[بالعودة إلى أرشيف سماحة العلامة المرجع السيد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر
خطبة الجمعة التي ألقاها بتاريخ 10 رمضان 1423 هـ / الموافق: ١٥/١١/٢٠٠٢م، في مسجد
الحسنين(ع) في حارة حريك، والتي تحدّث فيها عن ضرورة تحصين عفّة المجتمع وتعزيز
مناعته الروحيّة، وتكريس القيم الإسلاميّة والأخلاقيّة لأسرنا وأجيالنا، لمواجهة
الهجمة الشرسة للانفلات الإعلامي الذي يعمل على تسليع الإنسان في مجتمعاتنا. قال
سماحته:]
"في خطبة النبي(ص) التي استقبل بها شهر رمضان، تحدث عن مسألة غضّ النظر عمّا يحرم
النظر إليه، وغضّ السمع عما يحرم السمع إليه، والله تعالى أعطى للإنسان حرية أن
يستخدم بصره في كل ما يغني عقله، وفي كل ما يمنحه العبرة والثقافة والأنس والسرور،
ولكنه سبحانه أراد له أن يغضّ بصره عن كل ما يسيء إلى أخلاقيته، ويمنعه من الحصول
على المناعة الذاتية التي تجعله يملك الإرادة التي يحمي بها نفسه من الانحراف.
وأراد الله تعالى للإنسان أن يستخدم سمعه في كل ما يسمعه، من أجل أن يغتني بسمعه
غنىً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، وأن يعطيه شيئاً من الفرح فيما يفرحه ويسرّه،
ولكنه أراد له أن يحجب سمعه عن كل ما يسيء إلى مسؤوليته الأخلاقية عن نفسه وعن
الناس. وهكذا، جاءت كلمة رسول الله (ص): "وغضّوا عما لا يحلّ النظر إليه أبصاركم،
وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم".
وبالنسبة إلى البصر، فقد تحدث الله تعالى فقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا
مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ
مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، فلا يجوز للرجال ـ من خلال الخطّ
الإيماني ـ أن ينظروا إلى ما يحرم النظر إليه من النساء مما حرّم الله تعالى على
النساء إبداءه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، أو مما
حرّم الله على الرجال كشفه، كالعورة وما إلى ذلك، ويحرم على النساء أن ينظرن من
الرجال إلى ما حرّم عليهن النظر إليه، مما قد تختلف فيه الفتوى الاجتهادية سعةً
وضيقاً، لأن مسألة النظرة هي من المسائل التي قد تترك تأثيرها في النفس، وقد تثير
المشاعر، ولذلك ورد أن النظرة الأولى لك، والنظرة الثانية عليك، باعتبار أن الجانب
الغريزي الذي يعيش في نفس الرجل والمرأة معاً، هو في أساس تكويننا، حيث خلق الله
تعالى غرائز في جسد الإنسان تهيّئ له استمرار حياته، كما الرغبة في الطعام والماء
والجنس وما إلى ذلك.
ولذلك، أراد الله تعالى أن يحصّن الجانب الجنسي عند الرجل والمرأة معاً، بحيث وضع
الضوابط التي تحمي الإنسان من السقوط تحت تأثير الغريزة فيما يشتهيه ويرغبه، ولذلك
أراد الله للمرأة أن لا تظهر زينتها في المجتمعات المختلطة أمام الأجانب، وأن لا
تعتبر أن الجمال الجسدي هو القيمة لإنسانيتها، فهو نعمة أنعمها الله على الإنسان،
رجلاً كان أو امرأة، ولكنّه تعالى أراد لهذه النعمة أن توظَّف في ما ينفع الإنسان
ويؤكد له عفته وأخلاقيته، فلم يجعل الشوارع والمدارس والمنتديات معرضاً للأزياء
والجمال وما إلى ذلك، وإذا كان للمرأة أن تعيش أنوثتها في المجتمعات النسائية، بأن
تلبس ما تشاء، وتستعرض جسدها كما تشاء، ولكن في المجتمعات الرجالية ليس لها ذلك،
لأنه يخلق مناخاً ليس في مصلحة الرجل والمرأة معاً.
ولذلك، حرّم الله تعالى النظرة الخائنة والمريبة، وحرّم على الرجل أن ينظر إلى ما
يجب على المرأة أن تستره، كما حرّم على المرأة أن تنظر إلى ما يجب على الرجل أن
يستره، كل ذلك تحصيناً للعفة، لأننا عندما نعيش في مجتمع يتحرك بالطريقة التي تعيش
أخلاقيات الغرب وحرياته حتى الجنسية، فإن هذا المجتمع سيعيش حالة طوارئ، وليست
المسألة كما يقول بعض المحللين، أن مجتمع الحجاب هو الذي يغري بالعدوان الجنسي،
لأننا عندما نقوم بدراسة مقارنة بين الإحصائيات الموجودة عن حوادث الاغتصاب في
الغرب، ولا سيما في أمريكا، سواء في الدوائر الرسمية أو في المدارس وغيرها، وبين
عمليات الاغتصاب التي تحدث في البلاد العربية الإسلامية والشرقية بشكل عام، لرأينا
أن حوادث الاغتصاب في أمريكا وأوروبا تمثل مستوى الكارثة، بينما في مجتمعات الحجاب
لا نجد إلا حوادث محدودة جداً. ولذلك تسقط النظرية التي تقول بأن إعطاء الحرية
للمرأة في استعراضاتها لنفسها وجمالها وفي طريقة الاختلاط يحصّن المرأة والرجل، بل
إننا نجد أنه يخلق حالة من الجوع الجنسي الذي يجتذب العدوان.
ونحن نواجه مشكلة حقيقية، حيث تقوم الأجهزة الإعلامية المرئية الحديثة بعرض هذه
الأفلام في التلفزيونات وأشرطة الفيديو، والتي أصبحت تتداول بين الأسر، حتى إن بعض
الآباء والأمهات يجلسون مع أولادهم لمشاهدة الأفلام التي تعرض المشاهد الخلاعية، ما
أدى إلى حالة من الانفلات والانحراف غير مسبوقة وغير معقولة، فلم نكن نسمع أن أباً
يعتدي على ابنته، أو أن أخاً يعتدي على أخته، ولكن مع تسويق هذه الأفلام، بدأنا
نشهد رواج ثقافة منحرفة تحطّم كل القيم، حتى التي كانت من المقدّسات التي لا يمكن
أن يفكر بها أحد.
نحن لا نريد أن نصدر فتاوى بتحريم التلفزيون، ولكننا نقول إن انفتاح الأسرة على
الأفلام الخليعة يحطّمها ويحطّم المناعة الموجودة في داخلها بين الأب وأولاده، وبين
الأخوة فيما بينهم، وهناك أكثر من حالة ترد إلى مكتبنا الشرعي تشتكي فيها بعض
البنات من تحرشات قام بها آباؤهنّ، ولا سيما عندما يطلِّق الرجل زوجته، مما لم نكن
نتصوّره في السابق، وكنا نعتبر أن العلاقة بين الأب وابنته، والأخ بأخته، هي من
المقدّسات، وقد أصدرنا فتوى بتحريم النظر إلى الأفلام الخلاعية لأنها تسقط المناعة
الأخلاقية، ولكن إذا كان هناك حالة اضطرارية، كما إذا كان شخص يعاني من عجز وبرود،
فهل يمكن له أن يشاهد مثل هذه الأفلام، وكان جوابنا بأنه لا يجوز له ذلك إلا إذا
كان دواءً ولا دواء غيره، ولكن بمقدار الضرورة، على قاعدة: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}.
الأسرة إنما تصنع مجتمعاً صغيراً متوازناً عندما تعيش قداسة القيم، أمّا إذا سقطت
القيم من الأسرة، فإن مجتمعاتنا، بلا شكّ، ستفقد توازنها، وهذا أمر لا بدّ من أن
نراقبه ونرصده، وهو ما يفرض على الآباء والأمّهات عندما يملكون هذه الأجهزة، أن
يراقبوها ويوجّهوها، وإلا فإنها ستتحوّل إلى مشكلة على جميع المستويات. وعلينا ـ
كمجتمع مسلم ـ أن تكون مسألة الحجاب الشرعي من المسائل التي يعمل لها المجتمع. نحن
لا نتحدّث عن أساليب العنف ضدّ البنات والزوجات غير المحجّبات، ولكن علينا أن
نستخدم أفضل الأساليب التربوية التي تؤكّد للفتاة أن مسألة الحجاب ليست ضريبة
عقابية مفروضة على المرأة، بل يُراد بها تحصينها واحترامها، بمعنى أن الإسلام لا
يريد لها أن تكون مجرّد جسد يجذب النظر ويدعو إلى الاشتهاء، بل أن تكون إنساناً.
وجسد المرأة كجسد الرجل، ومسألة الذكورة والأنوثة تتحرك في نطاق الحياة الزوجية،
أما في الإطار العام، فإن المرأة إنسان له عقل وعليها أن تنمّي عقلها، ولها قلب
وعليها أن تربي قلبها، ولها طاقات وعليها أن تفجِّر طاقاتها، كما الرجل كذلك. إن
الله خلق المرأة والرجل من أجل أن يبنيا الحياة، ويتحمّلا مسؤولية حماية المجتمع
وتنظيمه، والله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}،
والمعروف هو كلّ ما أحبّه الله مما يرفع مستوى الإنسان، والمنكر هو كلّ ما لا يرضاه
الله مما يحطّ من مستوى الإنسان.
لذلك، يريد الله تعالى للمرأة أن يُنظر إليها لا كجسد، بل كعنصر إنساني يدعو إلى
الاحترام، ليكون الرجل مع المرأة عقلاً يخاطب عقلاً، وطاقةً تتكامل مع طاقة.
ولكنّنا عندما نراقب كلّ سياسة الإعلام في العالم، فإنّنا نجد أنّه يركّز على مفاتن
المرأة، فإذا أردت أن تقدّم إعلاناً لسيجارة، فما علاقة السيجارة بصورة المرأة شبه
العارية؟ استخدمت المرأة في هذا الإعلان ودخلت في سوق المزايدة الجمالية، حتى أصبح
العالم ينشغل بملكات الجمال. ولكن في المقابل، نجد أن المرأة الفلسطينية استطاعت أن
تنتج ملكة جمال من نوع آخر، وهي ملكة جمال التحرير، انطلاقاً من مسؤوليتها تجاه
وطنها وأمتها، لتقوم بعمل بطولي ضد العدو، جاعلة من مكان انطلاقها ميداناً لملكات
الاستشهاديات.
هذه هي المرأة التي تستطيع أن ترتفع بوطنها وأمّتها، وتصنع القيم الكبرى في العالم،
وليست تلك المرأة التي تستعرض جمالها، لأنّ الجمال نعمة لا بدّ من أن توظّف في
ميادين الخير، لا أن توظّف ضده. لذلك، نريد للمرأة أن تحترم إنسانيتها، كما نريد
للرجل أن يحترم إنسانيّته.
قد يقول بعض الناس بأن الواقع الذي نعيشه هو واقع اللاحجاب، فهل نمتنع من الخروج
إلى الأسواق والمنتديات؟ نحن نقول: لا، لأنّ هناك أحاديث تقول بأنّه يجوز النظر
العابر ـ لا نظر اللذّة والريبة ـ إلى اللاتي لا ينتهين إذا نهين. فالمسألة تتّصل
بسلامة القيم التي هي الحامية والحافظة لتوازن المجتمع، لأنّنا عندما ننطلق في
اتجاه القيم الغربيّة التي تمنح الرجل والمرأة الحرية حتى في الجانب الجنسي، فإنّ
واقعنا سوف يتحوّل إلى حالة طوارئ جنسيّة.
ومن الملاحظ أن الكثير من الأشخاص يجمعون بين القيم والعادات العربية أو الشرقية،
وبين السلوك الغربي، فنحن نلاحظ أنّ بعض الرجال يسمح لابنته أو زوجته أن تخرج بأحدث
صيحات الموضة وصرعاتها، وبالاختلاط الذي لا حدود له مع الشباب، حتى إذا خضعت هذه
المرأة لبعض مؤثرات الإغراء، تجتمع كل العشيرة لتقول:
لا يسلم الشّرف الرفيع من الأذى حتَّى يراق على جوانبه الدّم
لأنهم يريدون أن يغسلوا العار، ونحن نسأل: من الذي فتح باب العار لهذه المرأة؟ من
يملك عفّة وغيرة، فعليه أن يصنع لبيته وأسرته ظروف العفة وأجواءها، وإلا نكون كما
قال الشاعر:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء
إننا أمام خيارين: إمّا أن نلتزم الغرب بكل قيمه في الحرية ونتنازل عن كلّ القيم
الموجودة عندنا، وإمّا أن نلتزم القيم الإسلامية التي نحن مسؤولون عن إقامتها،
فعلينا أن نعمل على تحصين هذه القيم، وهذا أمر يحتاج إلى أن يتحمّل المجتمع
مسؤوليّته، وندرس ما هي الوسائل الفضلى أمام هذه الهجمات الإعلامية والإعلانية
لتحصين مجتمعنا، ولإعفاف بناتنا وأبنائنا من الانحراف عن الخطّ الأخلاقي السليم".