نموذج رساليّ رائد
النّقطة الأولى: هي أن تبقى هذه العلاقة الشّعوريّة بهذه الشّخصيّات الإسلاميّة الّتي استطاعت أن تعطي الكثير من الحركيَّة في التاريخ الإسلاميّ، بما يؤكِّد المفاهيم الإسلاميَّة ويؤصِّلها، لأنَّ مسألة الارتباط العاطفيّ بالشَّخصيّات ذات الأثر الإسلاميّ، تجعلنا نرتبط عاطفيّاً بالحالة الإسلاميّة نفسها الّتي يمثّلها هذا الشخص أو ذاك، ونحن بحاجةٍ إلى أن نعطي الجانب الفكريّ شيئاً من العاطفة، لأنّه هو الّذي يعمِّق هذا الفكر في الوجدان، ولأنَّ الإنسان تتعمّق فيه ـ عادةً ـ كلّ الأشياء الّتي يحبّها وكلّ الأشخاص الّذين يحبّهم، من جهة أنَّ منطقة الشّعور في الإنسان تترك تأثيرها فيه أكثر من منطقة العقل، ولذلك، فنحن نعمل على أن نزاوج بين العقل والإحساس، حتى يرقَّ العقل ويدخل إلى الوجدان، كما ينطلق الإحساس ليفتح القلب على الأفكار والأشخاص.
النقطة الثانية: هي أنَّ تاريخنا الإسلامي يفتقد الكثير من النّماذج الإسلاميّة النّسويّة الفاعلة الّتي تعطي حركتها معنى القيمة الإسلاميّة، فنحن نملك في تاريخنا الإسلاميّ الكثير من الرّجال الّذين جاهدوا في الدّعوة وفي الجهاد وفي العلم وفي كثيرٍ من مضامير الحياة الإنسانية، لأن المجتمع في مدى التّاريخ هو مجتمع الرجل، فالمرأة لم تكن تملك الكثير من السّاحات التي تعطي فيها عبقريّتها وفكرها وحركتها، بل كانت تعيش على هامش الرّجل.
لذلك، فإنّنا عندما نرى في تاريخنا الإسلامي بعض النّماذج النسويّة التي قامت بالكثير من الحركة في ساحة الصّراع على خطّ القيم الإسلاميّة، فإنّنا بحاجة إلى أن نستعيدها دائماً من أجل أن نعطي للمرأة المعاصرة التي دخلت السّاحة، والتي عاشت قضايا الصراع، والتي انفتحت على كثيرٍ من الأوضاع السلبيّة على المستوى الأخلاقي أو الاجتماعي، نماذج تقدّم صورة المرأة المجاهدة الشّجاعة الواعية المسلمة التي عاشت في الصّراع كأقسى ما يكون الصّراع، وبقيت على الخطّ المستقيم في درب الحقِّ ودرب العدل.
وزينب(ع) هي من هذه النَّماذج النّسويّة الّتي تمثّل هذه القيمة الإسلاميّة الرّساليّة الرّائدة في عالم النساء، ونحن نعرف من خلال القرآن، أنَّ الله يضرب المثل بالمرأة الصَّالحة للرّجال وللنّساء معاً، لأنَّ القيمة الروحيَّة أو الأخلاقيَّة عندما تتمثّل في المرأة ـ كما تتمثَّل في الرّجل ـ فهي القيمة الإنسانيّة المتحركة في خطِّ الإسلام، والَّتي يحتاجها الرّجال والنّساء معاً.
والنقطة الثّالثة: هي أنّ كربلاء الملحمة الإسلاميّة الحسينيّة الرّائدة، استطاعت أن تحتوي في حركيّتها على مستوى المأساة والمواجهة كلّ النّماذج البشريّة، فهناك الشيخ التسعيني إلى جانب الشابّ العشريني، وهناك الطّفل إلى جانب الشّخص الكبير، وهناك المرأة إلى جانب الرّجل، مما نلحظ فيه أنّك عندما تنفتح على المأساة، تراها متمثّلةً في كلّ هذه النماذج، وعندما تنفتح على الحركة، فإنك تجد الحركية متمثلة فيها أيضاً، ما يجعل من كربلاء نموذجاً حركياً صراعياً ثورياً فذّاً، قد لا تجد ـ في مدى التّاريخ ـ مثل هذا التنوّع في النماذج بين طفلٍ يجاهد، وشابّ يتحدّى، وشيخٍ يقف في خطّ المواجهة، وامرأةٍ تخطب وتبكي وتشجّع وتقوّي.
مأساة السّبي
فمن خلال زينب(ع)، نستطيع أن نعرف دور المرأة المسلمة في ساحة الصّراع التي امتزج فيها جانب المأساة إلى جانب الجهاد، وامتدّ الجهاد بعد كربلاء من خلالها، فاستطاعت أن تتحدّث مع الّذين صنعوا مأساة كربلاء بما لم تأتِ الفرصة بنظيرٍ له..
وهذا ما نلاحظه في عدّة لقطاتٍ في حركة السيّدة زينب(ع)، فنحن عندما نلتقيها في مسيرة السبي الذي لم تكن له سابقة في الإسلام، مما يمكن اعتباره الجريمة القدوة الّتي اقتدى بها الطّغاة الآخرون.. فالمعروف في الحروب الّتي يخوضها المسلمون، أنَّ السّبي إنما هو شأن غير المسلمات وغير المسلمين، إذ لم يعهد في التَّشريع الإسلاميّ أنَّ مسلماً يسبي مسلمةً في حالة حرب، فنحن نعرف أنَّ الإمام عليّاً(ع) عندما انتصر في معركة الجمل في البصرة، أرسل أمّ المؤمنين عائشة مكرّمةً في غاية التّكريم مع نساءٍ يحطنها ويحفظن مكانتها، بالرّغم من كلّ ما قامت به ضدّه، ولم يحدث في أية مرحلة تاريخيّة قبل كربلاء أنَّ النّساء المسلمات يسبين، وأنّ الأطفال والرّجال من آل بيت النبوّة يسبون.
من هنا، يمكن القول إنَّ مسألة السّبي التي بدأها يزيد وابن زياد، كانت الجريمة الّتي لم تسبقها جريمة مماثلة في الواقع الإسلامي، وهذه من المآخذ الكبرى التي تسجَّل على حكم بني أميّة في بدايته.
وقد كانت زينب(ع) سبيّةً مع كلّ نساء بني هاشم وبعض نساء الأنصار، وكان الإمام عليّ بن الحسين(ع) أسيراً وسبيّاً، وكانوا يُعرَضون على النّاس، بحيث عندما يذهبون إلى أيّ بلد، فإنّ الناس كانوا يخرجون لمشاهدتهم، وإذا أضفنا إلى ذلك الوحشيَّة الّتي تمثّلت في وضع رؤوس الشّهداء، وفي مقدّمها رأس الحسين(ع)، فيما بين النّسوة والأطفال، عرفنا كم هي هذه الوحشيّة التي تمثّلت في مأساة كربلاء بحلقتها الثّانية "السّبي"، أكثر مما تمثّلت في طبيعة المأساة ذاتها.
الموقف الجهاديّ في الكوفة
وحينما وصلت زينب(ع) الكوفة في مسيرتها التي كانت تختزن في داخلها كلّ آلامها، لأنها مسؤولة عن رعاية كلّ هؤلاء الأطفال والنّسوة حتى وهي الأسيرة والسبيّة، كانت تتحرك بعقلية قياديّة لا تملك أن تبكي معها أو أن تصرخ، وربما كانت تغتصب الابتسامة اغتصاباً عندما تحتاج إلى أن تحنو على طفلٍ أو تكفكف دموع امرأة.
وصلت(ع) إلى الكوفة، وكانت أوّل تجربة تحدّ عاشتها في مجلس ابن زياد، فلم تحاول أن تبرز، بل كما ينقل كتّاب السيرة الحسينيّة، كانت تتخفّى، ولمحها ابن زياد فقال: من هذه؟ فقيل له إنها زينب ابنة عليّ، وكان عبيد الله يعيش عقدة النّقص في نسبه الذي اختلف النّاس فيه، وفي تربية لا تمثّل أيّة قيمة، فعندما وجد نفسه منتصراً على أقدس شخصيّة في الإسلام آنذاك، وهو الحسين بن عليّ بن فاطمة بنت رسول الله(ص)، الذي كان يحبّه رسول الله ويحتضنه مع أخيه، فيقول إنّهما "سيّدا شباب أهل الجنة"[1]، أراد أن يثأر لهذه الوضاعة ولعقدة النقص في داخله، ولم يكن الحسين أمامه، بل كانت زينب التي خلفت الحسين في خطّ الحركة الجهاديّة، فأخذ يتفوّه بكلمات الحقد والوحشيّة، حيث قال: "الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم".
فكيف ردَّت زينب التي كانت الإنسان المسلم الَّذي يتحرَّك حتّى مع عدوّه على نهج الله، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[2]؟ فلقد وقفت بكلّ شموخ هذا النّسب الّذي يختزن الرّسالة في داخله، وهذا الحاضر الّذي يجمع الماضي الرّساليّ في كلّ وجدانه لتصدع بالحقّ: "الحمد لله الّذي أكرمنا بنبيّه محمّد(ص)"، وكانت تتحدَّث عن كرامة النّسب في معنى الرّسالة، "وطهّرنا من الرّجس تطهيراً"، وهي تشير ضمناً إلى القذارة الّتي يعيش فيها ابن زياد، وتقارنها بالطهارة التي عليها أهل البيت(ع)، فكأنها تقول إنّ هناك إنساناً قذراً يتكلّم بقذارته أمام إنسانٍ طاهرٍ تفيض منه كلّ الطّهارة الّتي فاضت من الله سبحانه وتعالى، ولم تتحرّك من خلال حالة خاصّة في البشريّة.
ثم قالت: "وإنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله"[3]، إنها استطاعت أن تواجهه بأقسى الكلام، ولكن بكلِّ تهذيب، وكلّ معنى يفهمه هو ومن حوله، فكأنها تقول له أنت الفاسق وأنت الكاذب، ونحن الَّذين طهَّرنا الله من الرّجس، فلا يمكن أن يقترب منّا الكذب أو الفسق!
فقال ـ ولم يشفه ما قال من حقد ـ "كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟"، وكأنّه ينسب المسألة إلى الله، وكأنّه وكيل الله في قتل هذه الصَّفوة الطيّبة الَّتي لم يعبد الله تعالى أحد كما عبدوه، ولم يخلص له أحد كما أخلصوا له.
فقالت: "ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إل مضاجعهم"، إنما هي آجالهم التي يكتبها الله لعباده، لا من خلال عقوبة أو غضب، بل هي سنّة الله في الحياة أن يموت الإنسان بأجله من خلال السّبب الّذي تقتضيه ظروف حياته، "وسيجمع الله بينك وبينهم، فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ"، من الّذي يستطيع أن ينطق بالحقّ أمام الله، ومن يعيش الخرس والهزيمة أمام الله؟ فمن كان الحقّ معه، فسوف ينفتح لسانه بالحقّ أمام الله، ومن لم يكن الحقّ معه، فسوف يتلجلج، "ثكلتك أمّك يابن مرجانة"، وثارت أعصاب الرّجل، وأراد أن يقتلها، لولا أنّ بعض معاونيه نصحوه بغير ذلك.
ثم قال لها: "لقد شفى الله قلبي من طاغيتك"، وهنا بدأ يشتم وينفِّس عن حقده، "والعصاة المردة من أهل بيتك"، فرقَّت زينب(ع) وبكت، وللعاطفة هنا قداستها، فقالت: "لعمري، لقد قتلت كهلي"، فلقد شفيت غيظك حقّاً وحقيقةً، "وقطعت فرعي"، قتلت أولادي، "واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت"[4].
هذا الموقف الزّينبي في مجلس ابن زياد، يعبّر عن هذه الرّوح الكبيرة التي لا تخاف، وتعرف كيف تطلق الكلمة، وكيف تحرّك العاطفة في موقع العاطفة، وكيف تردّ الكلام بكلامٍ أقسى منه، ولكنّه أكثر تهذيباً وإيلاماً في ذلك الموقف الصّعب على قلبها، فلم تفقد كبرياءها ولا وعيها ولا صبرها، وهذا نموذجٌ للمرأة المسلمة الّتي تقف أمام الطاغية فلا تسقط أمام طغيانه، ولكنّها تبقى في موقع التحدّي وردّ التحدّي. وتنطلق زينب(ع) بعد ذلك إلى أهل الكوفة، لتؤنّبهم وتوبّخهم وتعرّفهم حجم الجريمة الّتي قاموا بها، سواء الّذين قاتلوا الحسين أو الّذين خذلوه. ويروي أصحاب السّيرة أنَّ القوم كانوا يبكون، وكانت زينب(ع) لا تحترم بكاءهم، لأنّها اعتبرته بكاءً لا يحمل طهر الحزن في الأعمال، ولكنّه يحمل معنى هذا التّأنيب السّريع للنّفس الذي لا يسكن طويلاً في داخلها.
ذروة الموقف في الشّام
وقمّة الموقف الزّينبيّ كان في الشّام، عندما دخلت مجلس يزيد وسمعته يتمثّل بأبيات ابن الزّبعرى:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهـــلّـــوا واســتهلّـــوا فـرحـاً ثمّ قالـــوا: يا يزيــد لا تُشـــلّ
وسمعته يتحدَّث حديث الشّامتين، فوقفت لتردّ عليه في موقف التحدّي، وهنا تبرز زينب القرآنيّة التي يعيش القرآن في وعيها لتحركه في الواقع، ومن هذا نتعلّم من زينب(ع) أننا إذا انطلقنا في أيّ موقف من المواقف، سواء كان موقف التحدّي أو الدّعوة أو الجهاد، فعلينا أن ننطق بكلمات الله، لتكون كلماته هي الأصل وهي الفصل، لأنها الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فمهما تطوّر الزّمن وتنوّعت الثّقافات، يبقى القرآن ثقافتنا، ويبقى أساس مفاهيمنا، وهذا درسٌ نتعلّمه من زينب(ع) الّتي استنطقت القرآن في كلّ ما أرادت أن تحدِّث به يزيد.
نقد ظاهرة السّبي
ولننطلق مع الفصل الأوَّل من خطبتها الّذي انتقدت فيه ما قام به من سبيٍ للنّساء: "الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين.. صدق الله إذ يقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} ـ فلقد أطلقت الآية في وجهه، لتقول له إنّك أنت من مارس السّوء وكذّب بآيات الله في الواقع إن لم تكن كذَّبت بها في الوجدان، {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون}[5]، لأنَّ الاستهزاء بآيات الله يتحرّك في خطّين: هناك خطّ تستهزئ فيه بالآية مفهوماً، وهناك خطّ تستهزئ فيه بالآية واقعاً، بأن تقف أمام الذي تجسّده الآية في القيمة التي تتحرّك في حياة الّذين يمثلون رموز القيمة، لتعمل عمل المستهزئ ـ أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السّماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلانَ مسروراً، حين رأيت الدّنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا. مهلاً مهلاً ـ
إنها تقول له: إنّك تتصوَّر أنّ المنتصر بالوسائل الماديّة هو المنتصر وهو الكريم عند الله، وهو الذي يرضى الله عنه، وأنّ الذي لا يسجِّل الانتصار من خلال طبيعة الظروف الموضوعيّة، به هوان عند الله، إنّ هذا التصوّر سقيم، لأنّ هناك آيةً تتحدّث عن هؤلاء الذين يمدّ الله لهم الحبل ليبتليهم ويملي لهم من أجل أن يخرجوا كلّ ما في أنفسهم، ليقيم عليهم الحجّة من خلال أنّه أعطاهم كلّ شيء ليستقيموا، ولكنّهم استخدموا ذلك في الانحراف ـ أنسيت قول الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً}، نعطيهم كلّ الفرصة، فلا يستفيدون منها، فيزدادون إثماً، فيسقطون تحت التجربة، {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}[6]، فكأنها تقول: يا يزيد، ادرس هذه الآية في تجربتك الوحشيّة التي قمت بها، فستحسب أنَّ الله أملى لك من أجل أن يختبر إسلامك ـ الّذي لم تؤمن به ـ وإنسانيّتك، وقد سقطت كما سقط الّذين ازدادوا إثماً ولهم عذابٌ أليم.
الطعن في "عدالة" يزيد
ثم تقول له: إنّك تقف في موقع المسؤوليّة عن المسلمين جميعاً، هكذا تزعم لنفسك، أو هكذا يزعم بعض الناس لك، ومن كان مسؤولاً عن المسلمين، فعليه أن ينظر إليهم بعين السواسية، بأن ينظر إلى رجال المسلمين كالرجال القريبين إليه، وإلى نساء المسلمين كالنساء القريبات منه، ويغار على نساء المسلمين كما يغار على نسائه، ويحفظ نساء المسلمين كما يحفظ نساءه، هكذا هو عدل الإسلام من خلال شخصيّة المسلم في مسؤوليّته، وشخصيّة المسؤول الأوّل عن الواقع الإسلاميّ كلّه.
قالت له: "أمن العدل يا بن الطلقاء ـ يا بن الّذين وقفوا أمام جدّي رسول الله(ص) وقال لهم: ما ترون أنّي فاعل بكم؟! قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم"، وانطلقت رسوليَّته ورسالته وروحه الّتي تريد أن تمنح هؤلاء النّاس عفو الرّسالة وعفو الإنسانيّة ونموذج الخلق العظيم، قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطّلقاء"، لقد كانت تجربتكم قاسية، وها أنا أعطيكم تجربةً جديدةً لتجرّبوا كيف تؤمنون بالله بعد أن كفرتم به، وكيف تطيعون الله بعد أن عصيتموه.
إنها تقول له: "أمن العدل ـ والعدل صفة الحاكم الذي يتولّى مسؤوليّة المسلمين ـ يابن الطّلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، يحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهُنّ أهل المناقل، ويبرزن لأهل المناهل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والغائب والشّهيد، والشّريف والوضيع، والدّنيء والرّفيع، ليس معهنّ من رجالهن وليّ، ولا من حماتهنّ حميم، عتوّاً منك على الله، وجحوداً لرسول الله، ودفعاً لما جاء به من عند الله، ولا غرو منك، ولا عجب من فعلك، وأنَّى يُرتجَى مراقبة من لفظ فوه أكباد الشّهداء!؟ ـ لتذكّره بجدّته "هند" التي علكت كبد حمزة ثم لفظته.
ونبت لحمه بدماء السّعداء... ـ لأنَّ تاريخه كان تاريخ النّسب الذي خاض الحروب ضدّ رسول الله(ص) وقتل الكثير من الشّهداء ـفلا يستبطئ في بغضنا أهلَ البيت من نظر إلينا شنفاً وشنآناً وإحناً وضغناً، يظهر كفره برسوله، ويفضح ذلك بلسانه، وهو يقول فرحاً: لأهلّوا واستهلّوا فرحاً.. ولقالوا يا يزيد لا تُشلّ ـ إنها تؤنّبه وتوبّخه، وقد استطاعت زينب(ع) أن تعطي الجمهور الّذي كان يستمع إليها كلّ تاريخه الذي كانت له الهجمات الكبيرة على الإسلام والمسلمين.
ثم تتحدَّث عن الجانب العاطفيّ، فيما كان يزيد يضع رأس الحسين(ع) بين يديه، وينكت شفتيه بقضيبٍ كان بيده ـ منتحياً على ثنايا أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنَّة، ينكتها بمخصرته، قد التمع السّرور بوجهه، لعمري لقد نكأت القرحة واستأصلت الشافة ـ وهذا أسلوب منطلق من العاطفة ـ بإراقتك دماء سيِّد شباب أهل الجنّة، وابن يعسوب العرب، وشمس آل عبد المطلب، وهتفت بأشياخك... ـ زعمت أنّك تناديهم ـ ثم صرخت بندائك، ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك، ووشيكاً تشهدهم ويشهدوك، ولتودّ يمينك كما زعمت شلّت بك إلى مرفقها...
التَّأثير في الجمهور
ثم انطلقت زينب(ع) في تأثيرها في الجمهور الّذي كان يستمع إليها بعد أن خاطبت يزيد، وكأنها نسيت كلّ الآلام وكلّ الواقع وانفتحت على الله ـ اللّهمّ خُذ بحقّنا، وانتقم من ظالمنا، وأحللْ غضبك بمن سفك دماءنا، ونقض ذمامنا، وقتل حُماتنا، وهتك عنّا سدولنا، وفعلت فعلتك الّتي فعلت ـ وكأنَّ زينب(ع) أرادت أن تترك تأثيرها النّفسيّ من خلال قولها له إنّك قد تكون القويّ ونحن الضّعفاء، فلا نستطيع أن نأخذ حقَّنا منك، ولكنَّ الله سوف يأخذ لنا بحقِّنا، وسوف ينتقم لنا منك لأنّك ظلمتنا، وسوف يحلّ غضبه بك، لأنه يغضب لدماء الأزكياء، ثمّ تقول له ـ وما فريت إلا جلدك، وما جززت إلا لحمك ـ لأنَّ جلدك هو الّذي سوف يفرى من خلال ما فريت، ولأنّ لحمك هو الّذي يحزّ من خلال ما حززت، وربما كانت تنطلق من مسألة القرابة، المدّعاة على الأقلّ، ولكنّني أستبعد ذلك، لأنها لا تريد أن توحي إليه بأيّة قرابة بعد أن طعن هذه القرابة في الأعماق.
ـ وسترد على رسول الله(ص) بما تحمَّلت من سفك دماء ذريّته، وانتهكت من حرمته، وسفكت من دماء عترته ولُحمته، حيث يجمع به شملهم، ويلمّ به شعثهم... ويأخذ لهم بحقّهم من أعدائهم... ـ ثم جاء القرآن على لسانها ـ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[7]، لتقول له: إنَّ هؤلاء الّذين قتلتهم انطلقوا في سبيل الله، بينما انطلقت في سبيل الشَّيطان، وكلّ من ينطلق في سبيل الله، فهو يحيا عند ربّه برضوانه وبكرامته وبكلّ نعيمه، وهذا هو رزقه لكلّ الشّهداء ـ وحسبك بالله حاكماً ـ فهو الحكم العدل ـ وبمحمَّد(ص) خصيماً ـ فكأنها تقول له: سيقف رسول الله وتقف أنت ومن معك يوم القيامة، وسيكون الله هو الحاكم، ورسول الله(ص) هو الخصم، وهو عندما يخاصم لا يخاصم إلا بالحقِّ وبالعدل، ويعرف أنَّ محكمة يوم القيامة هي محكمة العدل، لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[8]، وتمضي هادرةً ـ وبجبرئيل ظهيراً ـ ناصراً ـ وسيعلم من بوَّأك ومكَّنك من رقاب المسلمين ـ وهو يعرف أنّك لست الكفؤ، ويعرف أنّك المنحرف عن خطّ الله ورسوله ـ بئس للظّالمين بدلاً وأنّكم شرٌّ مكاناً وأضلّ سبيلاً[9].
استصغار ابن زياد وتحقيره
ثم برزت بكبريائها وبعظمتها الّتي تستمدّها من إيمانها بربّها، ومن رسالتها ومن عزّتها التي تعيش فيها ـ ولئن جرّت عليَّ الدّواهي مخاطبتك ـ فمن أنت في حقارتك لأخاطبك، لكن الظّروف قد تجبر الإنسان على أن يخاطب من لا يستحقّ الخطاب ـ إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ـ عندما تقرّعني، فإني أعتبر ذلك جريمة كبيرة ـ وأستكبر توبيخك ـ ولكن هذه هي الظّروف والمأساة التي تدخل الإنسان في غير المداخل الّتي من شأنه أن يدخلها ـ ولكنّ العيون عبرى، والصّدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشّيطان الطّلقاء! ـ وكأنها أرادت أن تثقِّف الجمهور الَّذي يستمع إليها، فمن لم يستحضر كربلاء في وجدانه، ولم يتعرّف إلى طبيعتها، وربما كان من الّذين انطلت عليهم الدّعاية اليزيديّة بأنّ هؤلاء قوم من الترك أو الدّيلم، فأرادت أن تقول له: نحن حزب الله وأنتم حزب الشّيطان ـ فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطّواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمّهات الفراعل، ولئن اتّخذتنا مغنماً ـ اعتبرتنا غنيمةً لك ـ لتجدنّنا وشيكاً مغرماً ـ تواجه المسؤوليَّة أمام الله ـ حين لا تجد إلا ما قدَّمت يداك، وما ربّك بظلاّمٍ للعبيد، فإلى الله المشتكى وعليه المعوَّل ـ.
ثم بدأت تتحدّاه ـ فكِد كيدك ـ ماذا بوسعك أن تعمل فاعمل، فمعك الجيوش والأموال والسّلطة والخطط ـواسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ـ فإنّ ذكرنا ينطلق ما انطلق الأذان ـ .
ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدناـ فنحن الذين نزل الوحي في بيوتنا، لا نقولها فخراً، بل لأنّنا التزمنا الوحي، ولأنّ خلفيّاتك الجاهليّة تعمل على أن تميت الوحي، ولكنّ الله يحفظ وحيه كما يحفظ كتابه ـ ولا ترحض عنك عارها ـ إذ يبقى العار يلاحقك في مدى التّاريخ، وستعيش لعنات التاريخ ـ وهل رأيك إلا فند! وأيّامك إلا عدد! وجمعك إلا بدد! يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظّالمين"[10].
عظمة زينب
هذه هي زينب(ع) في كبريائها الإسلامي، وهذه هي زينب في عظمتها الروحيَّة الإيمانيّة، وهذه هي زينب في ثقافتها القرآنيّة، وهذه هي زينب في بلاغتها الأدبيّة، وهذه هي زينب في مواقفها البطوليّة.
ففي ذكرى السيِّدة زينب(ع)، نريد أن تعيش المرأة في حياتنا بعدما أُريد لها أن تكون على هامش الحياة، وأن تعيش الضّعف في مواقفها ومواقعها وعقلها وروحها، وأن تبتعد عن المسؤوليّة وعن ساحة الصّراع.. إنّ زينب تقول للمرأة المسلمة، تعالي إليّ، فقد انطلقت من خلال أمّي التي كانت القمّة في الموقف الحقّ، ومن خلال جدّتي التي كانت المرأة التي أعطت رسول الله كلّها؛ عقلها وروحها وعاطفتها ومالها وجاهها، وكلّ شيء، حتى بقيت فقيرة معه.
أنا زينب الّتي أحمل تاريخ حركة المرأة في ساحة الصّراع، من أجل الحقّ في كلّ تاريخي.. أنا زينب الّتي أريد أن تنطلق مسيرة المرأة المسلمة من أجل أن تقف مع الحقّ في أصعب المواقف، وأن تتمرَّد على كلّ قساوة المأساة في مواقع الصّبر، وأن تبقى مع الإسلام كلّه فكراً وكلمةً وحركةً وموقفاً.. فهذا هو نداء زينب للمرأة المسلمة، وعلى المرأة المسلمة أن تستجيب لهذا النّداء، بأن لا تعتبر أنَّ إسلامها يمثّل تخلّفها، وأنّه يعزلها عن الحياة، وأنّه يجعلها تعيش في زاويةٍ مغلقة.
فلقد كانت زينب(ع) في السّاحة الواسعة من الجهاد والدّماء تسيل أنهاراً من حولها.. وبقيت تفكّر بهدف حركة هذه الدّماء، مع أنّ الآلام تعصف بكلّ روحها وقلبها، ولكنّها كانت تعيش آلام الرّسالة وآلام الإسلام.. فلنأخذ من زينب(ع) هذا الألم الرّساليّ الذي يمكن له أن يستوعب الألم الإنساني.. تلك هي زينب، فلا تضعوها في مواقع الدّموع فحسب، بل ضعوها في مواقع الجهاد والصّراع بين الحقّ والباطل، فنحن نريد للمرأة المسلمة أن تكون زينب، ولو بنسبة العشرة في المئة أو العشرين في المئة.
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبُّه بالكرام فلاحُ
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 45، ص 6.
[2] [الإسراء: 53].
[3] الإرشاد، الشّيخ المفيد، ج 2، ص 115.
[4] بحار الأنوار، ج 45، ص 116.
[5] [الروم: 10].
[6] [آل عمران: 178]. بحار الأنوار، ج 45، ص 134.
[7] [آل عمران: 169].
[8] [غافر: 17].
[9] بحار الأنوار، ج 45، ص 185، 159.
[10] أعيان الشيعة، السيد محمد الأمين، ج 1، ص 616.