صدر كتاب "التقيَّة.. قراءة جديدة في علاج الرّوايات المتعارضة"، من تأليف الشَّيخ يوسف علي سبيتي، نشر دار المحجَّة البيضاء، في طبعته الأولى، العام 2015. يتناول الكتاب موضوع التقيَّة، الّتي أخذت حيّزاً من اهتمام الفقهاء والمحدّثين، ولا يخلو منها باب من أبواب الفقه. ومجرّد الحديث في هذا العنوان، يعني ولوج عالمٍ محفوف بالحساسيّة والقداسة عبر السنين، ويتطلّب جرأةً في العرض والتناول والبحث، مهما كانت النتائج.
بداية الكتاب مقدّمة لمؤلّفه، تمحورت حول سؤالٍ أساسيّ تدور في فلكه مباحث الكتاب، ألا وهو ماهية المستند الشّرعي للقول بالتقيّة، أو حمل الخبر المتعارض على التقيّة، بعد ذلك، هناك مدخليّة للكتاب يشرح فيها مفهوم التقيَّة وأدلّتها من القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت(ع)، مع إشارته إلى المصاديق العمليّة للتقيّة، وذكر نماذج لذلك.
يعرض سماحته لتعريف التقيّة، وهي: "التحفّظ عن ضرر الغير في قولٍ أو فعلٍ مخالفٍ للحقّ". وبعد عرضه لأدلّتها من الكتاب وأحاديث أهل البيت(ع)، يأتي على مبحث تعارض الرّوايات وعلاج هذا التّعارض وأهميّة ذلك، ويخلص إلى أنَّ التقيّة المستعملة والمذكورة في روايات أهل البيت(ع)، هي سياسيّة لا شرعيّة، وهذا ما تؤكّده مجموعة من الروايات المتنوّعة والكثيرة، وبعد ذلك، يعلِّق على موضوع ما يسمّى بالتقية العقائدية، حيث الكتمان عن الحديث على موضوع الإمامة والرّواية حول ذلك.
وهناك التقيّة في العمل، يقول المؤلّف: "وهذا يعني أنَّ المكلّف لديه الفرصة في الأعمال العباديّة الّتي لا تسمح له الظّروف الموضوعيّة للقيام بها على أكمل وجه، فيلجأ إلى التقيّة، ويأتي بهذه الأعمال بما تيسَّر له، وهذا النّوع من التقيّة مما قامت الأدلّة على جوازه أو وجوبه".. ثم يعالج المؤلّف في كتابه مسألة أسباب تقيّة الإمام وأبعاد ذلك والمصلحة فيه، شارحاً أسباب كلّ ذلك.
في الفصل الأوّل، يعالج المؤلّف شروط التقيّة، والتي تحتاج إلى قرينةٍ تبرز هويّتها ومداليلها، إذ لا يمكن الأخذ بها مطلقاً من دون توفّر القرينة، ومن ذلك تصريح الإمام(ع) بها، وهي ما يمكن تسميتها بالقرينة الخاصّة. واللافت ما يحشده المؤلّف من رواياتٍ تسعفه في عرضه وخلاصاته، مع ذكر رأي أهل السنَّة، وهو ما يعطي قيمةً أكثر للبحث، أمّا القرينة العامّة، فهي كون الرّواية المحمولة على التقيّة موافقة لأهل السنّة، فلقد استفاد المؤلّف من الرّوايات في إبرازه للقرائن الخاصّة والعامّة والفرق بينهما، بما يعين على فهم الموضوع أكثر.
وفي الفصل الثاني، يشير إلى الرّوايات القليلة المحمولة على التقيّة في عصر الإمام الباقر(ع)، ويعرض لنماذج روائيّة منقولة عنه، بعدها يعرض لرأي أهل السنّة والنّتائج من خلال ذلك.
وفي الفصل الثّالث، يعرض للرّوايات المتعارضة أيّام الإمام الصَّادق(ع)، حيث النّشاط الكبير لحركة الفقه والفكر والاجتهاد، والظروف الأمنيّة والسياسيّة المستقرّة نسبيّاً. ومع أنّ هناك روايات حملت أيّامه على التقيّة، وتحتاج، بحسب المؤلّف، إلى وقفةٍ لدراستها بشكلٍ تفصيليّ، فالسؤال المطروح: هل الظّرف السياسيّ المريح والحمل على التقيّة ينسجمان مع بعضهما البعض؟ وهل الرّوايات المحمولة على التقيّة صدرت حقيقةً عن الإمام الصّادق(ع)؟
وبعد أن يعرض جملةً من الرّوايات، يخلص إلى أنّ الصّادق(ع) لم يكن ليستعمل التقيّة، بل لم يكن يجد حرجاً في إعطاء الحكم المخالف لأبي حنيفة ومالك بن أنس بلا خوفٍ أو وجل، على حدِّ تعبير المؤلف، إذ لا معنى للتقيّة منهم.
وفي الفصل الرابع، يتناول سيرة الإمام الكاظم(ع)، والتقيّة المفترضة في زمانه، والرّوايات المحمولة على التقيّة، مع ذكر نماذج وآراء لأهل السنَّة، مع تنوّع العناوين المطروقة. ومع ذلك، ورغم تعقيدات العصر الّتي عاشها الإمام الكاظم(ع)، إلا أنّ ذلك، بحسب المؤلّف، لم يفرض عليه التقيّة من فقهاء أهل السنّة، ولم يصدر عنه أيّ موقف يصبّ في هذا الاتجاه.
الفصل الخامس، وفيه عرض لطريقة الفقهاء في كيفيّة حلّ مشكلة التعارض بين الرّوايات، من خلال الحمل على التقيّة، مع ذكر عناوين مشيرة إلى ذلك، ومع ذكر الملاحظات على بعض الرّوايات. وما يلفت هو استشهاد المؤلّف في كلّ فصول الكتاب بآراء علماء كبار كان لهم الباع الطّويل في المجال العلمي والفقهي، وذلك لإتمام الفائدة.
كذلك، كان الحديث حول الرّوايات المتوافقة بين ما نُقل عن أهل البيت(ع) وأهل السنّة من عناوين فقهيّة معيّنة، بما يشير إلى التّوافق الطبيعيّ بين المدرستين، وهذا ما يفرضه المصدر التّشريعي الواحد، وهو القرآن والسنّة النبويّة الشّريفة.
وما يتميّز به الكتاب، هو جرأته في طرق هذا العنوان الّذي أحيطت به ولا تزال الكثير من الهالة المقدَّسة. وبما أنَّ البحث العلمي يستدعي الحريّة المتسلّحة بروح العلم والنقاش، فإنَّ هذا الكتاب يعتبر تأسيساً لبحثٍ أكبر، من المفترض أن يجري في البيئة الدينيّة والعلميّة حول موضوع التقيَّة، وما يمكن أن يتمّ استخلاصه من ذلك، خدمةً لمسيرة العلم، وخدمةً للحقّ والحقيقة، فالقراءة المنفتحة والمعاصرة لعناوين ظلَّت لقرون أسيرة التقليد والجمود، لم تعد تجدي في عصرٍ مفتوحٍ على كثيرٍ من التّأويلات والاجتهادات المعاصرة.