الدّعوة القرآنيّة لاتّباع سبيل الله

الدّعوة القرآنيّة لاتّباع سبيل الله

إنَّها دعوة القرآن الدائمة للإيمان بالله تعالى {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[التغابن: 8]. ودعوة القرآن للإيمان به سبحانه موجّهة للإنسان الذي ينبغي عليه أن يوحّد كلَّ جوانب حياته في اتّجاه واحد لا في اتّجاهات متعدّدة، حتّى لا تتعدَّد آلهته في الحياة، فيتَّخذ لنفسه دون الله آلهة للمال والسلطة، وآلهة للقوَّة والشّهوة، كما كان فريقٌ من الناس القدامى يتَّخذون آلهة للظّلمة والنور، وآلهة للحبّ والشّهوة، وما إلى ذلك.

الإيمان بالله إيمانٌ بخطّ الرّسالة

وعندما تتعدّد اتّجاهات الناس في العبادة، فإنَّ حياتهم وأوضاعهم ترتبك، باعتبار أنَّ لكلّ إلهٍ مشاريعه وقضاياه وأساليبه وأوامره ونواهيه، فأصحاب المال الذين يعتبرون أنفسهم آلهة، لهم خططٌ في الحياة ترتبط بتنمية أموالهم، وهكذا أصحاب السّلطة، لهم مشاريع خاصّة ترتبط بسلطتهم، وكذلك أصحاب الشّهوات وغيرهم.

فإذا اتّخذ الإنسان أكثر من جهة يخضع لها وينجذب إليها، فإنَّه سيصطدم بالرغبات والخطط المتناقضة، ولكنّه إذا آمن بالله وحده، فإنَّه يستطيع توحيد أموره وقضاياه وتطلّعاته والطّرق التي يسلكها، لتلتقيَ بأجمعها عند أوامر الله ونواهيه، فيكون همّه في الحياة أن يرضى الله عنه ولا يسخط عليه، فينطلق في صراط الله بكلّ ثقة وصدق {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 153]. هناك طريقٌ واحد، فإذا ما انحرف الإنسان عن هذا الطريق، واتّبع الطرق الأخرى التي تتنوّع، فإنَّه سيرتبك في كلِّ خطواته. وعلى هذا، كان الخطاب القرآني للناس {فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ}[الأعراف: 158]. ومع الإيمان بالله، هناك الإيمان بالرسول، لأنّه يمثِّل حركة الامتداد للإيمان بالله، فالرسول ينطلق من خلال أنّه يحمل رسالة إلينا، ودور الرسول يبرز في تأكيد إرادة الله فيما يريده لنا في طريقة عبادتنا له، وفي مأكلنا ومشربنا ولذائذنا وعلاقاتنا ومواقفنا، وفي رفضنا وتأييدنا، لنؤمن بالله على أساس الطاعة والسير في خطِّ رضاه. فدور النبيّ ينطلق من إرشادنا إلى الطريق الذي نستطيع من خلاله أن نرتبط بالله. ولذا، فإنَّ الإيمان بالرسالة هو من شؤون الإيمان بالله سبحانه. وقد جعل الله علامة حبّنا له سبحانه اتّباعَ رسوله، فقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[آل عمران: 31]، فحبّ الرسول وطاعته هو حبٌّ وطاعةٌ لله سبحانه.

نورٌ للعقول والقلوب

وإضافةً إلى الإيمان بالله والرسول، هنالك الإيمان بالقرآن {وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَ}[التغابن: 8]، وهو يمثّل نور المعرفة والإيمان والهدى والتقوى في كلّ حركتنا في هذه الحياة، وقد قال الله تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ}[المائدة: 15]. فالقرآن هو النور الذي إذا استزدنا منه أضاء لنا عقولنا وقلوبنا، وأضاء لنا مناطق الإحساس والشّعور فينا، وكلَّ دروبنا في الحياة. فالله تعالى أرسل رسوله بهذا القرآن ليطهِّر نفوسنا، ويعلّم عقولنا طريق الحقّ والهدى. وإذا انطلقنا في هذا الخطّ، أي إذا آمنّا بالله ورسوله وبالنّور الذي أُنزل عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّ معنى ذلك أن ننفصل عن كلّ شيء لا ينسجم مع هذا الإيمان.

وعندما يؤمن الإنسان بالله، لا بدَّ من أن يكفر بالطاغوت {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 257]. فالإيمان بالله يفرض الكفر بالشيطان وبكلّ طاغوت يُعبَد من دون الله، والإيمان بالرّسول يقتضي الكفر بكلِّ مَن يحمل لنا قانوناً وشريعةً غير شريعة الإسلام، والإيمان بالقرآن هو الكفر بما عداه من الكتب التي تختلف عنه وتضادّه وتبتعد عن مفاهيمه وشرائعه. ولهذا، لا يجتمع في قلب إنسان مؤمن حبُّ الله وحبُّ الشيطان، أو يجتمع الإيمان بالله والإيمان بالطاغوت، والطاغوت كما قلنا، هو كلُّ ما يُعبَد ويُطاع ويُتَّبع من دون الله. وعلى هذا الأساس، ينبغي للإنسان أن يؤكّد حركة إيمانه وصدقها، فليس للمؤمن أن ينتميَ إلى الإسلام، وينتمي في الوقت ذاته إلى أيّ تيّار أو حزب أو اتجاه يختلف عن الخطّ الذي يمثِّله الإيمان والإسلام. والإنسان عندما تتعدَّد انتماءاتُه، فإنّه يناقش نفسه، لأنّه ليس من الممكن الانتماء إلى شيئين متناقضين. وهناك من الناس مَنْ لا يعتبر انتماءه إلى الإسلام مسألة تتّصل بعقله وقلبه وحركته، بحيث يكون عقله عقلاً إسلاميّاً وقلبه قلباً إسلاميّاً وحركته حركة إسلاميّة، ولذا، لا يمكن على الإطلاق أن يجمع الإنسان في قلبه إسلاماً وكفراً {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}[البقرة: 85]، فليست هناك مساومةٌ في هذا المجال على الإطلاق، إمّا إيمانٌ بالمطلق وجزاؤه الجنّة، وإمّا كفرٌ بالمطلق وعقابه جهنّم. إذاً {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[التغابن: 8] وكأنّ الله تعالى يقول: عش الإيمان الذي يتجسَّد في حياتك فكراً من وحي النّور، وإيماناً من إشراقة الضياء، بحيث يتحوّل إلى عمل، وسينظر الله إلى صدق إيمانك به وبالرسول وبالقرآن، لأنّه تعالى الخبير بكلّ ما تعمل.

كي لا يضيع العمر سدى

والأعمال تُقدَّم هناك {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التّغابن: 9]، ويجتمع البشر يوم القيامة بين يدي الله. يجتمع الأوّلون والآخرون منذ خلق الله آدم إلى أن يأتيَ ذلك اليوم {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} إذا كنتم متفرّقين في بلدانكم وفي ألوانكم ولغاتكم وأوضاعكم، فإنّكم ستجتمعون، ولا صفة لكم إلّا أنّكم عباد الله، الذين تقفون بين يديه ليحاسبكم وليسألكم عن أعمالكم {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، أي يوم الشّعور بالغبن، فالكافر والمنافق والضالّ في هذا اليوم، يشعر بالغبن، لأنّه ضيّع عمره في معاصي الله، والمؤمن يشعر بأنّه قصّر في عمله، ولذلك عندما يواجه الإنسان ذلك الموقف، ويرى قيمة العمل وكيف ترك هذه القيمة، فإنّه يشعر بمرارة نفسه وقد غبنها، فهو كان يستطيع أن يستفيد من الفرص التي هيّأها الله له في حياته، ويحصل من الله على الأجر الكبير والموقع العظيم، فيما لو استثمر هذه الفرص ووظّفها في العمل الصالح.

ومن هنا، فالكثيرون في حياتهم يعيشون الاسترخاء، ويضيِّعون أوقاتهم دون أن يستفيدوا منها في رضى الله سبحانه، وكثيرون هم الذين ليسوا مستعدّين للقيام بأيّ عمل إسلامي إلا بثمن، وإذا طُلب منهم القيام به، فيسألون عن مردوده الشخصيّ عليهم، دون الالتفات إلى نيل الأجر من الله. وقد قال أمير المؤمنين عليّ(ع) في وصيّته لولديه الحسن والحسين(ع): "قولا الحقّ واعملا للأجر"، أي فليعمل الإنسان لينال الأجر من الله سبحانه، فإذا كان موظّفاً في عمل إسلاميّ، عليه أن يخلص في عمله ويتقنه ويزيد على ما هو موكلٌ إليه من الجهد قربةً إلى الله تعالى، حتّى وإن كان موظّفاً في دائرة حكوميّة، فإنّه لا يجوز له أن يتغيّب من دون عذر شرعيّ، ولا يجوز له أن يقدِّم تقريراً طبّياً كاذباً، فهو يقع في الحرام، والطبيب الذي أعطى التقرير الكاذب يشاركه في هذا الحرام.

ويندم الإنسان على ما ضيَّعه من عمره دون العمل الصالح {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ}[الزّمر: 56]. وفي ذلك اليوم، يرحم الله بعض مَن قصّر عن سهو وغفلة ونسيان {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}[التغابن: 9]، إذا كان عنده سيّئات مع أعماله الصالحة {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التغابن: 9]. فأيُّ فوز أعظم من أن تتعب في هذه الدنيا وتشقى وتتألم في جنب الله، وبعد ذلك تنال الراحة الكبرى والخالدة، وهي نعيم الجنّة وخيراتها؟ هؤلاء هم المؤمنون، ولكن {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التغابن: 10] يعيشون في الدنيا مُنَعَّمين مرفَّهين، يصفّق الناس لهم ويهتفون لهم ويمجّدونهم، ويسيرون خلفهم، ولكن عندما يصلون إلى يوم القيامة {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، فأين ذهبت الراحة والنِّعَم والأمجاد والهتافات؟ "ما خير بخير بعده النار وما شرٌّ بشرّ بعده الجنّة".

ويعيش الإنسان في هذه الحياة ويُبتلى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[التغابن: 11]. فالإنسان يعيش في نطاق نظام للحياة ينطلق من خلال تخطيط الله. ولذلك، فإنَّ المصائب التي تصيبه في نفسه وماله وأهله وأوضاعه، إنّما تتمُّ بإذن الله، وليس معنى أنّها تتمّ بإذن الله، أنّه سبحانه يوقعها على الإنسان من دون مناسبة وسبب، بل إنَّ المصائب التي تأتي إلينا، إنّما تكون بسبب أعمالنا {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}[النّحل: 112] بأيديهم، وبالظروف التي أوجدوها في حياتهم {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}[الرّوم: 41]، فهذه قضايا مرتبطةٌ بأسبابها المتّصلة بحياة الإنسان. يقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الأنفال: 53]. فأنتَ غيّرت، والله تعالى ربط بين ما في نفسك وبين ما في واقعك، فأنتَ مسيطرٌ على المسألة، فإذا غيَّرت ما في نفسك، وانقلب الخير عندك إلى شرّ، فأنتَ تصنع مصائبك في هذا المجال، والله يربط بين هذه المصائب وبين أسبابها، ولذا، فهي بإذن الله، من خلال أنَّ الله ربط بين الأسباب والمسبّبات، بين المقدّمات وبين النّتائج.. فكما تزرع فإنّك تحصد، تزرع المشكلة، فتحصل على الآلام، تنحرف، فتهتزَّ حياتك العامَّة والخاصَّة، تأكل طعاماً فاسداً، فإنّك لا محالة تمرض، فكما أنَّ هناك مرضاً جسدياً، هناك مرضٌ روحيٌّ واجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ وأخلاقيّ {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن: 11]. إذا ملأت قلبك بالإيمان بالله، فإنّ قلبك سيشرق، وإذا أشرق قلبك بنور الإيمان، فستنفتح لك كلُّ الطرق، وينطلق انطلاقة هادية، وعندها لا يحبّ قلبُك إلّا مَنْ أحبَّ الله، ولا يبغض إلّا مَن أبغض الله {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، يعلم خفايا النفوس وهدف الأعمال، ويعلم خفايا العلاقات {وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[التغابن: 12]، فأطيعوا الله في خطّ الإيمان العمليّ {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} فأعرضتم {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، ليس من مهمّة الرسول(ص) أن يضغط على قلوب الناس {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، فالإنسان يعمل لنفسه وسينال جزاء عمله عند الله {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التغابن: 13]. افتحوا قلوبكم وعقولكم على الله، لا تنشغلوا بفلان وفلان، ولا تستغرقوا بعظمة هذه القوّة وجبروت تلك القوّة {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هو الإله وحده، وكلُّ الموجودات مخلوقة وخاضعة له، استمدَّت وجودها وقوّتها منه وحده، فأين أنتم مِنَ الله {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[الأعراف: 194]، فالله وحده القادر والقاهر فوق عباده {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

المنجاة من الهلكة

ويأتي التحذير القرآني واضحاً للمؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[التغابن: 14]. إنّ الله تعالى لا يحذِّرنا من أولادنا وأزواجنا على أنّهم أعداءٌ لنا، بل يرمي التحذير إلى عدم الاستغراق فيهم، بحيث تدفعنا عواطفنا لأن نعمل ما يُرضيهم ويُغضب الله.. فأن نحذر، أي أن لا نسلّم للولد في كلّ ما يريد ونذوب في عاطفتنا تجاهه، ونلبّي له ما يريد من دون أيّة دراسة لطلباته، هل هي في خطّ الله أم في خطّ الشيطان؟

هكذا الأزواج مع الزوجات، وبالعكس، فإذا طلبت هي أو طلب هو أمراً، ويريد الله عكسه، ونُفِّذ ما خالف أمر الله، فهذا سقوطٌ فيما لا يرضاه الله، فليست العداوة والصداقة قضيّة كلمات ومشاعر وعواطف، هي قضيّة مبدأ، فالصديق هو مَنْ يريد لك الخير، والعدوّ هو مَنْ يريد لك الشرّ، ابناً كان أو زوجاً وزوجة، أو أخاً وأباً، لذلك قال الله عن الشّيطان: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّ}. ولماذا هو عدوّ؟ {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6]. فالعدوّ الشيطاني قد يكون ولَدَك أو زوجَك من حيث تريد أو لا تريد، فيقودانك من خلال وسوسة الشّيطان لهما إلى غضب لله. وعلى هذا، يطلب القرآن من الناس ألا يستغرقوا في عواطفهم لتُرضِيَ الزوجةُ زوجَها، وبالعكس، وليرضيَ الأب ابنه وبالعكس أيضاً.. العاطفة ضروريّة، ولكن على الإنسان أن يعطيَ عاطفته شيئاً من الحذر، ولهذا نقول دائماً: أعطوا العاطفة جرعةً من العقل، وأعطوا العقل جرعة من العاطفة حتّى يلين ويرقّ ولا يكون جامداً.

فإذاً، الحذر أمرٌ أساسيٌّ في العلاقة، ومعناه أن تراقب حركة العاطفة في قلبك وعلاقاتك ومواقفك وخطواتك في الحياة. لذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}[التغابن: 14]، وعندما تكتشفون بعض أخطائهم، فليس من الضروريّ أن تمارسوا العنف معهم {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[التغابن: 14]. ليكن هناك مجالٌ للصّفح، فربّما يبدّلون ويغيّرون {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَالله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التّغابن: 15]. الفتنة هي الاختبار، والله تعالى يختبرنا بأموالنا، فيعطينا المال حتّى يختبر حركتنا في طاعته، ويرزقنا الأولاد ليختبر استخدام ولايتنا عليهم في أن نجعلهم عباد الله الصّالحين.. وليس المال هو الأساس، أو الولد هو الأساس، فكلاهما زينة {وَالله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. فكِّر في الله الذي أعطاك المال والولد، وبأنَّ ما ينتظرك عنده سبحانه أكبر من الولد والمال {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} نداءَ الله في طاعته وأوامره ونواهيه، {وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ} فما تعطونه، إنّما تعطونه لأنفسكم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التغابن: 16].

 

*من كتاب "من عرفان القرآن".

إنَّها دعوة القرآن الدائمة للإيمان بالله تعالى {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[التغابن: 8]. ودعوة القرآن للإيمان به سبحانه موجّهة للإنسان الذي ينبغي عليه أن يوحّد كلَّ جوانب حياته في اتّجاه واحد لا في اتّجاهات متعدّدة، حتّى لا تتعدَّد آلهته في الحياة، فيتَّخذ لنفسه دون الله آلهة للمال والسلطة، وآلهة للقوَّة والشّهوة، كما كان فريقٌ من الناس القدامى يتَّخذون آلهة للظّلمة والنور، وآلهة للحبّ والشّهوة، وما إلى ذلك.

الإيمان بالله إيمانٌ بخطّ الرّسالة

وعندما تتعدّد اتّجاهات الناس في العبادة، فإنَّ حياتهم وأوضاعهم ترتبك، باعتبار أنَّ لكلّ إلهٍ مشاريعه وقضاياه وأساليبه وأوامره ونواهيه، فأصحاب المال الذين يعتبرون أنفسهم آلهة، لهم خططٌ في الحياة ترتبط بتنمية أموالهم، وهكذا أصحاب السّلطة، لهم مشاريع خاصّة ترتبط بسلطتهم، وكذلك أصحاب الشّهوات وغيرهم.

فإذا اتّخذ الإنسان أكثر من جهة يخضع لها وينجذب إليها، فإنَّه سيصطدم بالرغبات والخطط المتناقضة، ولكنّه إذا آمن بالله وحده، فإنَّه يستطيع توحيد أموره وقضاياه وتطلّعاته والطّرق التي يسلكها، لتلتقيَ بأجمعها عند أوامر الله ونواهيه، فيكون همّه في الحياة أن يرضى الله عنه ولا يسخط عليه، فينطلق في صراط الله بكلّ ثقة وصدق {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 153]. هناك طريقٌ واحد، فإذا ما انحرف الإنسان عن هذا الطريق، واتّبع الطرق الأخرى التي تتنوّع، فإنَّه سيرتبك في كلِّ خطواته. وعلى هذا، كان الخطاب القرآني للناس {فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ}[الأعراف: 158]. ومع الإيمان بالله، هناك الإيمان بالرسول، لأنّه يمثِّل حركة الامتداد للإيمان بالله، فالرسول ينطلق من خلال أنّه يحمل رسالة إلينا، ودور الرسول يبرز في تأكيد إرادة الله فيما يريده لنا في طريقة عبادتنا له، وفي مأكلنا ومشربنا ولذائذنا وعلاقاتنا ومواقفنا، وفي رفضنا وتأييدنا، لنؤمن بالله على أساس الطاعة والسير في خطِّ رضاه. فدور النبيّ ينطلق من إرشادنا إلى الطريق الذي نستطيع من خلاله أن نرتبط بالله. ولذا، فإنَّ الإيمان بالرسالة هو من شؤون الإيمان بالله سبحانه. وقد جعل الله علامة حبّنا له سبحانه اتّباعَ رسوله، فقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[آل عمران: 31]، فحبّ الرسول وطاعته هو حبٌّ وطاعةٌ لله سبحانه.

نورٌ للعقول والقلوب

وإضافةً إلى الإيمان بالله والرسول، هنالك الإيمان بالقرآن {وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَ}[التغابن: 8]، وهو يمثّل نور المعرفة والإيمان والهدى والتقوى في كلّ حركتنا في هذه الحياة، وقد قال الله تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ}[المائدة: 15]. فالقرآن هو النور الذي إذا استزدنا منه أضاء لنا عقولنا وقلوبنا، وأضاء لنا مناطق الإحساس والشّعور فينا، وكلَّ دروبنا في الحياة. فالله تعالى أرسل رسوله بهذا القرآن ليطهِّر نفوسنا، ويعلّم عقولنا طريق الحقّ والهدى. وإذا انطلقنا في هذا الخطّ، أي إذا آمنّا بالله ورسوله وبالنّور الذي أُنزل عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّ معنى ذلك أن ننفصل عن كلّ شيء لا ينسجم مع هذا الإيمان.

وعندما يؤمن الإنسان بالله، لا بدَّ من أن يكفر بالطاغوت {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 257]. فالإيمان بالله يفرض الكفر بالشيطان وبكلّ طاغوت يُعبَد من دون الله، والإيمان بالرّسول يقتضي الكفر بكلِّ مَن يحمل لنا قانوناً وشريعةً غير شريعة الإسلام، والإيمان بالقرآن هو الكفر بما عداه من الكتب التي تختلف عنه وتضادّه وتبتعد عن مفاهيمه وشرائعه. ولهذا، لا يجتمع في قلب إنسان مؤمن حبُّ الله وحبُّ الشيطان، أو يجتمع الإيمان بالله والإيمان بالطاغوت، والطاغوت كما قلنا، هو كلُّ ما يُعبَد ويُطاع ويُتَّبع من دون الله. وعلى هذا الأساس، ينبغي للإنسان أن يؤكّد حركة إيمانه وصدقها، فليس للمؤمن أن ينتميَ إلى الإسلام، وينتمي في الوقت ذاته إلى أيّ تيّار أو حزب أو اتجاه يختلف عن الخطّ الذي يمثِّله الإيمان والإسلام. والإنسان عندما تتعدَّد انتماءاتُه، فإنّه يناقش نفسه، لأنّه ليس من الممكن الانتماء إلى شيئين متناقضين. وهناك من الناس مَنْ لا يعتبر انتماءه إلى الإسلام مسألة تتّصل بعقله وقلبه وحركته، بحيث يكون عقله عقلاً إسلاميّاً وقلبه قلباً إسلاميّاً وحركته حركة إسلاميّة، ولذا، لا يمكن على الإطلاق أن يجمع الإنسان في قلبه إسلاماً وكفراً {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}[البقرة: 85]، فليست هناك مساومةٌ في هذا المجال على الإطلاق، إمّا إيمانٌ بالمطلق وجزاؤه الجنّة، وإمّا كفرٌ بالمطلق وعقابه جهنّم. إذاً {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[التغابن: 8] وكأنّ الله تعالى يقول: عش الإيمان الذي يتجسَّد في حياتك فكراً من وحي النّور، وإيماناً من إشراقة الضياء، بحيث يتحوّل إلى عمل، وسينظر الله إلى صدق إيمانك به وبالرسول وبالقرآن، لأنّه تعالى الخبير بكلّ ما تعمل.

كي لا يضيع العمر سدى

والأعمال تُقدَّم هناك {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التّغابن: 9]، ويجتمع البشر يوم القيامة بين يدي الله. يجتمع الأوّلون والآخرون منذ خلق الله آدم إلى أن يأتيَ ذلك اليوم {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} إذا كنتم متفرّقين في بلدانكم وفي ألوانكم ولغاتكم وأوضاعكم، فإنّكم ستجتمعون، ولا صفة لكم إلّا أنّكم عباد الله، الذين تقفون بين يديه ليحاسبكم وليسألكم عن أعمالكم {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، أي يوم الشّعور بالغبن، فالكافر والمنافق والضالّ في هذا اليوم، يشعر بالغبن، لأنّه ضيّع عمره في معاصي الله، والمؤمن يشعر بأنّه قصّر في عمله، ولذلك عندما يواجه الإنسان ذلك الموقف، ويرى قيمة العمل وكيف ترك هذه القيمة، فإنّه يشعر بمرارة نفسه وقد غبنها، فهو كان يستطيع أن يستفيد من الفرص التي هيّأها الله له في حياته، ويحصل من الله على الأجر الكبير والموقع العظيم، فيما لو استثمر هذه الفرص ووظّفها في العمل الصالح.

ومن هنا، فالكثيرون في حياتهم يعيشون الاسترخاء، ويضيِّعون أوقاتهم دون أن يستفيدوا منها في رضى الله سبحانه، وكثيرون هم الذين ليسوا مستعدّين للقيام بأيّ عمل إسلامي إلا بثمن، وإذا طُلب منهم القيام به، فيسألون عن مردوده الشخصيّ عليهم، دون الالتفات إلى نيل الأجر من الله. وقد قال أمير المؤمنين عليّ(ع) في وصيّته لولديه الحسن والحسين(ع): "قولا الحقّ واعملا للأجر"، أي فليعمل الإنسان لينال الأجر من الله سبحانه، فإذا كان موظّفاً في عمل إسلاميّ، عليه أن يخلص في عمله ويتقنه ويزيد على ما هو موكلٌ إليه من الجهد قربةً إلى الله تعالى، حتّى وإن كان موظّفاً في دائرة حكوميّة، فإنّه لا يجوز له أن يتغيّب من دون عذر شرعيّ، ولا يجوز له أن يقدِّم تقريراً طبّياً كاذباً، فهو يقع في الحرام، والطبيب الذي أعطى التقرير الكاذب يشاركه في هذا الحرام.

ويندم الإنسان على ما ضيَّعه من عمره دون العمل الصالح {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ}[الزّمر: 56]. وفي ذلك اليوم، يرحم الله بعض مَن قصّر عن سهو وغفلة ونسيان {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}[التغابن: 9]، إذا كان عنده سيّئات مع أعماله الصالحة {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التغابن: 9]. فأيُّ فوز أعظم من أن تتعب في هذه الدنيا وتشقى وتتألم في جنب الله، وبعد ذلك تنال الراحة الكبرى والخالدة، وهي نعيم الجنّة وخيراتها؟ هؤلاء هم المؤمنون، ولكن {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التغابن: 10] يعيشون في الدنيا مُنَعَّمين مرفَّهين، يصفّق الناس لهم ويهتفون لهم ويمجّدونهم، ويسيرون خلفهم، ولكن عندما يصلون إلى يوم القيامة {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، فأين ذهبت الراحة والنِّعَم والأمجاد والهتافات؟ "ما خير بخير بعده النار وما شرٌّ بشرّ بعده الجنّة".

ويعيش الإنسان في هذه الحياة ويُبتلى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[التغابن: 11]. فالإنسان يعيش في نطاق نظام للحياة ينطلق من خلال تخطيط الله. ولذلك، فإنَّ المصائب التي تصيبه في نفسه وماله وأهله وأوضاعه، إنّما تتمُّ بإذن الله، وليس معنى أنّها تتمّ بإذن الله، أنّه سبحانه يوقعها على الإنسان من دون مناسبة وسبب، بل إنَّ المصائب التي تأتي إلينا، إنّما تكون بسبب أعمالنا {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}[النّحل: 112] بأيديهم، وبالظروف التي أوجدوها في حياتهم {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}[الرّوم: 41]، فهذه قضايا مرتبطةٌ بأسبابها المتّصلة بحياة الإنسان. يقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الأنفال: 53]. فأنتَ غيّرت، والله تعالى ربط بين ما في نفسك وبين ما في واقعك، فأنتَ مسيطرٌ على المسألة، فإذا غيَّرت ما في نفسك، وانقلب الخير عندك إلى شرّ، فأنتَ تصنع مصائبك في هذا المجال، والله يربط بين هذه المصائب وبين أسبابها، ولذا، فهي بإذن الله، من خلال أنَّ الله ربط بين الأسباب والمسبّبات، بين المقدّمات وبين النّتائج.. فكما تزرع فإنّك تحصد، تزرع المشكلة، فتحصل على الآلام، تنحرف، فتهتزَّ حياتك العامَّة والخاصَّة، تأكل طعاماً فاسداً، فإنّك لا محالة تمرض، فكما أنَّ هناك مرضاً جسدياً، هناك مرضٌ روحيٌّ واجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ وأخلاقيّ {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن: 11]. إذا ملأت قلبك بالإيمان بالله، فإنّ قلبك سيشرق، وإذا أشرق قلبك بنور الإيمان، فستنفتح لك كلُّ الطرق، وينطلق انطلاقة هادية، وعندها لا يحبّ قلبُك إلّا مَنْ أحبَّ الله، ولا يبغض إلّا مَن أبغض الله {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، يعلم خفايا النفوس وهدف الأعمال، ويعلم خفايا العلاقات {وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[التغابن: 12]، فأطيعوا الله في خطّ الإيمان العمليّ {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} فأعرضتم {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، ليس من مهمّة الرسول(ص) أن يضغط على قلوب الناس {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، فالإنسان يعمل لنفسه وسينال جزاء عمله عند الله {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التغابن: 13]. افتحوا قلوبكم وعقولكم على الله، لا تنشغلوا بفلان وفلان، ولا تستغرقوا بعظمة هذه القوّة وجبروت تلك القوّة {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هو الإله وحده، وكلُّ الموجودات مخلوقة وخاضعة له، استمدَّت وجودها وقوّتها منه وحده، فأين أنتم مِنَ الله {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[الأعراف: 194]، فالله وحده القادر والقاهر فوق عباده {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

المنجاة من الهلكة

ويأتي التحذير القرآني واضحاً للمؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[التغابن: 14]. إنّ الله تعالى لا يحذِّرنا من أولادنا وأزواجنا على أنّهم أعداءٌ لنا، بل يرمي التحذير إلى عدم الاستغراق فيهم، بحيث تدفعنا عواطفنا لأن نعمل ما يُرضيهم ويُغضب الله.. فأن نحذر، أي أن لا نسلّم للولد في كلّ ما يريد ونذوب في عاطفتنا تجاهه، ونلبّي له ما يريد من دون أيّة دراسة لطلباته، هل هي في خطّ الله أم في خطّ الشيطان؟

هكذا الأزواج مع الزوجات، وبالعكس، فإذا طلبت هي أو طلب هو أمراً، ويريد الله عكسه، ونُفِّذ ما خالف أمر الله، فهذا سقوطٌ فيما لا يرضاه الله، فليست العداوة والصداقة قضيّة كلمات ومشاعر وعواطف، هي قضيّة مبدأ، فالصديق هو مَنْ يريد لك الخير، والعدوّ هو مَنْ يريد لك الشرّ، ابناً كان أو زوجاً وزوجة، أو أخاً وأباً، لذلك قال الله عن الشّيطان: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّ}. ولماذا هو عدوّ؟ {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6]. فالعدوّ الشيطاني قد يكون ولَدَك أو زوجَك من حيث تريد أو لا تريد، فيقودانك من خلال وسوسة الشّيطان لهما إلى غضب لله. وعلى هذا، يطلب القرآن من الناس ألا يستغرقوا في عواطفهم لتُرضِيَ الزوجةُ زوجَها، وبالعكس، وليرضيَ الأب ابنه وبالعكس أيضاً.. العاطفة ضروريّة، ولكن على الإنسان أن يعطيَ عاطفته شيئاً من الحذر، ولهذا نقول دائماً: أعطوا العاطفة جرعةً من العقل، وأعطوا العقل جرعة من العاطفة حتّى يلين ويرقّ ولا يكون جامداً.

فإذاً، الحذر أمرٌ أساسيٌّ في العلاقة، ومعناه أن تراقب حركة العاطفة في قلبك وعلاقاتك ومواقفك وخطواتك في الحياة. لذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}[التغابن: 14]، وعندما تكتشفون بعض أخطائهم، فليس من الضروريّ أن تمارسوا العنف معهم {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[التغابن: 14]. ليكن هناك مجالٌ للصّفح، فربّما يبدّلون ويغيّرون {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَالله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التّغابن: 15]. الفتنة هي الاختبار، والله تعالى يختبرنا بأموالنا، فيعطينا المال حتّى يختبر حركتنا في طاعته، ويرزقنا الأولاد ليختبر استخدام ولايتنا عليهم في أن نجعلهم عباد الله الصّالحين.. وليس المال هو الأساس، أو الولد هو الأساس، فكلاهما زينة {وَالله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. فكِّر في الله الذي أعطاك المال والولد، وبأنَّ ما ينتظرك عنده سبحانه أكبر من الولد والمال {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} نداءَ الله في طاعته وأوامره ونواهيه، {وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ} فما تعطونه، إنّما تعطونه لأنفسكم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التغابن: 16].

 

*من كتاب "من عرفان القرآن".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية