بالعودة إلى أرشيف سماحة العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله (رض)، نستحضر ما ورد في خطبة الجمعة التي ألقاها بتاريخ 1 محرَّم 1423 هـ/ ١٥/٣/٢٠٠٢م، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، والّتي تحدَّث فيها عن معاني الهجرة، مبيِّناً أهميّة التأريخ الهجري في التأسيس لدولة الإسلام.
جاء في الخطبة:
"هذا اليوم هو أوّل يوم من السنة الهجرية الإسلامية الجديدة، وقد أراد المسلمون أن تنطلق سنتهم الإسلاميّة التي يؤرخون فيها الأحداث، من عهد الهجرة، لأن الهجرة كانت هي الحدث الكبير الذي انتقل فيه الإسلام من عهد الدعوة التي كانت تدعو المسلمين إلى الصبر والثبات والصمود، ولكن البعض لم يستطع أن يصبر لشدة الاضطهاد القرشي الذي أطبق عليهم، فطلب الرسول (ص) من المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة، حيث وجدوا هناك الملجأ الآمن الذي ملكوا فيه حركة ممارسة إسلامهم بكلّ حرية، وكان النبي (ص) يستهدف في هذه المرحلة الاستفادة من موقع مكّة الديني، حيث كان لايزال فيها بعض بقايا الدين الذي كان منذ عهد إبراهيم، مع بعض الوثنيّة التي خلطوها بالتوحيد.
وكانت مكة أيضاً عاصمة تجارية، حيث كانت لقريش رحلتان؛ رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكانت العاصمة الثقافية، باعتبار أنّ الشعراء والخطباء كانوا يلتقون في مكة في سوق عكاظ، ليعلقوا قصائدهم، وليخطبوا ما شاءت لهم إمكاناتهم الخطابيّة، وكانت قريش نتيجة هذا الموقع في إدارتها للكعبة، وفي موقعها التجاري والثقافي، تمثّل نوعاً من الزعامة السياسية، التي أعطتها قوّة في المنطقة.
ولذلك، كان النبيّ (ص) يستفيد من وجوده في مكّة، من أجل أن يبلغ الدّعوة إلى أكبر عدد ممكن من النّاس، دون أن يكلّف نفسه السفر إلى هذا البلد أو ذاك، لأن الناس كانوا يأتون إلى مكة. وقد صمد رسول الله (ص) كأروع ما يكون الصمود، وتحمّل الأذى كأقسى ما يكون الأذى، حتى قال (ص):
"ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت"، وقد حاولوا أن يغروه فتمرّد على الإغراء، وحاولوا أن يرهبوه فتمرّد على الإرهاب، وقال كلمته المشهورة مخاطباً عمّه أبا طالب، الذي كان السفير بينه وبين قريش، وكان يحميه ويرعاه، وكان مؤمناً كأروع ما يكون الإيمان، ولكنّه كان يكتم إيمانه محافظةً على رسول الله (ص)، وهو القائل:
"وقد علمت أنّ دين محمد من خير أديان البرية ديناً"، قال (ص) لعمّه:
"يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه".
وعرفت قريش أنّ النبيّ (ص) لن يترك هذه الدّعوة، فبدأت بعملية التنكيل الإعلامي، كالكثيرين من الناس الذين إذا عجزوا عن إسقاط المصلحين جسدياً، أو من خلال إغرائهم، لجأوا إلى تشويه صورتهم إعلامياً، فقالوا عنه إنّه كاهن، وإنّه شاعر، وإنه مجنون، وقالوا عن القرآن إنه
{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، وردّ عليهم القرآن أقوالهم هذه، وكان عمّه أبو لهب يلاحقه ويقول في المجتمعات: لا تصدّقوا ابن أخي فإنّه مجنون. وخاطبهم الرسول (ص) بكلّ هدوء بما علّمه الله:
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى}، أن تفكّروا بعقولكم وليس بحماس، لا تفكّروا مع الجماهير ولا مع الحمى الموجودة، بل بشكل مستقلّ، فبعض الناس يتصرّفون من دون أن يدركوا معنى لتصرفاتهم، وهذا ما يسمّى في علم النفس بالعقل الجمعي
{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}. وهكذا استطاع النبيّ (ص) بصبره وصموده أن يربح الكثيرين، وأن ينفذ إلى منطقة شبه الجزيرة العربية، وجعل المدينة (يثرب من قبل) العاصمة الحركية للإنسان، حيث كان جماعة من أهلها قد دخلوا في الإسلام، وأرسل إليهم النبيّ (ص) بعض أصحابه ليعلّمهم الإسلام.
وكان اليثربيون يأتون إلى مكة، وكانوا قد سمعوا من اليهود بأنّ هناك نبياً سوف يخرج من هذه المنطقة، وكانوا عندما يستمعون إلى رسول الله (ص)، يقولون هذا الذي حدّثنا به اليهود.
ثم اشتدّت الأمور بالنبيّ (ص)، وقرّرت قريش حبسه أو إخراجه وتركه في الصّحراء أو قتله، بعد أن تقدَّم كلّ عائلة من عوائل قريش شاباً ويهجمون عليه، فيضيع دمه (ص) بين القبائل، ويدفعون الدّية وتنتهي المسألة.
وهكذا انتصر قرار القتل، ولكنّ الله أعلم نبيّه بما يكيدون
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، عند ذلك، طلب النبيّ (ص) من عليّ (ع)، وكان في الثّالثة والعشرين من عمره، أن يغطّي انسحابه، وأخبره بالقصّة تماماً، وقال له الإمام (ع):
"يا رسول الله، أوتسلم في هجرتك هذه؟ قال: بلى، قال(ع): اذهب لا أبالي، أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ"، ونزلت الآية تقديراً لموقف عليّ (ع) وإخلاصه لله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}. فعليّ باع نفسه لله، ولم يحترس لنفسه من نفسه، وتلك عظمة عليّ (ع).
وسار النبي (ص)، ولم يشعر به أولئك، واكتشف القوم المسألة، ورأوا عليّاً في الفراش، فلاحقوا الرسول (ص) واقتفوا أثره، حتى وصلوا إلى الغار الّذي اختفى فيه النبيّ (ص) مع رفيقه، ولكن الله كان قد أمر العنكبوت أن تنسج على مدخل الغار نسيجاً غطّى مدخله، وحمامةً باضت على مدخله، بحيث تبيَّن أنّ النسج كان من مدّةٍ طويلة، وقال الله في ذلك:
{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}.
وانتصر الإسلام، وبدأ النبي تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة ببناء مسجد أولاً يجمع المسلمين، وعزمت قريش على إشغال النبي عن دعوته بالحروب، من بدرٍ إلى أُحد إلى الأحزاب... وتحالفت مع اليهود، حيث كان النبي (ص) ينتقل من حرب إلى حرب، إلى أن فتح الله وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً
واستطاع الإسلام أن يكون القوّة في تلك المنطقة، وبدأت العرب تفِد إلى النبي (ص) بعد أن كانت تخاف من قريش، لتُسلم على يديه. فالهجرة تمثل منطلق القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الثقافية التي حصل الإسلام عليها، ولهذا كانت مسألة البداية، أي التاريخ بالهجرة، مع العلم أنّ البعثة كانت قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، لأنه أُريد للهجرة أن تكون هي التاريخ الذي استطاع الإسلام أن يحصل على القوّة فيه، ليكون هذا التاريخ دافعاً وعامل قوّة للمسلمين في كل سنواته في المستقبل، ليواجهوا التحدّيات الكبرى من قِبَل الكافرين والمستكبرين، ولينتصروا كما انتصر الإسلام في ذلك الوقت.
لقد مرّ على الهجرة 14 قرناً، ومضى الإسلام والمسلمون في تحديات وصدامات وصراعات داخلية وخارجية، ومازال الإسلام بالرغم من كل الجراحات التي أصابته قوياً، ومنتشراً في كل العالم، بحيث يبلغ عدد المسلمين اليوم حوالى المليار والمئة مليون بحسب الإحصاءات، وإن كانت غير دقيقة.
ونحن نعرف أنّ الغرب المستكبر يحمل عقدة منذ البداية ضدّ الإسلام، وقد تجلّت في الحروب الصليبيّة التي انطلق فيها ملوك أوروبّا بالدعوات الدينية للسيطرة على القدس والمنطقة، ولكنّ المسلمين استطاعوا بعد صبرٍ وحروبٍ طويلة أن ينتصروا عليهم ويخرجوهم من ديارهم، ثم عاد هؤلاء المستعمرون من جديد في القرن الماضي ليستعمروا البلاد الإسلاميّة، ويقال إنّ بعض القادة الأوروبيين عندما وصل إلى قبر صلاح الدين الذي هزم الصليبيين، قال له: "الآن عدنا يا صلاح الدّين". وعاش المسلمون تحت تأثير الاستعمار من خلال ما عانوه من ضعف وتخلّف، ثم جاءت مسألة اليهود الذين تعاونوا مع الغرب ومع بريطانيا بالذات لكي يحصلوا على فلسطين كوطن قومي لليهود، ومازال الغرب، ولا سيما أمريكا، يعمل على حماية إسرائيل بكل ما يملك من قوّة.
والآن، ما نريده في ذكرى السنة الهجرية، أن نشير إلى عدة نقاط: النقطة الأولى أن تحفظوا التاريخ الهجري، لأنه بعد سيطرة الغرب أصبح التاريخ الميلادي هو المسيطر، وبما أن التاريخ الهجري يحمل في داخله حركية الإسلام وتاريخه وحضارته وهويته، ولذلك عليكم أن تحفظوا هذا التاريخ ليكون جزءاً من هويتكم.
النقطة الثانية: علينا أن نشعر بأننا جزء من أمة عالمية، وأننا جزء من أمة إسلامية، وأن الإسلام يمثّل جزءاً من عقل كل واحدٍ منا وقلبه وجسده، وأنه وإن اختلفنا مع بعض المسلمين في المذهب أو اختلفوا معنا في ذلك، فإنّنا جميعاً نؤمن برسول واحد وبكتابٍ واحد، وكلّ المسلمين في العالم يلتقون على أسس واحدة وقاعدة واحدة.. المسلمون في الحج يمشون بين الصفا والمروة مع بعضهم البعض، يقفون في عرفة وفي مِنى مع بعضهم البعض، وكذلك في كل مواقع الحجّ.
ولذلك قال الله:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، والنبيّ (ص) أراد لهذه الأمّة أن تتفاعل بالإيمان والتآخي، لذا قال (ص):
"من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"،
"من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"،
"من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين أعينوني فلم يجبه فليس بمسلم".
وعلينا أن نعيش ونربي أولادنا على أننا جزء من أمّة إسلاميّة، فإذا صاح واحد، تحرك الكل لمساعدته وإعانته والوقوف إلى جانبه في وجه التحديات، عند ذلك، لن يجد المستكبر من يعينه، كما هو عليه الحال الآن، قال النبي (ص):
"يوشك أن تتداعى الأمم عليكم كتداعي الأكلة إلى قصعتها، قالوا: ومِن قلّةٍ يا رسول الله؟ قال: إنكم لكثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل...".
أيها الأحبة، في ذكرى الهجرة النبوية، السنة الهجرية الجديدة، التي تختزن ذكرى الهجرة، والتي تنفتح على ذكرى عاشوراء، علينا أن نأخذ بأسباب القوّة وأسباب الوحدة وأسباب الانتصار، والله يقول:
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}".