

[2] بمعنى أنّه لا حرمة من الناحية المعنوية له، ومن هنا، جاز سبّه ولعنه وغيبته، كما أسلفنا في الهامش السابق.

[3]سنن النسائي، ج8 ص105.

[4]رواه الصدوق عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (ع)، انظر: التوحيد، ص239.

[5]الكافي، ج 2 ص 234

[6]أنظر: السيرة النبوية لابن هاشم، ج2 ص351.

[7]نهج البلاغة، ج3 ص84 وهذا العهد معتبر من حيث السند، ويمتلك مضموناً عالياً.

[8]وسائل الشيعة، ج15 ص66 الباب 19 من أبواب جهاد العدو الحديث1.

[9]استناداً إلى ما ورد في الروايات المعتبرة، فقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص):"إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور"، أنظر نهج البلاغة ج3 ص78، ونحوه روايات أخرى تنهى عن التمثيل بأجساد أمواتهم.

[10]استناداً إلى ما ورد في الحديث:"أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً وفاجراً"، انظر: الكافي ج2 ص336، ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 57].

[11]استنادا إلى أنّ " فإنّ لكلِّ قوم نكاحاً" كما جاء في الحديث، انظر: تهذيب الأحكام، ج7 ص472.

[12]كلمات سديدة في مسائل جديدة، ص144- 145.

[13]انظر: الجهاد في الإسلام للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ص94، والمسلم مواطناً في أوروبا للشيخ فيصل المولوي ص95.

[14]الجهاد من تقريرات السيد فضل الله ص205 وما بعدها، ولكن يظهر من فقهاء آخرين (ومنهم السيد الخوئي رحمه الله) أنّ كل كافر يشرع جهاده، فإن كان الكافر مشركاً "فتجب دعوته إلى كلمة التوحيد والإسلام فإن قبلوا، وإلاّ وجب قتالهم وجهادهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا وتطهر الأرض من لوث وجودهم" ، وإن كان كتابياً فإنّه "تجب مقاتلتهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون" أنظر: منهاج الصالحين للسيد الخوئي ج1 ص360- 361.

[15]تفسير الميزان، ج9 ص270.

[16]الجهاد من تقريرات السيد فضل الله ص210، والجهاد للشيخ البوطي ص56.

[17]دراسات في ولاية الفقيه ج3 ص365، وراجع تفسير مجمع البيان والتبيان وغيرهما.

[18]انظر: كتاب الجهاد من تقريرات السيد فضل الله ص212.

[19]الجهاد للسيد فضل الله ص212- 213، وقد ذكر نظير هذا الكلام الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه: الجهاد في الإسلام ص 58- 59.

[20]رواه الشيخان عن أبي هريرة، وروي من طريق الشيخين مرفوعاً إلى ابن عمر عن رسول الله (ص)، انظر: صحيح البخاري ج1 ص12، وص102، وصحيح مسلم ج1 ص38 وما بعدها، وراجع بحار الأنوار ج1 ص11.

[21]فتح الباري ص57.

[22]انظر: نصوص الردّة في تاريخ الطبري ص 17-18.

[23]البخاري، ج2 ص110، وهذا الحديث مرويّ في مصادرنا عن علي (ع) عن رسول الله (ص)، انظر: عيون أخبار الرضا (ع) ج1 ص70، ونصّه: "أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماؤهم وأموالهم"، والرواية رواها محمد بن عمر الحافظ (وهو من مشايخ الصدوق ونقل عنه في موارد عديدة وهو المعروف بالجعابي) عن الحسن بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني سيدي علي بن موسى الرضا (ع).. والحسن بن عبد الله التميمي لم نعثر عليه في كتب الرجال.

[24] كلمات سديدة، ص145- 146.

[25]الكافي ج2 ص25.

[26]الكافي ج2 ص26، وانظر نحوه ما رواه البرقي في المحاسن ج1 ص185.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية