{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}[الأنفال: 25].
الفتنة يصنعها الشّيطان
في الأزمات، أوّل ما يتبادر إلى ذهن النّاس كلمة فتنة، فقد باتت جزءاً من ذاكرتنا، ليس في لبنان فحسب، بل في كلّ العالم العربيّ والإسلاميّ، كأنّها باتت قدراً محتوماً، لكثرة ما عانت الأجيال من ويلاتها ونعاني منها نحن اليوم.
والفتنة هي من الشّيطان، والفَتّان اسم من أسمائه، والفتن الّتي ينسج خيوطها هو وجنوده تتعدّد غاياتها، وأسماؤها، ومظاهرها، فإذا ظلّت في دائرة الفرد الواحد، فإنّها امتحان واختبار، أمّا حين تعمّ وتجتاح النّاس، وتتدحرج كرتُها كالوباء لتصيب أمّةً أو شعباً أو وطناً، هنا تصبح الفتنة هي النّار، والحرب، والمحنة، والبلاء، والإرهاب، والعنف.
نعم، في مثل هذه الفتن، يصبح للشّيطان اليد الطّولى في رسم مسار الفتنة، إذ يستنفر العصبيّات والانفعال، ويسخّر جيشه وجنوده لإسكات أيّ صوت للعقل أو الحقّ، ويُطلق الأهواء وأسلحة الغضب والكره والحقد من عقالها، بعيداً عن أيّ ضوابط عقليّة أو دينيّة أو عرف. وبذلك يتزيّا الباطل بلبوس الحقّ، ويُزخرف الحقّ ليبدو باطلاً، وتُرفع رايات، وتُطلق شعارات، وكلٌّ يدّعي أنّه ممثّل الحقّ والحقيقة، وهكذا يُتاح لمضرمي الفتنة إقحام أكبر عدد ممكن من النّاس في طاحونتها..
موقف الإسلام من الفتنة
أمّا موقف الإسلام من الفتنة، فواضح وضوح الشَّمس، ففي آخر حجَّة له، وفي خطبة يوم النَّحر، كانت آخر وصيَّة لرسول الله(ص) إلى المسلمين قبل أن توافيه المنيّة في 28 صفر: «ألا لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».
يومَها، كان الإسلام قريب العهد من جاهليَّة هوجاء ظالمة، لهذا كان أخوف ما يخافه على أمّته، عودتها إلى مجاهل تلك المرحلة من التّشرذم وشيوع التعصّب، حيث كان يمكن لأتفه الأسباب أن تشعل نار فتنة بين قبيلتين أو عشيرتين، وقد تدوم لسنوات، حتّى إذا خمدت، تظلّ نارها حيّة تحت الرّماد.
لهذا، رسم الرّسول(ص) خطوطاً حمراً: «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، وفي شهركم هذا».
وإذا كان سفك دم الإنسان أحد مصاديق الفتن، لأنّه دم معصوم، لذلك لم تتوقّف خطوط التّحريم الحمراء عند مسألة القتل، حيث اعتبر القرآن «الفتنة أشدّ من القتل».
ومن هذا الموقع، نظر الإسلام إلى الفتنة، ومن هذا الموقع أيضاً، كان حرصه على بناء صمّامات أمان وقائيّة تحول دون قيام الفتن، بتكريس منظومة ردع سلوكيّة وإيمانيّة وأخلاقيّة، تردع المؤمن عن الوقوع في وحول الفتنة والتعصّب والكره والعنف، وتدفع به في الوقت نفسه إلى التمسّك بخُلُق بديل هو الأساس لقيام مجتمع متعاون متراحم.
لقد قدّم القرآن الكريم الإسلام دين رحمة وسلام وحبّ تعاون وحوار، وتواصل وانفتاح وتقبّل للآخر، وكرّس الرّسول(ص) وأصحابه هذا التوجّه في سلوك يوميّ، حتّى قال الإمام عليّ(ع): «علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله(ص) بين أظهرنا».
ولأنّ التعصّب كان جوهر الجاهليّة وعمادها، ولأنّه على رأس الأسباب الّتي تشعل الفتن، فقد كان الإسلام حازماً في محاربة أيّ شكل من أشكاله، باعتباره سلعةً من سلع إبليس الّذي هو إمام المتعصّبين: «من تعصّب أو تُعُصّب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه» (أي حبل الإيمان).
ووصل الأمر إلى التبرّؤ من المتعصّب، فقال الرّسول الأكرم: «ليس منّا من دعا إلى عصبيّة، وليس منّا من قاتل على عصبيّة».
ويوم أبعِد الإمام عليّ(ع) عن الخلافة ـ وهو الّذي لم ينازع النّاس، ولم يشهر سيفاً ليطالب بحقّه، لأنّ عينه لم تكن موجّهة إلاّ إلى هدف واحد: وحدة المسلمين ـ قال كلمته البوصلة: «لأُسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين».
عليّ (ع) الّذي دفع الكثير الكثير، وعانى الكثير للحفاظ على هذه الوحدة، نهانا أن نكون من رموز الفتنة، أو المشاركين فيها، حتّى ولو كنّا في موقع المظلوم. نعضّ على الجراح نعم، ونأبى الانجرار، ولا نستعمل إلا لغة الرّحمة، إذ قال: «أقدموا على الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين، واتّقوا مدارج الشّيطان ومهابط العدوان».
مسؤوليّة مواجهة الفتنة
ونسأل أنفسنا: كيف السّبيل لنتحمّل مسؤوليّاتنا أفراداً ومجتمعاً تجاه أنفسنا وأمّتنا وتجاه الله سبحانه؟
هذا السؤال يُردّده كلّ مخلص، كلّما أطلّت نذر الفتنة برأسها، والجواب لا يمكن أن يكون فرديّاً فقط، بل يتطلّب جهداً تشاركيّاً من كلّ المخلصين، أفراداً وجماعات ومؤسّسات وهيئات ومفكّرين وعلماء وإعلاميّين.
إنّ من أوّل دروس المواجهة هو اليقظة والحذر. تريد أن تعرف من يُحرّك ويفبرك ويهيّئ للفتنة؟ إذاً، فتِّش عن المستفيد منها، ثم عن الأدوات الّتي ينفّذ بها.
إنّ أوّل ما تتوجَّه إليه أصابع الفتنة هو عقول النّاس، في محاولة لبلبلة الأفكار، وتعمية الحقائق، ونشر الأكاذيب، عملاً بقاعدة ذهبيّة عند صانعي الفتنة: اِكذب واكذب واكذب إلى أن يصدّقك النّاس.
وهذا ما تؤدّيه الإشاعة، فهي تختلق الأكاذيب والتّهم، وتغيّر من مسارات الحدث، وتقوده بالاتجاه الّذي يخدم تعميم الفتنة، أو إشعال شرارتها الأولى. أليس هذا ما تشهده ساحاتنا ونراه بأمّ العين؟!
ولسوء الحظّ، فإنّنا نعيش في عصر الإعلام الإلكتروني، والفضائيّات، والتواصل الاجتماعي على الإنترنت. فخلال دقائق تنتشر أيّ إشاعة، من بيت إلى بيت، ومن شخص إلى شخص، بل تعبر القارّات، وتصبح الحبّة قبّة.
وما يزيد الطّين بلّة، أنّ بعض الفضائيّات المحليّة والعربيّة والعالميّة، تنخرط في لعبة الإشاعة، وتسخّر مراسليها على أرض الحدث، فيغيّرون ويبدّلون الحقائق في الاتجاه الّذي يخدم التوجّه السياسيّ للوسيلة الإعلاميّة.
إنّ مواجهة الكابوس المرعب الّذي تخلقه الإشاعات والفرضيّات، أساس لا بديل منه، لمنع استنبات بذور الفتنة.
كما أنّ تبريد الخطاب الإعلاميّ في الصّحف والفضائيّات والمنابر هو أساس آخر، وضرورة للتّخفيف من منسوب الانفعال، ودعوات التعصّب والتّفرقة.
إنّ تبريد الخطاب الإعلاميّ يفرض عدم مواجهة السبّ بالسبّ، والشّتم بالشّتم، والابتعاد عن أساليب التّجريح. وعدم مبادلة الكلام القاسي بمثله. ولنتذكّر جميعاً قول أمير المؤمنين في معركة صفّين، لأصحابه الّذين راحوا يسبّون أهل الشّام كردّ فعل لسبّ أهل الشّام لهم: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين».
إنّ أيّ مجتمع يتوانى عن المحافظة على أمنه واستقراره، هو كمن يشرّع أبواب بيته لرياح السّموم، وللّصوص والعابثين. لهذا يحذّرنا القرآن الكريم: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 25].
فالفتنة إذا اندلعت، لن تميّز بين هذا وذاك. النّار ستطاول الجميع، المذنب والبريء. ومتى توانى المجتمع عن تحمّل مسؤوليّاته، أفراداً وجماعات، انعدم الأمن، وتساوى النّاس في تحمّل المسؤوليّة.
حلول في طريق المواجهة
إنّ نذر الفتنة تدقّ أبواب بيوتنا، ولا حلول إلاّ من الدّاخل، والمطلوب الخروج من شرنقة الطّائفة والمذهب، إلى رحاب الإسلام السّمح؛ إسلام الحبّ والتّراحم.
المطلوب لجان حكماء ومخلصين وعقلاء، لتشكيل خلايا تدير الأزمة، تحاصر الفتنة، تزيل ألغامها الّتي بدأ يزرعها المصطادون في الماء العكر. إنّ أصابع الطّابور الخامس تتسلّل إلى كلّ الأمكنة، حتّى إلى المساجد.
إنَّ المؤتمرات، والخطب والمواعظ من وراء المنابر، مهمَّة لإيقاظ الضَّمائر، وتبصير النَّاس، لكنَّها لم تعد كافية.
المطلوب توسيع دائرة الانفتاح، والنّزول إلى الأرض. إنّ توصيف المشكلة لم يعد يكفي، بل المطلوب العمل.
نعم، المطلوب من كلّ المخلصين، علماء ومفكّرين وإعلاميّين ومتطوّعين، النزول إلى الأرض، للتّفتيش عن أفضل الحلول الّتي تهدم المتاريس المذهبيّة، وتطفئ النّار.
ألم ينصحنا الرّسول(ص): «إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه»؟
هذا هو الوقت الّذي نحتاج إلى علم كلّ عالم ومخلص، ليعلن للجميع أن لا مكان للفتنة والرّسالة بين أظهرنا.
لا مكان للفتنة والقرآن بين أيدينا، نتلوه وهو يدعونا: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[آل عمران: 103]، {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
لنكن مخلصين لمسؤوليَّاتنا تجاه الله وأنفسنا ووطننا وأمَّتنا.
الله الله في دماء المسلمين، الله الله في وحدتهم..
حمى الله المسلمين من أعدائهم ومن أنفسهم، إنّه أرحم الرّاحمين.
المصدر: جريدة النّهار الكويتيّة
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .