كتاب "القضاء وصفات القاضي عند الإمام عليّ(ع)"، للسيّد محمود الهاشمي، إعداد السيّد محمود الخطيب، هو عبارة عن محاضرةٍ ألقاها السيّد الهاشمي العام 2002 في دمشق، بحضور جمعٍ من علماء البلاد الإسلاميَّة، موضحاً فيها الآفاق الّتي عمل لها أمير المؤمنين(ع) لمن يتولّى القضاء وأصوله وقواعده، والشّروط الّتي ينبغي توافرها في القاضي، وموضوعات العمل القضائيّ.
لقد كان القضاء عند الإمام عليّ(ع) تكريساً للحقِّ والتزاماً به، ومَن أفضل من الإمام عليّ(ع) بعد النبيّ(ص) في مجال القضاء بين النَّاس؟! والرِّوايات مستفيضة حول ذلك عند أهل السنَّة كما الشِّيعة، ففي تاريخ ابن عساكر عن ابن عبَّاس عن النبيّ(ص) أنّه قال: "عليّ أقضى أمَّتي بكتاب الله، فمن أحبَّني فليحبَّه، فإنَّ العبدَ لا ينال ولايتي إلا بحبّ عليّ".
ويشير السيِّد الهاشمي إلى أنَّ ما عُرِض على الأمير(ع) من وقائع وقضى فيها، تشكِّل إرثاً عظيماً نستوحي منه الكثير من التَّوجيهات والأحكام والدّروس الَّتي تضاهي أحدث النَّظريَّات المعاصرة الحقوقيَّة والقضائيَّة، فهو يبدأ بذكر الأصل الَّذي يبني عليه شرعيَّة القضاء، وهذه قاعدة منطقيَّة، إذ لا بدَّ من شرعيَّة سلطة القضاء كي يصحَّ التمسّك بأحكامها، والأمير(ع) كان الوصيَّ بعد رسول الله(ص) في توضيح أحكام الله والقضاء بموجبها.
فحكم عليٍّ(ع) هو حكم رسول الله(ص) وحكم الله تعالى، من هنا كانت شرعيَّة أحكامه مستمدّةً من الشرعيَّة الّتي أنعم الله بها عليه، كونه وصيّ نبيّ الله وخليفته في رسم معالم الشّريعة وتبيان أحكامها.
وهذا ما أوضحه وأكَّده الإمام(ع)، وما جاء في عهده إلى مالك الأشتر، خير دليل ودرس لمن يريد التصدّي للقضاء والحكم بين النّاس. يقول الإمام(ع) في عهده إلى مالك الأشتر: "واكتب إلى قضاة بلدانك، فليرفعوا إليك كلَّ حكمٍ اختلفوا فيه على حقوقه، ثم تصفَّح تلك الأحكام، فما وافق كتاب الله وسنَّة نبيّه والأثر من إمامك، فامضه، واحملهم عليه، وما اشتبه عليك، فاجمع له الفقهاء بحضرتك، فناظرهم فيه ثم امضِ ما يجتمع عليه أقاويل الفقهاء بحضرتك من المسلمين، فإنَّ كلَّ أمرٍ اختلف فيه الرعيّة مردود إلى حكم الإمام، وعلى الإمام الاستعانة بالله والاجتهاد في إقامة الحدود، وجبر الرعيّة على أمره، ولا قوّة إلا بالله".
ويتابع السيّد الهاشمي عرضه لشروط القاضي وصفاته، بالنَّظر إلى هذا الموقع الحسَّاس، على هدي ما جاء في عهد الإمام عليّ إلى مالك الأشتر، ومن ذلك، العدالة والتّقوى الفائقة، بالشَّكل الرّاسخ الَّذي يحفظ القاضي من كلِّ المؤثّرات والمغريات، وهذه من الصّفات الذاتيّة النفسيّة.
ومن الصِّفات الشخصيَّة، شجاعته وصلابته وقوّة إرادته، بحيث لا يخضع ولا يخنع ولا ينكسر أمام الضّغوطات، بل يلتزم الشَّجاعة في قول الحقّ في كلِّ الأحوال والظّروف، إذ لا يعقل أن يكون القاضي ضعيفاً تتقاذفه الآراء والتدخّلات والضّغوطات.
ومن صفات القاضي، سعيه لتبيان الحقِّ وإقامته، فلا يمكن، والحال هذه، أن يصرَّ على الخطأ بعد اكتشافه، فهذا يتناقض مع صوابيَّة الحقِّ والحكم بموجبه. من هنا، كانت المسؤوليَّة القصوى في التَّعامل مع الشّبهات والتوقّف عندها، وعدم الحكم حتى تتَّضح خلفيَّات الشّبهات وظروفها، وتتبيَّن الحقيقة بالكامل.
كما على القاضي أن يكون صاحب صدرٍ رحبٍ يتَّسع للجميع، ويتحمَّل مراجعاتهم، ولا يضيق بأحد، حتى يقيم العدل من نفسه للكلّ، ولا بدَّ من أن يتحلَّى بالرّوح العلميَّة في استحضاره للأدلَّة العلميَّة والشّرعيَّة لإثبات حكمه، والوصول بالتَّالي إلى إيضاح الحقّ والحكم على أساسه. ونستفيد من أحكام الأمير(ع) القضائيَّة، استخدامه للوسائل العلميَّة الّتي توجب اليقين، ومثالٌ على ذلك، حين وظَّف الإمام(ع) ـ فيما يروى عنه ـ الوزن النّوعيّ للحليب عندما فصل بين امرأتين ادَّعت كلّ منهما أنّها أمّ الصّبيّ، وتبرّأتا من البنت، فأمر بأن يوزن لبن المرأتين، فأيّتهما كانت أثقل لبناً، فالابن لها.
ونتعلَّم من أمير المؤمنين(ع) مبدأ حقّ النَّقض في الحكم واستئنافه، رغم صدور حكم القاضي فيه مسبقاً، وهذا الحقّ والاستئناف موجودٌ في كلِّ الشَّرائع القضائيَّة اليوم أو أغلبها.. إضافةً إلى ذلك، نجد في سيرة الإمام(ع) في مجال القضاء، تأكيد قاعدة حقّ الدّفاع عن المتَّهمين، والتَّوكيل للمتَّهم أيضاً، إذ كان(ع) يأمر شريح القاضي بأن يتأكَّد في حكمه، عبر ردّ حلف اليمين على المدَّعي حتى مع بيّنته، حفظاً لحقّ المدَّعى عليه، وأيضاً أمره بأن يمهل من يدَّعي وجود شهود له غائبين، أو دليل له ليس حاضراً حاليّاً بين يديه.
ومن المبادئ الأساسيّة المستخدمة في القضاء، إفساح المجال أمام المتخاصمين للصّلح والتّحكيم، عملاً بسيرة الرّسول الأكرم(ص).. ويقول الإمام(ع): "إنّه ـ أي الرّسول(ص) ـ كان يدعو الخصوم إلى الصّلح، فلا يزال بهم حتى يصطلحوا".. ومن هنا، يتَّضح لنا أهمية الصّلح بين النّاس، والتّحكيم في منازعاتهم، بما يضمن إثبات الحقوق، ونزع فتيل الخصام من نفوسهم، وهذا ما تقوم به الأجهزة القضائيّة اليوم في الجمهوريّة الإسلاميّة، كما يلفت إلى ذلك السيّد الشّاهرودي.
ويورد السيّد الشّاهرودي العديد من الرّوايات والأحداث الّتي جرت مع أمير المؤمنين(ع)، والتي تدلّ على عدله وقضائه بحكم الله، بما يضمن إقامة الحقّ، وتوازن الحكم، واستقرار الحال، وتحقيق الأمان.
ويلفت السيّد الشّاهرودي إلى أهميّة علنيَّة المحاكمات كأصلٍ من أصول القضاء عند الإمام(ع)، إذ أمر شريح القاضي بأن يقضي بين النّاس في المسجد، لا في بيته أو في مكان خاصّ، وأن يتحرّك القاضي بسرعة للحكم في الخصومات، وألا يطيل في ذلك، بما ينعكس سلباً على أمن النّاس واستقرارهم، وبما يضرّ بحقوقهم.
لذا، على القاضي أن يمارس كلّ الوسائل الكفيلة بوقف مماطلة المتخلّفين عن أداء الحقوق إلى أصحابها. ونتعلَّم من سيرة الإمام(ع) ما ينبغي فعله لجهة مراقبة عمل القضاة وأحوالهم بشكلٍ دائمٍ ودقيق، بما يضمن حسن قضائهم.
ويشير السيّد الشَّاهرودي إلى أنَّ العقوبة لدى الإمام(ع) لم تكن تشفّياً من المجرم، بل محاولةً لإصلاح نفسه وتهذيبها، وهو ما ينبغي لنا تعلُّمه، ليكون درساً لنا في إصلاح المجتمع ونفعه.. ويذكر السيّد الشّاهرودي في هذا المضمار جملةً من الرّوايات التي تؤكِّد ما يجب أن تكون عليه السياسة الجزائيَّة والعقوبات.
كتابٌ يؤسَّس عليه لمزيدٍ من البحث والتَّأليف والدِّراسة في نهج أمير المؤمنين(ع) في مجال القضاء، ويمكننا الاستفادة اليوم من هذه القواعد والأصول الّتي كرَّسها أمير المؤمنين في عالم القضاء وما يتعلَّق به.