نشرت صحيفة "الأخبار" اللّبنانيّة مقالاً للباحث محمد عبد الكريم فضل الله، يتعرّض فيه لسماحة المرجع الدّيني الراحل السيّد محمد حسين فضل الله ولمؤسّساته الخيرية، تحت عنوان "الإخوان المسلمون الشيعة: السيّد فضل الله: ليبرالية غولن بنسختها الشيعيَّة".
بدايةً، نحمد الله تعالى أن ترقّى الكاتب درجات عدّة في توصيفه وتشبيهه ومقارنته، وتخطّى أقرانه وأشباهه ونظائره، من الّذين تناولوا سماحة السيّد سابقاً، واتهموه بأنّه يحمل فكراً وهّابيّاً سعوديّاً، فإذا به اليوم يحمل فكراً ليبرالياً إخوانياً أميركياً.. شكراً للباحث على نتائجه.
أعود إلى المقال "الرّسالة"، لأسلّط الضّوء على بعض ما فيها، "وإن كانت العتمة تكفيها"، من دون حاجة إلى دراسة نفسيّة الكاتب و"خلفيّاته" وماورائياته، لأنني أتأسّى بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة: 101].
لقد حشد الكاتب مصطلحات حديثة أجنبية أتخم بها مقاله، واستهلك مرآته المحدبة إلى أبعد الحدود، ليوهم القارئ بأنه مثقّف كبير، وانطلق ليتساءل من دون مناسبة أو سياق يستدعيه: "هل من الصّدفة أن ثروات كل من التقليدي السيد الخوئي والليبرالي السيد فضل الله تقدّر بالمبلغ نفسه: ملياري دولار؟".
لاحظ قوله "بالمبلغ نفسه: ملياري دولار؟". إنني أتساءل هنا، وأتوقّف قليلاً أمام دقّة كاتبنا "الملهم"، الذي تأتيه المعلومة من علاّم الغيوب: هل قدّر ثروتهما بالدولار الأميركي أم الأسترالي مثلاً؟ وهل قدّرهما على أساس قيمتهما الشرائيّة أم السوقيّة؟
إننا نتساءل ما هو المعيار الذي قدّر وقوّم به الكاتب ثروة السيّدين، اللّهمّ إلا إذا كان يعمل مع مجلة "فوربس" لتصنيف ثروات الأغنياء! أقول كلمتين فقط في الجواب عن هذه الفقرة: اتّقِ الله... {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18].
يكمل الكاتب مقاله مازجاً بين التنظير والمعلومة، ليقول: "للمتاولة ـ أي الشيعة ـ تاريخ من طمس تاريخهم، يجهدون لطمسه... تشاء الذّاكرة الشيعيّة وممارستها السوريالية، التي ليس من المستبعد أبداً أن تعاد مستقبلاً مع شخصيّة هائلة التأثير كالسيّد حسن نصر الله، تشاء هذه الذّاكرة أن تنساه".
كنّا نرضى لو اكتفى الباحث الموقّر بنسيان سماحة السيّد فضل الله وطمس تاريخه ونكران جميله عليه وعلى الكثير من "العاقّين"، ولكنّه رماه بسهامه المسمومة.
ينتقل بعد ذلك الكاتب إلى الحديث عن حداثة التجربة، قائلاً: "أموال الخمس الّتي تراكمت بحجم غير معهود سابقاً، ذهبت في طريقها التقليديّ، أي أن تصبح ملكاً شخصياً للمرجع، وممتلكاته هذه تورّث إلى أبنائه".
كيف يمكننا أن نأخذ بكلام الكاتب المذكور هنا، الَّذي يعني التشكيك في دين المراجع ونزاهتهم وعدالتهم، ومنهم السيّد فضل الله، حيث تملّكوا أموال المسلمين، وورّثوها لأبنائهم؟!
إنَّ هذا الأمر لا يصدر عن متديّن بسيط حريص على آخرته، فكيف يقبل الباحث المحترم أن ينسبه ويلصقه بمرجع عاش حياته كلّها لله، وأتعبها في طاعة الله، وخدمة عيال الله.
يقول المرجع السيّد محمد حسين فضل الله في كتابه النّدوة (الجزء الثامن، صفحة 703): "فعندنا أكثر من 25 مؤسّسة للأيتام، ولا يوجد أيّ شيء مسجّل باسمي شخصيّاً، فهناك لجنة تدرس ميزانيّة وإنفاق كلّ مؤسّسة". أعتقد أنّ من يرفض أن تكون الأموال باسمه شخصيّاً، يرفض كذلك أن تكون باسم أولاده، لأنّه الحريص على آخرته ودينه وسمعته. ويمكنني أن أؤكّد للباحث، أنّ أموال المرجعيّة هي باسم مؤسَّسات السيّد فضل الله وجمعيّاته الخيريّة في لبنان والخارج، لا بأسماء أشخاص، وأولاده جزء من الإدارة الّتي تعنى بسير العمل والتّعبير عنه، تماماً كما تعنى الأمانة العامّة لحزب الله بإدارة العمل والتعبير عن قرار الشورى، كما شرح ذلك السيد حسن نصر الله في مقابلته مع صحيفة "الأخبار" (العدد 2369)، حيث يقول: "أنا لا أخرج وأقول ما أريده من دون ضوابط ونقاش مع الإخوان، وخصوصاً في الخطابات الحسّاسة، التي يكون فيها اتخاذ مواقف. في النّهاية، هناك شيء له علاقة بأصل تركيبة حزب الله. الأمين العام ليس قائد حزب الله، وهو ليس صاحب القرار في حزب الله. القرار السياسيّ يؤخذ على نحو أساسيّ في شورى القرار. الشورى هي التي ترسم المسارات، وتتّخذ المواقف الأساسيّة والقرارات الأساسيّة. طبعاً، الأمين العام شريك مؤثّر في اتخاذ القرار، لكنه ليس من يتّخذه". وهكذا هي جمعية المبرات، فما دامت الهيئة الإداريّة في الجمعيّة تمنح السيد علي فضل الله ثقتها، إضافةً إلى هيئة الأمناء التي اختارها سماحة المرجع نفسه، فإنّه يدير هذه المؤسَّسة، ويعبّر عن مواقفها وتوجّهاتها، ويرعاها بكلّ إخلاص.
ثمّ يستعرض الباحث حديثاً عن الصوفية وتيارها، في سياق يحتاج إلى توضيح من الإخوة الإيرانيّين، أو الإخوة في حزب الله، حيث ينسب إلى الرّئيس الإيراني، خرافة رؤية النّور في الأمم المتحدة، وإلى معاونه رحيم مشّائي، خرافة طلب الإمام المهدي(عج) منه الترشّح للرّئاسة!؟ (إذا كذب الباحث فتلك مصيبة، وإذا صدق فالمصيبة أعظم).
ينتقل بعد ذلك الباحث إلى الحديث عن فكر السيّد فضل الله الإخواني ومؤسّساته الإخوانيَّة، باعتبار أن "فكر الإخوان المسلمين كان دائماً ما يهمل فكرة المدينة ونظام الدّولة، لمصلحة فكرة الجماعة الحزبية وقوّتها الذاتيّة".
أقول: لو كان الباحث بريطانياً أو أميركياً، لتفهّمنا إطلاق معلومة خاطئة، تماماً كمعلومة أن السيّد فضل الله كان منظّماً في حزب الله، فيما السيد رحمه الله، كان يعدّ نفسه فوق التنظيمات كلها، لأنه كان في موقع الأبوّة والمثقف الحركي لها، ويمكن مراجعة كتاب الصحافي سركيس نعّوم (العلاّمة)، وهو من الكتب الجديرة بالقراءة، حيث يقول في الصفحة 29، في سياق حديثه عن علاقته بالرّاحل الشيخ محمد مهدي شمس الدّين: "اجتمعنا منفردين، وكانت قد بدأت المشاكل بين "أمل" و"حزب الله"... فتحدّثنا في هذا الموضوع، قال لي: أنت حزب الله، قلت له: أنا لست حزب الله... وأنا لست قيادة حزب الله، فقيادته هي الإمام الخميني. وحزب الله لا يأخذ مني أيّ فتوى وأيّ حكم".
كاتب المقال/ الباحث، هو ابن الضّاحية، ومع ذلك يقول هذا الكلام، فأخاله قد طاش سهمه وغاب عقله، لأنَّ سماحة السيد (رضوان الله عليه) لطالما دعا إلى إقامة الدولة العادلة وحفظ النظام العام، حتى باتت كلماته في هذا المقام لازمة نردّدها في كل الأوقات والمناسبات. ويكفيه أن يرجع إلى كتب السيّد ليعرف رأيه في هذا المجال. على سبيل المثال، يقول السيّد في كتابه "حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع"، (صفحة 56): "إذا لم يكن ممكناً في لبنان إقامة دولة الإسلام الّتي نلتزمها فكريّاً وثقافيّاً، لأنّه ليست هناك ظروف موضوعيّة واقعيّة لإقامتها، فلا أقلّ من أن تنشأ هناك دولة الإنسان...".
لقد عاش السيّد طيلة حياته وهو ينادي بالدّولة وحفظ النّظام العام والتهذيب الاجتماعي، حيث أطلق هذه المواقف مئات المرّات، وحوتها كتبه، ويمكن مراجعة ذلك في كتابه "مفاهيم إسلاميّة عامّة" (صفحة 23)، وكتاب "فقه الحياة" (صفحة 260) وما بعدها، حيث يقول: "لا يجوز القيام بالأعمال التي تسيء إلى النّاس، وتؤدّي إلى إزعاجهم في راحتهم ونومهم وأوضاعهم الّتي تتطلّب الهدوء... لذلك، لا بدّ من الامتناع عن إلقائها في الشارع "أي القمامة"... انطلاقاً من المحافظة على النظام العام الذي يحمي النّاس من الأمور الضارّة، ومن أنّ الناس لا يملكون التصرّف في الشوارع المعدّة للانتفاع بها بطريقة تسيء إلى المارّة أو أهل المنطقة، فيكون أشبه بالتصرّف بالأملاك العامّة أو الخاصّة بما لا يملك حرّية التصرّف فيه... لا يجوز التصرّف في أموال المسلمين بدون رضاهم، لأنّه لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، ويمتدّ الحكم إلى كلّ المواطنين الّذين يعيشون مع المسلمين...".
لا أعتقد أنَّ هناك فقيهاً أدّب مواطنيه ومقلّديه بثقافة الدّولة واحترام المال العام والنّظام العام كما أدّب السيّد فضل الله مقلّديه ومريديه وأبناءه الروحيّين.
ومع ذلك، يطلّ علينا الكاتب فضل الله في مقاله بكلمات غير مسؤولة وغير أمينة، ليقول: "اللافت أنّ مقاولي هذه الطفرة العمرانيّة، الذين حكموا على الضّاحية بالفوضى لعقود مقبلة، نتيجةً لمخالفاتهم في البناء، والّذين كرّسوا فكرة الضّاحية كمكان غير قابل للتّنظيم، كانوا بمعظمهم من حواريّي السيّد فضل الله، الّذين يدفعون أخماسهم لديه. من غير المعروف إذا ما كان السيّد فضل الله ينهاهم عن الاعتداء على المجال العام والممتلكات العامّة، وعن تدمير مدينتهم في خلواته الخاصّة بهم، ولكنّ الأكيد أنّ فكر الإخوان الذي ورّده لا يحمل أيّ بصمة من سمات المدنيّة". لا أتصوّر أنّ هناك تزييفاً للحقائق وازدواجيّة في الخطاب يزيدان على هذا الكلام. تحار ماذا تقول في باحث يسيء الظنّ بالسيّد ويتهمه بالنفاق، لأنه يتحدّث شيئاً بالخاصّ وشيئاً آخر بالعام... ويلصق به فوضى الضاحية وخرابها وفسادها، بحيث لم يبق إلا أن يعلن أنّ السيّد فضل الله هو الذي كان يدير شبكات توزيع المخدّرات على أبناء الضاحية، ويصنّع حبوب الكبتاغون، ويرعى مخازن الأدوية الفاسدة والأسماك النّتنة والأموال المنهوبة بالملايين من أبنائها الكادحين... الكاتب تساءل في مقاله: "هل تستمرّ حالة السيّد فضل الله أم أنها ستندثر مع مرور الوقت؟ وإذا استمرّت، فهل سيتحوّل تيّاره إلى تيارات متصارعة، أم يرثه رجل محدود؟". أطمئنه وأطمئن كلّ "المحبّين"، إلى أنّ تيار السيّد فضل الله ليس رجلاً أو عائلة، بل هو كلّ هذه العقول النيّرة الواعية الّتي لا يزال السيّد ساكناً فيها، ملهماً لها، وكهفاً حصيناً لها.
لقد ظلمت أيّها الباحث السيّد الراحل بمقالك، ومن كرم الشّمائل والطباع، أن نذكر أمواتنا بكلّ خير، لا أن نكتفي بالبسملة عند أضرحتهم:
تؤمّ ضريحاً ما الضّراح وإن علا بأرفع منه لا وساكنه قدرا
المصدر: جريدة الأخبار اللّبنانيّة
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .