هذه الجمعة هي آخر جمعة من شهر رمضان، وهي جمعة الخير والمغفرة والرَّحمة والبركة، الَّتي يعتق الله فيها عبادَهُ من نار جهنَّم، ويحوطهم بالرَّحمة والمغفرة.
ونحن في هذا اللّقاء، نريد أن نقف مع الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، فيما كان يدعو به ربّه في وداع شهر رمضان. وليست المسألة مسألة وداع عاطفيّ، ولكن المسألة عند إمامنا (ع)، هي أنَّه أراد في دعائه هذا أن يبيِّن قيمةَ هذا الشَّهر في حياة الإنسان، وأن يبيّنَ تأثيرَه في النَّاس، في تقريبهم إلى الله، وفي توعيتهم بإسلامهم، وكيف يقفُ الإنسان في آخره بين يدي الله سبحانه وتعالى، ليستعرضَ ما عملَه في هذا الشَّهر، وليستقبلَ ما يعملُه في المستقبل، وليطلبَ من اللهِ أن يغفرَ له ما ألمَّ به، وأن يوفِّقَه لأن يكون مستقبلُهُ مستقبلَ خيرٍ ومغفرةٍ ورحمةٍ ورضوان. ونحن نحاول أن نختارَ بعضَ فقرات هذا الدّعاء، ونريد للنَّاس أن يقرأوه في الأيَّام المقبلة.
يبدأ الإمام (ع) بالسَّلام على هذا الشَّهر، تماماً كما لو كان الشَّهر كائناً حيّاً يتحسَّس ويعي ويشهد. وقد سبق للإمام زين العابدين (ع) أن تحدَّث في دعائه في الصَّباح والمساء عن الزَّمن بأنَّه شاهد، يشهد للإنسان بما عمله من خير، وعلى الإنسان بما عمله من شرّ: "وَهَذَا يَوْمٌ حَادِثٌ جَدِيدٌ، وَهُوَ عَلَيْنَا شَاهِدٌ عَتِيدٌ، إنْ أحْسَنَّا وَدَّعَنَا بِحَمْد، وَإِنْ أسَأنا فارَقَنا بِذَمّ".
فكأنَّ الزَّمن الَّذي يمرُّ بك، والَّذي هو حركة عمرك، يتحوَّل في يوم القيامة إلى شاهدٍ يشهد عليك بما فعلته من الخير والشّرّ. وهكذا أراد الإمام (ع) أن يصوِّر لنا شهر رمضان، كما لو كان كائناً حيّاً يخاطبه كما يخاطب بعضنا بعضاً.
خيرُ الشُّهورِ
استمعوا إلى كلام الإمام زين العابدين (ع). يقول (ع): "فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا، وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا، وَلَزِمَنَا لَهُ الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّةُ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِيُّ، فَنَحْنُ قَائِلُونَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الأكْبَرَ، وَيَا عِيْدَ أَوْلِيَائِهِ الأعظم - فهو في مرحلته أكبر الشّهور، وعيده الَّذي يتَّصل به هو العيد الأعظم، لأنَّه عيد القيام بالمسؤوليَّة. وعظمة الإنسان في الحياة، في كلِّ ما يحتفل به، هي أن يقوم بالمسؤوليَّة أمام الله، كما قال عليّ (ع): "إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبلَ اللهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ، وَكُلُّ يَوْمٍ لاَ يُعْصَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ".
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَـا أكْرَمَ مَصْحُـوب مِنَ الأوْقَاتِ - فالأوقات كثيرة في حياتنا، ولكن أكرم وقت هو شهر رمضان - وَيَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الأيَّامِ وَالسَّاعَاتِ.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيهِ الآمال – لأنَّ آلامنا وأحلامنا كانت في هذا الشَّهر بين يدي الله، ندعو الله أن يحقِّقها في كلِّ حياتنا، وعندما يدعو الإنسانُ ربَّه في أيِّ شيء، فإنَّ ما يدعو به سوف يقترب، لأنَّ الله سبحانه يقول: {فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186] - وَنُشِرَتْ فِيهِ الأعْمَالُ – نشرت بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيما نعمله في الصَّباح والمساء – وزُكِّيَتْ فيهِ الآمالُ - فعلى الإنسان أن يعمل في هذا الشَّهر على تزكية ماله، فيما فرضه الله عليه من خمس وزكاة أو ما أشبه ذلك.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ – عاش معنا كما يعيش القرين مع قرينه - جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً - عندما كان موجوداً، كان قدره جليلاً وعظيماً - وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ- شعرنا بفراقه بألم كبير، لأنَّنا نخسر فيه الكثير من موسم الرَّحمة والمغفرة.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ – ممَّن يألفه الإنسان ويرتاح إليه- آنَسَ مُقْبِلاً فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ.
السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِرٍ رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ - لأنَّها خشعت لذكر الله {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال: 2] - وَقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ - لأنَّ الإنسان انطلق فيه من خلال إرادة الطَّاعة وإرادة البعد عن معصيته.
شهرُ العبادةِ والمغفرة
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِرٍ أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ – فأجواء شهر رمضان وأدعيته، وتلاوة القرآن فيه، والاستماع إلى المواعظ فيه، والصَّلاة فيه، تعيننا على الشَّيطان، لأنَّها تربطنا بالله وتقرِّبنا إليه أكثر، وكلَّما قرب الإنسانُ من الله أكثر، ابتعد عن الشَّيطان أكثر - وصَاحِبٍ سَهَّلَ سُبُلَ الإحْسَانِ - مما أحسنَّا فيه من أعمالنا إلى أنفسنا، وممّا أحسنَّا فيه من الصَّدقات ومن الخدمات إلى غيرنا.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا أكْثَرَ عُتَقَاءَ اللهِ فِيكَ! – ما أكثر من أعتقهم الله من النَّار في شهر رمضان! لأنَّ لله في كلِّ ليلةٍ عتقاء من النَّار، فإذا جاءت العشر الأواخر، تضاعف ذلك لمغفرة الله.
- وَمَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ به!- فالسَّعيد هو الَّذي رعى حرمة شهر رمضان فيما جعله الله من حرمات.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ! – فأنت الأكثر من بين الأشهر الَّتي تمحى فيها ذنوبنا - وَأَسْتَرَكَ لِأنْوَاعِ الْعُيُوبِ!- فالله يستر علينا ببركة هذا الشَّهر ما لدينا من عيوب.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ!- هؤلاء الَّذين يشعرون بأنَّ شهر رمضان يقيِّدهم، وأنَّه يحجز حرَّيتهم، هؤلاء الَّذين يرون الصَّوم مشكلة لهم، ولا سيَّما في الواقع الاجتماعيّ، ولذلك يعدّون الأيَّام كمن يريد أن يستعجلها، ليتخلَّص من قيود شهر رمضان.
- وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ!- أمَّا المؤمنون، فيواجهون شهر رمضان بالهيبة، لأنَّهم يرون أنَّ الله قد عظَّمه وكرَّمه وشرَّفه، بأن جعل فيه ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ لا تُنَافِسُهُ الأيَّامُ – لأنّه الأعلى فيها.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلاَمٌ – وذلك فيما نعيشه في ليلة القدر.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصَاحَبَةِ – لسْتَ الصَّاحب الَّذي يكرهه الإنسان - وَلَا ذَمِيمِ الْمُلَابَسَةِ - وهي المخالطة، فلست المخالط الَّذي يذمّه الإنسان.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ - وقد قال رسول الله (ص) فيما نسب إليه من خطبة، أنَّه شهر البركة والرَّحمة والمغفرة - وَغَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الْخَطِيئاتِ - لأنَّه شهر غفران الذّنوب.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ بَرَماً - نحنُ عندما نودِّعك، لا نودِّعك وداعَ الإنسان الَّذي يضجر من مصاحبته لك - وَلَا مَتْرُوكٍ صِيَامُهُ سَأَماً – ملَلاً من شهر رمضان.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوبٍ قَبْلَ وَقْتِهِ – فقبلَ شهرِ رمضان، نطلبُ أن يأتي إلينا، لنحصل على ما يقرِّبنا إلى الله فيه - وَمَحْزُونٍ عَلَيْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ – ففي هذه الأيَّام الّتي هي آخر أيَّام شهر رمضان، نشعر بالحزن على فراقه.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوءٍ صُرِفَ بِكَ عَنَّا – ولا سيَّما سوء الذّنوب والسيَّئات - وَكَمْ مِنْ خَيْرٍ أُفِيضَ بِكَ عَلَيْنَا.
السَّلاَمُ عَلَيْـكَ وَعَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر. السَّلامُ عَلَيْكَ مَاْ كَانَ أَحْرَصَنَا بالأمسِ عَلَيْكَ، وَأَشَدَّ شَوْقَنَا غَدَاً إلَيْكَ! السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلَى فَضْلِكَ الَّذِي حُرِمْنَاهُ، وَعَلَى مَاضٍ مِنْ بَرَكَاتِكَ سُلِبْنَاهُ".
الاعتذارُ والإقرارُ بالتَّقصير
وبعد أن يخاطب الإنسانُ الشَّهر، يتوجَّه إلى الله سبحانه وتعالى، ليعترف له بما نعيشه من مشاعر وأحاسيس لهذا الشّهر:
"اللَّهُمَّ إنَّا أَهْلُ هَذَا الشَّهْرِ الِّذِي شَرَّفْتَنَا بِهِ، وَوَفَّقْتَنَا بِمَنِّكَ لَهُ، حِينَ جَهِلَ الأشْقِيَاءُ وَقْتَهُ – هؤلاء الَّذين لا يهمُّهم صومٌ ولا صلاةٌ ولا تقرُّبٌ إلى الله - وَحُرِمُوا لِشَقَائِهِم فَضْلَهُ - فإنَّ الشَّقيَّ من حُرِمَ غفرانَ الله في هذا الشَّهر - وأَنْتَ وَلِيُّ مَا آثَرْتَنَا بِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ - أنت الوليّ الَّذي أعطيتنا من خلال ولايتك المعرفة لفضله - وَهَدَيْتَنَا له مِنْ سُنَّتِهِ - مما سننْتَ فيه من الواجبات والمستحبَّات - وَقَدْ تَوَلَّيْنَا بِتَوْفِيقِكَ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ عَلى تَقْصِيرٍ، وَأَدَّيْنَا فِيهِ قَلِيلاً مِنْ كَثِيـرٍ.
اللَّهُمَّ فَلَكَ الْحمدُ إقْـرَاراً بالإساءةِ – إنَّنا نقرُّ، يا ربِّ، أنَّنا قد أسأْنا الكثير في هذا الشَّهر - وَاعْتِرَافاً بِالإضَاعَةِ - وأنّنا أضعنا الكثير من الفرص في هذا الشَّهر - وَلَك مِنْ قُلُوبِنَا عَقْدُ النَّدَمِ – إنَّ قلوبنا مفتوحة لك يا ربَّنا، وأنت تنظر إليها، وفيها النَّدم العميق على ما ضيَّعناه من فرص، وما قصَّرنا فيه من عمل.
- وَمِنْ أَلْسِنَتِنَا صِدْقُ الاعْتِذَارِ - إنَّنا نطلق ألسنتنا بين يديك يا ربَّنا، لتجدَ أنَّنا نعتذر إليك مما فعلناه، مما يوجب العذر في القليل والكثير - فَأَجِرْنَا عَلَى مَا أَصَابَنَا فِيهِ مِنَ التَّفْرِيطِ، أَجْرَاً نَسْتَدْركُ بِهِ الْفَضْلَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ – أن تعطينا من خلال هذا النَّدم، من خلال هذا الاعتراف، وهذا الإقبال، وهذه الحسرة، وهذا الحزن على ما أسرفنا فيه على أنفسنا في الماضي، أن تعطينا من هذه الرّوح الَّتي تطَّلع عليها في نفوسنا، أجراً نستدركُ به الفضل المرغوب فيه - وَنَعْتَاضُ بِهِ – نحصل على العوض - مِنْ أَنْوَاعِ الذُّخْرِ الْمَحْرُوصِ عَلَيْهِ.
- وَأَوْجِبْ لَنَا عُذْرَكَ – اعذرْنا يا ربّ - عَلَى مَا قَصَّرْنَا فِيهِ مِنْ حَقِّكَ، وَابْلُغْ بِأَعْمَارِنَا مَا بَيْنَ أَيْديْنَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُقْبِلِ - أطلْ في أعمارنا يا ربّ، حتَّى نبلغ شهرَ رمضانَ المقبل، لنستدركَ ما فاتنا في شهر رمضان الحاليّ - فَإذَا بَلَّغْتَنَاهُ – وفَّقْتنا لشهر رمضان جديد - فَأَعِنَّا عَلَى تَنَاوُلِ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ – اجعلنا نعبدك عبادةً أنت أهلٌ لها - وَأَدِّنَا إلَى الْقِيَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَأجْرِ لنا مِنْ صَالِحِ العَمَلِ مَا يَكونُ دَرَكاً لِحَقِّكَ فِي الشَّهْرَيْنِ مِنْ شُهُورِ الدَّهْرِ".
فرصةٌ للتَّوبةِ
أمَّا السّيِّئات الَّتي قمنا بها، فكيف نطلب من ربِّنا في نهاية الشَّهر أن يغفرها؟
"اللَّهُمَّ وَمَا أَلْمَمْنَا بِهِ فِي شَهْرِنَا هَذَا مِنْ لَمَمٍ أَوْ إثْمٍ - واللَّمم هو الذّنوب الصَّغيرة - أَوْ وَاقَعْنَا فِيهِ مِنْ ذَنْبِ، وَاكْتَسَبْنَا فِيهِ مِنْ خَطِيئَةٍ، عَلَى تَعَمُّدٍ مِنَّا – في حال العمد - أَوْ عَلى نِسْيانٍ ظَلَمْنا فِيهِ أَنْفُسَنا، وانْتَهَكْنَا بِهِ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِنَا، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاسْتُرْنَا بِسِتْرِكَ - لا تفضحْنا على رؤوسِ الأشهاد - وَاعْفُ عَنَّا بِعَفْوِكَ - أعطنا العفوَ لما أسلفناه من الذّنوب - وَلاَ تَنْصِبْنَا فِيهِ لأعْيُنِ الشَّامِتِينَ - الَّذين يشمتون بنا لأنَّنا لم نحصل على رحمتك ومغفرتك وعفوك - وَلا تَبْسُطْ عَلَيْنَا فِيهِ أَلْسُنَ الطَّاغِينَ، وَاسْتَعْمِلْنَا بِمَا يَكُونُ حِطَّةً وَكَفَّارَةً لِمَا أَنْكَرْتَ مِنَّا فِيهِ، بِرَأْفَتِكَ الَّتِي لا تَنْفَدُ، وَفَضْلِكَ الَّذِي لا يَنْقُصُ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْبُرْ مُصِيبَتنَا بِشَهْرِنَا – لأنَّنا في مصابٍ بعد أن يذهبَ هذا الشَّهر عنا - وَبَارِكْ لنا فِي يَوْمِ عِيْدِنَا وَفِطْرِنَا، وَاجْعَلْهُ مِنْ خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْنَا؛ أَجْلَبِهِ لِعَفْوٍ - العيد الَّذي يجلب لنا عفو الله - وَأَمْحَاهُ لِذَنْبٍ - العيدُ الَّذي نحصلُ فيه على محوِ ذنوبِنا - وَاغْفِرْ لَنا ما خَفِيَ مِنْ ذُنُوبِنَا وَمَا عَلَنَ.
اللَّهُمَّ اسلَخْنَا بِانْسِلاَخِ هَذَا الشَّهْرِ مِنْ خَطَايَانَا – كيف تسلخ جلد الذَّبيحة منها؟ إنَّنا نطلب من الله أن يسلخنا من الخطايا، عندما ينسلخ هذا الشَّهر ويذهب - وَأَخْرِجْنَا بُخُرُوجِهِ مِنْ سَيِّئاتِنَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَسْعَدِ أَهْلِهِ بِهِ".
إنَّ هذا بعض ما تحدَّث به الإمام زين العابدين (ع). ويختم كلامه بالدّعاء للجميع، هذه الرّوح الإنسانيَّة الّتي تفكِّر في النّاس كما تفكّر في نفسها: "اللَّهُمَّ تَجَاوَزْ عَنْ آبائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَهْلِ دِيْنِنَا جَمِيعاً، مَنْ سَلَفَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَبَرَ، إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
اغتنامُ بقيَّةِ الشَّهر
أيُّها الأحبَّة، نحن لا نزال في شهر رمضان، ولا تزال هناك بقيَّة من هذا الشَّهر، يمكن لنا أن نحصل فيها على رضا الله، إذا لم نكن قد حصلنا عليه فيما مضى، ويمكن أن نحقِّق فيه لأنفسنا الدَّرجات العليا في القرب من الله.
أيُّها الأحبَّة، حاولوا أن تعيشوا هذه الأيَّام الثَّلاثة الَّتي ننتظرها في حالة طوارئ عباديَّة، وفي حالة طوارئ روحيَّة. اجلسوا لله صباحاً ومساءً، اجلسوا لله في أوَّل اللِّيلِ وفي السَّحرِ وعند الفجرِ، وادعوه بكلِّ ما أهمَّكم، فإنَّ الله قد فتحَ لنا في هذا الشَّهر أبواب الرّحمة: "أيُّها النّاسُ، إنَّ أبوابَ الجنانِ في هذا الشَّهر مفتَّحةٌ، فاسألوا ربَّكم أن لا يغلقَها عليكم، وأبوابَ النِّيرانِ مغلقةٌ، فاسألوا ربَّكم أن لا يفتحَها عليكم، والشَّياطينَ مغلولةٌ، فاسألوا ربَّكم أن لا يسلِّطَها عليكم".
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نجلس بين يدي الله ونحدِّثه، وهو العالم بكلِّ ما عملناه: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِمَا عَمِلْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا عَلِمْتَ". علينا أن نجلس لنستعرض كلَّ ذنوبنا، ولنقول لربِّنا، هذه ذنوبنا بين يديك، نستغفرك اللَّهمَّ منها ونتوب إليك، لنطلب من الله رحمته، فرحمته تفيض في هذا الشَّهر، لنطلبَ من الله المغفرة، لنحاول أن نسامح بعضنا بعضاً فيما أسأنا فيه، وأن نطلبَ من الله السَّماح من قبله فيما أخطأنا فيه، أن نعيش فيه كمؤمنين مسلمين متَّحدين متقاربين متعاونين.
أخرجوا بغض المؤمنين من نفوسكم، وافتحوا نفوسكم للمحبَّة والسَّلام والخير والعدالة، لأنَّنا نعرف أنَّ هذا الشَّهر فرصة قد لا تتكرَّر في حياتنا، ونحن نعرف أنَّ علينا في هذه العشر الأواخر، أن ندعو الله بهذا الدّعاء القصير:
"اللَّهُمَّ، وَهذِهِ أَيَّامُ شَهْرِ رَمَضانَ قَدْ انْقَضَتْ، وَلَيالِيهِ قَدْ تَصَرَّمَتْ، وَقَدْ صِرْتُ، يا إِلهِي، مِنْهُ إِلى ما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، وَأَحْصى لِعَدَدِهِ مِنَ الخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فأَسْأَلُكَ بما سَأَلَكَ بِهِ مَلائِكَتُكَ المُقَرَّبُونَ، وَأَنْبِياؤُكَ المُرْسَلُونَ، وَعِبادُكَ الصَّالِحُونَ... إِنْ كُنْتَ رَضِيْتَ عَنِّي فِي هذا الشَّهْرِ فَازْدَدْ عَنِّي رِضى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَضِيتَ عَنِّي، فَمَنْ الآنَ فَارْضَ عَنِّي، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، يا اللهُ يا أَحَدُ يا صَمَدُ، يا مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَدٌ".
"اللَّهُمَّ أَدِّ عَنَّا حَقَّ ما مَضى مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، وَاغْفِرْ لَنا تَقْصِيرَنا فِيْهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مَقْبُولاً، وَلا تُؤاخِذْنا بِإِسْرافِنا عَلى أَنْفُسِنا، وَاجْعَلْنا مِنَ المَرْحُومِينَ، وَلا تَجْعَلْنا مِنَ المَحْرُومِينَ" ، والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 15/11/1999م.
هذه الجمعة هي آخر جمعة من شهر رمضان، وهي جمعة الخير والمغفرة والرَّحمة والبركة، الَّتي يعتق الله فيها عبادَهُ من نار جهنَّم، ويحوطهم بالرَّحمة والمغفرة.
ونحن في هذا اللّقاء، نريد أن نقف مع الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، فيما كان يدعو به ربّه في وداع شهر رمضان. وليست المسألة مسألة وداع عاطفيّ، ولكن المسألة عند إمامنا (ع)، هي أنَّه أراد في دعائه هذا أن يبيِّن قيمةَ هذا الشَّهر في حياة الإنسان، وأن يبيّنَ تأثيرَه في النَّاس، في تقريبهم إلى الله، وفي توعيتهم بإسلامهم، وكيف يقفُ الإنسان في آخره بين يدي الله سبحانه وتعالى، ليستعرضَ ما عملَه في هذا الشَّهر، وليستقبلَ ما يعملُه في المستقبل، وليطلبَ من اللهِ أن يغفرَ له ما ألمَّ به، وأن يوفِّقَه لأن يكون مستقبلُهُ مستقبلَ خيرٍ ومغفرةٍ ورحمةٍ ورضوان. ونحن نحاول أن نختارَ بعضَ فقرات هذا الدّعاء، ونريد للنَّاس أن يقرأوه في الأيَّام المقبلة.
يبدأ الإمام (ع) بالسَّلام على هذا الشَّهر، تماماً كما لو كان الشَّهر كائناً حيّاً يتحسَّس ويعي ويشهد. وقد سبق للإمام زين العابدين (ع) أن تحدَّث في دعائه في الصَّباح والمساء عن الزَّمن بأنَّه شاهد، يشهد للإنسان بما عمله من خير، وعلى الإنسان بما عمله من شرّ: "وَهَذَا يَوْمٌ حَادِثٌ جَدِيدٌ، وَهُوَ عَلَيْنَا شَاهِدٌ عَتِيدٌ، إنْ أحْسَنَّا وَدَّعَنَا بِحَمْد، وَإِنْ أسَأنا فارَقَنا بِذَمّ".
فكأنَّ الزَّمن الَّذي يمرُّ بك، والَّذي هو حركة عمرك، يتحوَّل في يوم القيامة إلى شاهدٍ يشهد عليك بما فعلته من الخير والشّرّ. وهكذا أراد الإمام (ع) أن يصوِّر لنا شهر رمضان، كما لو كان كائناً حيّاً يخاطبه كما يخاطب بعضنا بعضاً.
خيرُ الشُّهورِ
استمعوا إلى كلام الإمام زين العابدين (ع). يقول (ع): "فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا، وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا، وَلَزِمَنَا لَهُ الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّةُ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِيُّ، فَنَحْنُ قَائِلُونَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الأكْبَرَ، وَيَا عِيْدَ أَوْلِيَائِهِ الأعظم - فهو في مرحلته أكبر الشّهور، وعيده الَّذي يتَّصل به هو العيد الأعظم، لأنَّه عيد القيام بالمسؤوليَّة. وعظمة الإنسان في الحياة، في كلِّ ما يحتفل به، هي أن يقوم بالمسؤوليَّة أمام الله، كما قال عليّ (ع): "إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبلَ اللهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ، وَكُلُّ يَوْمٍ لاَ يُعْصَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ".
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَـا أكْرَمَ مَصْحُـوب مِنَ الأوْقَاتِ - فالأوقات كثيرة في حياتنا، ولكن أكرم وقت هو شهر رمضان - وَيَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الأيَّامِ وَالسَّاعَاتِ.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيهِ الآمال – لأنَّ آلامنا وأحلامنا كانت في هذا الشَّهر بين يدي الله، ندعو الله أن يحقِّقها في كلِّ حياتنا، وعندما يدعو الإنسانُ ربَّه في أيِّ شيء، فإنَّ ما يدعو به سوف يقترب، لأنَّ الله سبحانه يقول: {فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186] - وَنُشِرَتْ فِيهِ الأعْمَالُ – نشرت بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيما نعمله في الصَّباح والمساء – وزُكِّيَتْ فيهِ الآمالُ - فعلى الإنسان أن يعمل في هذا الشَّهر على تزكية ماله، فيما فرضه الله عليه من خمس وزكاة أو ما أشبه ذلك.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ – عاش معنا كما يعيش القرين مع قرينه - جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً - عندما كان موجوداً، كان قدره جليلاً وعظيماً - وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ- شعرنا بفراقه بألم كبير، لأنَّنا نخسر فيه الكثير من موسم الرَّحمة والمغفرة.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ – ممَّن يألفه الإنسان ويرتاح إليه- آنَسَ مُقْبِلاً فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ.
السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِرٍ رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ - لأنَّها خشعت لذكر الله {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال: 2] - وَقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ - لأنَّ الإنسان انطلق فيه من خلال إرادة الطَّاعة وإرادة البعد عن معصيته.
شهرُ العبادةِ والمغفرة
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِرٍ أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ – فأجواء شهر رمضان وأدعيته، وتلاوة القرآن فيه، والاستماع إلى المواعظ فيه، والصَّلاة فيه، تعيننا على الشَّيطان، لأنَّها تربطنا بالله وتقرِّبنا إليه أكثر، وكلَّما قرب الإنسانُ من الله أكثر، ابتعد عن الشَّيطان أكثر - وصَاحِبٍ سَهَّلَ سُبُلَ الإحْسَانِ - مما أحسنَّا فيه من أعمالنا إلى أنفسنا، وممّا أحسنَّا فيه من الصَّدقات ومن الخدمات إلى غيرنا.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا أكْثَرَ عُتَقَاءَ اللهِ فِيكَ! – ما أكثر من أعتقهم الله من النَّار في شهر رمضان! لأنَّ لله في كلِّ ليلةٍ عتقاء من النَّار، فإذا جاءت العشر الأواخر، تضاعف ذلك لمغفرة الله.
- وَمَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ به!- فالسَّعيد هو الَّذي رعى حرمة شهر رمضان فيما جعله الله من حرمات.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ! – فأنت الأكثر من بين الأشهر الَّتي تمحى فيها ذنوبنا - وَأَسْتَرَكَ لِأنْوَاعِ الْعُيُوبِ!- فالله يستر علينا ببركة هذا الشَّهر ما لدينا من عيوب.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ!- هؤلاء الَّذين يشعرون بأنَّ شهر رمضان يقيِّدهم، وأنَّه يحجز حرَّيتهم، هؤلاء الَّذين يرون الصَّوم مشكلة لهم، ولا سيَّما في الواقع الاجتماعيّ، ولذلك يعدّون الأيَّام كمن يريد أن يستعجلها، ليتخلَّص من قيود شهر رمضان.
- وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ!- أمَّا المؤمنون، فيواجهون شهر رمضان بالهيبة، لأنَّهم يرون أنَّ الله قد عظَّمه وكرَّمه وشرَّفه، بأن جعل فيه ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ لا تُنَافِسُهُ الأيَّامُ – لأنّه الأعلى فيها.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلاَمٌ – وذلك فيما نعيشه في ليلة القدر.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصَاحَبَةِ – لسْتَ الصَّاحب الَّذي يكرهه الإنسان - وَلَا ذَمِيمِ الْمُلَابَسَةِ - وهي المخالطة، فلست المخالط الَّذي يذمّه الإنسان.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ - وقد قال رسول الله (ص) فيما نسب إليه من خطبة، أنَّه شهر البركة والرَّحمة والمغفرة - وَغَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الْخَطِيئاتِ - لأنَّه شهر غفران الذّنوب.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ بَرَماً - نحنُ عندما نودِّعك، لا نودِّعك وداعَ الإنسان الَّذي يضجر من مصاحبته لك - وَلَا مَتْرُوكٍ صِيَامُهُ سَأَماً – ملَلاً من شهر رمضان.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوبٍ قَبْلَ وَقْتِهِ – فقبلَ شهرِ رمضان، نطلبُ أن يأتي إلينا، لنحصل على ما يقرِّبنا إلى الله فيه - وَمَحْزُونٍ عَلَيْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ – ففي هذه الأيَّام الّتي هي آخر أيَّام شهر رمضان، نشعر بالحزن على فراقه.
- السَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوءٍ صُرِفَ بِكَ عَنَّا – ولا سيَّما سوء الذّنوب والسيَّئات - وَكَمْ مِنْ خَيْرٍ أُفِيضَ بِكَ عَلَيْنَا.
السَّلاَمُ عَلَيْـكَ وَعَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر. السَّلامُ عَلَيْكَ مَاْ كَانَ أَحْرَصَنَا بالأمسِ عَلَيْكَ، وَأَشَدَّ شَوْقَنَا غَدَاً إلَيْكَ! السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلَى فَضْلِكَ الَّذِي حُرِمْنَاهُ، وَعَلَى مَاضٍ مِنْ بَرَكَاتِكَ سُلِبْنَاهُ".
الاعتذارُ والإقرارُ بالتَّقصير
وبعد أن يخاطب الإنسانُ الشَّهر، يتوجَّه إلى الله سبحانه وتعالى، ليعترف له بما نعيشه من مشاعر وأحاسيس لهذا الشّهر:
"اللَّهُمَّ إنَّا أَهْلُ هَذَا الشَّهْرِ الِّذِي شَرَّفْتَنَا بِهِ، وَوَفَّقْتَنَا بِمَنِّكَ لَهُ، حِينَ جَهِلَ الأشْقِيَاءُ وَقْتَهُ – هؤلاء الَّذين لا يهمُّهم صومٌ ولا صلاةٌ ولا تقرُّبٌ إلى الله - وَحُرِمُوا لِشَقَائِهِم فَضْلَهُ - فإنَّ الشَّقيَّ من حُرِمَ غفرانَ الله في هذا الشَّهر - وأَنْتَ وَلِيُّ مَا آثَرْتَنَا بِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ - أنت الوليّ الَّذي أعطيتنا من خلال ولايتك المعرفة لفضله - وَهَدَيْتَنَا له مِنْ سُنَّتِهِ - مما سننْتَ فيه من الواجبات والمستحبَّات - وَقَدْ تَوَلَّيْنَا بِتَوْفِيقِكَ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ عَلى تَقْصِيرٍ، وَأَدَّيْنَا فِيهِ قَلِيلاً مِنْ كَثِيـرٍ.
اللَّهُمَّ فَلَكَ الْحمدُ إقْـرَاراً بالإساءةِ – إنَّنا نقرُّ، يا ربِّ، أنَّنا قد أسأْنا الكثير في هذا الشَّهر - وَاعْتِرَافاً بِالإضَاعَةِ - وأنّنا أضعنا الكثير من الفرص في هذا الشَّهر - وَلَك مِنْ قُلُوبِنَا عَقْدُ النَّدَمِ – إنَّ قلوبنا مفتوحة لك يا ربَّنا، وأنت تنظر إليها، وفيها النَّدم العميق على ما ضيَّعناه من فرص، وما قصَّرنا فيه من عمل.
- وَمِنْ أَلْسِنَتِنَا صِدْقُ الاعْتِذَارِ - إنَّنا نطلق ألسنتنا بين يديك يا ربَّنا، لتجدَ أنَّنا نعتذر إليك مما فعلناه، مما يوجب العذر في القليل والكثير - فَأَجِرْنَا عَلَى مَا أَصَابَنَا فِيهِ مِنَ التَّفْرِيطِ، أَجْرَاً نَسْتَدْركُ بِهِ الْفَضْلَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ – أن تعطينا من خلال هذا النَّدم، من خلال هذا الاعتراف، وهذا الإقبال، وهذه الحسرة، وهذا الحزن على ما أسرفنا فيه على أنفسنا في الماضي، أن تعطينا من هذه الرّوح الَّتي تطَّلع عليها في نفوسنا، أجراً نستدركُ به الفضل المرغوب فيه - وَنَعْتَاضُ بِهِ – نحصل على العوض - مِنْ أَنْوَاعِ الذُّخْرِ الْمَحْرُوصِ عَلَيْهِ.
- وَأَوْجِبْ لَنَا عُذْرَكَ – اعذرْنا يا ربّ - عَلَى مَا قَصَّرْنَا فِيهِ مِنْ حَقِّكَ، وَابْلُغْ بِأَعْمَارِنَا مَا بَيْنَ أَيْديْنَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُقْبِلِ - أطلْ في أعمارنا يا ربّ، حتَّى نبلغ شهرَ رمضانَ المقبل، لنستدركَ ما فاتنا في شهر رمضان الحاليّ - فَإذَا بَلَّغْتَنَاهُ – وفَّقْتنا لشهر رمضان جديد - فَأَعِنَّا عَلَى تَنَاوُلِ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ – اجعلنا نعبدك عبادةً أنت أهلٌ لها - وَأَدِّنَا إلَى الْقِيَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَأجْرِ لنا مِنْ صَالِحِ العَمَلِ مَا يَكونُ دَرَكاً لِحَقِّكَ فِي الشَّهْرَيْنِ مِنْ شُهُورِ الدَّهْرِ".
فرصةٌ للتَّوبةِ
أمَّا السّيِّئات الَّتي قمنا بها، فكيف نطلب من ربِّنا في نهاية الشَّهر أن يغفرها؟
"اللَّهُمَّ وَمَا أَلْمَمْنَا بِهِ فِي شَهْرِنَا هَذَا مِنْ لَمَمٍ أَوْ إثْمٍ - واللَّمم هو الذّنوب الصَّغيرة - أَوْ وَاقَعْنَا فِيهِ مِنْ ذَنْبِ، وَاكْتَسَبْنَا فِيهِ مِنْ خَطِيئَةٍ، عَلَى تَعَمُّدٍ مِنَّا – في حال العمد - أَوْ عَلى نِسْيانٍ ظَلَمْنا فِيهِ أَنْفُسَنا، وانْتَهَكْنَا بِهِ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِنَا، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاسْتُرْنَا بِسِتْرِكَ - لا تفضحْنا على رؤوسِ الأشهاد - وَاعْفُ عَنَّا بِعَفْوِكَ - أعطنا العفوَ لما أسلفناه من الذّنوب - وَلاَ تَنْصِبْنَا فِيهِ لأعْيُنِ الشَّامِتِينَ - الَّذين يشمتون بنا لأنَّنا لم نحصل على رحمتك ومغفرتك وعفوك - وَلا تَبْسُطْ عَلَيْنَا فِيهِ أَلْسُنَ الطَّاغِينَ، وَاسْتَعْمِلْنَا بِمَا يَكُونُ حِطَّةً وَكَفَّارَةً لِمَا أَنْكَرْتَ مِنَّا فِيهِ، بِرَأْفَتِكَ الَّتِي لا تَنْفَدُ، وَفَضْلِكَ الَّذِي لا يَنْقُصُ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْبُرْ مُصِيبَتنَا بِشَهْرِنَا – لأنَّنا في مصابٍ بعد أن يذهبَ هذا الشَّهر عنا - وَبَارِكْ لنا فِي يَوْمِ عِيْدِنَا وَفِطْرِنَا، وَاجْعَلْهُ مِنْ خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْنَا؛ أَجْلَبِهِ لِعَفْوٍ - العيد الَّذي يجلب لنا عفو الله - وَأَمْحَاهُ لِذَنْبٍ - العيدُ الَّذي نحصلُ فيه على محوِ ذنوبِنا - وَاغْفِرْ لَنا ما خَفِيَ مِنْ ذُنُوبِنَا وَمَا عَلَنَ.
اللَّهُمَّ اسلَخْنَا بِانْسِلاَخِ هَذَا الشَّهْرِ مِنْ خَطَايَانَا – كيف تسلخ جلد الذَّبيحة منها؟ إنَّنا نطلب من الله أن يسلخنا من الخطايا، عندما ينسلخ هذا الشَّهر ويذهب - وَأَخْرِجْنَا بُخُرُوجِهِ مِنْ سَيِّئاتِنَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَسْعَدِ أَهْلِهِ بِهِ".
إنَّ هذا بعض ما تحدَّث به الإمام زين العابدين (ع). ويختم كلامه بالدّعاء للجميع، هذه الرّوح الإنسانيَّة الّتي تفكِّر في النّاس كما تفكّر في نفسها: "اللَّهُمَّ تَجَاوَزْ عَنْ آبائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَهْلِ دِيْنِنَا جَمِيعاً، مَنْ سَلَفَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَبَرَ، إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
اغتنامُ بقيَّةِ الشَّهر
أيُّها الأحبَّة، نحن لا نزال في شهر رمضان، ولا تزال هناك بقيَّة من هذا الشَّهر، يمكن لنا أن نحصل فيها على رضا الله، إذا لم نكن قد حصلنا عليه فيما مضى، ويمكن أن نحقِّق فيه لأنفسنا الدَّرجات العليا في القرب من الله.
أيُّها الأحبَّة، حاولوا أن تعيشوا هذه الأيَّام الثَّلاثة الَّتي ننتظرها في حالة طوارئ عباديَّة، وفي حالة طوارئ روحيَّة. اجلسوا لله صباحاً ومساءً، اجلسوا لله في أوَّل اللِّيلِ وفي السَّحرِ وعند الفجرِ، وادعوه بكلِّ ما أهمَّكم، فإنَّ الله قد فتحَ لنا في هذا الشَّهر أبواب الرّحمة: "أيُّها النّاسُ، إنَّ أبوابَ الجنانِ في هذا الشَّهر مفتَّحةٌ، فاسألوا ربَّكم أن لا يغلقَها عليكم، وأبوابَ النِّيرانِ مغلقةٌ، فاسألوا ربَّكم أن لا يفتحَها عليكم، والشَّياطينَ مغلولةٌ، فاسألوا ربَّكم أن لا يسلِّطَها عليكم".
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نجلس بين يدي الله ونحدِّثه، وهو العالم بكلِّ ما عملناه: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِمَا عَمِلْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا عَلِمْتَ". علينا أن نجلس لنستعرض كلَّ ذنوبنا، ولنقول لربِّنا، هذه ذنوبنا بين يديك، نستغفرك اللَّهمَّ منها ونتوب إليك، لنطلب من الله رحمته، فرحمته تفيض في هذا الشَّهر، لنطلبَ من الله المغفرة، لنحاول أن نسامح بعضنا بعضاً فيما أسأنا فيه، وأن نطلبَ من الله السَّماح من قبله فيما أخطأنا فيه، أن نعيش فيه كمؤمنين مسلمين متَّحدين متقاربين متعاونين.
أخرجوا بغض المؤمنين من نفوسكم، وافتحوا نفوسكم للمحبَّة والسَّلام والخير والعدالة، لأنَّنا نعرف أنَّ هذا الشَّهر فرصة قد لا تتكرَّر في حياتنا، ونحن نعرف أنَّ علينا في هذه العشر الأواخر، أن ندعو الله بهذا الدّعاء القصير:
"اللَّهُمَّ، وَهذِهِ أَيَّامُ شَهْرِ رَمَضانَ قَدْ انْقَضَتْ، وَلَيالِيهِ قَدْ تَصَرَّمَتْ، وَقَدْ صِرْتُ، يا إِلهِي، مِنْهُ إِلى ما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، وَأَحْصى لِعَدَدِهِ مِنَ الخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فأَسْأَلُكَ بما سَأَلَكَ بِهِ مَلائِكَتُكَ المُقَرَّبُونَ، وَأَنْبِياؤُكَ المُرْسَلُونَ، وَعِبادُكَ الصَّالِحُونَ... إِنْ كُنْتَ رَضِيْتَ عَنِّي فِي هذا الشَّهْرِ فَازْدَدْ عَنِّي رِضى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَضِيتَ عَنِّي، فَمَنْ الآنَ فَارْضَ عَنِّي، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، يا اللهُ يا أَحَدُ يا صَمَدُ، يا مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَدٌ".
"اللَّهُمَّ أَدِّ عَنَّا حَقَّ ما مَضى مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، وَاغْفِرْ لَنا تَقْصِيرَنا فِيْهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مَقْبُولاً، وَلا تُؤاخِذْنا بِإِسْرافِنا عَلى أَنْفُسِنا، وَاجْعَلْنا مِنَ المَرْحُومِينَ، وَلا تَجْعَلْنا مِنَ المَحْرُومِينَ" ، والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 15/11/1999م.