الحسين (ع) يريدنا أن نبكي على أنفسنا

الحسين (ع) يريدنا أن نبكي على أنفسنا

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض)، نستعيد خطبته الدينية الّتي ألقاها بتاريخ 6 محرَّم 1425هـ / 27-2-2004م من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، والّتي تحدّث فيها عن رمزيّة الإمام الحسين (ع) كإمام للأمّة، وكرمز حيّ للوحدة الإسلاميّة، داعياً إلى دراسة كلّ أبعاد هذه الشخصيّة وعطاءاتها المتنوّعة التي كانت تذكّر المسلمين على الدوام بالقرآن، وبالأخذ بأسباب العقل، مستشهداً ببعض الإضاءات من سيرته المباركة.

جاء في الخطبة:

"لانزال نعيش الحسين (ع) روحاً وعقلاً ورسالةً وفكراً وحركةً، وعندما نعيش الحسين (ع)، نعيش الإسلام في عقيدته وفي شريعته وفي مناهجه وفي أساليبه وأهدافه في الحياة، وعندما نعيش الإسلام، فإننا نعيش رسول الله (ص)، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}.

والحسين (ع) قطعة من رسول الله، قطعة في العاطفة، وخطّ في الرسالة، ونيابة في الإمامة، وعندما نتحدّث عن الإسلام في رسالة الرّسول، فإننا نتحدث عن المسلمين جميعاً، لنعيش كما أرادنا رسول الله (ص)، وكما أرادنا القرآن من خلال ذلك، أن نعيش وحدة الأمّة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، أن نعيش وحدة الأمة بالرغم من اختلاف الأمّة في خطوطها المذهبية وفي اجتهاداتها الفقهية، لأنّ الإسلام واحد وإن تنوّع فهمه.

وفي ضوء هذا، فإنّنا كما كنّا نتحدَّث عن عليّ بن أبي طالب (ع)، بأنّه رائد الوحدة الإسلاميَّة في حفاظه على الإسلام والمسلمين، فإنَّ الحسين (ع) هو نموذج هذه الوحدة، لأنَّ الحسين (ع) هو الإمام الذي يجمع كلَّ المسلمين ـ من كان في خطّه في مذهب أهل البيت (ع) ومن لم يكن ـ على محبّته وعلى تعظيمه، ذلك أن المسلمين يروون جميعاً بأنّ "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة"، ويروون جميعاً كلمة الرّسول (ص): "إني أحبّ حسيناً، أحبّ الله من أحبَّ حسيناً".

لذلك، فالحسين (ع) هو الذي تخفق قلوب المسلمين بمحبّته وتعظيمه وبمعرفة فضله، وإن اختلفوا في تقويم قضيّة كربلاء، ولئن عاش المسلمون في مرحلة كربلاء بعض الانحرافات، لكنّهم كانوا كما قال الفرزدق: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

ونحن ـ أيّها الأحبَّة ـ عندما نذكر الحسين إماماً، فإنَّ علينا أن لا نستغرق في الجانب الثوري أو في الدائرة الكربلائية المأساوية، لنختصر الحسين في هاتين الدّائرتين. فالحسين (ع) كان ثائراً في خطِّ الإمامة، وكان كربلائيّاً في مأساة كربلاء في خطِّ الإمامة الإسلاميّة، ولكن علينا أن نأخذ الحسين بكلّه مسلماً إماماً، فالحسين (ع) هو الإمام بعد الإمامين، وهو من رسول الله (ص)، حيث قال: "حسين مني وأنا من حسين". لذلك، لا بدّ أن ندرس الإمام الحسين (ع) في الخطّ الإسلامي؛ في الموعظة، في النصيحة، في الشريعة، في كلّ جوانب حركة الحسين في الدعوة، وحركة الحسين في التربية، وحركة الحسين في تغيير عقول المسلمين، وفي ربطهم بالله سبحانه وتعالى. ولذلك، فإن الحسينيّين هم الذين أطاعوا الله ووحّدوه، وأطاعوا رسول الله (ص) وساروا على خطّ الإسلام في كلّ ما يفكّرون وفي كلّ ما يعملون.

ونريد في هذا الموقف أن نستنطق الحسين (ع)، ليعظنا وليذكّرنا بالله في بعض كلماته المرويّة عنه، فمن هذه الكلمات: "لا يكمل العقل إلا باتّباع الحق"، هذا يعني أنّ على الإنسان أن ينمّي عقله وأن يطوِّره، وأن ينفتح على كلّ مسؤوليّاته من خلال كل الواقع، ولا بدّ للإنسان أن يكمل عقله، وأن يدرس مواقع النقص فيه، لأنّ العقل هو حجة الله على الإنسان، ولأنّ العقل هو الذي يحدّد للإنسان الخير والشّرّ، الحسن والقبيح، الحقّ والباطل. العقل هو الذي يجعل من إنسانيّتك إنسانيةً تغني حياتك وحياة الناس من حولك.

وفي ضوء هذا، كان الحسين (ع) يحدّثنا دائماً، ومن خلال القرآن، عن الحقّ، وتلك كلمته المعروفة: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه"، لأنّ الحقّ هو دعامة الحياة كلّها، وقد سمّى الله نفسه بالحقّ، ذلك بأن الله هو الحق، فالحسين (ع) يقول لنا إن العقل كما يتحرّك في خطّ النظرية، فإنه يتحرك في خطّ الواقع، فالعقل يدرك أولاً أين سعادة الإنسان وأين الأساس في نظام الحياة، فيعرف أن الحقّ هو الثابت الذي لا يزول ولا يهتزّ ولا يسقط.

ولذلك، فإنّ العقل يقول لك إن الحقَّ هو خطّ حياتك، هو في نفسك، في ما تعتقده، في إيمانك بالله وبالرسالة وبكلّ القيم التي أحبّها الله ورسوله، والحقّ في علاقتك بالناس، فإن هناك برامج تفرض عليك أن تضع القواعد لحياتك مع الآخرين، سواء في البيت الأبويّ، أو في البيت الزوجي، أو مع الناس الآخرين في جميع المجالات، هناك حقّ وباطل في علاقتك بالناس وعلاقة الناس بك، وهناك حقّ قانوني في ما بينك وبين النّاس، ما يخلق للحياة توازنها ويغني للإنسان إنسانيّته.

وانطلاقاً مما تقدَّم، فإنّ العقل يقول لك اتّبع الحق، فإذا استجبت لعقلك واتّبعت الحقّ، فمعنى ذلك أن عقلك العملي تكامل مع عقلك النظري، وتحوّلت بذلك النظريّة إلى تطبيق، أمّا إذا لم تتبع الحقّ، بل اتّبعت الباطل، فإن ذلك يدلّ على نقصان عقلك النظري والعملي إذا لم تهتدِ إلى الحقّ ولم تفكر به.

لذلك، فالحسين (ع) يقول إنّه من لا يتبع الحقّ، في العقيدة أو في الشريعة أو في حركة الحياة، في حركة الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، فهو ناقص العقل.

وفي حديث آخر، يقال إنّ رجلاً سأله: مَن أشرف الناس؟ فقال (ع): "من اتّعظ قبل أن يوعظ ـ يعني من لا يحتاج إلى من يعظه، بل يدرس الأمور بحسب نتائجها على حياته وعلى مصيره، فيتّعظ بالمواعظ التي تمرّ عليه، وبالموتى الّذين يتركون الحياة، ليعرف بأنّه سيموت كما ماتوا، ويدرس الصّدمات التي تصيبه، فيعرف أنّ عليه أن يتفادى أسباب هذه الصّدمة أو الخسارة أو الهزيمة أو كلّ ما يصيب الإنسان في الخطّ السلبي.

وقد ورد في بعض كلمات الإمام عليّ (ع) في هذا الاتجاه: "من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ"، فالذي لا يعيش الموعظة في نفسه، ولا يدرس كيف يستفيد من كلّ التجارب الفاشلة أو التجارب الناجحة في الحياة، ومن كلّ انحرافات الآخرين واستقامتهم، لا تنفعه المواعظ، لأنه قد أغلق عقله عن فهم الموعظة، وأغلق إرادته عن تأكيد الموقف في خطّ الموعظة.

ـ واستيقظ قبل أن يوقظ"، أي لا يحتاج إلى أحد كي يوقظه من النوم؛ نوم العقل، ونوم الروح، ونوم الحياة... أن يكون في يقظة دائمة لما حوله ولمن حوله... أن لا يكون غافلاً، لأنّ الغفلة واللامبالاة في الحياة هي حالة نوم وحالة غياب عن الواقع. لذلك كُن يقظاً مفتوح العينين على كلّ ما ينفعك وعلى كلّ ما يضرّك، وعلى كلّ الواقع الذي يواجهك في مسؤوليّاتك.

وقد ورد في بعض الأحاديث عن غفلة الناس عن الآخرة وهم مستغرقون في الدّنيا: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"، وبعضهم يقول: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}.

الكلمة الأخرى للإمام الحسين (ع) حيث سُئِل: كيف أصبحت يابن رسول الله؟ قال (ع): "أصبحت ولي ربّ فوقي ـ أعرف أنّني سأقدم حسابي له يوم القيامة ـ والنار أمامي ـ أفكر في موقفي أمام الله في كل مسؤولياتي ـ والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهنٌ بعملي، لا أجد ما أحبّ، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذَّبني، وإن شاء عفا عني، فأيّ فقير أفقر مني؟!".

لذلك، عندما تحضرون مجالس العزاء، تذكروا الإمام الحسين (ع)، فهو لا يريد منكم أن تسكبوا الدموع فقط، وإن كان للدموع شأن عاطفي، ولكن يريد لكم أن تبكوا على أنفسكم أكثر مما تبكون عليه.

في كلمة أخرى للإمام الحسين (ع) يقول فيها: "إنّ المؤمن اتّخذ الله عصمته، وقوله مرآته ـ ينظر في القرآن كما لو كان مرآةً تريه الأشياء على حقيقتها. وهذا مهمّ لنا في قراءتنا للقرآن، وأحبّ أن تتأمّلوا في هذه الكلمة، حتى تربطوا بين ما تقرأون في القرآن وبين ما تعيشونه في الواقع.

ويبيِّن لنا الإمام (ع) كيف نفهم القرآن وكيف نجعله مرآة للحقائق ـ فمرّةً ينظر في نعت المؤمنين ـ أي صفاتهم، فانظر إلى نفسك؛ هل أنت متَّصف بصفات المؤمنين التي جاءت في القرآن، أم أنّك لست متّصفاً بها، وكذلك انظر إلى الناس من حولك، لتعرف من هو المؤمن ومن هو ليس بمؤمن ـ وتارةً ينظر في وصف المتجبرين ـ ادرس الجبابرة الذين يعلون في الأرض ويفرّقون الناس، وهكذا ـ فهو منه (القرآن) في لطائف، ومن نفسه في تعارف، ومن فطنته في يقين، ومن قدسه على تمكين".

وهكذا في كلمة أخرى للإمام الحسين (ع)، عندما قيل له: إنّ أبا ذرّ يقول: "الفقر أحبّ إليّ من الغنى، والسّقم أحبّ إليّ من الصحة"، فقال (ع): "رحم الله أبا ذرّ، أمّا أنا فأقول: من اتّكل على حسن اختيار الله له، لم يتمنَّ غير ما اختاره الله عزّ وجلّ". وفي كلمة أخرى، كتب إليه بعض الناس، أخبرني بخير الدّنيا والآخرة، فكتب إليه الحسين (ع): "بسم الله الرّحمن الرّحيم، أمّا بعد، فإنّه مَن طلب رضا الله بسخط النّاس، كفاه الله أمور النّاس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس"، وقيل له: ما أعظم خوفك من ربّك! فقال (ع): "لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا".

وفي ختام الكلمة بالنّسبة إلى السلام، يقول الحسين (ع): "للسّلام سبعون حسنة؛ تسع وستّون للمبتدئ، وواحدة للرادّ".

وفي نقطة ثانية عالجها الإمام الحسين (ع)، وينقلها عن أبيه عليّ بن أبي طالب (ع) في الذين لا يسلّمون على من ارتكب ذنباً من إخوانهم المؤمنين، ففي رواية عن عليّ بن الحسين عن أبيه، أنّ ابن الكوّى سأل عليّ بن أبي طالب (ع)، فقال يا أمير المؤمنين، تسلّم على مذنب هذه الأمّة؟ فقال (ع): "يراه الله عزّ وجلّ للتوحيد أهلاً ولا تراه للسّلام عليه أهلاً؟!". وقد ورد عندنا في بعض الأحاديث: "أبخل النّاس من بخل بالسّلام".

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ لا بد لنا من أن نتحرّك على أن نسلّم على كل الناس، ويجب أن نتدرّب على السلام جيداً، لأنّ تحية أهل الجنة هي السّلام، حيث يقول عزّ وجلّ: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}، ومن آدابنا في الدنيا، أن نسلّم أوّلاً ثم نتحدّث، والسلام كلمة طيّبة تربط بين القلوب، وتعرّف الآخر أنّه في سلامٍ معه، ولذلك وجب أن نحافظ عليها.

أيها الأحبة، هذا هو الحسين الإمام، فعلينا أن نعيش إمامته في خطّ إسلامه وفي خطّ دعوته إلى الله. رزقنا الله شفاعة الحسين (ع) وشفاعة جدّه وأبيه، وأمّه وأخيه، يوم يقوم النّاس لربّ العالمين.

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض)، نستعيد خطبته الدينية الّتي ألقاها بتاريخ 6 محرَّم 1425هـ / 27-2-2004م من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، والّتي تحدّث فيها عن رمزيّة الإمام الحسين (ع) كإمام للأمّة، وكرمز حيّ للوحدة الإسلاميّة، داعياً إلى دراسة كلّ أبعاد هذه الشخصيّة وعطاءاتها المتنوّعة التي كانت تذكّر المسلمين على الدوام بالقرآن، وبالأخذ بأسباب العقل، مستشهداً ببعض الإضاءات من سيرته المباركة.

جاء في الخطبة:

"لانزال نعيش الحسين (ع) روحاً وعقلاً ورسالةً وفكراً وحركةً، وعندما نعيش الحسين (ع)، نعيش الإسلام في عقيدته وفي شريعته وفي مناهجه وفي أساليبه وأهدافه في الحياة، وعندما نعيش الإسلام، فإننا نعيش رسول الله (ص)، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}.

والحسين (ع) قطعة من رسول الله، قطعة في العاطفة، وخطّ في الرسالة، ونيابة في الإمامة، وعندما نتحدّث عن الإسلام في رسالة الرّسول، فإننا نتحدث عن المسلمين جميعاً، لنعيش كما أرادنا رسول الله (ص)، وكما أرادنا القرآن من خلال ذلك، أن نعيش وحدة الأمّة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، أن نعيش وحدة الأمة بالرغم من اختلاف الأمّة في خطوطها المذهبية وفي اجتهاداتها الفقهية، لأنّ الإسلام واحد وإن تنوّع فهمه.

وفي ضوء هذا، فإنّنا كما كنّا نتحدَّث عن عليّ بن أبي طالب (ع)، بأنّه رائد الوحدة الإسلاميَّة في حفاظه على الإسلام والمسلمين، فإنَّ الحسين (ع) هو نموذج هذه الوحدة، لأنَّ الحسين (ع) هو الإمام الذي يجمع كلَّ المسلمين ـ من كان في خطّه في مذهب أهل البيت (ع) ومن لم يكن ـ على محبّته وعلى تعظيمه، ذلك أن المسلمين يروون جميعاً بأنّ "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة"، ويروون جميعاً كلمة الرّسول (ص): "إني أحبّ حسيناً، أحبّ الله من أحبَّ حسيناً".

لذلك، فالحسين (ع) هو الذي تخفق قلوب المسلمين بمحبّته وتعظيمه وبمعرفة فضله، وإن اختلفوا في تقويم قضيّة كربلاء، ولئن عاش المسلمون في مرحلة كربلاء بعض الانحرافات، لكنّهم كانوا كما قال الفرزدق: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

ونحن ـ أيّها الأحبَّة ـ عندما نذكر الحسين إماماً، فإنَّ علينا أن لا نستغرق في الجانب الثوري أو في الدائرة الكربلائية المأساوية، لنختصر الحسين في هاتين الدّائرتين. فالحسين (ع) كان ثائراً في خطِّ الإمامة، وكان كربلائيّاً في مأساة كربلاء في خطِّ الإمامة الإسلاميّة، ولكن علينا أن نأخذ الحسين بكلّه مسلماً إماماً، فالحسين (ع) هو الإمام بعد الإمامين، وهو من رسول الله (ص)، حيث قال: "حسين مني وأنا من حسين". لذلك، لا بدّ أن ندرس الإمام الحسين (ع) في الخطّ الإسلامي؛ في الموعظة، في النصيحة، في الشريعة، في كلّ جوانب حركة الحسين في الدعوة، وحركة الحسين في التربية، وحركة الحسين في تغيير عقول المسلمين، وفي ربطهم بالله سبحانه وتعالى. ولذلك، فإن الحسينيّين هم الذين أطاعوا الله ووحّدوه، وأطاعوا رسول الله (ص) وساروا على خطّ الإسلام في كلّ ما يفكّرون وفي كلّ ما يعملون.

ونريد في هذا الموقف أن نستنطق الحسين (ع)، ليعظنا وليذكّرنا بالله في بعض كلماته المرويّة عنه، فمن هذه الكلمات: "لا يكمل العقل إلا باتّباع الحق"، هذا يعني أنّ على الإنسان أن ينمّي عقله وأن يطوِّره، وأن ينفتح على كلّ مسؤوليّاته من خلال كل الواقع، ولا بدّ للإنسان أن يكمل عقله، وأن يدرس مواقع النقص فيه، لأنّ العقل هو حجة الله على الإنسان، ولأنّ العقل هو الذي يحدّد للإنسان الخير والشّرّ، الحسن والقبيح، الحقّ والباطل. العقل هو الذي يجعل من إنسانيّتك إنسانيةً تغني حياتك وحياة الناس من حولك.

وفي ضوء هذا، كان الحسين (ع) يحدّثنا دائماً، ومن خلال القرآن، عن الحقّ، وتلك كلمته المعروفة: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه"، لأنّ الحقّ هو دعامة الحياة كلّها، وقد سمّى الله نفسه بالحقّ، ذلك بأن الله هو الحق، فالحسين (ع) يقول لنا إن العقل كما يتحرّك في خطّ النظرية، فإنه يتحرك في خطّ الواقع، فالعقل يدرك أولاً أين سعادة الإنسان وأين الأساس في نظام الحياة، فيعرف أن الحقّ هو الثابت الذي لا يزول ولا يهتزّ ولا يسقط.

ولذلك، فإنّ العقل يقول لك إن الحقَّ هو خطّ حياتك، هو في نفسك، في ما تعتقده، في إيمانك بالله وبالرسالة وبكلّ القيم التي أحبّها الله ورسوله، والحقّ في علاقتك بالناس، فإن هناك برامج تفرض عليك أن تضع القواعد لحياتك مع الآخرين، سواء في البيت الأبويّ، أو في البيت الزوجي، أو مع الناس الآخرين في جميع المجالات، هناك حقّ وباطل في علاقتك بالناس وعلاقة الناس بك، وهناك حقّ قانوني في ما بينك وبين النّاس، ما يخلق للحياة توازنها ويغني للإنسان إنسانيّته.

وانطلاقاً مما تقدَّم، فإنّ العقل يقول لك اتّبع الحق، فإذا استجبت لعقلك واتّبعت الحقّ، فمعنى ذلك أن عقلك العملي تكامل مع عقلك النظري، وتحوّلت بذلك النظريّة إلى تطبيق، أمّا إذا لم تتبع الحقّ، بل اتّبعت الباطل، فإن ذلك يدلّ على نقصان عقلك النظري والعملي إذا لم تهتدِ إلى الحقّ ولم تفكر به.

لذلك، فالحسين (ع) يقول إنّه من لا يتبع الحقّ، في العقيدة أو في الشريعة أو في حركة الحياة، في حركة الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، فهو ناقص العقل.

وفي حديث آخر، يقال إنّ رجلاً سأله: مَن أشرف الناس؟ فقال (ع): "من اتّعظ قبل أن يوعظ ـ يعني من لا يحتاج إلى من يعظه، بل يدرس الأمور بحسب نتائجها على حياته وعلى مصيره، فيتّعظ بالمواعظ التي تمرّ عليه، وبالموتى الّذين يتركون الحياة، ليعرف بأنّه سيموت كما ماتوا، ويدرس الصّدمات التي تصيبه، فيعرف أنّ عليه أن يتفادى أسباب هذه الصّدمة أو الخسارة أو الهزيمة أو كلّ ما يصيب الإنسان في الخطّ السلبي.

وقد ورد في بعض كلمات الإمام عليّ (ع) في هذا الاتجاه: "من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ"، فالذي لا يعيش الموعظة في نفسه، ولا يدرس كيف يستفيد من كلّ التجارب الفاشلة أو التجارب الناجحة في الحياة، ومن كلّ انحرافات الآخرين واستقامتهم، لا تنفعه المواعظ، لأنه قد أغلق عقله عن فهم الموعظة، وأغلق إرادته عن تأكيد الموقف في خطّ الموعظة.

ـ واستيقظ قبل أن يوقظ"، أي لا يحتاج إلى أحد كي يوقظه من النوم؛ نوم العقل، ونوم الروح، ونوم الحياة... أن يكون في يقظة دائمة لما حوله ولمن حوله... أن لا يكون غافلاً، لأنّ الغفلة واللامبالاة في الحياة هي حالة نوم وحالة غياب عن الواقع. لذلك كُن يقظاً مفتوح العينين على كلّ ما ينفعك وعلى كلّ ما يضرّك، وعلى كلّ الواقع الذي يواجهك في مسؤوليّاتك.

وقد ورد في بعض الأحاديث عن غفلة الناس عن الآخرة وهم مستغرقون في الدّنيا: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"، وبعضهم يقول: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}.

الكلمة الأخرى للإمام الحسين (ع) حيث سُئِل: كيف أصبحت يابن رسول الله؟ قال (ع): "أصبحت ولي ربّ فوقي ـ أعرف أنّني سأقدم حسابي له يوم القيامة ـ والنار أمامي ـ أفكر في موقفي أمام الله في كل مسؤولياتي ـ والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهنٌ بعملي، لا أجد ما أحبّ، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذَّبني، وإن شاء عفا عني، فأيّ فقير أفقر مني؟!".

لذلك، عندما تحضرون مجالس العزاء، تذكروا الإمام الحسين (ع)، فهو لا يريد منكم أن تسكبوا الدموع فقط، وإن كان للدموع شأن عاطفي، ولكن يريد لكم أن تبكوا على أنفسكم أكثر مما تبكون عليه.

في كلمة أخرى للإمام الحسين (ع) يقول فيها: "إنّ المؤمن اتّخذ الله عصمته، وقوله مرآته ـ ينظر في القرآن كما لو كان مرآةً تريه الأشياء على حقيقتها. وهذا مهمّ لنا في قراءتنا للقرآن، وأحبّ أن تتأمّلوا في هذه الكلمة، حتى تربطوا بين ما تقرأون في القرآن وبين ما تعيشونه في الواقع.

ويبيِّن لنا الإمام (ع) كيف نفهم القرآن وكيف نجعله مرآة للحقائق ـ فمرّةً ينظر في نعت المؤمنين ـ أي صفاتهم، فانظر إلى نفسك؛ هل أنت متَّصف بصفات المؤمنين التي جاءت في القرآن، أم أنّك لست متّصفاً بها، وكذلك انظر إلى الناس من حولك، لتعرف من هو المؤمن ومن هو ليس بمؤمن ـ وتارةً ينظر في وصف المتجبرين ـ ادرس الجبابرة الذين يعلون في الأرض ويفرّقون الناس، وهكذا ـ فهو منه (القرآن) في لطائف، ومن نفسه في تعارف، ومن فطنته في يقين، ومن قدسه على تمكين".

وهكذا في كلمة أخرى للإمام الحسين (ع)، عندما قيل له: إنّ أبا ذرّ يقول: "الفقر أحبّ إليّ من الغنى، والسّقم أحبّ إليّ من الصحة"، فقال (ع): "رحم الله أبا ذرّ، أمّا أنا فأقول: من اتّكل على حسن اختيار الله له، لم يتمنَّ غير ما اختاره الله عزّ وجلّ". وفي كلمة أخرى، كتب إليه بعض الناس، أخبرني بخير الدّنيا والآخرة، فكتب إليه الحسين (ع): "بسم الله الرّحمن الرّحيم، أمّا بعد، فإنّه مَن طلب رضا الله بسخط النّاس، كفاه الله أمور النّاس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس"، وقيل له: ما أعظم خوفك من ربّك! فقال (ع): "لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا".

وفي ختام الكلمة بالنّسبة إلى السلام، يقول الحسين (ع): "للسّلام سبعون حسنة؛ تسع وستّون للمبتدئ، وواحدة للرادّ".

وفي نقطة ثانية عالجها الإمام الحسين (ع)، وينقلها عن أبيه عليّ بن أبي طالب (ع) في الذين لا يسلّمون على من ارتكب ذنباً من إخوانهم المؤمنين، ففي رواية عن عليّ بن الحسين عن أبيه، أنّ ابن الكوّى سأل عليّ بن أبي طالب (ع)، فقال يا أمير المؤمنين، تسلّم على مذنب هذه الأمّة؟ فقال (ع): "يراه الله عزّ وجلّ للتوحيد أهلاً ولا تراه للسّلام عليه أهلاً؟!". وقد ورد عندنا في بعض الأحاديث: "أبخل النّاس من بخل بالسّلام".

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ لا بد لنا من أن نتحرّك على أن نسلّم على كل الناس، ويجب أن نتدرّب على السلام جيداً، لأنّ تحية أهل الجنة هي السّلام، حيث يقول عزّ وجلّ: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}، ومن آدابنا في الدنيا، أن نسلّم أوّلاً ثم نتحدّث، والسلام كلمة طيّبة تربط بين القلوب، وتعرّف الآخر أنّه في سلامٍ معه، ولذلك وجب أن نحافظ عليها.

أيها الأحبة، هذا هو الحسين الإمام، فعلينا أن نعيش إمامته في خطّ إسلامه وفي خطّ دعوته إلى الله. رزقنا الله شفاعة الحسين (ع) وشفاعة جدّه وأبيه، وأمّه وأخيه، يوم يقوم النّاس لربّ العالمين.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية