بالعودة إلى الذاكرة، وتحديداً إلى أرشيف خطب الجمعة، نستحضر المواقف والمواعظ التي كان ألقاها سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في خطبة صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، وذلك بتاريخ 26 ربيع الأوّل العام 1423ه/ الموافق 7/6/2002م، حيث تحدّث في خطبته الدينية عن الوفاء بالعهد، وما على الإنسان الالتزام به في هذا المجال، وأشكال هذا الالتزام. قال سماحته:
"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإيّاي فارهبون}، ويقول تعالى: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، ويقول تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ}، ويقول تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
في هذه الآيات الكريمة، وفي غيرها من الآيات، تأكيدٌ على المنهج الذي يريد الله للإنسان أن يسير عليه في كل حياته، وهذا المنهج هو الالتزام بالكلمة، سواء كانت هذه الكلمة مع الله تعالى أو مع الناس، فالإنسان المؤمن هو الإنسان الذي يحترم كلمته ويلتزم بها، ويعمل على أساس كل ما في داخلها من التزامات.
في البداية، هناك التزام عام بين الإنسان وربه، وهو التزام الإيمان، فالإنسان عندما يُعلن شهادته لله بالتوحيد، وللرسول بالرسالة، فإن هاتين الشهادتين اللتين ينطق بهما كل مسلم ومسلمة، يمثلان عهداً بين الإنسان وربه، إنه يلتزم بتوحيد الله في العقيدة، فلا يعتقد بشريك لله في الربوبية، وبتوحيده في العبادة، فلا يشرك بعبادته أحداً، وبتوحيده في الطاعة فلا يطيع غير الله. وهكذا، عندما يشهد للنبي(ص) بالرسالة، فإن معنى ذلك أنه يلتزم بكل رسالة الرسول، ليجعل حياته متحركة في خطّ هذه الرسالة، كما قال الله تعالى: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وهناك عهدٌ من الله للإنسان المؤمن الذي يلتزم إيمانه، بأنّ الله تعالى سيجعل له من أمره فرجاً ومخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، حيث يتعهَّد له بأن يعطيه أجر ذلك ويدخله الجنّة، لأنّ هناك عهداً متبادلاً بين الله وخلقه، ولذلك خاطب الله تعالى بني إسرائيل بقوله: {وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم}، أوفوا بهذا العهد الذي التزمتم به على أنفسكم، أوفِ بعهدي لكم من خلال ما وعدتكم به في الدّنيا أو الآخرة، لأنّ العهد عندما يكون بين طرفين، فمن الطبيعي أن لا يطالب أيّ طرف الآخر بعهده، إلا بعد أن يكون قد أوفى الأول بعهده. ويقول تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}، فالله سوف يسأل كلّ من أعطى عهداً عن عهده، هل وفى به أم لا".
ويتابع سماحته الكلام حول أنواع العهود، وما يترتب عليها، مشيراً إلى العهد بين الزوجين والعقود بين الناس في الحياة:
"وتمتدّ العهود، مثل النذر الذي ينذره الإنسان لله على نفسه، فهذا النّذر هو نوعٌ من العهد، وعلى الإنسان أن يلتزم بهذا العهد الذي عاهد الله عليه إذا تحقّق الشّيء الذي كان النذر من أجله. ولذلك، فإنّ الوفاء بالنّذر واجب، والوفاء بالنّذر إنما يكون واجباً إذا كان راجحاً، بمعنى أن يكون مما فيه طاعة الله. والنّذر الذي يجب الوفاء به، هو الذي يأتي به الإنسان بصيغة "لله عليّ نذر".. ومن الأمور التي يجب على الإنسان الالتزام بها هو اليمين، بأن يحلف بالله على أمر معيّن، واليمين الواجب على الإنسان أن يفي به، هو اليمين الذي يأتي الإنسان به من خلال القسم أو الحلف بالله فقط، ومن لا يفي بنذره أو يمينه، فعليه أن يدفع كفّارة.. والحلف على قسمين: الأوّل أن يحلف بالله أن يفعل كذا، والحلف الثّاني، هو الحلف بشيء حاصل، سواء في مقام الدّعوى أو الشّهادة. وهنا لا بدَّ للإنسان من أن يكون صادقاً في يمينه، لأنّ اليمين الكاذبة ـ كما جاء في بعض الأحاديث ـ "تدع الدّيار بلاقع"، ولا سيما إذا كان الحلف في مقام الشّهادة، ليضيع حقّاً على صاحبه، أو ليثبت حقاً لمن لا يملك هذا الحق.
نعم، في بعض الحالات، يمكن أن يصبح الكذب واجباً والصّدق حراماً، كما لو أراد الظالم منك أن تشي بإنسان بريء، أو أن يطلب منك العدوّ أن تفشي أسرار المؤمنين، هنا الكذب يصبح واجباً والصّدق حراماً، وقد جاء في الحديث: "إحلف بالله كاذباً ونجَّ أخاك من القتل".
وتمتدّ مسألة العهود للعقود، فيما يبيع الناس أو يؤجّرون أو يوظّفون بعضهم بعضاً، هذا التعاقد بين الناس في الأمور الحياتية والمادية. والعهد هو التزام، بأن تلتزم للموظّف بأجر معيّن، على أن يلتزم بدوام معيّن وعمل معين، وما إلى ذلك. ولا فرق بين أن يكون هذا العقد مكتوباً أو غير مكتوب، لأنّ الكلمة هي التي تحكمك.
ومن بين العهود، عهد الزواج، فالزواج عهد بين الزوج والزوجة، فأنت تعطي زوجتك عهداً بأن تقوم بكلّ حقوق الزوجية، وبالعكس، والله تعالى فرض حقوقاً للزوجة على زوجها، وللزوج على زوجته، فلا بدّ للزوج من أن ينفق على زوجته ويعطيها حقها في الجانب الجنسي، وأن يحترمها، فلا يسبّها ويضربها ويخرجها من بيته بغير حقّ، وعلى الزوجة أن تطيع زوجها فيما وجب عليها من الحقّ الزوجي. والزوجية مثل أيّ عقد من العقود الأخرى الّتي لا تجعل الطرف الأول عبداً أو ملكاً للطرف الثاني، بل الحقوق والواجبات هي من يحكم هذه العقود، وما يزيد على ذلك، فلا يجوز لطرف أن يجبر الآخر عليه إلا بما يتبرّع به الأوّل للثاني.
من هنا نقول: الزوجة تبقى إنساناً حرّاً خارج نطاق الالتزامات الزوجيّة التي تجب عليها، والزوج يبقى حرّاً خارج الالتزامات الزوجيّة التي تجب عليه، والله تعالى خيّر الزوج بين حالتين: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}، تستطيع أن تعيش معها وتعيش معك على أساس أن تحفظا حقّ بعضكما البعض، أما إذا لم تستطيعا {وإن يتفرّقا يغنِ الله كلاً من سعته}، وخصوصاً ما نلاحظه عند البعض، عندما يجبر الزوجة أن تتنازل عن مهرها بالعنف والإكراه، فالله تعالى يقول: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً* وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذنا منكم ميثاقاً غليظاً}".
ويختم سماحته بالحديث عن عاقبة ناقضي العهود، وضرورة مراجعة الإنسان لحساباته، كي تكون منسجمةً مع حدود الله تعالى:
"تعالوا نقرأ كيف يعبّر الله تعالى عن الذين ينقضون عهودهم: {إنّ الّذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم}، بينما يقول تعالى عن الذي يفي بكلمته وعهده: {بلى مَنْ أوفى بعهدِهِ واتّقَى فإنَّ اللهَ يحبُّ المتّقين}، ويقول في آية أخرى: {وأوفوا بعهدِ اللهِ إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إنّ الله يعلم ما تفعلون* وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
لهذا، على الإنسان أن يحسب حساباته جيّداً قبل أن يحلف أو يعقد العقد، لأنَّ الكلمة في وثاقك، أما إذا انطلقت، فتصير في وثاقها، والإنسان المؤمن هو الّذي يحترم كلمته مع الله ومع الناس، وهذا هو الّذي يحفظ للمجتمع توازنه واستقراره، ويؤكّد العلاقات الاجتماعيّة على أسس ثابتة متينة، وهذا ما يريد الله لنا أن نعيشه في كلّ حياتنا، حتى نحفظ حقوقنا وحقوق النّاس من حولنا، وحقوق أنفسنا وحقوق الله علينا، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.