هذا زمنٌ يتنوّع ويعطي في كلِّ مرحلةٍ جديداً، وقد يكون هذا الجديد سلبيّاً، وقد يكون إيجابيّاً... هذا عالم يتطوّر ويسرع في حركته، فلا تجد هناك شيئاً يستقرّ في موقعه... فالجميع يركضون؛ الفكر يركضُ، والسّياسةُ تركض، والأمن يركض... وفي كلّ هذا الجوّ، هل نبقى نراوح في بدايات الطّريق؟ هل نبقى نلمُّ كلّ فتات الماضي حتّى لو كان من الفتات الّذي تساقط مما أكله الّذين سبقونا لأنّه لا يعني شيئاً؟...
الحقيقة وحدها مقدّسة
أيّها الأحبّة، القداسة للحقيقة، هناك في المعنى الدّيني في كلّ الأديان وفي كلّ الرّسالات، ثبات في قاعدة الحقيقة، وهناك حركةٌ في امتدادات هذه الحقيقة في حركة النّاس وحياتهم، لأنها تنطلق من خلال تغيّر ظرفٍ هنا وعنوانٍ هناك، وعلينا أن نظلّ في عمليّة بحثٍ عن هذه الحقيقة.
قد يكون الّذين سبقونا اكتشفوا هذه الحقيقة في اجتهاداتهم، ولكنّ اجتهاداتهم، وبما أنّهم غير معصومين، لا تمثّل الضّوء كلّه، فقد يكون هناك إلى جانب الضّوء ظلام، وقد يكون إلى جانب الصّحو ضباب. فلذلك أُريدَ للإنسان أن يظلّ في حركة البحث، أن يظلّ العقل يفكّر، وأن يبقى يبحث، وأن يبقى منطلقاً في عمليّة تصاعديّة للعلم؛ ألا نقرأ قوله تعالى:
{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}(1). لا تكتف بما عندك من العلم، ولكن انفتح، فأنت كلّما ازددت علماً ازددت معرفةً وإدراكاً بأنَّ هناك الكثير مما تجهل، فالعلمُ قد يفتح لك نافذةً على ما علمته، ولكنّه يفتح لك آلاف النّوافذ على ما جهلته. ولذلك، فإنّ الكثيرين من المتعلّمين ممّن اكتسبوا الشَّهادات، قد يكونون إلى الجهل أقرب، لأنَّ الذّات قد اقتحمت علمهم، فسقط العلم تحت تأثير الذّات، وتحوّل العلم إلى جهلٍ من خلال هذا الانفتاح الشّخصانيّ الّذي يوحي إلى الإنسان بأنّه أصبح على مقربةٍ من الأعالي، ولكنّه يبقى في الرّبوات الصّغيرة الّتي يحسبها من الأعالي...
أيّها الأحبّة، لا بدَّ من أن نصنع في مجتمعنا مجتمع العلم الّذي يُلاحق العلم كلّه، من أجل أن يطوّر إنسانيّته، لأنّك كلّما ازددت وعياً للحقيقة، ازددت فهماً للحياة، ونقداً لما أنت عليه ولما حولك، وتطوّرت إنسانيّتك أكثر. لذا كان القدماء يعلّموننا في الحوزات، أن لا تستظهروا العلم ولكن أنتجوه، وكان أساتذتنا في النّجف الأشرف، ونحن في بدايات طلب العلم، يقولون لنا اجتهدوا في ما تدرسون بحجم ما عندكم من ذهنيّة، لا تتعوّدوا أن تقبلوا ما يعطيكم المدرِّس، ولكن فكّروا في ما يعطيكم إيّاه، فإذا وجدتم مجالاً للنّقد انقدوه، وقد كبرت جامعة النَّجف في كلّ هؤلاء العمالقة الّذين انطلقوا منها، كبرت لأنّ منهجها يعوّد الطالب أن ينقد أستاذه حتى في بداية الدّراسة.
حريّة التّفكير معيار التقدّم إنَّ المنهج هو أن ينطلق التّلميذ ليبدأ بالتّفكير، لأنّه ليس هناك من يقول له إنّ الفكر ممنوع... ليس هناك من يصادر فكره، حتّى لو كان فكره يتحرّك في خطّ الانحراف، ولكن هناك من يحاول أن يناقش انحراف فكره ليقوِّمه، فعندما تصادر فكراً وترجمه، فإنّك من خلال ذلك تقتل المفكّر وتقتل الفكر، ولكن عندما تناقش الفكر المنحرف وتقوّمه، فإنّك تعطيه فكراً جديداً وغنىً جديداً من غناك.
وفي كلّ هذا الرّكض الثقافيّ، والرّكض السياسيّ، والرّكض الاجتماعيّ، قد يفرض أن نقول للفكر عندنا أن يركض من أجل أن يبحث عن الحقيقة، لأنّ المشكلة التي قد نواجهها، هي في أنّنا استحدثنا منهجاً يقول: «لا تفكّر» فالآخرون يفكّرون لك، وممنوعٌ أن تفكّر، لأنّك إذا فكّرت، فقد تخطئ وتنحرف, ولذلك، فلا بدَّ لك من أن تخضع لفكرٍ آخر ليقوِّم فكرك.
أيُّها الأحبَّة، لقد قال القرآن الكريم كلمةً حمّل فيها الإنسان مسؤوليَّة عقله وقلبه وحركته، والكلمة هي:
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(2)، وأنت أمام الله، لا بدَّ من أن تجادل عن فكرك كيف فكّرت، وأن تجادل عن حركتك كيف تحرَّكت، وعن مواقفك كيف وقفت:
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(3)
أحكم عقلك وفكرك حتّى تستطيع أن تدافع عمّا عقلت وعمّا فكّرت.
أيّها الأحبَّة، في منهج التَّعليم الّذي انطلقت به المناهج الحضاريَّة، يقال لك: أترك الطّفل يفكّر، لا تكبتْ طفلك إذا أراد التَّفكير، اجعله يفكّر ويخطئ وصحّح له خطأه بأن تناقشه في خطئه.
إنّنا، أيّها الأحبَّة، نصنع في بيوتنا قابليَّة الخضوع للأقوياء؛ فالأب يقول: «ولا كلمة» للزّوجة والأولاد، فلا تفكير لأحد، حتّى في ما يتعلّق بمستقبل الأبناء. ممنوع عليهم كثيراً أن يفكّروا... وتتوسّع الدّائرة في مواقع القوّة في المحلّة والبلد والوطن والعالم: «إمّا وإمّا»، حتّى سمعنا أكبر مسؤولٍ في أكبر دولةٍ في العالم يقول: «إمّا أن تكونوا معنا وإمّا أنّكم مع الإرهاب».
لا مناقشة، لا تحديد للإرهاب، لا تحديد للخير والشّرّ، فنحن نحدّد محاور الخير والشّر والإرهاب، وممنوعٌ أن يفكّر إنسانٌ بعد ذلك. إنّهم يتحدّثون عن الحضارة والحريّة والدّيمقراطيّة، ويتحدّثون عن «إمّا وإمّا» الّتي تحمل كلّ معاني الاستبداد والاستكبار والظّلم والتخلّف؛ هذا الاستكبار والاستضعاف يبدأ من البيت، حيث تتصاعد المسألة في كلّ موقعٍ يخاف الجالسون فيه أو التّابعون له من مراكز القوَّة. وبدأت عمليّة الإرهاب الفكريّ من خلال إرهاب النّاس في رزقهم وإرهاب النّاس في مواقعهم. نحن ندعو إلى الحريّة، ولكن أين هي الحريّة في بيوتنا وشوارعنا ونوادينا ومواقعنا؟! هل يملك أحدٌ الحريّة؟ لا أقول إنَّ علينا الاسترخاء والاستراحة لما يُقدَّم إلينا من أنواع الثّقافات ومن ألوان التيّارات، لكن أقول إنّ الآخرين ينتجون فكراً، فلماذا لا ننتج فكراً؟
الفكر لا يواجَه بالتّكفير إنّني أتساءل ونحن نحمل مسؤوليَّة الإسلام كما نقول لأنفسنا: ما هي الإبداعات الّتي استطاع مفكّرونا أن يبدعوا من خلالها فكراً إسلاميّاً جديداً؟
وإنّي لا أتحدَّث عن عقدةٍ في الخبرة والجديد، أي أن تأتي بالجديد كيفما كان، ولكن أن يتجدَّد فهمك، أن يتجدَّد فكرك، أن تجتهد كما اجتهد الآخرون! فلماذا تعوَّدنا أن نرفضَ ونرجمَ كلَّ مجتهدٍ يجتهدُ في شيءٍ جديدٍ بالكلمات اللامسؤولة! لقد عشنا منذ عشرين سنةً وحتّى الآن، وفي هذه المرحلة الزّمنيّة، والواقع الإسلاميّ يمارس عمليّة التّكفير والتّضليل، لأنّ هناك رأياً قد يخالف مشهوراً هنا أو مشهوراً هناك. إنّ فقهاءنا يتحدّثون أنّه حتّى إنكار الضّروريّ من الدّين لا يوجب التّكفير، إلاّ إذا التفت الإنسان إلى الملازمة بين إنكار الضّروريّ وتكذيب الرّسول(ص). إنّ إنكار الضّروريّ ليس من المكفّرات، وإنما يكفر الإنسان إذا أنكر الضّروريّ والتزم بلوازمه التي تؤدّي إلى خللٍ في أصل العقيدة، وهي تكذيب الرّسول، أو أن يكون في ذلك تكذيبٌ للرّسالة.
ونحن نكفِّر الإنسان بقضائنا وأحكامنا من دون أن ندرس شخصيَّة هذا الإنسان: هل يلتفت إلى هذه الملازمة أم لا؟ وقد أربكنا واقعنا الدّينيّ والاجتماعيّ والسياسيّ من خلال كلّ هذا التّكفير والتّضليل والتّفسيق والتّخويف، لأنّنا لا نطيق أن نناقش المفكّر، أو قد لا نستطيع أن نناقش الفكر والمفكّر، وقد واجهنا تحدّياتٍ كثيرةً، ونحن في هذه المرحلة نواجه بعض هذه الأساليب في مواقع إسلاميّة متقدِّمة.
أيُّها الأحبَّة، إنَّني لا أدعو إلى أن نتساهل في ما ينطلق من فكرٍ فيه شيءٌ من خطأٍ أو انحراف، ولكنّي أقول إنَّ الفكر يواجَه بالفكر، فهو لا يُواجَه بالرَّصاص والعنف الكلاميّ من السّباب والشَّتائم، بل بالعنف الفكريّ. ليكن فكرك عنيفاً في الحجَّة لتواجه فكراً آخر يحاول أن يقدِّم حجَّته، ولكن عليك وأنت تقدّم نفسك للنَّاس كقيادةٍ دينيَّةٍ وثقافيَّةٍ، أن تملك ثقافتك وثقافة ما تقودُ فيه، أن تملك معرفة الدّين في كلّ امتداداته وفي كلّ آفاقه، حتَّى تستطيع أن تثبت في المواقع. إنّنا نواجه الآن هجمةً ثقافيّةً هي أكثر خطورةً من المواجهة السّياسيّة، بل ربَّما يُرادُ من المواجهة الثّقافيّة إسقاط المواقع السّياسيّة، عندما تُصوَّر بأنّها التخلّف واللاحضارة واللاحقوق واللاحريّة، بمعنى أن تنفذ إلى داخل مواقعنا لنفقد الثّقة بأنفسنا، لأنّنا لم نتثقّف بما يقدّمونه لنا من فكر.
لذلك أدعو إلى أن نعمل عملاً جماعيّاً لا إفراديّاً، على أن نجدِّد المنهج في التّعليم الدينيّ، لا في المدارس فحسب، بل التّعليم الدّيني في المساجد والبيوت وعبر المحاضرات المنطلقة هنا وهناك... أن يكون لنا أشخاصٌ يعرفون معنى الدّين في عمقه وامتداداته، لأنّنا في كلِّ مرحلةٍ، نشعر بأنّ هناك امتدادات تتحرّك في عناوين جديدة، ولا بدَّ لنا من أن نفتح عقول هذا الجيل من الطلاب أو من النَّاس في المجالات العامَّة، المسجديَّة وغيرها، على هذه المفردات الجديدة.
نحن نعلّمُ الطّالب عقائده وأخلاقيّته، ولكن علينا أن نعلّمه حركيّة هذه الأخلاق. فلماذا أصبنا بالحيرة عندما انطلقت الهجمة الثّقافيّة والإعلاميّة في مسألة إرهابيّة الإسلام، وفي مسألة إرهابيَّة المواقع الإسلاميّة الحزبيّة أو ما يُسمَّى الأصوليّة وغيرها؟! أصبنا بالحيرة، لأنَّنا ربما بحثنا كلمة أنَّ «الإسلام مع الرِّفق وليس مع العنف»، ولكنَّنا لم نحرِّك هذين المفهومين في الواقع. ولذلك أصبح الكثيرون منَّا، حتَّى على أعلى المستويات، يعتبرون العنف مقدَّساً، لأنَّ قضيَّة العنف تنطلق من مسألة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ومسألة الجهاد. إنَّ هناك من الكبار في مواقعهم العلميَّة والثَّقافيَّة، من يعتبر أنَّ عليك عندما تحكم بلداً، أن تحمل السَّيف، لأنَّ ذلك هو إرادة الله! وأنّ هناك من يحاول أن يحرّك العنف في إرسال سيفٍ يقتل هذا وذاك، وأصبح عندنا الكثيرون من الّذين يحرّكون فتاوى قتل النّاس، حتّى إنّني كنتُ في بعض المراحل الّتي مرّت على لبنان، ونأمل ألا تعود إليه، يأتي إليّ بعض الأطفال من خلال هذه الثّقافة ليقول: مولانا، هل يجوز لي أن أقتل فلاناً؟ أن أفجّر هذا المحلّ؟ أن أفجّر ذاك المكان؟ المسألة هي أنّ هذا المناخ جعل النّاس يبحثون عن فتوى بالقتل وفتوى بالتّفجير والتّدمير، وما زلنا في أكثر من موقعٍ نسمعُ تفجير محلّ هنا، وتفجير شخص هناك.
المطلوب ثقافة جديدة إنّي لا أريد أن أقول إنَّ الإسلام لا يتبنّى العنف في مواقع العنف؛ العنف هو حالة الطّبيعة، فنحنُ في الشّتاء نلتقي بالصّواعق والرّعود والعواصف، كما نلتقي في الرّبيع بالنّسائم المنعشة والصّفو والنّقاء، ولكن لهذا موقعه ولذاك موقعه، فعلينا ألاّ نخلط بين المواقع، ونحن بحاجةٍ إلى ثقافةٍ ميدانيّةٍ في مفاهيمنا العامّة، لأنّ النّاس قد تخطئ عندما يُرادُ للمفاهيم أن تتحرّك على أرض الواقع.
نحنُ في بيوتنا نعيشُ الفكرة العامّة السّائدة والموجودة حتّى عند الّذين يعتبرون أنفسهم من الملتزمين، فترانا نعيش العنف ضدَّ المرأة، ونمارس القوّة والسُّلطة عليها، مع معرفتنا أنّ الإسلام لم يسمح للرّجل، أباً كان أو أخاً أو زوجاً، ممارسة العنف ضدَّ المرأة. هناك حالة واحدة تجيز العنف ضدَّ المرأة، وهي حالة ما إذا تمرَّدت المرأة على الحقوق الزّوجيَّة، على أن يكون هذا العنف بهدف الإرشاد والهدى، وضمن حدودٍ بيَّنها الشَّرع.
أيّها الأحبَّة، نحن نحتاج إلى ثقافةٍ جديدةٍ، وإلى تعليم الدّين الحركيّ في المساجد، وإبعاده عن الخرافة والجهل والعصبيّة وأجواء الخيال، لنحرِّك الدّين في دروب الحياة، ولنمارس قضاياها بروحيَّة الإسلام، فكثيرٌ من النّاس يدقّقون في الغسل، ولكنّهم يطلقون الفتاوى في العنف والغيبة والنّميمة، على قاعدة أنّها خطّ الإصلاح والثّورة. إنّنا بحاجةٍ إلى إنتاجٍ جديدٍ، وبحاجةٍ إلى أن نعيش قيمنا. فلنتعلّم روحيّة الحوار ومعنى الوحدة في المفهوم الإسلاميّ لا السياسيّ، حتّى لا تبقى شعارات طائفيّة تفرّق لا تجمع.
الهوامش:
(1) : [طه: 114]
(2) : [النّحل: 111]
(3) : [الإسراء: 36]
المصدر: من محاضرة لسماحته .