العلّامة الّذي تجلَّت فيه خصائص الإنسان |
ألقى سماحة العلامة الشّيخ محمد علي التّسخيري كلمةً في حفل التّأبين الّذي أقيم للمرجع الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في القطيف، معبِّراً عن عمق الخسارة الّتي لحقت بالأمَّة الإسلاميَّة جمعاء بفقده.
العلّامة الإنسان
وقال الشّيخ التّسخيري في تأبينه المرجع الرّاحل(رض): "لقد فقدنا العلامة الإنسان، ففقدنا به مفكّراً يصنعه عقل مبدع، ومتحرِّقاً عاطفيّاً يقوده فكره، ومتحرّكاً كأجمل ما تكون الحركة يقوده قلبه، ومتحسّساً للواقع، بأروع ما يكون التحسّس وأرهفه، تقوده إرادته الحرّة المتمرّدة على كلّ قيدٍ موهوم، أو عرفٍ مصطنع، أو تقليدٍ أعمى، أو ضغطٍ ظالمٍ أو صنميّةٍ متوارثة، أو انزوائيّةٍ غير عرفيّة، فكأنه ـ بكلّ صدقٍ ـ يحقّق مقولة الإمام عليّ(ع) – صوت العدالة الإنسانيّة – حينما حلّل النّفس والفطرة الإنسانيّة بما لا أجمل منه فقال: "العقول أئمّة الأفكار، والأفكار أئمّة القلوب، والقلوب أئمّة الحواسّ، والحواسّ أئمّة الأعضاء"، وكأنه(ع) يريد أن يوسّع من مفهوم الإمامة، ليجعلها تجلّياً عامّاً لرحمانيّة الله الّتي انطلق منها هذا الكون وهذا الإنسان المسخّر له الكون، ليقرأ الكون: بسم الله الرّحمن الرّحيم".
أضاف الشّيخ التّسخيري: "نعم، المهمّ ـ أن يكون الإنسان إنساناً، ولكي نثبت ذلك، يمكننا أن نرجع إلى حقيقةٍ شاملةٍ تؤكّد أنّ الهدف من خلق الإنسان لن يتحقّق إلا إذا تجلّت معالم الفطرة ـ وهي منظومة الخصائص الإنسانيّة ـ في حياته، وهو بالضّبط ما أراده الدّين وما سعى إليه الأنبياء، كما يؤكّد ذلك عليّ(ع) نفسه، حين قال: "وواتَر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته".
الرّوح الاجتهاديّة المتميّزة
ثم تابع: "وهنا أعود إلى سيّدي العلامة فضل الله، فمن عرفه، عرف أنّه كان مفكّراً يهديه عقله إلى نظريّاتٍ وأطروحاتٍ يفترضها أوّلاً، ويقيم عليها الدّليل بروحٍ اجتهاديّةٍ ـ وهو المجتهد الحقّ الّذي درس على العلماء الأفذاذ في النّجف، من أمثال الأئمّة الخوئي والحكيم والشّاهرودي والحلّي ـ فإذا تمت عمليّة الاستدلال، تفاعل معها وآمن بها، وراح يصرّح بها بقوّةٍ، دون أن يمنعه مانع أو يوقفه معارض؛ إنّها حقيقة شهدناها في مختلف مواقفه الّتي أعلنها دون مواربة".
وأضاف: "سواء اتَّفقنا معه أو اختلفنا في الاستنتاج والاستنباط، فإنَّ علينا أن نُكبر ونُجلّ هذه الرّوح، لأنَّها المطلوب المفروض من الإنسان. المهمّ أنَّه كان أصيلاً في فكره، معتمداً على الدَّليل القويّ، منظِّراً بعيد النَّظر، يصوغ فكره عاطفته، فتملأ عاطفتُه وجوده، وينطلق من هذا الجوّ كلّ سلوكه الحياتيّ، بإرادةٍ قويَّة لا يقف أمامها شيء".
وعدّد بعض الآراء الاجتهاديّة للمرجع الرّاحل فقال: " على الصعيد الفقهيّ، توصّل مثلاً إلى حذف شرط الذّكورة في مرجع التّقليد في فتاواه، وعدم اعتبار الأعلميّة فيه، وأجاز التّبعيض في التّقليد، واعتمد قاعدة مساواة المرأة للرّجل في الحقوق والواجبات، وأفتى بطهارة الإنسان عموماً، ولم يعتبر التّدخين من المفطّرات، وحرّم العادات المبتدعة في مراسم العزاء، واعتمد الحسابات الفلكيّة لتحديد بدايات الأشهر القمريّة، إلى ما هنالك من فتاوى اجتهاديّة"..
|
|
وأضاف: "لقد دعا إلى الحوار مع الغير ـ مهما كان ـ ولكنّه حوار واعٍ لا يفسح في المجال للاستغلال مما ينحرف به عن دوره الأساس، وآمن بالتّقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وعمل له بما يستطيع، وله أفكاره الرّائعة في هذا المجال، فهو يعتبر (المذهبيّة) مجرّد وجهة نظرٍ في فهم الإسلام، ويدعو إلى إيجاد واقعٍ تقريبـيّ على صعيد الجماهير، وعدم الاقتصار على النّخبة، وأمثال ذلك".
كما أشار في كلمته إلى إيمان الرّاحل بقضيّة الوحدة قائلاً: "إنّ المجمع العالميّ للتّقريب بين المذاهب الإسلاميّة، ليتشرّف بكونه على مدى عمره عضواً في المجلس الأعلى له، ومنظّراً ونصيراً في كلّ المواقف، ذلك لأنّه آمن بقوّة بقضيّة الوحدة الإسلاميّة، وألفّ فيها كتباً ونذر لها حياته الشّريفة".
مواقفه السياسية الرّائدة
أمّا في المجال السياسيّ، فقد استعرض مواقفه المميّزة بالنّظرة الصائبة والموقف الاستراتيجيّ، والصّلابة والثّبات، رغم كلّ المؤامرات المعادية، والّتي تعرّض لها، ما أنتج أحياناً "العشرات من الشّهداء، والمئات من التّهم والمواقف العدائيّة الظّالمة حتى من المقرّبين إليه، ومن أولئك الذين لا نتوقّع منهم هذا الابتذال في الموقف".
كما استعرض التّسخيري بعضاً من آراء المرجع الكبير، فقال: "لقد آمن بالصّحوة الإسلاميّة في هذه الأمّة، ونظّر لها في تأليفاته ومواقفه وخطبه، ودافع عنها، وزار الأقطار المختلفة، وحضر المؤتمرات العالميّة في الجزائر وإيران وأمريكا والغرب، وقد حضرتُ بعضها، وشهدت مدى التّوعية والتّأثير الّذي كان يتركه. كما آمن بالحركة الإسلاميّة في كلّ مكان، ورآها أملاً في خلاص الأمّة من وضعها البائس. وقد تجلّى ذلك في دعمه للحركة الإسلاميّة في العراق أيّام سيطرة الشّيوعيّين والبعثيّين، وبقي داعماً لها فكريّاً وسياسيّاً وعمليّاً إلى نهاية حياته. لقد كان صاحب مدرسةٍ حركيّةٍ غذّت الكثيرين بالفكر الأصيل، وكتابه "خطوات على طريق الإسلام" ينبئ عن ذلك".
كما أشار إلى أنّ الرّاحل الكبير آمن بالثّورة الإسلاميّة في إيران، ونذر نفسه للدّفاع عنها حتَّى آخر نفس، وأضاف: "لقد شهدت له مواقف كبيرة، وتألّقاً عظيماً، وحرصاً شديداً على دعم مسيرتها، بما يقلّ أن يصدر عن أحد الشّخصيّات الدّينيّة أو الاجتماعيّة، كما آمن أيضاً بأنّ الاستكبار العالميّ يتجسّد اليوم في الغرب، وتقوده أمريكا قيادةً شيطانيّةً، فبقي منتقداً سلوكها المستكبر، فاضحاً أساليبها، حتى أسلوب أوباما "المنافق أحياناً، والمعلن بالعداء أحياناً أخرى".
وتحدّث عن حياة الرّاحل السياسيّة، معتبراً أنه كان الأب الرّوحيّ للمقاومة، فقال: "ومن جوانب حياته السياسيّة المميّزة، موقفه من النظام الصهيونيّ الغاصب لفلسطين، فقد نظر إليه عدوّاً أكبر لهذه الأمّة، ورصد كلّ تحرّكاته، وفضح كلّ أساليبه، وعبّأ الجماهير العربيّة والمسلمة ضدّه. ولم يأل أيّ جهدٍ في محاربته. وهو ما يفسّر رعايته المستمرّة للمقاومة الإسلاميّة البطلة في لبنان، ليعتبر بحقّ الأب الرّوحيّ لها".
أبعاد شخصيّة المرجع فضل الله(رض)
واعتبر العلامة التّسخيري أنّه لا يمكن استيعاب مختلف أبعاد شخصيّة المرجع الرّاحل بسبب اتّساعها، ولكنّه أشار إلى جانبٍ من هذه الأبعاد، وهي النقاط التالية:
أـ البعد التّربويّ لطلاب العلوم الدينيّة في الحوزات الّتي أنشأها، من قبيل "المعهد الشّرعيّ" في لبنان، و"حوزة المرتضى" في سوريا ، وقد نشرت دراساته الفقهيّة المعمّقة.
|
|
وقبل ذلك، مارس التدريس في الحوزة النجفية العلمية الكبرى، وذلك لمجموعات من طلبة العلوم الدينية، وقد نقل أنه درّس "المكاسب" و"الرسائل" للشّيخ الأعظم الأنصاري(قده)، و"مدارك الأحكام" للسيّد العاملي(قده) لدورات تسع. كما كان يربّي جماهير الأمّة عبر محاضراته القيّمة في العراق ولبنان وسوريا وإيران والجزائر وغيرها.
ب ـ البعد الأدبيّ، فقد كان كاتباً أصيلاً وشاعراً محلّقاً، استخدم إمكاناته في خدمة قضيّته الإسلاميّة.
ج ـ البعد التفسيريّ، فقد كتب تفسيراً كاملاً للقرآن الكريم بأسلوب شيّق. وقد امتاز تفسيره بالعصريّة من حيث اللّغة ومعالجة الواقع والجرأة في إبداء الرّأي.
د ـ البعد العالميّ، ونقصد به النظرة الواسعة إلى كلّ البشريّة والاهتمام بمشاكلها، وإبداء النظر فيها، وهو أمر أكّده القرآن الكريم، وركّزه رسول الإنسانيّة محمّد(ص) بعد إعلانه أنه (رحمة مهداة).
هـ ـ البعد الخيريّ، حيث أنشأ الكثير من المشاريع الخيريّة والتّأهيليّة؛ ومنها: (جمعيّة المبرّات الخيرية)، الّتي تركت آثاراً خيّرة في مجالات رعاية الأيتام، وهي تحتضن اليوم الآلاف منهم. ومنها: مكتب الخدمات الاجتماعيّة وغير ذلك.
وـ البعد الجماهيريّ، إذ كان يعشق الجماهير ويعيش بينها حتى في أشدّ حالات المحنة، حينما قصفت إسرائيل الضّاحية وصيّرتها حطاماً؛ لقد كان يؤمّ المصلّين باستمرار، ويقرأ الدّعاء مع النّاس، ويستقبل الصحافة باستمرار. وقد اهتمّ بقضايا المرأة كثيراً، ودافع عن حقوقها، كما اهتمّ بقضايا الطّفل والشّباب وألّف كتباً في ذلك.
|
|
ز ـ البعد الثقافيّ، وقد بدأه مبكراً، فانتخب عضواً في جمعيّة منتدى النشر الشهيرة في النّجف الأشرف، وأشرف على مجلّة "الأضواء" مع المرحوم الشّهيد الإمام الصّدر(قده). وقد لعبت دوراً مهمّاً في نشر الثقافة الإسلاميّة، وهكذا امتدّت مسيرة التّثقيف حين هاجر إلى لبنان.
ح ـ البعد التّغييريّ: لقد خطّط (رحمه الله) لإحداث التّغيير في مختلف المجالات، كالمجال الحوزويّ، بما فيه تربية الطّلبة التغييريّين، وإيجاد المرجعيّة العصريّة الواعية (المؤسّسة)، وتخليص الفقه والأصول والتّفسير من التّعقيدات التي أنتجها الخلط بين البحوث الفلسفيّة وهذه البحوث، ما أبعدها عن الفهم العرفيّ المطلوب أحياناً .أمّا التّغيير في مجال الأمّة، فقد أشرنا إلى بعض مناحيه.
ط ـ البعد الوطنيّ، فقد بقي يناضل في سبيل وحدة الشّعب اللّبنانيّ، وحلّ مشكلاته، بأفكارٍ أصيلةٍ مرنةٍ، كان لها أكبر الأثر في السّاحة اللّبنانيّة الّتي شهدت أعظم الحوادث في زمانه.
لوعة رحيل العلماء الأفذاذ
وتابع: "بعد هذا الحديث؛ أشعر حقيقةً بأنّي لم أوفّه حقّه، وأنّى يمكن ذلك، والرّجلُ إنسان عصاميّ تناسقت أبعاد شخصيّته الموسوعيّة، فأنتجت منظومةً بديعةً، أو فقل: قصيدةً إلهيّة، أو معزوفةً طبيعيّةً جميلةً يعجز اللّسان أن يصف أبعادها".
وختم الشّيخ التّسخيري بالقول: "لقد ترك رحيله في قلوب الجماهير أسىً كبيراً، وفي قلبي لوعةً حارقة، لا يعادلها إلا رحيل الأفذاذ من أمثاله، كالإمام الخمينيّ، والشّهيد الصّدر، وآية الله المطهّري، وأمثالهم".
|