أما قضية حل الطائفية السياسية، فدعني أدخل في تحليل نفسي فلسفي لهذه المسألة، أنا
أقول للقمة أن ترتفع إلى القاعدة، لأن القاعدة تملك قمة الواقع، والقمة تملك قمة
التمنيات. إنني أتحدّث الآن عن المناطق المختلفة في لبنان، والتي هي الساحة التي
يمكن للطائفيّة أن تطلّ فيها برأسها لتخلق مشكلة هنا وهناك. وإنني لا أجد مشاكل
حقيقيّة بين الناس في المناطق المختلطة، أنا من منطقة بنت جبيل، وهناك أكثر من قرية
مسيحية، هناك عين إبل ورميش ودبل والقوزح... إلخ. لم ينقل لي في التاريخ الذي سبق
ولادتي، ولم أشهد في الواقع أيّة مشكلة بين المسيحيّين والمسلمين، فالمسلمون
يشاركون المسيحيّين تجارياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، والمسيحيون كذلك، حتى
إنني كنت أرى أن بعض المسيحيين من عين إبل ورميش يأتون للمرحوم الوالد، وكان من
العلماء الكبار هناك، ليتحاكموا عنده فيما يختلفون فيه بينهم، وكنت أجد الشعراء
والأدباء من المسيحيّين يأتون في مناسبات المسلمين، ويلقون نتاجهم الأدبيّ، والعكس
صحيح.
وفي المسألة السياسية، لم يكن هناك نائب مسيحي متفق عليه، وهكذا نائب مسلم، حيث كان
المسيحيون يختلفون تماماً كما يختلف المسلمون أيضاً في اختيار هذا المرشح أو ذاك
المرشح، وكذلك في منطقة مرجعيون، وهكذا في مناطق بعلبك. وفي العام 1920، حصلت مشكلة
في بنت جبيل بين المسيحيين والمسلمين، وكان سببها فرنسا، التي أعطت للمسلمين سلاحاً
وللمسيحيين سلاحاً، وخوّفت هؤلاء من أولئك، وحدثت بعض المشاكل، ولكنها طويت فوراً
بالمحبة. هناك في منطقة بنت جبيل مسلمون ومسيحيون، كما في منطقة الشمال، فما هي
المشكلة؟ إن الناس يعيشون فيما بينهم بشكل طبيعي، كما لو كانوا من لون واحد، إذاً
ليس هناك طائفية عميقة أو متجذّرة تمنع المسلمين من أن يلتقوا مع المسيحيّين، فعلى
المستوى الطائفي، وعلى مستوى الواقع السياسي، اتفق المسيحيون والمسلمون على هذا
التنويع. وألاحظ أنه بين وقت وآخر،كان المسلمون يتحدّثون عن حقوقهم المهدورة، وعن
حرمانهم وامتيازات للمسيحيين، كان المسيحيون يسمونها ضمانات. واليوم انقلب الوضع،
وأصبح المسيحيون يتحدثون عن حقوقهم المهدورة، ولكن لا المسلمون صنعوا الحقوق
المهدورة للمسيحيّين، ولا المسيحيون صنعوا الحقوق المهدورة للمسلمين، ولكنها اللعبة
الدولية وطبيعة التركيبة اللبنانية.
أنا اعتقد أن معزوفة الطائفية التي يتداول بها، هل تلغى من النفوس أم من النصوص،
إنما هي مسألة تمثّل دوّامة في الطرح السياسي، وأنا أقول: استفتوا الشعب، وستجدون
أن الطائفية خرجت من النفوس، ولكن البعض يريد أن يؤكّدها من جديد باستغلال النصوص،
لأنهم يخوّفون المسيحيّين والمسلمين بطريقتهم الخاصّة. إنني لا أريد أن أتهم أحداً
بالاتهامات الاستهلاكية، ولكني أقول: المشكلة عندنا هي أننا لسنا واقعيّين، ولا
أقصد بالواقعية الاستسلام للأمر الواقع. ونحن شعب اللّحظة، ولسنا شعب المستقبل.
ونحن إضافةً إلى ذلك، ندرس الأمور من موقع السطح، ولا ندرسها من موقع العمق. حنى
اليوم، لم نفهم أن لبنان لم يصنع ليكون وطناً لبنيه، بل صنع ليكون مختبراً لكلّ
التيارات السياسية في المنطقة، وليكون رئة تتنفس فيها مشاكل المنطقة، وليكون
المحرقة واللّبنانيون الحطب، من أجل إيجاد الحريق في أكثر من قضيّة من قضايا
المنطقة، والدّليل على ذلك، هو الحرب اللبنانية التي يعرف الجميع أن هنري كيسنجر
خطَّط لها ونفَّذها، واستفاد من كلّ التعقيدات الفلسطينية والعربية والدولية
والمحلية من أجل إسقاط القضية الفلسطينية في لبنان، ولولا الانتفاضة، لسقطت هذه
القضية تماماً. ولذلك نقول في هذه الأيام، ليس هناك حرب في المستقبل المنظور في
لبنان، لأنّه لا مصلحة لأية جهة دولية في حرب لبنانية جديدة، حتى لو أرادت بعض
المواقع الإقليمية أن تنشئ حرباً، فإنها لا تستطيع ذلك، إذا لم يكن هناك ضوء أخضر
دولي، ولا سيما أميركي.
لهذا، فإنني أتخوف من أنه علينا أن ندرس طبيعة تركيبة الدولة اللبنانية، وأتساءل
هنا وأقول لمن يتحدثون عن الخلفيات في بعض المواقع الرئاسية اللبنانية: هل انتُخِب
رئيس للبنان، منذ كان لبنان، وحتى اليوم، بإرادة لبنانية، أو أنّ الجميع كانوا
ينتظرون كلمة السر البريطانية تارة، والفرنسية تارة أخرى، والأميركية تارة ثالثة،
ومعها المصرية أو السورية أو ما إلى ذلك؟ الكل ينتظر كلمة السر، وإذا كانت كلمة
السر في الرئاسة الأولى، كيف تكون كلمات السر في النيابة والوزراء وفي كل الرئاسات،
مع أننا نقول ليس هذا القضاء والقدر. ولكن أيها اللبنانيون، تواضعوا وافهموا أنكم
تتحرّكون داخل الساحة التي يحيط بها الآخرون، أذكر أنّ واحداً من زعماء الجنوب الذي
كانت قائمته أربعة عشر نائباً، وكان دائرة واحدة ثم قسم إلى دوائر الزهراني
والنبطية... إلخ، قيل له بعد ذلك: كيف هو وضعك بعد هذا التقسيم؟ قال: "أنا في
الجنوب كالكبّة في الصينية، مهما قسّمت "الكبّة"، تبقى في الصينية!
أقول للّبنانيّين: قد تنقسمون طائفياً وحزبياً ومذهبياً، ولكن من يملك الصينيّة؟
فتشوا عن من يملك الصينيّة دولياً، ومن خلال قانون الملكية الدولية، من يملك
الصينية إقليمياً، لأنه ليس هناك أحد إقليمياً يملك الصينية بعيداً من المالك
الدولي لهذه الصينية. هذه هي المسألة، اتركوا الشعب يمارس إنسانيّته، عند ذلك تحلّ
مشكلة الطائفية، لأن النظام الطائفي مشكلته أنّه يثير الحساسيات كلّما هدأت وبردت،
وهذه هي المسألة.
من حوار مع مجلّة الصياد اللبنانية، بتاريخ 17 صفر 1422هـ / ١١/٥/٢٠٠٠م، حول موضوع الطائفيّة