المرجع فضل الله(رض): التّنازلات لا تكون إلّا لمصلحة الإسلام

المرجع فضل الله(رض): التّنازلات لا تكون إلّا لمصلحة الإسلام

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر المواقف والمواعظ الّتي كان يطلقها، والّتي تتمحور حول العديد من القضايا التي تهمّ المسلمين. فقد ألقى سماحته بتاريخ 8 جمادى الأولى العام 1420ه، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، حيث تحدّث في خطبته الأولى عن الدعوة إلى الوحدة وأهميّتها في تأكيد العقيدة والتزام خطّ الله والانتماء الفعليّ إلى القرآن الكريم، مستشهداً بالعديد من الآيات القرآنية المشيرة إلى ذلك:

"يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ... وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.كانت هذه الآيات في الدعوة إلى الوحدة التي ترتكز على أساس العقيدة الواحدة والخطّ الواحد، فكأن الله تعالى يريد أن يقول للمسلمين جميعاً: إذا كنتم ترتبطون بحبل الله وتعتصمون به، وحبل الله هو القرآن، فعليكم أن تكونوا الواعين لكلّ الكلمات التي تريد أن تفرقكم عن القرآن وعن مجتمعكم لكي تتنازعوا لتفشلوا وتذهب ريحكم.

{واعتصموا بحبل الله جميعاً}، ليمسكه كلّ واحد منكم، ليكون تمسّككم بهذا الحبل هو الأساس الّذي يجمعكم.. أن تقول في نفسك عندما تنظر إلى المسلمين جميعاً، إنّ هؤلاء يتمسّكون بالقرآن، وإن اختلفوا في تفسيره وفهمه، علماً أن كثيراً منهم لا يرتكز على العناد، ولكنه قد يتحرك مع الفهم الخاطئ والاجتهاد الخاطئ، وفي هذا الإطار، علينا أوّلاً وقبل كلّ شيء، إذا تنازعنا في شيء، أن نردّه إلى الله وإلى الرسول.

ولقد نزلت هذه الآية، كما تذكر كتب السّيرة، في مجتمع الرسالة المدني، حيث جمع الله تعالى بين "الأوس" و"الخزرج" من خلال الإسلام، ما أثار ضغينة اليهود الذين أخذوا يثيرون الأحقاد التاريخية بين المسلمين، وذلك عبر تذكيرهم بالحروب التي خاضوها ضد بعضهم البعض، حتى غفلوا عن إسلامهم وتنادوا "السلاح.. السلاح"، وجاء رسول الله(ص)، وعاشوا روحانيته، ورجعوا إلى الإسلام... { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ـ من خلال العقيدة الواحدة والخطّ الواحد، على أساس عبادة الإله الواحد، والسّير مع الرسول الواحد في الخطّ الواحد ـ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ ـ عندما كنتم تتحركون في خطّ الشّرك، ولو لم تهتدوا لوقعتم في النار ـ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ـ بالإسلام ـ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}".

وتابع سماحته لافتاً إلى ضرورة نبذ العصبيات والتنازع، وتأكيد اللّحمة بين المؤمنين، والابتعاد عمّا يسبِّب لهم الأذى والعداوات، لأنّ الذي يجمع المسلمين أكثر مما يفرّقهم، فعندنا ثوابت في الكتاب والسنّة نلتقي جميعاً عليها:

"وإذا كان الله تعالى يتحدث مع أولئك باعتبار أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم، فهل نقبل أن تنقلب الصورة ونتحول إلى أعداء بعد أن أصبحنا إخواناً بالدين؟! لقد عشنا بالإسلام وبخطّ أهل البيت(ع)، وتنطلق الحزبيات هنا والعائليات هناك، والعصبيات والسياسات هنالك، من أجل أن تفرّق الأخ عن أخيه، ومن أجل أن يختزن الأخ المسلم الحقد في نفسه ضدّ أخيه المسلم الآخر، بينما ينفتح المسلم على غير المسلم، وقد يتحالف معه ضدّ أخيه المسلم، وقد يلتزم معه في مواجهة الإنسان المسلم. هذا واقع أصبح المسلمون يعيشونه في حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث نرى كثيراً من المسلمين يتحالفون مع غير المسلمين من أجل قتال المسلمين والسيطرة عليهم، لأسباب مذهبية أو حزبية أو سياسية، وهذا ما يرفضه الله تعالى. وإذا كان الله يمتنّ على المسلمين أنهم كانوا أعداءً فألّف بين قلوبهم، فإٍنّ الشيطان يقول لنا عكس ذلك: واذكروا إذ كنتم إخواناً فصرتم أعداء بفضل وساوسي وما غرزته في نفوسكم من الحقد والعداوة والبغضاء.

أيّها الأحبة: عندما نريد أن نفهم مسألة هذا الاعتصام بحبل الله، قد يقول بعض الناس: إنّ هذا الفريق يختلف عنّا في المذهب، ولذلك، فإنه منحرف عن الإسلام، وعلينا أن نقف منه موقف التقاطع لا التواصل، وموقف العداوة لا الصداقة أو الأخوّة! هذا هو الوضع الذي يتحرك فيه المسلمون من هذا الفريق ضد ذاك الفريق، أو ذاك الفريق ضدّ هذا الفريق. هنا علينا أن نفكر من خلال وحي القرآن، فالقرآن الكريم يؤكّد لنا أنّ هناك ثوابت يلتقي عليها المسلمون، وهي ما يجمع المسلمون عليه، من التوحيد والنبوّة والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالكتاب كلّه، ولا سيما القرآن، وبالرسل كلّهم والملائكة، كما يؤمنون جميعاً بالصّلاة والصوم والزكاة والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن اختلفنا بين من يتكتّف في الصلاة وبين من يسبل يديه، وبين من يغسل رجليه في الوضوء وبين من يمسح عليهما، أو بين من يفطر عند سقوط قرص الشّمس وبين من يفطر عند ذهاب الحمرة المشرقيّة، فإن هذه التفاصيل لا تنفي أن الخطوط واحدة، فما نختلف فيه مع بعضنا البعض في هذا المذهب أو ذاك، قد يتفق فيه بعضنا في الفتوى مع هذا أو ذاك، ففي مسألة الإفطار عند الغروب مثلاً، هناك الكثير من علمائنا الكبار، ومنهم السيّد الخوئي(قده) والسيّد محسن الحكيم(قده)، يفتون بأنّ الغروب يتحقق عند سقوط قرص الشّمس، ولا يجب انتظار ذهاب الحمرة المشرقيّة، وإن كان بعضهم يحتاط استحبابياً والآخر وجوباً، وهناك علماء آخرون يرون أنه لا بدَّ من الانتظار حتى ذهاب الحمرة المشرقية، أو أن السنّة يرون أنه يكتفى بأن تُقرأ بعد الفاتحة في الصلاة آية من الآيات لا سورة كاملة، وهو ما يراه بعض علمائنا أيضاً، وإن كان المشهور من علمائنا أنّه لا بدّ من أن تُقرأ سورة كاملة، لكن القضيّة ليست حدّية، بل إن الكثير من القضايا الفقهية مما يلتزمه مشهور السنّة، قد يلتزمه مشهور الشيعة، والعكس صحيح، حتى المحاكم السنّيّة قد أخذت ببعض الفتاوى التي تتعلّق ابلطلاق وبغيره من المسائل".

ويشير سماحته إلى أنّ العمل المتواصل من أجل حفظ مصلحة الإسلام، لا بدّ وأن يكون همّ الجميع، انطلاقاً من منطق القرآن وتوجيهاته لمواجهة كلّ المخاطر والتحدّيات:

"نعم، هناك اختلاف في مسألة الخلافة، وهو خلاف عميق، ونعتبره مهمّاً جدّاً، وليس خلافاً عادياً، لأنّ القضيّة تدور حول من هو الحجّة بعد رسول الله(ص)، الّذي نأخذ بكلّ كلامه وفكره، هل هو عليّ(ع) وأولاده أم الآخرون؟ هذا خلاف مهمّ جدّاً، ولكن مع ذلك، علينا أن ننظر إلى عليّ(ع) كيف واجه الخلاف في هذه المسألة الحسّاسة الحيويّة، علماً أنّ القضية تتصل بشخصه، حيث نراه(ع) قد وقف على الحياد أوّلاً، ولكن عندما حدثت الردّة في الإسلام، وشعر بالأخطار تهدّد الواقع الإسلاميّ، ترك موقف الحياد، واندفع ليعاون ويساعد وينصح ويشير على هؤلاء الّذين تقدَّموه وأخذوا حقه، وهو القائل: "فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، الّتي إنما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السّحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه". فالحقّ يبقى حقّاً، ولم يتنازل(ع) عن حقّه، وخطبة الشقشقيّة تدلّ على ذلك، ولكن عندما تكون المسألة مسألة سلامة الإسلام، فإنّه يقدّم التّنازلات العملانية حتى يحفظ رأس الإسلام. لذا، علينا إذا اتصلت المسألة بمصلحة المسلمين، أن نقف بقوّة مع هذه المصلحة.

ولننظر إلى الواقع الّذي نعيشه الآن، هناك حرب على الثّقافة الإسلاميّة، حرب ضدّ النبوّة وضدّ الوحي، وإنكار أنّ الإسلام هو دين الله، حرب ضدّ الإيمان باليوم الآخر وضدّ التشريعات الإسلامية الأساسية، فالمسألة ليست حرباً لمصلحة السنّة أو الشيعة، بل هي حرب على القاعدة الأساسية للإسلام، ونبقى نحن في غفلة من هذه الحرب، فنفترق ونتقاتل والإسلام يسقط، وهو يتطلب أن نقف جميعاً حتى ندافع عن القاعدة الإسلامية الأساسية، وعن رأس الإسلام عقيدة وشريعة وثقافة، ثم بعد أن يطمئنّ الإسلام، نتحاور في شؤون الخلافة وغيرها.

وإذا كان الله طلب منّا أن ندعو أهل الكتاب ـ وكم بيننا وبين اليهود والنصارى من خلافات في العقيدة وفي كثير من القضايا ـ إلى كلمة سواء بيننا وبينهم، ألا نقول لأهل القرآن: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم؟! علينا أن نفهم منطق القرآن الكريم، ومنطق الإمام عليّ(ع)، والقضيّة هي قضيّته. لقد عاش الإمام عليّ(ع) مرارة كأشدّ ما تكون، ولكنه كان مطمئنّاً، لأنه كان يحارب من أجل الإسلام سلماً بعد رسول الله، كما حارب من أجل الإسلام حرباً في حياة رسول الله(ص).

وحين ننتقل إلى الدّاخل؛ داخل كلّ خطّ، سواء الخطّ السنّي عند السنّة، أو الخط الشيعي عند الشيعة، يستوقفنا أيضاً أمر الله لنا بالاعتصام بحبله، ونتساءل: لماذا نثير الخلافات والتمزّقات فيما بيننا، حتى في المسائل الدينية التي تمثل تكاليف شرعية، كأن يلتزم هذا مجتهداً وذاك يلتزم مجتهداً آخر، فهل من المعقول والمشروع أن تفرّق بيننا مثل هذه التفاصيل؟! أنت لك وجهة نظر فقهيّة، وذاك له وجهة نظر فقهيّة أخرى، أو عندك وجهة نظر في جانب من جوانب تفاصيل العقيدة، وذاك عنده وجهة نظر أخرى، فهل نخلق منها مشاكل تثير التّكفير واللّعن والتّضليل والمقاطعة؟! هناك كثير من الناس، حتى ممن يملكون مواقع دينيّة، عندما يختلفون مع أمثالهم يتقاطعون بينهم، وعندنا أنّه"لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيّام".

وختم بالدعوة إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الأئمّة، من أجل تعزيز الانفتاح وتكريس مبدأ التّعاون على البرّ والتّقوى:

"لقد أصبحنا نعاني تمزقات تنطلق من التخلف وعدم الوعي، وهناك قضايا كبرى لا بدَّ من أن نلتقي عليها، وحتى القضايا الّتي نختلف فيها، لا بدّ من أن يلتقي الجميع حتى يتحاوروا فيما بينهم بشأنها، لا أن يتراشقوا من بعيد بالتّهم والصفات المختلفة، والمشكلة أن المستكبرين عرفوا كيف يسقطون هذه الروح الإسلامية من الداخل، وكيف يحوّلون المسألة إلى عصبيّة للذات وللحزب وللحركة وللعائلة، بدلاً من أن تكون التزاماً بالإسلام وقيمه، إنّ الله تعالى يقول: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}، ونحن نمارس العكس، لأننا نقول من خلال خلافاتنا: إنما المؤمنون أعداء فعقِّدوا العلاقات بين أخويكم. أليس هذا هو ما نسير فيه؟!

علينا أن نرجع إلى كتاب الله وسنّة نبيه وسيرة الأئمة من أهل البيت(ع)؛ سيرة الانفتاح والتعاون على البرّ والتقوى، وترك التباغض والتقاطع في هذا المجال. قد تقولون في بعض الحالات: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم}، فلماذا لا تتوحَّدون أنتم؟ لقد قلت لكم سابقاً، وأقول لكم الآن من موقع مسؤوليّتي أمام الله وليس أمامكم: ليس في قلبي أيّ سوء على مؤمن، ويدي ممدودة للجميع، ولا أزال أدعو الجميع إلى أيّ لقاء وحوار، وأيّ وقوف في خطّ المسؤولية، وقد أعذرت إلى الله في ذلك، ولا أتحمل أيّ مسؤولية، بل إنّ ندائي الدائم هو نداء اللقاء والمحبّة والوحدة والتّفاهم على أساس كلمة الله.

نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصّالحين على أنفسهم، وأن يجمع كلمتنا على الخير والهدى وكلمة التّقوى، إنّه أرحم الراحمين.

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر المواقف والمواعظ الّتي كان يطلقها، والّتي تتمحور حول العديد من القضايا التي تهمّ المسلمين. فقد ألقى سماحته بتاريخ 8 جمادى الأولى العام 1420ه، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، حيث تحدّث في خطبته الأولى عن الدعوة إلى الوحدة وأهميّتها في تأكيد العقيدة والتزام خطّ الله والانتماء الفعليّ إلى القرآن الكريم، مستشهداً بالعديد من الآيات القرآنية المشيرة إلى ذلك:

"يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ... وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.كانت هذه الآيات في الدعوة إلى الوحدة التي ترتكز على أساس العقيدة الواحدة والخطّ الواحد، فكأن الله تعالى يريد أن يقول للمسلمين جميعاً: إذا كنتم ترتبطون بحبل الله وتعتصمون به، وحبل الله هو القرآن، فعليكم أن تكونوا الواعين لكلّ الكلمات التي تريد أن تفرقكم عن القرآن وعن مجتمعكم لكي تتنازعوا لتفشلوا وتذهب ريحكم.

{واعتصموا بحبل الله جميعاً}، ليمسكه كلّ واحد منكم، ليكون تمسّككم بهذا الحبل هو الأساس الّذي يجمعكم.. أن تقول في نفسك عندما تنظر إلى المسلمين جميعاً، إنّ هؤلاء يتمسّكون بالقرآن، وإن اختلفوا في تفسيره وفهمه، علماً أن كثيراً منهم لا يرتكز على العناد، ولكنه قد يتحرك مع الفهم الخاطئ والاجتهاد الخاطئ، وفي هذا الإطار، علينا أوّلاً وقبل كلّ شيء، إذا تنازعنا في شيء، أن نردّه إلى الله وإلى الرسول.

ولقد نزلت هذه الآية، كما تذكر كتب السّيرة، في مجتمع الرسالة المدني، حيث جمع الله تعالى بين "الأوس" و"الخزرج" من خلال الإسلام، ما أثار ضغينة اليهود الذين أخذوا يثيرون الأحقاد التاريخية بين المسلمين، وذلك عبر تذكيرهم بالحروب التي خاضوها ضد بعضهم البعض، حتى غفلوا عن إسلامهم وتنادوا "السلاح.. السلاح"، وجاء رسول الله(ص)، وعاشوا روحانيته، ورجعوا إلى الإسلام... { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ـ من خلال العقيدة الواحدة والخطّ الواحد، على أساس عبادة الإله الواحد، والسّير مع الرسول الواحد في الخطّ الواحد ـ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ ـ عندما كنتم تتحركون في خطّ الشّرك، ولو لم تهتدوا لوقعتم في النار ـ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ـ بالإسلام ـ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}".

وتابع سماحته لافتاً إلى ضرورة نبذ العصبيات والتنازع، وتأكيد اللّحمة بين المؤمنين، والابتعاد عمّا يسبِّب لهم الأذى والعداوات، لأنّ الذي يجمع المسلمين أكثر مما يفرّقهم، فعندنا ثوابت في الكتاب والسنّة نلتقي جميعاً عليها:

"وإذا كان الله تعالى يتحدث مع أولئك باعتبار أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم، فهل نقبل أن تنقلب الصورة ونتحول إلى أعداء بعد أن أصبحنا إخواناً بالدين؟! لقد عشنا بالإسلام وبخطّ أهل البيت(ع)، وتنطلق الحزبيات هنا والعائليات هناك، والعصبيات والسياسات هنالك، من أجل أن تفرّق الأخ عن أخيه، ومن أجل أن يختزن الأخ المسلم الحقد في نفسه ضدّ أخيه المسلم الآخر، بينما ينفتح المسلم على غير المسلم، وقد يتحالف معه ضدّ أخيه المسلم، وقد يلتزم معه في مواجهة الإنسان المسلم. هذا واقع أصبح المسلمون يعيشونه في حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث نرى كثيراً من المسلمين يتحالفون مع غير المسلمين من أجل قتال المسلمين والسيطرة عليهم، لأسباب مذهبية أو حزبية أو سياسية، وهذا ما يرفضه الله تعالى. وإذا كان الله يمتنّ على المسلمين أنهم كانوا أعداءً فألّف بين قلوبهم، فإٍنّ الشيطان يقول لنا عكس ذلك: واذكروا إذ كنتم إخواناً فصرتم أعداء بفضل وساوسي وما غرزته في نفوسكم من الحقد والعداوة والبغضاء.

أيّها الأحبة: عندما نريد أن نفهم مسألة هذا الاعتصام بحبل الله، قد يقول بعض الناس: إنّ هذا الفريق يختلف عنّا في المذهب، ولذلك، فإنه منحرف عن الإسلام، وعلينا أن نقف منه موقف التقاطع لا التواصل، وموقف العداوة لا الصداقة أو الأخوّة! هذا هو الوضع الذي يتحرك فيه المسلمون من هذا الفريق ضد ذاك الفريق، أو ذاك الفريق ضدّ هذا الفريق. هنا علينا أن نفكر من خلال وحي القرآن، فالقرآن الكريم يؤكّد لنا أنّ هناك ثوابت يلتقي عليها المسلمون، وهي ما يجمع المسلمون عليه، من التوحيد والنبوّة والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالكتاب كلّه، ولا سيما القرآن، وبالرسل كلّهم والملائكة، كما يؤمنون جميعاً بالصّلاة والصوم والزكاة والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن اختلفنا بين من يتكتّف في الصلاة وبين من يسبل يديه، وبين من يغسل رجليه في الوضوء وبين من يمسح عليهما، أو بين من يفطر عند سقوط قرص الشّمس وبين من يفطر عند ذهاب الحمرة المشرقيّة، فإن هذه التفاصيل لا تنفي أن الخطوط واحدة، فما نختلف فيه مع بعضنا البعض في هذا المذهب أو ذاك، قد يتفق فيه بعضنا في الفتوى مع هذا أو ذاك، ففي مسألة الإفطار عند الغروب مثلاً، هناك الكثير من علمائنا الكبار، ومنهم السيّد الخوئي(قده) والسيّد محسن الحكيم(قده)، يفتون بأنّ الغروب يتحقق عند سقوط قرص الشّمس، ولا يجب انتظار ذهاب الحمرة المشرقيّة، وإن كان بعضهم يحتاط استحبابياً والآخر وجوباً، وهناك علماء آخرون يرون أنه لا بدَّ من الانتظار حتى ذهاب الحمرة المشرقية، أو أن السنّة يرون أنه يكتفى بأن تُقرأ بعد الفاتحة في الصلاة آية من الآيات لا سورة كاملة، وهو ما يراه بعض علمائنا أيضاً، وإن كان المشهور من علمائنا أنّه لا بدّ من أن تُقرأ سورة كاملة، لكن القضيّة ليست حدّية، بل إن الكثير من القضايا الفقهية مما يلتزمه مشهور السنّة، قد يلتزمه مشهور الشيعة، والعكس صحيح، حتى المحاكم السنّيّة قد أخذت ببعض الفتاوى التي تتعلّق ابلطلاق وبغيره من المسائل".

ويشير سماحته إلى أنّ العمل المتواصل من أجل حفظ مصلحة الإسلام، لا بدّ وأن يكون همّ الجميع، انطلاقاً من منطق القرآن وتوجيهاته لمواجهة كلّ المخاطر والتحدّيات:

"نعم، هناك اختلاف في مسألة الخلافة، وهو خلاف عميق، ونعتبره مهمّاً جدّاً، وليس خلافاً عادياً، لأنّ القضيّة تدور حول من هو الحجّة بعد رسول الله(ص)، الّذي نأخذ بكلّ كلامه وفكره، هل هو عليّ(ع) وأولاده أم الآخرون؟ هذا خلاف مهمّ جدّاً، ولكن مع ذلك، علينا أن ننظر إلى عليّ(ع) كيف واجه الخلاف في هذه المسألة الحسّاسة الحيويّة، علماً أنّ القضية تتصل بشخصه، حيث نراه(ع) قد وقف على الحياد أوّلاً، ولكن عندما حدثت الردّة في الإسلام، وشعر بالأخطار تهدّد الواقع الإسلاميّ، ترك موقف الحياد، واندفع ليعاون ويساعد وينصح ويشير على هؤلاء الّذين تقدَّموه وأخذوا حقه، وهو القائل: "فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، الّتي إنما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السّحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه". فالحقّ يبقى حقّاً، ولم يتنازل(ع) عن حقّه، وخطبة الشقشقيّة تدلّ على ذلك، ولكن عندما تكون المسألة مسألة سلامة الإسلام، فإنّه يقدّم التّنازلات العملانية حتى يحفظ رأس الإسلام. لذا، علينا إذا اتصلت المسألة بمصلحة المسلمين، أن نقف بقوّة مع هذه المصلحة.

ولننظر إلى الواقع الّذي نعيشه الآن، هناك حرب على الثّقافة الإسلاميّة، حرب ضدّ النبوّة وضدّ الوحي، وإنكار أنّ الإسلام هو دين الله، حرب ضدّ الإيمان باليوم الآخر وضدّ التشريعات الإسلامية الأساسية، فالمسألة ليست حرباً لمصلحة السنّة أو الشيعة، بل هي حرب على القاعدة الأساسية للإسلام، ونبقى نحن في غفلة من هذه الحرب، فنفترق ونتقاتل والإسلام يسقط، وهو يتطلب أن نقف جميعاً حتى ندافع عن القاعدة الإسلامية الأساسية، وعن رأس الإسلام عقيدة وشريعة وثقافة، ثم بعد أن يطمئنّ الإسلام، نتحاور في شؤون الخلافة وغيرها.

وإذا كان الله طلب منّا أن ندعو أهل الكتاب ـ وكم بيننا وبين اليهود والنصارى من خلافات في العقيدة وفي كثير من القضايا ـ إلى كلمة سواء بيننا وبينهم، ألا نقول لأهل القرآن: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم؟! علينا أن نفهم منطق القرآن الكريم، ومنطق الإمام عليّ(ع)، والقضيّة هي قضيّته. لقد عاش الإمام عليّ(ع) مرارة كأشدّ ما تكون، ولكنه كان مطمئنّاً، لأنه كان يحارب من أجل الإسلام سلماً بعد رسول الله، كما حارب من أجل الإسلام حرباً في حياة رسول الله(ص).

وحين ننتقل إلى الدّاخل؛ داخل كلّ خطّ، سواء الخطّ السنّي عند السنّة، أو الخط الشيعي عند الشيعة، يستوقفنا أيضاً أمر الله لنا بالاعتصام بحبله، ونتساءل: لماذا نثير الخلافات والتمزّقات فيما بيننا، حتى في المسائل الدينية التي تمثل تكاليف شرعية، كأن يلتزم هذا مجتهداً وذاك يلتزم مجتهداً آخر، فهل من المعقول والمشروع أن تفرّق بيننا مثل هذه التفاصيل؟! أنت لك وجهة نظر فقهيّة، وذاك له وجهة نظر فقهيّة أخرى، أو عندك وجهة نظر في جانب من جوانب تفاصيل العقيدة، وذاك عنده وجهة نظر أخرى، فهل نخلق منها مشاكل تثير التّكفير واللّعن والتّضليل والمقاطعة؟! هناك كثير من الناس، حتى ممن يملكون مواقع دينيّة، عندما يختلفون مع أمثالهم يتقاطعون بينهم، وعندنا أنّه"لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيّام".

وختم بالدعوة إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الأئمّة، من أجل تعزيز الانفتاح وتكريس مبدأ التّعاون على البرّ والتّقوى:

"لقد أصبحنا نعاني تمزقات تنطلق من التخلف وعدم الوعي، وهناك قضايا كبرى لا بدَّ من أن نلتقي عليها، وحتى القضايا الّتي نختلف فيها، لا بدّ من أن يلتقي الجميع حتى يتحاوروا فيما بينهم بشأنها، لا أن يتراشقوا من بعيد بالتّهم والصفات المختلفة، والمشكلة أن المستكبرين عرفوا كيف يسقطون هذه الروح الإسلامية من الداخل، وكيف يحوّلون المسألة إلى عصبيّة للذات وللحزب وللحركة وللعائلة، بدلاً من أن تكون التزاماً بالإسلام وقيمه، إنّ الله تعالى يقول: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}، ونحن نمارس العكس، لأننا نقول من خلال خلافاتنا: إنما المؤمنون أعداء فعقِّدوا العلاقات بين أخويكم. أليس هذا هو ما نسير فيه؟!

علينا أن نرجع إلى كتاب الله وسنّة نبيه وسيرة الأئمة من أهل البيت(ع)؛ سيرة الانفتاح والتعاون على البرّ والتقوى، وترك التباغض والتقاطع في هذا المجال. قد تقولون في بعض الحالات: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم}، فلماذا لا تتوحَّدون أنتم؟ لقد قلت لكم سابقاً، وأقول لكم الآن من موقع مسؤوليّتي أمام الله وليس أمامكم: ليس في قلبي أيّ سوء على مؤمن، ويدي ممدودة للجميع، ولا أزال أدعو الجميع إلى أيّ لقاء وحوار، وأيّ وقوف في خطّ المسؤولية، وقد أعذرت إلى الله في ذلك، ولا أتحمل أيّ مسؤولية، بل إنّ ندائي الدائم هو نداء اللقاء والمحبّة والوحدة والتّفاهم على أساس كلمة الله.

نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصّالحين على أنفسهم، وأن يجمع كلمتنا على الخير والهدى وكلمة التّقوى، إنّه أرحم الراحمين.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية