بركة السيّد المسيح (ع) تتحرّك في قيم المسيحيّة والإسلام

بركة السيّد المسيح (ع) تتحرّك في قيم المسيحيّة والإسلام

بالعودة إلى أرشيف سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، نستحضر خطبة الجمعة التي ألقاها بتاريخ ٢٤/١٢/١٩٩٩ من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، والتي تحدث فيها عن ولادة المسيح(ع) وإيحاءاتها ومحطاتها ودروسها.

قال سماحته:

"نلتقي في ما تعارف الناس عليه بذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، هذا الإنسان المميّز في خَلقه، لأنّ الله ـ سبحانه ـ خلقه بطريقة لم يشاركه فيها أحد من الناس من قبله ومن بعده، وجعله بذلك آيةً للناس ورحمةً منه. وعلينا، أمام ذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، أن نقف مع آيات القرآن الكريم، لنعرف الأجواء التي حصلت فيها الولادة، وصورة السيد المسيح من الناحية العقيدية لدى المسلمين، لأنّ على المسلمين أن يتعرفوا إلى عقيدتهم في الأنبياء من خلال القرآن، باعتباره الأساس الذي أكَّد المفاهيم والعقائد للناس.

وقد تحدث الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن ولادة السيد المسيح في أكثر من آية، ونبدأ بما تحدّث عنه في سورة آل عمران، ومن الطبيعي أن يبدأ الحديث عن السيد المسيح بالحديث عن أمه الطاهرة السيدة مريم العذراء(ع)، البتول التي كانت أمها تأمل أن تلدها ذكراً لتخدم في بيت المقدس، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، أما أمّ مريم(ع)، جدة عيسى(ع)، فكانت الإنسانة المؤمنة الطاهرة المخلصة لله، لم تتعقد عندما لم يتحقق حلمها في أن تجد خادماً لبيت المقدس، فانفتحت على هذه الأنثى، وأرادت لله ـ سبحانه ـ أن يجعلها الإنسانة القريبة منه، البعيدة من الشيطان الرجيم، وأن تحمي ذريتها في المستقبل، وهذه هي روح الإنسان المؤمن الطاهر، الذي يحبّ الله، فيحبّ لكلّ ذريته في مدى الزمن أن تكون مخلصةً له وبعيدة عن الشيطان، أن يفكر الإنسان بذريته أن يكونوا أولياء الله، وأن ينجحوا في الدنيا والآخرة، لا في الدنيا فحسب، كما تفكير الكثير من الناس، لأنّ ما عندكم ينفد وما عند الله باق.

مريم في كفالة زكريّا

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ـ هيّأ لها الظروف الطبيعية الملائمة التي يمكن أن ينشأ فيها الإنسان نشأة طاهرة ـ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ـ وكان زكريا نبياً، وجرت القرعة بين عدّة أنبياء أيّهم يكفل مريم {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، فأصابت القرعة زكريا وكفلها، وعاشت في أجوائه، وأعطاها الله من لطفه وكرامته ما لم يعطه لامرأة قبلها ـ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ـ لم يقدّمه إليها أحدٌ من أفراد عائلته ـ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ـ فنحن لم نقدّم لك طعاماً ـ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

اصطفاء مريم(ع)

وتنطلق الآيات الكريمة، لتخبرنا كيف كانت الملائكة تحدثها: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ ـ والاصطفاء هو الاختيار ـ وَطَهَّرَكِ ـ جعلك الطاهرة المطهَّرة التي لم يعلق بها دنس ـ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ـ اختارك من بين نساء العالمين لتكوني موضعاً لكرامته، ورمزاً لآيته التي أراد أن يخرجها للناس ـ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ـ ابتهلي إليه وارجعي إليه، حاولي أن تهيّئي كلّ الأجواء الروحانية التي تصلك بالله وتقرّبك إليه ـ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ـ لأنّ قنوت الإنسان لربّه وسجوده له إنما يمثِّل مظهراً من مظاهر الإخلاص والعبودية له ـ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.

البشارة بالمعجزة

وفي حوارٍ آخر مع مريم، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ - سيولد من خلال الكلمة، وكلمة الله إرادته {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} - اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ـ ستكون له وجاهة الدنيا من خلال رسالته، ووجاهة الآخرة من خلال كرامته ـ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ـ لله من خلال إخلاصه وعبادته له ـ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ـ وفي ذلك معجزة، في الردّ على الاتهامات التي وجِّهت إليها من قبل قومها، أنها جاءت بولد من دون زواج ـ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ـ من الصالحين في التزاماتهم وروحياتهم وإخلاصهم لله تعالى ـ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ ـ فهذه مسألة عجيبة ـ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ـ فالبشر يتناسلون من خلال علاقة خاصّة بين الرجل والمرأة، وأنا الطاهرة المطهَّرة التي لم يمسّها رجل في أيّ جانب من الجوانب، قال إنك تتحدثين عن الواقع الطبيعي عند الناس، وأما في الحديث عن الله، فهو على كل شيء قدير ـ قالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.

عيسى الرسول

ثم يحدّثونها عن خصائصه {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ـ فينزل عليه الإنجيل ـ وَالْحِكْمَةَ ـ فيعطيه حكمة الرأي، وقد بعث الله رسله بالكتاب في خطّ النظرية، وبالحكمة في خطّ التطبيق، فلا يتحرك الرسول إلا بالحكمة ـ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ـ وللعالمين جميعاً. وكما أرسل الله نبيّه محمداً (ص) إلى أمّ القرى ومَنْ حولها كبداية للدعوة، وكقاعدة تنطلق منها الدعوة، كذلك أرسل الله عيسى رسولاً إلى بني إسرائيل، وهو المستضعف فيهم، ولا يملك من خلال طبيعة موقعه، وجاهة اجتماعيّة تؤهّله لأن يسمع الناس منه، ولكنّه جاءهم بما أذهلهم، وحيث كان الطبّ هو المنتشر في تلك المرحلة، فقد جاءهم بما يعجز الأطباء ـ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ـ فأنا أقدّم نفسي إليكم لا من خلال بشريتي العادية، وإنما من خلال معجزة، ومن خلال علاقتي بالله ـ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ فَأَنفُخُ فِيهِ ـ أي أني أقوم بصناعة طير من الطّين ثم أنفخ فيه، وهنا تنتهي مهمتي لتأتي المهمة الإلهيّة ـ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ ـ فالله هو الذي يعطيه الرّوح ـ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ـ وكذلك أملك أن أعطيكم الأشياء السرية التي لم يطّلع عليها أحد من قبلكم ـ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ ـ فلو فكرتم بأن هذه الأمور لا يستطيع القيام بها بشر عادي، فستعرفون أنني رسول من الله تعالى ـ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ـ بما يقدم إليكم من حقائق ـ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ـ فأنا لم آتِ لألغي التوراة، ولا لألغي النبوّات من قبلي، بل جئت مصدقاً لما بين يديّ من التوراة، وقد جاء في الحديث عن عيسى(ع): "جئت لأكمل الناموس"، لأكمل الشريعة من خلال ما يفرضه التطور من حاجات جديدة وأوضاع جديدة ـ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، نتيجة بعض الأوضاع التي عشتموها، حتى أفتح لكم المجال لرخص في التشريع تختلف عما كانت عليه.

التّحليل والتّحريم بيد الله

وما ينبغي أن نعرفه، هو أنّ التحليل والتحريم بيد الله، وبذلك يبطل الاعتراض من بعض الناس عن كيفية تناسل أولاد آدم على زواج الأخوة والأخوات من بعضهم البعض، والمفروض أنّ هذا محرَّم. وجاء في الرواية عن أئمة أهل البيت(ع)، أنه في شريعة آدم، كان يحلّ للأخ أن يتزوّج أخته، ثم عندما كثر الناس، وأصبح هناك أعمام وأخوال وما إلى ذلك، حرَّم الله هذا الزواج، وقد يحرّم الله شيئاً ثم يحلّه، أو يحلّ شيئاً ثم يحرّمه، وهذا ما عرفناه في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.

الحواريّون: الشهادة بالإسلام

ويكمل عيسى(ع) في حديثه عن رسالته: {وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ ـ ثم أعلن لهم رسالته أن يتقوا الله ويطيعوه، وأراد لهم أن لا يختلفوا عليه ليرفعوه إلى مقام الربوبية كما رفعه البعض بعد ذلك ـ إِنَّ اللَّـهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ـ فالتوحيد هو الصراط المستقيم الذي يجب أن تصيروا إليه ـ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ ـ لم يطلب أنصاراً لنفسه، لأنه(ع) كان لا يعيش الذاتية، ولا يبحث عن نفسه في رسالته وفي حركته، إنما كان يبحث عن أنصارٍ لله ـ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ـ وهم الذين استخلصهم عيسى من خلال إيمانهم ـ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ـ أسلمنا لله عقولنا وقلوبنا وحياتنا، وانفتحنا عليه سبحانه ـ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ ـ فنحن أنصارك والمؤمنون بك وأولياؤك، نتبع عيسى من خلال أنه رسولك ـ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.

ويقول الله عن عيسى بعد ذلك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق آدم من تراب من دون أب وأمّ، وخلق عيسى(ع) من دون أب. وحدّثنا الله أيضاً عن عيسى في قوله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}.

ليحكم أتباع عيسى بالإنجيل

ثم يريد الله من التابعين لعيسى أن يحكموا بالإنجيل، لأنّ الإنجيل لم ينسخه القرآن، بل أضاف إليه أشياء كثيرة وأبعد عنه التحريف، {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. وحدثنا الله ـ سبحانه ـ في كتابه عن الذين اتبعوا عيسى ممّن أخلصوا له، وعاشوا رسالته، فلم يحرّفوا كلامه أو يبتعدوا عنه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ـ كان يتحدّث عن النصارى الذين كانوا مع النجاشي، عندما بدأ جعفر بن أبي طالب يقرأ على النجاشي سورة مريم(ع) ـ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.

بشريّة المسيح(ع)

وهكذا، يحدثنا الله ـ تعالى ـ عن عيسى وأمّه في هذا المجال، حتى يعرّفنا طبيعته، ليقول لنا إنها ليست طبيعة إلهيّة، بل بشرية: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ـ ونعرّفهم طبيعة عيسى وطبيعة أمّه، على أنها لا تختزن شيئاً من الألوهيّة، وأنّ المعاجز التي قام بها كانت بإذن الله، كما قام موسى(ع) بالمعجزة، وكذلك الأنبياء الآخرون ـ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.

ونحن نعيش هذه الآيات في ولادة السيّد المسيح(ع)، لنعيش رساليّته وروحانيّته، ولنعيش هذه البشريّة التي ارتفعت بما أعطاها الله تعالى من لطفٍ ومن كرامة.

لنعش الإسلام يوم ولادته(ع)

وفي ضوء ذلك، أحبّ أن أقول لكل إخواني من المؤمنين والمؤمنات، إنه إذا أردتم الاحتفال بعيد ولادة السيد المسيح(ع)، فليكن الاحتفال بالجلوس ليلة الميلاد وقراءة سورة مريم وسورة آل عمران، وكلّ ما جاء عن السيد المسيح في القرآن الكريم، حتى تعيشوا الإسلام في ذكراه، وحتى لا تبتعدوا عن الإسلام في أجوائه ومناخه وروحانيّته. كما أننا نرى أنّ الطريقة اللاهية العابثة التي يحتفل بها بعض المسيحيّين هنا وفي سائر أنحاء العالم، باللّعب والعبث والفسق والفجور وغير ذلك، نرى أنّ ذلك لا يمثّل السيد المسيح(ع)، بل هي التقاليد والعادات التي جاءت من وثنيّة الغرب، الذي دخل في المسيحيّة، فأعطى تقاليدها بعض هذه الصنميّة والوثنيّة.

حافظوا ـ أيها المسلمون ـ على تقاليدكم وعاداتكم وأجوائكم الإسلاميّة، اعملوا على تربية أولادكم على تقاليد الإسلام وعاداته، لأنّ القضية هي أن علينا أن ننمي الشخصية الإسلامية لأولادنا، الشخصية التي تصاغ من خلال القرآن، أن نجعل صورتنا وصورة أولادنا صورة القرآن، ولا نحاول أن نأخذ من هنا وهناك، فالقرآن يريد لنا أن نتمثل عيسى(ع) آيةً لله ورحمةً منه ورسولاً من رسله، هذا الإنسان الذي أعطاه الله كرامته ولطفه ورسالته.

أيّها الأحبّة، في ميلاد السيد المسيح(ع) وميلاد الإمام الحسن(ع)، نلتقي بالإسلام لله سبحانه وتعالى هنا وهناك، ونلتقي بهذا الجسر الذي يربط الإسلام بالمسيحيّة في أصالتها التي أكّدها الله لدى السيّد المسيح، بعيداً من كلّ تحريض ومن كلّ ما لا يتصل بالواقع الرسالي للسيد المسيح(ع).

إنها البركة، بركة السيد المسيح(ع)، وعلينا أن نعيش هذه البركة الروحيّة الأخلاقيّة التي تتحرّك في قيم الإسلام والمسيحيّة.

بالعودة إلى أرشيف سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، نستحضر خطبة الجمعة التي ألقاها بتاريخ ٢٤/١٢/١٩٩٩ من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، والتي تحدث فيها عن ولادة المسيح(ع) وإيحاءاتها ومحطاتها ودروسها.

قال سماحته:

"نلتقي في ما تعارف الناس عليه بذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، هذا الإنسان المميّز في خَلقه، لأنّ الله ـ سبحانه ـ خلقه بطريقة لم يشاركه فيها أحد من الناس من قبله ومن بعده، وجعله بذلك آيةً للناس ورحمةً منه. وعلينا، أمام ذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، أن نقف مع آيات القرآن الكريم، لنعرف الأجواء التي حصلت فيها الولادة، وصورة السيد المسيح من الناحية العقيدية لدى المسلمين، لأنّ على المسلمين أن يتعرفوا إلى عقيدتهم في الأنبياء من خلال القرآن، باعتباره الأساس الذي أكَّد المفاهيم والعقائد للناس.

وقد تحدث الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن ولادة السيد المسيح في أكثر من آية، ونبدأ بما تحدّث عنه في سورة آل عمران، ومن الطبيعي أن يبدأ الحديث عن السيد المسيح بالحديث عن أمه الطاهرة السيدة مريم العذراء(ع)، البتول التي كانت أمها تأمل أن تلدها ذكراً لتخدم في بيت المقدس، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، أما أمّ مريم(ع)، جدة عيسى(ع)، فكانت الإنسانة المؤمنة الطاهرة المخلصة لله، لم تتعقد عندما لم يتحقق حلمها في أن تجد خادماً لبيت المقدس، فانفتحت على هذه الأنثى، وأرادت لله ـ سبحانه ـ أن يجعلها الإنسانة القريبة منه، البعيدة من الشيطان الرجيم، وأن تحمي ذريتها في المستقبل، وهذه هي روح الإنسان المؤمن الطاهر، الذي يحبّ الله، فيحبّ لكلّ ذريته في مدى الزمن أن تكون مخلصةً له وبعيدة عن الشيطان، أن يفكر الإنسان بذريته أن يكونوا أولياء الله، وأن ينجحوا في الدنيا والآخرة، لا في الدنيا فحسب، كما تفكير الكثير من الناس، لأنّ ما عندكم ينفد وما عند الله باق.

مريم في كفالة زكريّا

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ـ هيّأ لها الظروف الطبيعية الملائمة التي يمكن أن ينشأ فيها الإنسان نشأة طاهرة ـ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ـ وكان زكريا نبياً، وجرت القرعة بين عدّة أنبياء أيّهم يكفل مريم {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، فأصابت القرعة زكريا وكفلها، وعاشت في أجوائه، وأعطاها الله من لطفه وكرامته ما لم يعطه لامرأة قبلها ـ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ـ لم يقدّمه إليها أحدٌ من أفراد عائلته ـ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ـ فنحن لم نقدّم لك طعاماً ـ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

اصطفاء مريم(ع)

وتنطلق الآيات الكريمة، لتخبرنا كيف كانت الملائكة تحدثها: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ ـ والاصطفاء هو الاختيار ـ وَطَهَّرَكِ ـ جعلك الطاهرة المطهَّرة التي لم يعلق بها دنس ـ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ـ اختارك من بين نساء العالمين لتكوني موضعاً لكرامته، ورمزاً لآيته التي أراد أن يخرجها للناس ـ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ـ ابتهلي إليه وارجعي إليه، حاولي أن تهيّئي كلّ الأجواء الروحانية التي تصلك بالله وتقرّبك إليه ـ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ـ لأنّ قنوت الإنسان لربّه وسجوده له إنما يمثِّل مظهراً من مظاهر الإخلاص والعبودية له ـ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.

البشارة بالمعجزة

وفي حوارٍ آخر مع مريم، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ - سيولد من خلال الكلمة، وكلمة الله إرادته {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} - اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ـ ستكون له وجاهة الدنيا من خلال رسالته، ووجاهة الآخرة من خلال كرامته ـ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ـ لله من خلال إخلاصه وعبادته له ـ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ـ وفي ذلك معجزة، في الردّ على الاتهامات التي وجِّهت إليها من قبل قومها، أنها جاءت بولد من دون زواج ـ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ـ من الصالحين في التزاماتهم وروحياتهم وإخلاصهم لله تعالى ـ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ ـ فهذه مسألة عجيبة ـ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ـ فالبشر يتناسلون من خلال علاقة خاصّة بين الرجل والمرأة، وأنا الطاهرة المطهَّرة التي لم يمسّها رجل في أيّ جانب من الجوانب، قال إنك تتحدثين عن الواقع الطبيعي عند الناس، وأما في الحديث عن الله، فهو على كل شيء قدير ـ قالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.

عيسى الرسول

ثم يحدّثونها عن خصائصه {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ـ فينزل عليه الإنجيل ـ وَالْحِكْمَةَ ـ فيعطيه حكمة الرأي، وقد بعث الله رسله بالكتاب في خطّ النظرية، وبالحكمة في خطّ التطبيق، فلا يتحرك الرسول إلا بالحكمة ـ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ـ وللعالمين جميعاً. وكما أرسل الله نبيّه محمداً (ص) إلى أمّ القرى ومَنْ حولها كبداية للدعوة، وكقاعدة تنطلق منها الدعوة، كذلك أرسل الله عيسى رسولاً إلى بني إسرائيل، وهو المستضعف فيهم، ولا يملك من خلال طبيعة موقعه، وجاهة اجتماعيّة تؤهّله لأن يسمع الناس منه، ولكنّه جاءهم بما أذهلهم، وحيث كان الطبّ هو المنتشر في تلك المرحلة، فقد جاءهم بما يعجز الأطباء ـ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ـ فأنا أقدّم نفسي إليكم لا من خلال بشريتي العادية، وإنما من خلال معجزة، ومن خلال علاقتي بالله ـ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ فَأَنفُخُ فِيهِ ـ أي أني أقوم بصناعة طير من الطّين ثم أنفخ فيه، وهنا تنتهي مهمتي لتأتي المهمة الإلهيّة ـ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ ـ فالله هو الذي يعطيه الرّوح ـ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ـ وكذلك أملك أن أعطيكم الأشياء السرية التي لم يطّلع عليها أحد من قبلكم ـ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ ـ فلو فكرتم بأن هذه الأمور لا يستطيع القيام بها بشر عادي، فستعرفون أنني رسول من الله تعالى ـ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ـ بما يقدم إليكم من حقائق ـ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ـ فأنا لم آتِ لألغي التوراة، ولا لألغي النبوّات من قبلي، بل جئت مصدقاً لما بين يديّ من التوراة، وقد جاء في الحديث عن عيسى(ع): "جئت لأكمل الناموس"، لأكمل الشريعة من خلال ما يفرضه التطور من حاجات جديدة وأوضاع جديدة ـ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، نتيجة بعض الأوضاع التي عشتموها، حتى أفتح لكم المجال لرخص في التشريع تختلف عما كانت عليه.

التّحليل والتّحريم بيد الله

وما ينبغي أن نعرفه، هو أنّ التحليل والتحريم بيد الله، وبذلك يبطل الاعتراض من بعض الناس عن كيفية تناسل أولاد آدم على زواج الأخوة والأخوات من بعضهم البعض، والمفروض أنّ هذا محرَّم. وجاء في الرواية عن أئمة أهل البيت(ع)، أنه في شريعة آدم، كان يحلّ للأخ أن يتزوّج أخته، ثم عندما كثر الناس، وأصبح هناك أعمام وأخوال وما إلى ذلك، حرَّم الله هذا الزواج، وقد يحرّم الله شيئاً ثم يحلّه، أو يحلّ شيئاً ثم يحرّمه، وهذا ما عرفناه في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.

الحواريّون: الشهادة بالإسلام

ويكمل عيسى(ع) في حديثه عن رسالته: {وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ ـ ثم أعلن لهم رسالته أن يتقوا الله ويطيعوه، وأراد لهم أن لا يختلفوا عليه ليرفعوه إلى مقام الربوبية كما رفعه البعض بعد ذلك ـ إِنَّ اللَّـهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ـ فالتوحيد هو الصراط المستقيم الذي يجب أن تصيروا إليه ـ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ ـ لم يطلب أنصاراً لنفسه، لأنه(ع) كان لا يعيش الذاتية، ولا يبحث عن نفسه في رسالته وفي حركته، إنما كان يبحث عن أنصارٍ لله ـ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ـ وهم الذين استخلصهم عيسى من خلال إيمانهم ـ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ـ أسلمنا لله عقولنا وقلوبنا وحياتنا، وانفتحنا عليه سبحانه ـ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ ـ فنحن أنصارك والمؤمنون بك وأولياؤك، نتبع عيسى من خلال أنه رسولك ـ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.

ويقول الله عن عيسى بعد ذلك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق آدم من تراب من دون أب وأمّ، وخلق عيسى(ع) من دون أب. وحدّثنا الله أيضاً عن عيسى في قوله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}.

ليحكم أتباع عيسى بالإنجيل

ثم يريد الله من التابعين لعيسى أن يحكموا بالإنجيل، لأنّ الإنجيل لم ينسخه القرآن، بل أضاف إليه أشياء كثيرة وأبعد عنه التحريف، {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. وحدثنا الله ـ سبحانه ـ في كتابه عن الذين اتبعوا عيسى ممّن أخلصوا له، وعاشوا رسالته، فلم يحرّفوا كلامه أو يبتعدوا عنه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ـ كان يتحدّث عن النصارى الذين كانوا مع النجاشي، عندما بدأ جعفر بن أبي طالب يقرأ على النجاشي سورة مريم(ع) ـ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.

بشريّة المسيح(ع)

وهكذا، يحدثنا الله ـ تعالى ـ عن عيسى وأمّه في هذا المجال، حتى يعرّفنا طبيعته، ليقول لنا إنها ليست طبيعة إلهيّة، بل بشرية: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ـ ونعرّفهم طبيعة عيسى وطبيعة أمّه، على أنها لا تختزن شيئاً من الألوهيّة، وأنّ المعاجز التي قام بها كانت بإذن الله، كما قام موسى(ع) بالمعجزة، وكذلك الأنبياء الآخرون ـ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.

ونحن نعيش هذه الآيات في ولادة السيّد المسيح(ع)، لنعيش رساليّته وروحانيّته، ولنعيش هذه البشريّة التي ارتفعت بما أعطاها الله تعالى من لطفٍ ومن كرامة.

لنعش الإسلام يوم ولادته(ع)

وفي ضوء ذلك، أحبّ أن أقول لكل إخواني من المؤمنين والمؤمنات، إنه إذا أردتم الاحتفال بعيد ولادة السيد المسيح(ع)، فليكن الاحتفال بالجلوس ليلة الميلاد وقراءة سورة مريم وسورة آل عمران، وكلّ ما جاء عن السيد المسيح في القرآن الكريم، حتى تعيشوا الإسلام في ذكراه، وحتى لا تبتعدوا عن الإسلام في أجوائه ومناخه وروحانيّته. كما أننا نرى أنّ الطريقة اللاهية العابثة التي يحتفل بها بعض المسيحيّين هنا وفي سائر أنحاء العالم، باللّعب والعبث والفسق والفجور وغير ذلك، نرى أنّ ذلك لا يمثّل السيد المسيح(ع)، بل هي التقاليد والعادات التي جاءت من وثنيّة الغرب، الذي دخل في المسيحيّة، فأعطى تقاليدها بعض هذه الصنميّة والوثنيّة.

حافظوا ـ أيها المسلمون ـ على تقاليدكم وعاداتكم وأجوائكم الإسلاميّة، اعملوا على تربية أولادكم على تقاليد الإسلام وعاداته، لأنّ القضية هي أن علينا أن ننمي الشخصية الإسلامية لأولادنا، الشخصية التي تصاغ من خلال القرآن، أن نجعل صورتنا وصورة أولادنا صورة القرآن، ولا نحاول أن نأخذ من هنا وهناك، فالقرآن يريد لنا أن نتمثل عيسى(ع) آيةً لله ورحمةً منه ورسولاً من رسله، هذا الإنسان الذي أعطاه الله كرامته ولطفه ورسالته.

أيّها الأحبّة، في ميلاد السيد المسيح(ع) وميلاد الإمام الحسن(ع)، نلتقي بالإسلام لله سبحانه وتعالى هنا وهناك، ونلتقي بهذا الجسر الذي يربط الإسلام بالمسيحيّة في أصالتها التي أكّدها الله لدى السيّد المسيح، بعيداً من كلّ تحريض ومن كلّ ما لا يتصل بالواقع الرسالي للسيد المسيح(ع).

إنها البركة، بركة السيد المسيح(ع)، وعلينا أن نعيش هذه البركة الروحيّة الأخلاقيّة التي تتحرّك في قيم الإسلام والمسيحيّة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية