عبد الله بن أبي يعفور. هو أبو محمد عبد الله بن أبي يعفور العبدي، قارئ كوفي ومحدّث وفقيه، من أعلام القرن الثاني الهجري. توفي سنة 131 هجرية، الموافق سنة 748م، التي عرفت بـ"سنة الطاعون". ترحم عليه الإمام الصّادق(ع)، ونسب إليه أنه قال عنه: "إنه كان يصدق علينا". صحب الإمامين محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر بن محمّد(ع). قال الإمام جعفر بن محمّد الصّادق، والإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) في حقّه:
1- قال الإمام الصادق(ع): "ما وجدت أحداً أخذ بقولي، وأطاع أمري، وحذا حذو أصحاب آبائي غير رجلينِ رحمهما الله: عبد الله بن أبي يعفور، وحمران بن أعين، أمّا أنّهما مؤمنانِ خالصانِ من شيعتنا، أسماؤهم عندنا في كتاب أصحاب اليمين الذي أعطى الله محمّداً"
(1).
2- قال الإمام الصادق(ع): "ما وجدت أحداً يقبل وصيّتي ويطيع أمري، إلّا عبد الله بن أبي يعفور"
(2).
3- قال ابن أبي يعفور(رض): «قلت لأبي عبد الله(ع): والله، لو فلقت رمانة بنصفين، فقلت هذا حرام وهذا حلال، لشهدت أنّ الذي قلت حلال حلال، وإنّ الذي قلت حرام حرام، فقال(ع): رحمك الله رحمك الله»(3).
4- قال الإمام الصادق(ع): «ما أحد أدّى إلينا ما افترض الله عليه فينا إلّا عبد الله بن أبي يعفور»
(4).
5- عن أبي أُسامة، قال: «دخلت على أبي عبد الله(ع) لأودّعه، فقال لي: يا زيد، ما لكم وللناس قد حملتم الناس على أبي؟ والله، ما وجدت أحداً يطيعني ويأخذ بقولي إلّا رجلاً واحداً، رحمه الله، عبد الله بن أبي يعفور، فإنّي أمرته وأوصيته بوصيّته، فاتبع أمري وأخذ بقولي»
(5).
6- قال الإمام الكاظم(ع): «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواري محمّد بن عبد الله رسول الله(ص)، الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر(...)، ثمّ ينادي المنادي: أين حواري محمّد بن علي وحواري جعفر بن محمّد؟ فيقوم... وعبد الله بن أبي يعفور... فهؤلاء المتحوّرة أوّل السابقين، وأوّل المقرّبين، وأوّل المتحوّرين من التابعين»
(6).
وقال في حقه كبار علماء الإمامية ما يفيد المدح والثناء وعظيم المنزلة لدى الأئمة(ع)، ومن ذلك:
1- قال الشيخ النجاشي(قده): «ثقة ثقة، جليل في أصحابنا، كريم على أبي عبد الله(عليه السلام)»
(7).
2- قال السيّد علي البروجردي(قده): «وفيه روايات كثيرة في مدحه، بل بعضها يدلّ على عظم منزلته عند الصادق(ع)»
(8).
3- قال الشيخ النوري الطبرسي(قده): «من الفقهاء المعروفين الذين هم عيون هذه الطائفة، يُعدّ مع زرارة وأمثاله»
(9).
إن الغرض من هذا المقالة ليس تقديم ترجمة رجالية لأحد كبار أصحاب الأئمة(ع)، بل النفاذ إلى شخصيته ومواقفه، ومواقف محيطه منه، للوقوف على ملامح عصر أعتبره عصر ميلاد الكلام الإمامي.
جاء في الحديث المروي من طرق الإمامية: "محمد بن الحسن وعثمان معاً، عن محمد بن زياد (وفي نسخة محمد بن يزداد)، عن محمد بن الحسين، عن الحجال، عن أبي مالك الحضرمي، عن أبي العباس البقباق قال: تذاكر ابن أبي يعفور ومعلى بن خنيس، فقال ابن أبي يعفور: الأوصياء علماء أبرار أتقياء، وقال ابن خنيس: الأوصياء أنبياء. قال: فدخلا على أبي عبد الله(ع) قال: فلما استقر (وفي نسخة: لما استقرا) مجلسهما، قال: فبدأهما أبوعبد الله(ع) فقال: يا عبد الله، أبرأ مما قال (في نسخة: من قال): أنا أنبياء"
(10).
للوقوف على سند الرواية وصحتها، فقد "روى الرواية الكشّي في رجاله عن محمّد بن الحسن البراثي، مجهول، وعثمان ـ وهو ابن حامد الوحشي ـ من أهل كش، وثّقه الشيخ الطوسي، ومحمّد بن يزداد الرازي قال فيه العياشي: لا بأس به، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، وثّقه النجاشي والطوسي، والحجّال، عبداللّه بن محمّد الأسدي وثّقه النجاشي والطوسي، وأبي مالك الحضرمي وثّقه النجاشي، وأبي العباس البقباق وثّقه النجاشي والبرقي والمفيد، إذا رواة الرواية كلّهم ثقات، فالرواية صحيحة"
(11).
وفي التعليق على مضمون هذه الرواية، قال السيّد الخوئي(قده): (هذه الرواية صحيحة، إلا أنّها لاتدلّ إلا على خطأ المعلّى بن خنيس باعتقاده أولاً، ولا بد وأنّه رجع عن قوله ببراءة أبي عبداللّه(ع) ممّن قال أنّهم أنبياء)
(12).
يتبيَّن لنا من خلال التأمل في الحديث السالف الذكر، أن النقاش بين أصحاب الأئمة(ع) دار حول مفهوم "الوصي" و"الأوصياء"، أو بعبارة أخرى دار حول مفهوم "الإمامة"، كما يظهر جلياً مدى الاختلاف الكبير بين أصحاب الإمام نفسه، أي الإمام جعفر الصادق(ع)، في تحديد ماهية "الوصي"، فعبد الله بن أبي يعفور عرف الأوصياء بأنهم (علماء أبرار أتقياء)، بينما المعلى بن خنيس تجاوز كثيراً، فرفع الأئمة(ع) إلى درجة النبوة قائلاً: (الأوصياء أنبياء)، ولما تم الاحتكام إلى الإمام الصادق(ع)، تبرأ ممن يرفعون مقام الأوصياء(ع) إلى مقام الأنبياء(ع)، بما يعني رفض الإمام الصادق(ع) لما توهمه أحد كبار أصحابه أيضاً، وهو المعلى بن خنيس، بغض النظر عن مواقف العلماء المختلفة في وثاقة وتضعيف المعلى بن خنيس، حيث جرحه النجاشي وابن الغضائري وقال الشيخ الماحوزي (ابن خنيس مختلف فيه، والقاعدة تقتضي جرحه، والأخبار متظافرة في مدحه، والاعتماد عليها أظهر)
(13).
لا بدَّ من أن نشير إلى أن الفترة التي عاش فيها عبد الله بن أبي يعفور (رض) كانت فترة دقيقة على المستوى العقائدي، فقد عاصر الإمامين الباقر والصادق(ع)، وهي الفترة نفسها التي برزت فيها فرق من الغلاة داخل الجسم الشيعي، ابتداء من بيان بن سمعان النهدي الذي ادعى ألوهية علي بن أبي طالب(ع)، مروراً بأبي الخطاب زعيم فرقة الخطابية الغالية، وأبرز رجالها يونس بن ظبيان.. وقد تبرأ الأئمة(ع) من كل هؤلاء. كما انبرى اتجاه من أصحابهم الأتقياء والمخلصين لمواجهتهم، وكشف زيف معتقداتهم، ما جعلهم في موقع التسقيط والتشنيع على يد خصومهم الغلاة.
لا شك في أن الغلو في أئمة أهل البيت(ع) قد انطلق مبكراً منذ الإمام علي(ع)، وهو القائل (هلك فيَّ اثنان: محبّ غالٍ ومبغض قالٍ)، وقد استمر الاتجاه المغالي في الوجود، غير أن ما استجد في الساحة العقائدية، هو ميلاد تيار جديد داخل الجسم الشيعي عرف بـ"المفوضة"، واقترن ظهوره بعصر الإمام جعفر الصادق(ع)، فوجد الغلاة في نظرية (التفويض) سنداً كلامياً للغلو العقائدي في الأئمة.
بالرجوع إلى بعض الأحاديث المروية عن الإمام الصادق(ع)، نقف حقيقة على درجة التوتر والاختلاف بين أصحاب الإمام، حتى إن عبد الله بن أبي يعفور لم يسلم من التسقيط من داخل الجسم الشيعي، رغم كثرة المدح والإشادة به من قبل الإمام الصادق(ع)، ومن ذلك:
محمد بن مسعود، عن علي بن الحسن، عن علي بن أسباط، عن شيخ من أصحابنا لم يسمه، قال: كنت عند أبي عبد الله(ع) فذكر عبد الله بن أبي يعفور رجل من أصحابنا، فقال: (فنال) منه (مه)، قال: فتركه وأقبل علينا، فقال: هذا الذي يزعم أن له ورعاً وهو يذكر أخاه بما يذكره، قال: ثم تناول بيده اليسرى عارضه، فنتف من لحيته حتى رأينا الشعر في يده، فقال: إنها لشيبة سوء إن كنت إنما أتولى بقولكم، وأبرأ منهم بقولكم"
(14).
إن سيرة عبد الله بن أبي يعفور(رض)، وقول الإمام الصادق(ع): "ما وجدت أحداً يقبل وصيّتي ويطيع أمري، إلّا عبد الله بن أبي يعفور"، أو"ما أحد أدّى إلينا ما افترض الله عليه فينا إلّا عبد الله بن أبي يعفور"، وما إلى ذلك من العبارات التي تفيد بشكل واضح أن المستأمنين من قبل الأئمة(ع) على التراث الشيعي، نقلاً وعملاً به، كانوا قلة قليلة، وأن جلّ من كان يروي عنهم لم يكن في مستوى حمل الأمانة والتمثيل الحقيقي للخط الرسالي، بل إن كثيراً من هؤلاء المدعين كذباً وزوراً الانتساب إلى خط أهل البيت(ع)، مارسوا الدعاية والتشنيع بالمخلصين لخط الأئمة(ع)، واتهموهم بالتقصير وما شابه، ولم تثنهم عن حملتهم الدعائية تلك، أقوال الأئمة(ع) وشهاداتهم في أولئك الصحب المخلصين الأتقياء.
إن الحملة الدعائية على عبد الله بن أبي يعفور(رض)، انطلقت من داخل البيت الشيعي في حياته، ولم تتوقف بعد مماته، وما الحديث السالف الذكر إلا شاهد على ما نقول، بل إن جلّ شهادات الإمام الصادق(ع) في هذا العالم الجليل، كانت بعد وفاته من باب الانتصار له ومواجهة المشككين والمنتقصين من قدره الجليل.. فقد كانوا يتوقعون بوفاة عبد الله بن أبي يعفور(رض) نهاية الخط الرسالي الموسوم بالوسطية والاعتدال والأصالة، لكن هالهم الزخم الشعبي الذي ناله هذا الصحابي الجليل، إذ امتلأت جنازته بجموع المشيعين من الشيعة وغيرهم.
وقد نقل الشيخ أبو الحسن الأشعري الذي يرجع إليه الأشاعرة في كتابه: "مقالات الإسلاميين"، حاكياً عن فريق من الشيعة حمل اسم (اليعفورية)، قالوا بعدم كفر من أنكر الإمامة لكن دون أن يكونوا مؤمنين أيضاً، كما قالوا بعدم استحلال الخصومة في الدين: حيث جاء في الفصل الخامس عشر من كتابه: (والفرقة الثالثة منهم: وهم "اليعفورية" يزعمون أنه قد يسع جهل الأئمة، وهم بذلك لا مؤمنون ولا كافرون) وأيضاً (..لا يستحلون الخصومة في الدين، و"اليعفورية" أيضًا لا تستحلها)، غير أننا لا نوافق على كون عبد الله بن أبي يعفور (رض) كان صاحب اتجاه أو فرقة من داخل التشيع، بل إن لعبة اصطناع الاتجاهات والفرق كان مصدرها السلطة السياسية العباسية في زمن الخليفة الذي لقب نفسه بـ(المهدي)، وذلك كي يبرر عملية قمعهم بدعوى أنها طوائف.
ويؤكد ذلك ما روي من مصادر الإمامية، حيث يمكن الوقوف على تسمية فرقة "اليعفورية" ضمن المخطط السلطوي، فقد قال الكشي: حدثني محمد بن مسعود العياشي قال: حدثنا جبرئيل بن أحمد الفاريابي، قال: حدثني محمد بن عيسي العبيدي عن يونس، قال: قلت لهشام إنهم يزعمون أن أبا الحسن(ع) بعث إليك عبد الرحمن بن الحجاج يأمرك أن تسكت ولا تتكلم، فأبيت أن تقبل رسالته فأخبرني كيف كان سبب هذا؟ وهل أرسل إليك ينهاك عن الكلام أو لا؟ وهل تكلمت بعد نهيه إياك؟ فقال هشام: إنه لما كان أيام المهدي، شدد علي أصحاب الأهواء، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً، ثم قرأ الكتاب على الناس، فقال يونس: قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة، ومرة أخرى بمدينة الوضاح.
فقال: إن ابن المفضل صنّف لهم صنوف الفرق فرقة فرقة، حتى قال في كتابه: وفرقة يقال لهم الزرارية، وفرقة يقال لهم العمارية أصحاب عمار الساباطي، وفرقة يقال لهم "اليعفورية"، ومنهم فرقة أصحاب سليمان الأقطع، وفرقة يقال لهم الجواليقية.
قال يونس: ولم يذكر يومئذ هشام بن الحكم ولا أصحابه، فزعم هشام ليونس أن أبا الحسن(ع) بعث إليه فقال له: كف هذه الأيام عن الكلام، فإن الأمر شديد، قال هشام: فكففت عن الكلام حتى مات المهدي وسكن الأمر، فهذا الأمر الذي كان من أمره وانتهائي إلى قوله"(15).
فالسلطة السياسية العباسية حاولت إيهام الجماهير بأنها تواجه الطوائف الكثيرة وتستهدف الحفاظ على وحدة الدين والمذهب، فراحت تضخّم من بعض الشخصيات والوقائع، وجعلت لكل صاحب من أصحاب إمام من أئمة أهل البيت(ع) مذهباً أو طائفة.. فتقسيم الشيعة إلى طوائف وفرق، هي عادة خبيثة وسنة دنيئة سنها بنو العباس للقضاء على العلويين وأنصارهم.
وأخيراً، لا يمكن الاعتراف بكل تلك التسميات والطوائف والفرق، ولم يكن عبد الله بن أبي يعفور(رض)، وزرارة بن أعين، وعمار الساباطي، إلا رجالاً حول الأئمة(ع)، رضي الله عن أصحابهم المنتجبين، وجعلنا من السائرين في طريق الحق لا نبغى عنه بدلاً.
المصدر: موقع الخط الرسالي بالمغرب
الهوامش:
عبد الله بن أبي يعفور. هو أبو محمد عبد الله بن أبي يعفور العبدي، قارئ كوفي ومحدّث وفقيه، من أعلام القرن الثاني الهجري. توفي سنة 131 هجرية، الموافق سنة 748م، التي عرفت بـ"سنة الطاعون". ترحم عليه الإمام الصّادق(ع)، ونسب إليه أنه قال عنه: "إنه كان يصدق علينا". صحب الإمامين محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر بن محمّد(ع). قال الإمام جعفر بن محمّد الصّادق، والإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) في حقّه:
1- قال الإمام الصادق(ع): "ما وجدت أحداً أخذ بقولي، وأطاع أمري، وحذا حذو أصحاب آبائي غير رجلينِ رحمهما الله: عبد الله بن أبي يعفور، وحمران بن أعين، أمّا أنّهما مؤمنانِ خالصانِ من شيعتنا، أسماؤهم عندنا في كتاب أصحاب اليمين الذي أعطى الله محمّداً"
(1).
2- قال الإمام الصادق(ع): "ما وجدت أحداً يقبل وصيّتي ويطيع أمري، إلّا عبد الله بن أبي يعفور"
(2).
3- قال ابن أبي يعفور(رض): «قلت لأبي عبد الله(ع): والله، لو فلقت رمانة بنصفين، فقلت هذا حرام وهذا حلال، لشهدت أنّ الذي قلت حلال حلال، وإنّ الذي قلت حرام حرام، فقال(ع): رحمك الله رحمك الله»(3).
4- قال الإمام الصادق(ع): «ما أحد أدّى إلينا ما افترض الله عليه فينا إلّا عبد الله بن أبي يعفور»
(4).
5- عن أبي أُسامة، قال: «دخلت على أبي عبد الله(ع) لأودّعه، فقال لي: يا زيد، ما لكم وللناس قد حملتم الناس على أبي؟ والله، ما وجدت أحداً يطيعني ويأخذ بقولي إلّا رجلاً واحداً، رحمه الله، عبد الله بن أبي يعفور، فإنّي أمرته وأوصيته بوصيّته، فاتبع أمري وأخذ بقولي»
(5).
6- قال الإمام الكاظم(ع): «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواري محمّد بن عبد الله رسول الله(ص)، الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر(...)، ثمّ ينادي المنادي: أين حواري محمّد بن علي وحواري جعفر بن محمّد؟ فيقوم... وعبد الله بن أبي يعفور... فهؤلاء المتحوّرة أوّل السابقين، وأوّل المقرّبين، وأوّل المتحوّرين من التابعين»
(6).
وقال في حقه كبار علماء الإمامية ما يفيد المدح والثناء وعظيم المنزلة لدى الأئمة(ع)، ومن ذلك:
1- قال الشيخ النجاشي(قده): «ثقة ثقة، جليل في أصحابنا، كريم على أبي عبد الله(عليه السلام)»
(7).
2- قال السيّد علي البروجردي(قده): «وفيه روايات كثيرة في مدحه، بل بعضها يدلّ على عظم منزلته عند الصادق(ع)»
(8).
3- قال الشيخ النوري الطبرسي(قده): «من الفقهاء المعروفين الذين هم عيون هذه الطائفة، يُعدّ مع زرارة وأمثاله»
(9).
إن الغرض من هذا المقالة ليس تقديم ترجمة رجالية لأحد كبار أصحاب الأئمة(ع)، بل النفاذ إلى شخصيته ومواقفه، ومواقف محيطه منه، للوقوف على ملامح عصر أعتبره عصر ميلاد الكلام الإمامي.
جاء في الحديث المروي من طرق الإمامية: "محمد بن الحسن وعثمان معاً، عن محمد بن زياد (وفي نسخة محمد بن يزداد)، عن محمد بن الحسين، عن الحجال، عن أبي مالك الحضرمي، عن أبي العباس البقباق قال: تذاكر ابن أبي يعفور ومعلى بن خنيس، فقال ابن أبي يعفور: الأوصياء علماء أبرار أتقياء، وقال ابن خنيس: الأوصياء أنبياء. قال: فدخلا على أبي عبد الله(ع) قال: فلما استقر (وفي نسخة: لما استقرا) مجلسهما، قال: فبدأهما أبوعبد الله(ع) فقال: يا عبد الله، أبرأ مما قال (في نسخة: من قال): أنا أنبياء"
(10).
للوقوف على سند الرواية وصحتها، فقد "روى الرواية الكشّي في رجاله عن محمّد بن الحسن البراثي، مجهول، وعثمان ـ وهو ابن حامد الوحشي ـ من أهل كش، وثّقه الشيخ الطوسي، ومحمّد بن يزداد الرازي قال فيه العياشي: لا بأس به، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، وثّقه النجاشي والطوسي، والحجّال، عبداللّه بن محمّد الأسدي وثّقه النجاشي والطوسي، وأبي مالك الحضرمي وثّقه النجاشي، وأبي العباس البقباق وثّقه النجاشي والبرقي والمفيد، إذا رواة الرواية كلّهم ثقات، فالرواية صحيحة"
(11).
وفي التعليق على مضمون هذه الرواية، قال السيّد الخوئي(قده): (هذه الرواية صحيحة، إلا أنّها لاتدلّ إلا على خطأ المعلّى بن خنيس باعتقاده أولاً، ولا بد وأنّه رجع عن قوله ببراءة أبي عبداللّه(ع) ممّن قال أنّهم أنبياء)
(12).
يتبيَّن لنا من خلال التأمل في الحديث السالف الذكر، أن النقاش بين أصحاب الأئمة(ع) دار حول مفهوم "الوصي" و"الأوصياء"، أو بعبارة أخرى دار حول مفهوم "الإمامة"، كما يظهر جلياً مدى الاختلاف الكبير بين أصحاب الإمام نفسه، أي الإمام جعفر الصادق(ع)، في تحديد ماهية "الوصي"، فعبد الله بن أبي يعفور عرف الأوصياء بأنهم (علماء أبرار أتقياء)، بينما المعلى بن خنيس تجاوز كثيراً، فرفع الأئمة(ع) إلى درجة النبوة قائلاً: (الأوصياء أنبياء)، ولما تم الاحتكام إلى الإمام الصادق(ع)، تبرأ ممن يرفعون مقام الأوصياء(ع) إلى مقام الأنبياء(ع)، بما يعني رفض الإمام الصادق(ع) لما توهمه أحد كبار أصحابه أيضاً، وهو المعلى بن خنيس، بغض النظر عن مواقف العلماء المختلفة في وثاقة وتضعيف المعلى بن خنيس، حيث جرحه النجاشي وابن الغضائري وقال الشيخ الماحوزي (ابن خنيس مختلف فيه، والقاعدة تقتضي جرحه، والأخبار متظافرة في مدحه، والاعتماد عليها أظهر)
(13).
لا بدَّ من أن نشير إلى أن الفترة التي عاش فيها عبد الله بن أبي يعفور (رض) كانت فترة دقيقة على المستوى العقائدي، فقد عاصر الإمامين الباقر والصادق(ع)، وهي الفترة نفسها التي برزت فيها فرق من الغلاة داخل الجسم الشيعي، ابتداء من بيان بن سمعان النهدي الذي ادعى ألوهية علي بن أبي طالب(ع)، مروراً بأبي الخطاب زعيم فرقة الخطابية الغالية، وأبرز رجالها يونس بن ظبيان.. وقد تبرأ الأئمة(ع) من كل هؤلاء. كما انبرى اتجاه من أصحابهم الأتقياء والمخلصين لمواجهتهم، وكشف زيف معتقداتهم، ما جعلهم في موقع التسقيط والتشنيع على يد خصومهم الغلاة.
لا شك في أن الغلو في أئمة أهل البيت(ع) قد انطلق مبكراً منذ الإمام علي(ع)، وهو القائل (هلك فيَّ اثنان: محبّ غالٍ ومبغض قالٍ)، وقد استمر الاتجاه المغالي في الوجود، غير أن ما استجد في الساحة العقائدية، هو ميلاد تيار جديد داخل الجسم الشيعي عرف بـ"المفوضة"، واقترن ظهوره بعصر الإمام جعفر الصادق(ع)، فوجد الغلاة في نظرية (التفويض) سنداً كلامياً للغلو العقائدي في الأئمة.
بالرجوع إلى بعض الأحاديث المروية عن الإمام الصادق(ع)، نقف حقيقة على درجة التوتر والاختلاف بين أصحاب الإمام، حتى إن عبد الله بن أبي يعفور لم يسلم من التسقيط من داخل الجسم الشيعي، رغم كثرة المدح والإشادة به من قبل الإمام الصادق(ع)، ومن ذلك:
محمد بن مسعود، عن علي بن الحسن، عن علي بن أسباط، عن شيخ من أصحابنا لم يسمه، قال: كنت عند أبي عبد الله(ع) فذكر عبد الله بن أبي يعفور رجل من أصحابنا، فقال: (فنال) منه (مه)، قال: فتركه وأقبل علينا، فقال: هذا الذي يزعم أن له ورعاً وهو يذكر أخاه بما يذكره، قال: ثم تناول بيده اليسرى عارضه، فنتف من لحيته حتى رأينا الشعر في يده، فقال: إنها لشيبة سوء إن كنت إنما أتولى بقولكم، وأبرأ منهم بقولكم"
(14).
إن سيرة عبد الله بن أبي يعفور(رض)، وقول الإمام الصادق(ع): "ما وجدت أحداً يقبل وصيّتي ويطيع أمري، إلّا عبد الله بن أبي يعفور"، أو"ما أحد أدّى إلينا ما افترض الله عليه فينا إلّا عبد الله بن أبي يعفور"، وما إلى ذلك من العبارات التي تفيد بشكل واضح أن المستأمنين من قبل الأئمة(ع) على التراث الشيعي، نقلاً وعملاً به، كانوا قلة قليلة، وأن جلّ من كان يروي عنهم لم يكن في مستوى حمل الأمانة والتمثيل الحقيقي للخط الرسالي، بل إن كثيراً من هؤلاء المدعين كذباً وزوراً الانتساب إلى خط أهل البيت(ع)، مارسوا الدعاية والتشنيع بالمخلصين لخط الأئمة(ع)، واتهموهم بالتقصير وما شابه، ولم تثنهم عن حملتهم الدعائية تلك، أقوال الأئمة(ع) وشهاداتهم في أولئك الصحب المخلصين الأتقياء.
إن الحملة الدعائية على عبد الله بن أبي يعفور(رض)، انطلقت من داخل البيت الشيعي في حياته، ولم تتوقف بعد مماته، وما الحديث السالف الذكر إلا شاهد على ما نقول، بل إن جلّ شهادات الإمام الصادق(ع) في هذا العالم الجليل، كانت بعد وفاته من باب الانتصار له ومواجهة المشككين والمنتقصين من قدره الجليل.. فقد كانوا يتوقعون بوفاة عبد الله بن أبي يعفور(رض) نهاية الخط الرسالي الموسوم بالوسطية والاعتدال والأصالة، لكن هالهم الزخم الشعبي الذي ناله هذا الصحابي الجليل، إذ امتلأت جنازته بجموع المشيعين من الشيعة وغيرهم.
وقد نقل الشيخ أبو الحسن الأشعري الذي يرجع إليه الأشاعرة في كتابه: "مقالات الإسلاميين"، حاكياً عن فريق من الشيعة حمل اسم (اليعفورية)، قالوا بعدم كفر من أنكر الإمامة لكن دون أن يكونوا مؤمنين أيضاً، كما قالوا بعدم استحلال الخصومة في الدين: حيث جاء في الفصل الخامس عشر من كتابه: (والفرقة الثالثة منهم: وهم "اليعفورية" يزعمون أنه قد يسع جهل الأئمة، وهم بذلك لا مؤمنون ولا كافرون) وأيضاً (..لا يستحلون الخصومة في الدين، و"اليعفورية" أيضًا لا تستحلها)، غير أننا لا نوافق على كون عبد الله بن أبي يعفور (رض) كان صاحب اتجاه أو فرقة من داخل التشيع، بل إن لعبة اصطناع الاتجاهات والفرق كان مصدرها السلطة السياسية العباسية في زمن الخليفة الذي لقب نفسه بـ(المهدي)، وذلك كي يبرر عملية قمعهم بدعوى أنها طوائف.
ويؤكد ذلك ما روي من مصادر الإمامية، حيث يمكن الوقوف على تسمية فرقة "اليعفورية" ضمن المخطط السلطوي، فقد قال الكشي: حدثني محمد بن مسعود العياشي قال: حدثنا جبرئيل بن أحمد الفاريابي، قال: حدثني محمد بن عيسي العبيدي عن يونس، قال: قلت لهشام إنهم يزعمون أن أبا الحسن(ع) بعث إليك عبد الرحمن بن الحجاج يأمرك أن تسكت ولا تتكلم، فأبيت أن تقبل رسالته فأخبرني كيف كان سبب هذا؟ وهل أرسل إليك ينهاك عن الكلام أو لا؟ وهل تكلمت بعد نهيه إياك؟ فقال هشام: إنه لما كان أيام المهدي، شدد علي أصحاب الأهواء، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً، ثم قرأ الكتاب على الناس، فقال يونس: قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة، ومرة أخرى بمدينة الوضاح.
فقال: إن ابن المفضل صنّف لهم صنوف الفرق فرقة فرقة، حتى قال في كتابه: وفرقة يقال لهم الزرارية، وفرقة يقال لهم العمارية أصحاب عمار الساباطي، وفرقة يقال لهم "اليعفورية"، ومنهم فرقة أصحاب سليمان الأقطع، وفرقة يقال لهم الجواليقية.
قال يونس: ولم يذكر يومئذ هشام بن الحكم ولا أصحابه، فزعم هشام ليونس أن أبا الحسن(ع) بعث إليه فقال له: كف هذه الأيام عن الكلام، فإن الأمر شديد، قال هشام: فكففت عن الكلام حتى مات المهدي وسكن الأمر، فهذا الأمر الذي كان من أمره وانتهائي إلى قوله"(15).
فالسلطة السياسية العباسية حاولت إيهام الجماهير بأنها تواجه الطوائف الكثيرة وتستهدف الحفاظ على وحدة الدين والمذهب، فراحت تضخّم من بعض الشخصيات والوقائع، وجعلت لكل صاحب من أصحاب إمام من أئمة أهل البيت(ع) مذهباً أو طائفة.. فتقسيم الشيعة إلى طوائف وفرق، هي عادة خبيثة وسنة دنيئة سنها بنو العباس للقضاء على العلويين وأنصارهم.
وأخيراً، لا يمكن الاعتراف بكل تلك التسميات والطوائف والفرق، ولم يكن عبد الله بن أبي يعفور(رض)، وزرارة بن أعين، وعمار الساباطي، إلا رجالاً حول الأئمة(ع)، رضي الله عن أصحابهم المنتجبين، وجعلنا من السائرين في طريق الحق لا نبغى عنه بدلاً.
المصدر: موقع الخط الرسالي بالمغرب
الهوامش: