لقد تركت لنا الزَّهراء(ع) كتاباً عرف "بمصحف فاطمة"، وقد ثار حولَه لغطٌ واسعٌ، ولهذا لا بدّ من أن نبيّن حقيقةَ هذا المصحف ورأينا في ما يشتمل عليه.
بدايةً، يجب أن نؤكّد أنّ هذا المصحف، بحسب ما يعتقده كلّ الشّيعة دون استثناء، ليس قرآناً آخرَ غير القرآن الموجود بين الدفّتين والمتداول بين المسلمين، والّذي لم يحصل فيه زيادة أو نقصان.
وقد حاول بعض علماء المسلمين ممّن لا يتحمّلون مسؤوليّة الكلمة، اتّهام الشّيعة بأنّ لهم قرآناً غير القرآن المتداول بين أيدي المسلمين، لأنّ المصحف يعني القرآن، وعندما يتحدّث عنه الإمام الصّادق(ع)، يقول إنّه أكبر من مصحفكم هذا بثلاث مرّات.
ولكنّنا نقول لهؤلاء أن يتّقوا الله في كلماتهم، لأنّه:
أوّلاً: إنّ الرّوايات الواردة عن أئمّة أهل البيت(ع)، والّتي تتحدّث عن مصحف فاطمة، تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ والرّيب، أنّه ليس قرآناً مغايراً للقرآن المتداول بين أيدي المسلمين، ولهذا عبّر عنه في بعض تلك الرّوايات بـ"كتاب فاطمة" بدل مصحفها، كما جاء في كتاب الزّكاة من الكافي.
ثانياً: نقول لهؤلاء، وقد قلنا ذلك لكثيرٍ من علماء المسلمين من أهل السنّة: لو أنّكم جلتم على كلّ مواقع الشيعة في العالم، ودخلتم كل بيوتهم ومساكنهم ومكتباتهم ومساجدهم وحسينيّاتهم، فإنّكم لن تجدوا إلا هذا القرآن الّذي بين أيديكم، لا يختلف عنه بكلمةٍ ولا حتّى بحرفٍ واحد.
ثالثاً: إنّ كلمة مصحف الّتي هي منشأ الوهم واللّغط، لا ترادف بحسب مدلولها كلمة قرآن، لأنّ كلمة مصحف مأخوذة من الصّحف والصّفحات، فكلّ كتابٍ له أوراقٌ وصفحات يسمّى مصحفاً، وحتى القرآن الكريم، إنما سمي مصحفاً لأنّه يشتمل على صحفٍ وصفحات. ولئن صارت الكلمة في العرف الإسلاميّ مرادفةً لكلمة القرآن، فإنّ هذا العرف حادث، والاصطلاح متأخّر جدّاً عن زمن صدور الرّوايات الّتي تقول إنّ لفاطمة مصحفاً.
حقيقة المصحف:
بعدما عرّفنا أنّ المصحف المذكور ليس قرآناً، يقع تساؤل جديد عن مضمونه ومحتواه؛ فهل هو مشتملٌ على بعض المغيّبات التي كان يحدّثها بها الملك ويكتبها عليّ(ع)، أو هو مشتمل على وصيّتها مع بعض الأحكام الشرعيّة وربما المواعظ والتعاليم الإسلاميّة؟ هناك اختلاف في الرّوايات المتعلّقة بذلك:
1ـ فهناك رواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله(ع)، أنّه لما نظر في مصحف فاطمة(ع) قال: "إنّ الله تعالى لما قبض نبيّه(ص)، دخل على فاطمة(ع) من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ، فأرسل إليها ملكاً يسلّي غمّها ويحدّثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين، فقال لها: إذا أحسست بذلك وسمعت الصّوت قولي، فأعلمته ذلك، وجعل أمير المؤمنين يكتب كلّ ما سمع، حتّى أثبت من ذلك مصحفاً. قال: ثم قال: أمّا إنّه ليس فيه شيءٌ من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون".
ويمكن المناقشة في المتن بالقول: إنّ المفروض في الملك أنّه جاء يحدّثها ويسلّي غمّها ليدخل عليها السّرور، فكيف تشكو ذلك إلى أمير المؤمنين(ع)؟! ما يدلّ على أنها كانت متضايقةً من ذلك، كما أنّ الظّاهر منه أنّ الإمام(ع) كان لا يعلم به، وأنّ المسألة كانت سماع صوت الملك لا رؤيته.
2ـ وفي رواية أبي عبيدة: "...وكان جبريل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيّب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعد في ذرّيتها، وكان عليّ يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة".
ولا مانع من أن ينزل عليها الملك جبرائيل، ولكنَّ الحديث ظاهرٌ في اختصاص العلم الّذي يعلّمها إيّاه مما يكون في ذرّيتها فقط، بينما الرّواية الأخرى تتحدَّث عن الأعمّ من ذلك، حتى إنّها تتحدّث عن ظهور الزّنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وهو مما قرأه الإمام عليّ(ع) في مصحف فاطمة.
3ـ وهناك رواية الحسين بن أبي العلاء عن الإمام الصّادق(ع)، وجاء فيها: "...مصحف فاطمة(ع) ما أزعم أنّ فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج النّاس إلينا ولا نحتاج إلى أحد، حتى إنّ فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش".
والظّاهر من هذه الرّواية، أنّ المصحف يشتمل على الحلال والحرام.
4ـ وقد ورد في حديث حبيب الخثعمي أنّه قال: "كتب أبو جعفر المنصور إلى محمّد ابن خالد، وكان عامله على المدينة، أن يسأل أهل المدينة عن الخمسة في الزّكاة من المائتين، كيف صارت وزن سبعة ولم يكن هذا على عهد رسول الله(ص)، وأمره أن يسأل فيمن يسأل، عبد الله بن الحسن، وجعفر بن محمّد(ع)، قال: فسأل أهل المدينة فقالوا: أدركنا من كان قبلنا على هذا، فبعث إلى عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمّد(ع)، فسأل عبد الله بن الحسن، فقال كما قال المستفتون من أهل المدينة، قال: فقال: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: إنّ رسول الله(ص) جعل في كلّ أربعين أوقيةً، فإذا حسبت ذلك كان على وزن سبعة، وقد كانت وزن ستَّة، وكانت الدّراهم خمسة دوانيق. قال حبيب: فحسبناها فوجدناها كما قال، فأقبل عليه عبد الله بن الحسن فقال: من أين أخذت هذا؟ قال: قرأت في كتاب أمّك فاطمة(ع)، قال ثم انصرف. فبعث إليه محمّد بن خالد: إبعث إليّ بكتاب فاطمة(ع)، فأرسل إليه أبو عبد الله(ع): إنّي إنما أخبرتك أنّي قرأته ولم أخبرك أنّه عندي. قال حبيب: فجعل محمّد بن خالد يقول لي: ما رأيت مثل هذا قطّ".
وظاهر هذا الحديث أيضاً، أنّ كتاب فاطمة، وهو مصحف فاطمة، يشتمل على الحلال والحرام.
5 ـ وهناك روايةٌ أخرى في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله(ع) أنّه قال ـ في حديثٍ ـ: "وليخرجوا مصحف فاطمة، فإنّ فيه وصيّة فاطمة(ع)".
6ـ وهكذا نجد أنّ بعض الرّوايات تقول إنّه بخطّ عليّ(ع) عمّا كان الملك يحدّثه للزّهراء(ع).
7ـ وهناك روايةٌ تدلّ على أنَّ المصحف من إملاء رسول الله(ص) وكتابة عليّ(ع).
ولكنَّ الرّوايات الأخرى لا تدلّ على ذلك، وهي المشتملة على الحلال والحرام ووصيَّة فاطمة، فلا بدَّ من التّرجيح بينها. أمّا رواية حماد بن عثمان، فهي ضعيفة بعمر بن عبد العزيز أبي حفص المعروف بزحل. يقول الفضل بن شاذان: زحل يروي المناكير وليس بغالٍ، وعن النّجاشي: مخلط، وعن الخلاصة :عربيّ مصريّ مخلط.
وأمّا رواية أبي عبيدة ـ والظّاهر أنّه المدائني ـ فهي ضعيفة، لأنّه لم يوثّق، ولكنّ رواية الحسين بن أبي العلاء صحيحة، وقد دلّت على اشتماله على الحلال والحرام، وأمّا رواية حبيب الخثعمي ورواية سليمان بن خالد، فهما ضعيفتان على الظّاهر، لكنّهما تصلحان لتأييد خبر الحسين بن أبي العلاء، ولا سيّما أنّ مبنانا في حجيّة الخبر هو حجيّة الخبر الموثوق به نوعاً، وقد يكفي في الوثوق عدم وجود ما يدعو إلى الكذب فيه.
ولذا، فالأرجح أنّه كتابٌ يشتمل على الحلال والحرام، وإن كان بالإمكان أن يقال إنَّه لا تعارض بين الرّوايات، فنلتزم أنّ المصحف يشتمل على الأحكام، وعلى الأخبار الّتي كان يحدّثها بها الملك، وعلى وصيّتها، إذ لا مانع من نزول ملكٍ عليها. ويظهر من العلاّمة المجلسي إقراره باشتمال المصحف على الأحكام. وعلى ضوء هذا، فإنّ نسبة الكتاب إلى فاطمة(ع)، يدلّ على أنها صاحبة الكتاب، كما أنّ نسبة الكتاب إلى عليّ(ع) ـ في ما ورد عن الأئمّة(ع) عن كتاب عليّ(ع) ـ يتبادر فيه أنّ صاحبه هو عليّ(ع).
ومما تقدّم، يتّضح أنّه لا مانع من القول إنّها أوّل مؤلّفة في الإسلام، كما أنّ عليّاً أوّل مؤلّف في الإسلام.
وعلى أيّة حال، فإنّ الكتاب ليس موجوداً بأيدينا، وإنما هو موجودٌ عند الإمام الحجّة(عج). ولذلك، فإنّ الجدل في ما يحويه ويشتمل عليه ليس له أيّة ثمرة عمليّة. نعم، نحن نأخذ منه بما حدّثنا به الأئمّة(ع) عنه، كما نأخذ من كتاب عليّ(ع) ـ مع أنه ليس بأيدينا ـ بما حدّثنا به الأئمّة(ع) من ذرّيته، وهكذا الحال في كتاب (الجفر) (والجامعة) وغيرهما مما أثر وعرف أنّه من مصادر أهل البيت(ع).
المصدر: كتاب" الزّهراء القدوة"