كان يرسم القوّة والثّورة، ولم تكن الكلمات عنده أحرفاً تنساب من شفتيه الطّاهرتين ومن أنامله الكريمة، إنما كانت أنشودةً يتغنّى بها ويحمل همّها، لذا حرّم على نفسه الرّاحة، وكان شعاره: "الرّاحة عليَّ حرام"...
كان السيّد(رض) في أسلوبه القرآنيّ، يؤكّد الدّفع بالّتي هي أحسن، وكان داعية حوار، ورفع شعار: "الحقيقة بنت الحوار"، وقد كان أباً للحركات الإسلاميّة جميعها، يهتمّ بأمورها، وخصوصاً في العراق... وقد كان سماحته أوّل من ألّف في الحوار، فكتب "الحوار في القرآن"، و"الحوار الإسلاميّ المسيحيّ"، كما نادى بوحدة المسلمين.
هكذا كان السيّد(رض) في منطلقاته الحواريّة، يخطو خطاه بوعيٍ، فكتب "خطوات على طريق الإسلام"، وهو الكتاب الّذي كان يتناقله شباب العراق وتتثقّف به طلائعه المؤمنة، وقد كانت كلّ خطوات سيّدنا الرّاحل على طريق الإسلام، منطلقاً "من وحي القرآن" الّذي شكّل موسوعته الفكريّة والفقهيّة والعمليّة، فقد كانت كلّ حياته إسلاماً، وكلّ عمره الشّريف من وحي القرآن.
فسلام عليه في عليائه، وإنّنا إن شاء الله على دربه سائرون.
كلمة سماحة العلامة السيِّد علي فضل الله:
ثم ألقى سماحة السيِّد علي فضل الله كلمةً تأبينيَّةً جاء فيها:
يعزّ، والله، عليَّ أن أقف بينكم، في المكان الّذي أحبّ، في البلد الحرام، في موسم الحجّ الّذي حرص على أن يتواجد فيه، في هذا الأرض الطّاهرة الّتي كان يستذكر فيها انطلاقة الإسلام، بكلِّ فكره وحركته وآفاقه وانفتاحه على قضايا الإنسان والحياة... فيه كان يستهدي رسول الله(ص) داعياً ومحاوراً ومجاهداً صلباً قويّاً في ذات الله، لا تأخذه فيه لومة لائم...
وفيه كان يتحسَّس معاناة أهل البيت(ع)، وكلّ الرّساليّين والدّاعين إلى الله، الّذين بذلوا الدّماء والنّفوس، وقدّموا كلّ حياتهم من أجل أن يستمرّ الإسلام حياً نقيّاً صافياً حاضراً في كلّ مواقع الأجيال، وعلى امتداد حركة الرّسالات...
وكم كان يستعيد في هذه الأرض آفاق جدّه الإمام الصَّادق(ع)، ومنطقه الحواريّ والإنسانيّ، حيث كان يحاور المختلفين، حتَّى الملاحدة والزّنادقة، حتّى قال أحدهم: ما وجدت شخصاً أكثر إنسانيّةً من جعفر بن محمد.
في هذا المكان، كان يؤكّد أهميّة هذه الفريضة الّتي لا تقف عند حدود العبادة والذّوبان في الله، بل تمتدُّ شعوراً بالمسؤوليَّة تجاه كلِّ قضايا المسلمين، وتأكيداً لوحدتهم، وتنميةً لعناصر القوَّة الكثيرة الموجودة عندهم..
يعزّ عليَّ أن أقف على منبره، لأتحدَّث عمَّن ملأ حياتي وحياتكم وكلَّ الحياة من حوله حبّاً وعاطفةً وعلماً وحيويَّة، وتجدّداً دائماً، وانفتاحاً لا تعرف عنده الآمال حدوداً.
فهو رضوان الله عليه، أدرك بعمق بصيرته، وثاقب فكره، أنّ الحياة ساحته الّتي زرع فيها وجوده، ضارباً في أعماقها كما الجذور تضربُ في الأعماق، لينتج شجرها أُكُلاً طيّباً كلّ حينٍ بإذن ربّها... وهكذا كان نتاجه وفيراً في الفقه والفكر والأدب والجهاد، وكذلك في العمل المؤسّساتي، وفي رعاية الأيتام والمستضعفين، ومواجهة كلّ ظلمٍ وطغيانٍ وانحراف...
لم يرضَ أن يخوض غمارَ الحياة كما يخوضها طالبو الرّاحة، أو أن يهدأ حيث يهدأ النّاس أو يرتاح حيث يرتاحون، فضَّل أن يكون تيّاراً معاكساً قويّاً، عندما كان يرى التيّارات المتنوّعة لا تنطق بالحقيقة، بل تعاديها، وفضَّل أن يكون ماءُ تيّاره مما يمكث في الأرض وما ينفع النَّاس، لا زبداً رغواً جُفاءً لا يعكس شيئاً من الحقيقة..
كان يعرف أنّ ذلك سيُتعبه، وأنَّ السّير مع التيّار أكثر راحةً وربحاً، ولكنّه كان يؤمن بأنّ الإنسان ينبغي أن يكون هو نفسه، لا أن يكون ظلاً وصدى لإنسانٍ آخر..
|