[من هو المؤمن؟].
نقرأ في القرآن قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2].
فالمؤمنون هم هؤلاء، ومن خلال أداة الحصر (إنما)، فإنَّ من لا يتَّصف بهذه الصِّفات
فليس مؤمناً في عمق الإيمان. فأن تؤمن بالله، هو أن تتجلَّى عظمة الله في نفسك في
كلّ مواقع العظمة في صفاته، وفي كلّ آفاق العظمة في ذاته. وأن تؤمن بالله، يعني أن
ينفتح فكرك وقلبك وإحساسك على أنعم الله، لتتحسّس ارتباط وجودك به في كلّ تفاصيله
من خلال ارتباطه بالنعم التي أسبغها الله عليك.
ومن هنا، فإنَّ صدقك في الإيمان هو أن لا تذكر الله عندما تذكره، أو تسمع ذكر الله
عندما تسمعه، تماماً كما تذكر أيَّ اسم لأيِّ إنسان أو لأيِّ شيء، أو كما تسمع أيَّ
اسم، فلا يهتزّ قلبك، ولا يخشع عقلك، ولا يخضع كيانك، فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، كما توجل
القلوب عندما تخضع لذكر العظيم. وهذا ما نلاحظه أمام الَّذين نتمثَّل عظمتهم في
القوَّة في الواقع، حيث نشعر بالرَّهبة وبالخوف وبالوجل عندما يُذكَرون. ألا يقال
بأنَّ فلاناً يرتجف الناس من ذكر اسمه، من جهة بطشه وقوَّته وقدرته؟
ولكنَّنا استهلكنا ذكر الله، بحيث لا يوحي إلينا بشيء، وقد قال سبحانه وتعالى وهو
يصوِّر لنا هذه الحالة فينا: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ
جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ}[الزّمر: 67].
وقد عبَّر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) عن هؤلاء المؤمنين الَّذين يعيشون
هذا الإحساس بالوجل أمام الله من خلال الشّعور بعظمة الله، حيث يقول: "عظُم الخالق
في أنفسهم، فصغُر ما دونه في أعينهم" ، فلقد تمثَّلت عظمة الله في النفس، بحيث ملأت
كل وجدان الإنسان، فلم ير أحداً عظيماً قبال عظمة الله سبحانه وتعالى، بل عندما دخل
في مجال المقارنة، رأى أنَّ الآخرين صغار صغار.
فإذا كان الله يحصر المؤمنين في هؤلاء، فعلينا ـ أيّها الأحبّة ـ أن نعمل على تربية
عظمة الله في نفوسنا، بالتفكّر في مواقع العظمة، وفي مواقع النعمة، وفي الإحساس
بالفقر المطلق فينا إلى الله الغنيّ المطلق عنَّا، وأن نمارس ذلك ذكراً وعبادةً
وفكراً وما إلى ذلك.
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانً}، إذا تليت عليهم
آياته الكونيّة وآياته القرآنيّة، بحيث إنّ إيمانهم يتحرَّك ويتطوّر ويزيد من خلال
زيادة المعرفة، فكلَّما عرفت الله من خلال آياته أكثر، عرفت عظمته على أساس ما
تفهمه من أسرار هذه الآيات أكثر، وهذا ما عبّر عنه الله تعالى في قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وينتهون إلى النَّتيجة {رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ}، فنحن نستوحي من ذلك عظمتك، ونستوحي عبادتك
{فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: 191].
وهكذا {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ} آيات القرآن... فإنها تزيدهم إيماناً
{زَادَتْهُمْ إِيمَانً}، لأنها تزيدهم معرفة بالله سبحانه وتعالى ومحبَّةً له
وخوفاً منه...
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. وهذه هي الصفة الثالثة للمؤمن، فهو القرآن
الَّذي لا يسقط أمام العقبات، ولا يتزلزل أمام الضعوط، ولا يرتجف أمام الزلازل
الاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة، بل يظلّ ثابتاً من خلال هذه الفكرة التي تمثّل
القيمة الكبرى للإنسان المؤمن: "التوكّل على الله".
والتوكّل على الله تعالى هو أن تُرجِع كلَّ أمورك إلى الله، وأن تعتقد في نفسك أنَّ
الله قادر على أن يحميك، وقادرٌ على أن ينقذك ويخفّف عنك كلّ الضّغوط التي تحيط بك،
والله سبحانه أرادنا أن نتوكَّل عليه، وقال لنا إنَّ الإنسان الذي يتوكَّل عليه
فإنَّه يكفيه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، فلا نقول إنّه ليس
قادراً، بل {إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، فإذا أراد شيئاً كان، ولكنَّه جعل
للحياة موازين {قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرً}[الطّلاق: 3]. وقد جعل
هذه الأقدار في الحياة لمصلحة الإنسان، فالله يكفيك من خلال ما يرى أنَّه مصلحة لك،
سواء في وجودك الخاصّ أو في الوجود العامّ الَّذي أنت جزء منه.
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159].
والتوكّل صفة تمثّل روح الإيمان، لأنَّ معناه أن تعتقد في نفسك {أَنَّ الْقُوَّةَ
للهِ جَمِيعً}[البقرة: 165]، وأنَّ الله، لا غيره، القادر على أن يستجيب لك في كلّ
أمورك، ولكن من موقع الحرمة والحكمة.
*من كتاب "النَّدوة"، ج 4.