كتاب "صلح الإمام الحسن(ع)"، للعلامة السيّد محمّد جواد فضل الله(قده)، إصدار دار الزّهراء للطّباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان. يحوي الكتاب مقدّمة في سطور عن حياة العلامة المقدّس السيّد فضل الله(قده)، الّذي ترك خمسة مؤلّفات: "صلح الإمام الحسن(ع)"، "الإمام الرضا(ع)"، "حجر بن عدي الكندي"، "الإمام الصادق(ع)"، "ديوان شعر".
يلفت المؤلّف في مقدّمته إلى ما يعبِّر عنه صلح الإمام الحسن(ع) مع معاوية من حدث مهمّ ترك آثاره في الوجدان الإسلاميّ العام، ويحتاج بالفعل إلى مقاربة موضوعيَّة لكشف ملابساته بعلميَّة متناهية تضع الأمور في مواضعها، حيث يشير إلى الإهمال التاريخيّ من قبل المؤرّخين لبعض تفصيلات هذا الصّلح.
ويعرض المؤلّف لسيرة الإمام الحسن(ع) وما فيها من مواقف وأخبار، ثم ينبِّه إلى حساسيّة دراسة التاريخ، وإلى أنّها ليست عمليَّةً سهلة، فهي تحتاج إلى نفسٍ علميّ طويلٍ في مناقشة النصوص وخلفيّاتها وتشابكها، مشيراً إلى أهميّة اختيار المصادر التاريخيّة وانعكاس ذلك على قيمة ما يصل إليه من نتائج.
ويعرض المؤلّف لحادثة الصّلح والأحداث الّتي أدَّت إليها، بغية الخلوص إلى النّتائج، وينتقل إلى تسليط الضَّوء على مجتمع الكوفة بعد قضيّة التّحكيم بين الإمام عليّ(ع) ومعاوية في صفّين، حيث بدأت الفتن تطلّ برأسها في المجتمع الكوفيّ، وما فعله معاوية من تدبير المكائد والخطط من أجل تشتيت البعض عن الإمام(ع) واستمالتهم.. في المقابل، كان أهل الكوفة متخاذلين في الوقوف بوجه مشاريع معاوية، إلى أن استشهد أمير المؤمنين(ع)، هذه الشَّهادة الّتي تركت أثراً سياسيّاً ومعنويّاً هزّ السّاحة الإسلاميّة كلّها.
ويلفت إلى أنَّ الوضع الكوفيّ كان منهاراً اجتماعياً ونفسياً قبل تسلُّم الإمام الحسين(ع) الخلافة، إذ لم يكن هناك من بيئةٍ خصبةٍ لتوحيد الطّاقات والجهد للوقوف في وجه مؤامرات معاوية، والّتي لم تنقطع ولم تهدأ أبداً.
ويشير المؤلّف إلى أنّ الروح المعنويّة المنهارة لجيش الإمام علي(ع) وتعنّتهم واستبدادهم بالرأي وعدم اجتماع أمرهم، كان عنصراً حاضراً وضاغطاً على سير الأحداث، ناهيك بطمع القادة ورغباتهم وميولهم إلى حكومة الشَّام، إذ يجدون فيها ما يلبّي أطماعهم، فهذا ما ورثه الإمام الحسن(ع) من جيش أبيه؛ جيش متضعضع القوى، فيما جيش الشّام كان متماسكاً وقويّاً ومجتمِعاً على الباطل بقوّة، معتبراً أنّه كان لا بدَّ من عرض هذا الواقع لمعرفة الأرضيّة التي أنتجت الصّلح وساهمت في قيامه.. ففي البداية، كان الإمام الحسن(ع) جادّاً في مجابهة معاوية، ويظهر ذلك من خلال تنظيمه للجيش، وإنذاره لمعاوية بالحرب من خلال كتابٍ له، فمعاوية لم يكترث لطلب الحسن(ع) له باتّباع الحقّ، بل استنفر كلَّ قوّته من أجل غزو العراق، فيما سكت أصحاب الإمام الحسن(ع) حين دعاهم للمسير لحرب معاوية. ولكن التَّخاذل والإكراه ضعضع الرّوح المعنوية لجيش الإمام الحسن(ع)، وفرض عليه واقعاً جديداً، إذ لا يمكن مواجهة أهل الشّام بهكذا روح خاضعة للمزاجيّات والأهواء...
ويوضح المؤلّف الخليط الَّذي كان يتكوَّن منه جيش الإمام(ع)، والذي لم يكن منسجماً ومتآلفاً في انتماءاته القبليّة والسياسيّة والإيمانيّة، وكان أسلوب معاوية استغلال نقاط الضّعف في جيش الإمام وتمزيق وحدته عبر الدّسائس وإشاعة الأكاذيب، حتى بدأ بعض القادة بالانقلاب ومراسلة معاوية لطلب الأمان.
تبيّن مما تقدَّم ما لاقاه الإمام الحسن(ع) من محنٍ من قبل جيشه وقادته.. ويتابع المؤلّف عرضه لخيانات قادة جيش الإمام الحسن(ع) وما تركه ذلك من أثر، فالشّائعات الشاميّة عن صلح الإمام الحسن(ع) مع معاوية قبل أن يحصل، فكَّكت وحدة الجيش، وبعد كلّ ذلك، ليس من الحكمة والمنطق العسكريّ متابعة الحرب.. ولا بدَّ للحظةٍ من أن تكون حاسمةً من قِبَل الإمام في اتخاذ قرارٍ سريعٍ يتوافق مع طبيعة الظّروف والمعطيات الجديدة، فالجيش توّاق للصّلح، ومؤثر للعافية وإمضاء الصّلح.
ويناقش السيّد محمد جواد جملة من روايات التاريخ بنفس علميّ وموضوعيّ، عارضاً لكثير من المصادر التي تضيء على طبيعة المرحلة. ويذكر المؤلّف السيّد فضل الله(رض) أنّ المصادر التاريخيّة لم تذكر لنا نصّاً صريحاً ومتناسقاً لكتاب الصّلح، ولا نعرف السّبب لذلك ـ على حدّ تعبيره ـ.
ثم يتناول المؤلّف بنود الصّلح، حيث تبيّن عزيمة الإمام وإرادته في الحفاظ على واقع المسلمين وعدم استهانته بأمر الخلافة، إذ اشترط أن تكون الخلافة من بعد معاوية له أو لأخيه الحسين(ع)، بعد أن طلب الأمان لشيعته، ووقف سبّ أمير المؤمنين(ع) من على المنابر، إذ جعلها معاوية سُنّة مثبتة. وليس صحيحاً ـ بحسب المؤلف ـ ما يُثار من أن الإمام الحسن(ع) تنازل عن الخلافة لمعاوية، إذ إنّ التنازل يستبطن أمراً شخصياً، ولكنّ التّنازل كان لحفظ الواقع الإسلاميّ كلّه، بحسب ما تمليه الموازين الشرعية والواقعيّة.
ويذكر المؤلّف أنّ البعض من الباحثين حاول التجنّي على الإمام الحسن(ع) وقياسه على ثورة الحسين(ع)، ناسباً إلى الإمام حبَّه للدّنيا، وهؤلاء لا يخلون من جهلٍ في فهم التاريخ أو الارتجال في كتابته أو التعصّب الذي لا يتوافق مع روح البحث العلمي.
ويعرض لسلسلةٍ من النقاط التي مهَّدت للصلح، والحسابات والمنطلقات التي انطلق منها الإمام الحسن(ع) في صلحه، إذ لم يكن مزاجيّاً أو عبثيّاً، بل مبنيّاً على معطياتٍ وقراءاتٍ دقيقة للواقع وتفاصيله.
ثم ينتقل لتسليط الضَّوء على المرحلة التي تلت الصّلح، وما فعله معاوية من دسّ السمّ للإمام الحسن(ع)، والتحلّل من الصّلح ونكثه وتمهيده لبيعة ابنه يزيد، وكيف لعب بالسَّاحة الإسلاميَّة.
وهكذا كانت عمليّة الصّلح كاشفةً لطبيعة الحكم الأمويّ، وتفصح عن واقع الرّوح العنصريّة الّتي ترجع بأصولها إلى عهود الجاهليّة الحمقاء، كما يذكر المقدّس السيد محمد جواد فضل الله(قده).
ويتابع: "وأخيراً.. فإنَّ للتّاريخ كلمته الفاصلة في تعرية الوجوه التي تقنّعت بأقنعة الزّيف والخداع والدّجل، ولن تصمد كلمة الباطل مهما كانت قوّتها أمام دعوة الحقّ، بين يدي محكمة التاريخ".
ويعرض المؤلف لما فعله معاوية من سياسة إشاعة الأكاذيب والرّوايات المغلوطة، لتخريب الدّين وتغييب حقائقه، خدمةً لمشروعه التوسّعي والشَّخصيّ والعائليّ والقبليّ والعنصريّ.
كتاب جدير بالمطالعة والأخذ بمضامينه ومصادره التاريخيّة الوافية، إذ يعدّ من الكتب القليلة الرّائدة والعلمية في عرضها لقضيّة "الصّلح" ومجرياته ونتائجه وخلفيّاته، ويعتبر من المراجع التاريخيّة المهمّة في هذا المضمار للطالب والباحث والقارئ على حدٍّ سواء، إذ يتَّسم بالعرض والسّلاسة وتسليط الضّوء على النقاط الأساسيّة، والبيئة التي أنتجت الصّلح وخلفيّاته من النواحي كافة، بما يكشف الغموض والإبهام، ويدفع الشّبهات، ويضع الأمور في نصابها الحقيقيّ.