ليلة القدر: ليلة السلام والأسرار الإلهية

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[سورة القدر].
اللَّيلةُ المباركة
هذه اللَّيلة هي اللَّيلة المباركة، كما عبَّر الله عنها: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدّخان: 3-4].
وقد تنوَّعت الآراء في معنى كلمة القدر، فهناك من قال إنَّ القدر هو الشَّرف والمنزلة، وقال بعضهم - ولعلَّ هذا هو الأقرب - إنَّ القدر هو التَّقدير، لأنَّها اللَّيلة الَّتي أرادت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تجعلها اللَّيلة الَّتي ينظّم الله فيها للنَّاس أوضاعهم في أرزاقهم، وفي كلّ أمورهم الخاصَّة والعامَّة، وفي كلّ حركتهم في عالم التحدّيات، وفي عالم الصّراع، وفي عالم الإنتاج، وفي عالم الإبداع، وفي عالم الأعمار. فالله سبحانه وتعالى هو المدبّر لهذا الكون، وهو القادر على أن يقول للشَّيء كن فيكون، ولكنَّ حكمته اقتضت أن يجعل إرادته في نطاق الزَّمن، ولذلك خلق الأرض والسَّماء في ستَّة أيَّام، وكان يمكن أن يخلقها في لحظة.
أمَّا هذه اللَّيلة، فإنَّها اللَّيلة الَّتي أودع الله فيها الكثير من الأسرار الَّتي تملأ كلَّ ساعاتها، فكما يضع الله الأسرار في المكان؛ فهناك مكان يعظّمه الله، كما في الكعبة، وفي الزَّمان، كما في بعض اللَّيالي والأيَّام، كما في يوم عرفة، كذلك أودع الله سبحانه وتعالى في هذه اللَّيلة أسراراً روحيَّة تنظيميَّة سخيَّة عظيمة تستوعب الكون كلَّه، وتشرف على كلّ قضايا الإنسان في كلّ حياته، بحيث تحدّد له أجله ورزقه، وصحَّته وعافيته ومرضه، وتحدّد له موقعه ونصره وهزيمته، فهي اللَّيلة الَّتي تدخل في عمق الوجود الإنسانيّ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى عندما خلق الكون وخلق الإنسان، أودع فيه عنصر السَّببيَّة {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطّلاق: 3]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: 49].
ولذلك، فإنَّ الله سبحانه وتعالى جعل هذه اللَّيلة اليتيمة في السَّنة خيراً من ألف سنةٍ ليس فيها ليلة القدر، وأراد أن يبيّن لنا أنَّ حجم الزَّمن لا يقاس بطبيعة ساعاته، ولكن بطبيعة ما يختزن من أسرار، وما يتحرَّك فيه من أعمال ومواقف وطاعات. فالمسألة، إذاً، هي أنَّ الإنسان يستطيع أن يجعل يومه شهراً، ويجعل شهره سنة، لأنَّ المسألة هي في النَّوعيَّة وليست في الكميَّة.
الملائكةُ في ليلةِ القدر
ونلاحظ أيضاً أنَّنا في هذه اللَّيلة، نعيش في الأجواء الَّتي يتحرَّك فيها الملائكة الَّذين حدَّد الله لكلّ واحد منهم وظيفةً ومهمَّة، فالملائكة موظَّفون عند الله، ولكلّ منهم وظيفة، وهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء: 26-27]. ولكن كيف يدير هؤلاء الملائكة وظائفهم ويقومون بمسؤوليَّاتهم، فهذا أمر لم يعرّفنا الله إيّاه، بل هو من أسرار الله ومن خفايا غيبه، لأنَّنا لا نرى الملائكة، ولا نشعر بحركتهم، ولكنَّهم يعيشون في أجوائنا، عندما نجتمع لنعبد الله، ولنصلّي له، ولنبتهل إليه، ونخضع إليه، ونخشع بين يديه. وقد حدَّث الله عن الملائكة أنَّهم يستغفرون للَّذين آمنوا، أي أنَّ الملائكة يطلّون على البشريَّة وما يقومون به من أعمال، وخصوصاً الملكان، ليستغفروا للَّذين تابوا والَّذين آمنوا.
وفي الآية القرآنيَّة دلالةٌ على أنَّ الملائكة هم أصدقاء البشر المؤمنين {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ – أصدقاؤكم - فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ – ففي الدّنيا قد يشتهي الإنسان شيئاً ولا يستطيع الحصول عليه، أمَّا في الآخرة، فإنَّ الإنسان يحصل على كلّ ما يشتهيه - وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}[فصّلت: 30-32].
وهكذا، نجد أنَّ الملائكة في الجنَّة يقومون بزيارات {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرّعد: 23-24].
وفي هذه اللَّيلة، يقول الله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}، البعض يقول إنّ الرّوح هو جبرائيل، وبعضهم يقول هو خلق عظيم من الملائكة، {بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} يتَّصل بالحياة العامّة والخاصَّة للنَّاس.
ليلةُ السَّلام
ثمَّ إنَّ الله جعل هذه اللَّيلة ليلة السَّلام الَّتي يفرّغ فيها الإنسان قلبه من كلّ حقد وعداوة وبغضاء، وهذا هو شعار الإسلام. وتحيَّة الإسلام الطَّبيعيَّة هي السَّلام، فإذا التقيت شخصاً، فحيِّهِ بتحيَّة الإسلام: السَّلام عليك. ولذلك، نحن دائماً نقول لإخواننا وأخواتنا ممن يحيّون بعضهم بعضاً بعبارات مثل: صباح الخير، ومساء الخير، وبعضهم يأتي بكلمة فرنسيّة أو إنكليزيّة، نقول لهم إنَّ علينا أن نتدرَّب للدّخول إلى الجنّة، وتحيّة الجنّة هي السّلام: {وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَامٌ}[يونس: 10].
فلذلك، هذه اللَّيلة هي ليلة السَّلام الَّتي نجلس فيها بين يدي الله، لنفتح قلوبنا له، ولنفرغها من كلّ ما يسخطه ويغضبه. والله سبحانه وتعالى حدَّثنا عن أنَّ الإنسان ينتفع بالقلب الطَّاهر السَّليم {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88-89]، سليم من الشّرك والحقد والعداوة والبغضاء.
وننقل عن أحد علمائنا الكبار، وهو السيّد ابن طاووس، صاحب كتاب الدّعاء "الإقبال" الَّذي تنقل عنه كلّ كتب الأدعية، يقول: في ليلة الثَّالث والعشرين الّتي يرجّح أنَّها ليلة القدر، فكَّرت لمن أدعو؟ من هو أحقّ النَّاس بالدّعاء؟ فكَّرت أوّلاً في أبي وأمّي، فلاحظت أنَّ أبي مؤمن ومسلم، وأمّي مسلمة ومؤمنة، وهي تستحقّ الدّعاء، ولكنَّها ليست أحقّ النَّاس بالدّعاء، لأنَّها تتعلَّق برحمة الله سبحانه وتعالى في طاعتها له، ثمَّ فكَّرت بعدها في المؤمنين والمؤمنات، ووصلت إلى النّتيجة نفسها، ثمّ وصلت بعدها إلى أنَّ أحقَّ النَّاس بالدّعاء هم الكفَّار، لأنَّ الكافر لا يتعلَّق بالله بشيء، فهو ليس له علاقة به، وهو ينكر وجوده، أو يشرك به، فقضيت ليلتي أدعو الله أن يهدي الكفَّار، وأن يدلّهم على الإيمان، حتَّى يكونوا تحت رحمة الله سبحانه وتعالى.
وهذا يدلّ على الإنسانيَّة من هذا العالم الكبير، وليس كما يفعل البعض منّا، ممّن يوزّعون النّاس بين الجنّة والنّار، مع أنَّ الجنَّة والنّار ليستا في يد أحد، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}[النّساء: 48]. فالله يغفر ذنب العبد إذا لم يكن مشركاً، وقد يكون مسيحيّاً أو يهوديّاً، المهمّ أن يكون موحّداً لله، وقد يكون مستحقّاً للعذاب، ولكن قد تناله رحمة الله سبحانه، وهذا يعبّر عن روح الإنسانيَّة عند الإنسان المؤمن، بحيث يفكّر في كلّ النَّاس، وهذا ما تعلَّمناه من أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الأشتر، عندما قال له عن النّاس: "فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ؛ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ"، فكما أنَّ عليك أن ترعى الإنسان الَّذي تلتقي معه في الدّين، عليك أن ترعى الإنسان الّذي تلتقي معه في الإنسانيَّة، فتكون إنسانيَّتك في إنسانيَّته.
ليلةُ قدرٍ واحدة
في نهاية المطاف، من المتعارف في الكتب أنّهم يضعون عنوان "ليالي القدر"، ولكن ليس هناك ليالي القدر، بل هي ليلة واحدة، وإنّما يسمّونها ليالي، لأنَّه ورد أنّها قد تكون ليلة التّاسع عشر، أو ليلة الواحد والعشرين، أو ليلة الثّالث والعشرين، فهي ليلة واحدة، ولكنَّ الله أخفاها حتَّى يهتمَّ النَّاس بها، ولأنّه يستحبّ للإنسان أن يحيي اللَّيالي العشر الأواخر من شهر رمضان بالعبادة.
الابتعادُ عن التَّعصّب
وطبعاً، نحن نعرف أنَّ الخلاف الَّذي حدث في أوَّل الشَّهر، جعل بعض الإخوان يرون أنَّ ليلة القدر في هذه اللَّيلة، والبعض يراها في ليلة أخرى، وكلّه أمر جيّد، فسواء كانت ليلة القدر على هذا الرأي أو على ذاك الرأي، فنحن ماذا نفعل في ليلة القدر؟ نحن ندعو الله، نقرأ القرآن، نقرأ دعاء الجوشن وغيره من الأدعية، نفعل الأمور ذاتها، فلماذا نتعصّب؟ والله إنمّا أكرمنا بليلة القدر حتَّى نبتعد عن العصبيَّة، وليس أن يتعصَّب كلٌّ منّا لرأيه. وإن شاء الله، الكلّ معذورون في رجوع كلّ منهم إلى مرجعه، والمجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، فينبغي الابتعاد عن هذه العقليَّة المتخلّفة غير الإيمانيَّة في قصَّة العصبيَّة في المرجعيَّة، والعصبيَّة الحزبيَّة والقبليَّة، لأنَّ العصبيَّة في النَّار.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لم يبق لنا من هذا الشَّهر إلَّا بضع ليال، فعلينا أن نخلص فيها لله، وندعو دائماً: "إِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي فِي هذا الشَّهْرِ، فَازْدَدْ عَنِّي رِضا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَضِيتَ عَنِّي، فَمِنَ الآنِ فَارْضَ عَنِّي، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ... اللَّهُمَّ أَدِّ عَنّا حَقَّ ما مَضى مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، وَاغْفِرْ لَنا تَقْصِيرَنا فِيْهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مَقْبُولاً، وَلا تُؤاخِذْنا بِإِسْرافِنا عَلى أَنْفُسِنا، وَاجْعَلْنا مِنَ المَرْحُومِينَ، وَلا تَجْعَلْنا مِنَ المَحْرُومِينَ".
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* موعظة رمضانيَّة لسماحته، بتاريخ: 11 أيلول 2009م / الموافق 22 رمضان 1430هـ.
 
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[سورة القدر].
اللَّيلةُ المباركة
هذه اللَّيلة هي اللَّيلة المباركة، كما عبَّر الله عنها: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدّخان: 3-4].
وقد تنوَّعت الآراء في معنى كلمة القدر، فهناك من قال إنَّ القدر هو الشَّرف والمنزلة، وقال بعضهم - ولعلَّ هذا هو الأقرب - إنَّ القدر هو التَّقدير، لأنَّها اللَّيلة الَّتي أرادت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تجعلها اللَّيلة الَّتي ينظّم الله فيها للنَّاس أوضاعهم في أرزاقهم، وفي كلّ أمورهم الخاصَّة والعامَّة، وفي كلّ حركتهم في عالم التحدّيات، وفي عالم الصّراع، وفي عالم الإنتاج، وفي عالم الإبداع، وفي عالم الأعمار. فالله سبحانه وتعالى هو المدبّر لهذا الكون، وهو القادر على أن يقول للشَّيء كن فيكون، ولكنَّ حكمته اقتضت أن يجعل إرادته في نطاق الزَّمن، ولذلك خلق الأرض والسَّماء في ستَّة أيَّام، وكان يمكن أن يخلقها في لحظة.
أمَّا هذه اللَّيلة، فإنَّها اللَّيلة الَّتي أودع الله فيها الكثير من الأسرار الَّتي تملأ كلَّ ساعاتها، فكما يضع الله الأسرار في المكان؛ فهناك مكان يعظّمه الله، كما في الكعبة، وفي الزَّمان، كما في بعض اللَّيالي والأيَّام، كما في يوم عرفة، كذلك أودع الله سبحانه وتعالى في هذه اللَّيلة أسراراً روحيَّة تنظيميَّة سخيَّة عظيمة تستوعب الكون كلَّه، وتشرف على كلّ قضايا الإنسان في كلّ حياته، بحيث تحدّد له أجله ورزقه، وصحَّته وعافيته ومرضه، وتحدّد له موقعه ونصره وهزيمته، فهي اللَّيلة الَّتي تدخل في عمق الوجود الإنسانيّ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى عندما خلق الكون وخلق الإنسان، أودع فيه عنصر السَّببيَّة {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطّلاق: 3]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: 49].
ولذلك، فإنَّ الله سبحانه وتعالى جعل هذه اللَّيلة اليتيمة في السَّنة خيراً من ألف سنةٍ ليس فيها ليلة القدر، وأراد أن يبيّن لنا أنَّ حجم الزَّمن لا يقاس بطبيعة ساعاته، ولكن بطبيعة ما يختزن من أسرار، وما يتحرَّك فيه من أعمال ومواقف وطاعات. فالمسألة، إذاً، هي أنَّ الإنسان يستطيع أن يجعل يومه شهراً، ويجعل شهره سنة، لأنَّ المسألة هي في النَّوعيَّة وليست في الكميَّة.
الملائكةُ في ليلةِ القدر
ونلاحظ أيضاً أنَّنا في هذه اللَّيلة، نعيش في الأجواء الَّتي يتحرَّك فيها الملائكة الَّذين حدَّد الله لكلّ واحد منهم وظيفةً ومهمَّة، فالملائكة موظَّفون عند الله، ولكلّ منهم وظيفة، وهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء: 26-27]. ولكن كيف يدير هؤلاء الملائكة وظائفهم ويقومون بمسؤوليَّاتهم، فهذا أمر لم يعرّفنا الله إيّاه، بل هو من أسرار الله ومن خفايا غيبه، لأنَّنا لا نرى الملائكة، ولا نشعر بحركتهم، ولكنَّهم يعيشون في أجوائنا، عندما نجتمع لنعبد الله، ولنصلّي له، ولنبتهل إليه، ونخضع إليه، ونخشع بين يديه. وقد حدَّث الله عن الملائكة أنَّهم يستغفرون للَّذين آمنوا، أي أنَّ الملائكة يطلّون على البشريَّة وما يقومون به من أعمال، وخصوصاً الملكان، ليستغفروا للَّذين تابوا والَّذين آمنوا.
وفي الآية القرآنيَّة دلالةٌ على أنَّ الملائكة هم أصدقاء البشر المؤمنين {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ – أصدقاؤكم - فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ – ففي الدّنيا قد يشتهي الإنسان شيئاً ولا يستطيع الحصول عليه، أمَّا في الآخرة، فإنَّ الإنسان يحصل على كلّ ما يشتهيه - وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}[فصّلت: 30-32].
وهكذا، نجد أنَّ الملائكة في الجنَّة يقومون بزيارات {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرّعد: 23-24].
وفي هذه اللَّيلة، يقول الله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}، البعض يقول إنّ الرّوح هو جبرائيل، وبعضهم يقول هو خلق عظيم من الملائكة، {بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} يتَّصل بالحياة العامّة والخاصَّة للنَّاس.
ليلةُ السَّلام
ثمَّ إنَّ الله جعل هذه اللَّيلة ليلة السَّلام الَّتي يفرّغ فيها الإنسان قلبه من كلّ حقد وعداوة وبغضاء، وهذا هو شعار الإسلام. وتحيَّة الإسلام الطَّبيعيَّة هي السَّلام، فإذا التقيت شخصاً، فحيِّهِ بتحيَّة الإسلام: السَّلام عليك. ولذلك، نحن دائماً نقول لإخواننا وأخواتنا ممن يحيّون بعضهم بعضاً بعبارات مثل: صباح الخير، ومساء الخير، وبعضهم يأتي بكلمة فرنسيّة أو إنكليزيّة، نقول لهم إنَّ علينا أن نتدرَّب للدّخول إلى الجنّة، وتحيّة الجنّة هي السّلام: {وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَامٌ}[يونس: 10].
فلذلك، هذه اللَّيلة هي ليلة السَّلام الَّتي نجلس فيها بين يدي الله، لنفتح قلوبنا له، ولنفرغها من كلّ ما يسخطه ويغضبه. والله سبحانه وتعالى حدَّثنا عن أنَّ الإنسان ينتفع بالقلب الطَّاهر السَّليم {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88-89]، سليم من الشّرك والحقد والعداوة والبغضاء.
وننقل عن أحد علمائنا الكبار، وهو السيّد ابن طاووس، صاحب كتاب الدّعاء "الإقبال" الَّذي تنقل عنه كلّ كتب الأدعية، يقول: في ليلة الثَّالث والعشرين الّتي يرجّح أنَّها ليلة القدر، فكَّرت لمن أدعو؟ من هو أحقّ النَّاس بالدّعاء؟ فكَّرت أوّلاً في أبي وأمّي، فلاحظت أنَّ أبي مؤمن ومسلم، وأمّي مسلمة ومؤمنة، وهي تستحقّ الدّعاء، ولكنَّها ليست أحقّ النَّاس بالدّعاء، لأنَّها تتعلَّق برحمة الله سبحانه وتعالى في طاعتها له، ثمَّ فكَّرت بعدها في المؤمنين والمؤمنات، ووصلت إلى النّتيجة نفسها، ثمّ وصلت بعدها إلى أنَّ أحقَّ النَّاس بالدّعاء هم الكفَّار، لأنَّ الكافر لا يتعلَّق بالله بشيء، فهو ليس له علاقة به، وهو ينكر وجوده، أو يشرك به، فقضيت ليلتي أدعو الله أن يهدي الكفَّار، وأن يدلّهم على الإيمان، حتَّى يكونوا تحت رحمة الله سبحانه وتعالى.
وهذا يدلّ على الإنسانيَّة من هذا العالم الكبير، وليس كما يفعل البعض منّا، ممّن يوزّعون النّاس بين الجنّة والنّار، مع أنَّ الجنَّة والنّار ليستا في يد أحد، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}[النّساء: 48]. فالله يغفر ذنب العبد إذا لم يكن مشركاً، وقد يكون مسيحيّاً أو يهوديّاً، المهمّ أن يكون موحّداً لله، وقد يكون مستحقّاً للعذاب، ولكن قد تناله رحمة الله سبحانه، وهذا يعبّر عن روح الإنسانيَّة عند الإنسان المؤمن، بحيث يفكّر في كلّ النَّاس، وهذا ما تعلَّمناه من أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الأشتر، عندما قال له عن النّاس: "فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ؛ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ"، فكما أنَّ عليك أن ترعى الإنسان الَّذي تلتقي معه في الدّين، عليك أن ترعى الإنسان الّذي تلتقي معه في الإنسانيَّة، فتكون إنسانيَّتك في إنسانيَّته.
ليلةُ قدرٍ واحدة
في نهاية المطاف، من المتعارف في الكتب أنّهم يضعون عنوان "ليالي القدر"، ولكن ليس هناك ليالي القدر، بل هي ليلة واحدة، وإنّما يسمّونها ليالي، لأنَّه ورد أنّها قد تكون ليلة التّاسع عشر، أو ليلة الواحد والعشرين، أو ليلة الثّالث والعشرين، فهي ليلة واحدة، ولكنَّ الله أخفاها حتَّى يهتمَّ النَّاس بها، ولأنّه يستحبّ للإنسان أن يحيي اللَّيالي العشر الأواخر من شهر رمضان بالعبادة.
الابتعادُ عن التَّعصّب
وطبعاً، نحن نعرف أنَّ الخلاف الَّذي حدث في أوَّل الشَّهر، جعل بعض الإخوان يرون أنَّ ليلة القدر في هذه اللَّيلة، والبعض يراها في ليلة أخرى، وكلّه أمر جيّد، فسواء كانت ليلة القدر على هذا الرأي أو على ذاك الرأي، فنحن ماذا نفعل في ليلة القدر؟ نحن ندعو الله، نقرأ القرآن، نقرأ دعاء الجوشن وغيره من الأدعية، نفعل الأمور ذاتها، فلماذا نتعصّب؟ والله إنمّا أكرمنا بليلة القدر حتَّى نبتعد عن العصبيَّة، وليس أن يتعصَّب كلٌّ منّا لرأيه. وإن شاء الله، الكلّ معذورون في رجوع كلّ منهم إلى مرجعه، والمجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، فينبغي الابتعاد عن هذه العقليَّة المتخلّفة غير الإيمانيَّة في قصَّة العصبيَّة في المرجعيَّة، والعصبيَّة الحزبيَّة والقبليَّة، لأنَّ العصبيَّة في النَّار.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لم يبق لنا من هذا الشَّهر إلَّا بضع ليال، فعلينا أن نخلص فيها لله، وندعو دائماً: "إِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي فِي هذا الشَّهْرِ، فَازْدَدْ عَنِّي رِضا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَضِيتَ عَنِّي، فَمِنَ الآنِ فَارْضَ عَنِّي، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ... اللَّهُمَّ أَدِّ عَنّا حَقَّ ما مَضى مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، وَاغْفِرْ لَنا تَقْصِيرَنا فِيْهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مَقْبُولاً، وَلا تُؤاخِذْنا بِإِسْرافِنا عَلى أَنْفُسِنا، وَاجْعَلْنا مِنَ المَرْحُومِينَ، وَلا تَجْعَلْنا مِنَ المَحْرُومِينَ".
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* موعظة رمضانيَّة لسماحته، بتاريخ: 11 أيلول 2009م / الموافق 22 رمضان 1430هـ.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية