الزَّهراء (ع).. المرأة المثاليَّة والقدوة للعالمين

الزَّهراء (ع).. المرأة المثاليَّة والقدوة للعالمين

لماذا يُتحدَّث دائماً عن القدوة؟ هذه الكلمة التي توحي بأنَّ هناك إنساناً يتحرّك في الحياة، فتتحرَّك القيمة في عقله لتتمثّل في حياته سلوكاً لا يسقط أمام التحدّي، وانفتاحاً لا يمكن أن يصير إلى انغلاق بفعل الضّغوط الّتي تحيط به. تكبر القيمة في عقله، وتذوب في روحه، ليكون التّجسيد للقيمة، ليعطينا واقعيّة القيمة.

الحاجة إلى القدوة

وتلك هي المشكلة في كثيرٍ من العناوين الكبرى التي تجتذبنا إلى السّاحة أو تجتذب السّاحة، وهي: ما هي مدى حركة العنوان الكبير في الواقع؟ حتّى نؤمن بأنَّ العنوان يمكن أن يتمثّل حياةً متحرّكةً في حياتنا. من هنا، قد نحتاج إلى القدوة من خلال النَّاس الذين يمنحوننا الإحساس بواقعيَّة القيمة، بدلاً من البقاء في العنوان الفكريّ.

لذلك، فنحن دائماً نبحث في السّاحة، أيّ ساحة، عن الإنسان الذي لا يطغيه المال لينحرف عن مبادئه من خلال ضغط المال عليه، والإنسان الذي لا يطغيه الجاه، والإنسان الذي يمكن أن يحقّق التّوازن في حياته بين ما هو روحيّ وما هو مادّيّ، بين ما هو فرديّ وما هو اجتماعيّ، لأنّ الكثيرين من النّاس قد يحدّثونك عن سقوط هذا التّمازج بين المادّة والروح، أو هذا التّمازج بين الشخصيّة الفرديّة والشخصيّة الاجتماعيّة، ليستشهدوا لك عن روحيّ عاش وحول المادّة، حتى لا تجد شيئاً للرّوح في حياته، وشخصيّة اجتماعيّة عاشت الفرديّة في كلّ تطلّعاتها ونشاطاتها، حتى لا تجد هناك للعنوان المجتمعيّ شيئاً في شخصيّتها وحركتها.

لذلك، نحن بحاجة إلى أن نرصد واقع القيمة في واقع النّاس الّذين يتحركون في خطّ القيمة. وفي الرّجال، هناك الكثيرون ممن لا تزال الإنسانيّة تغترف من القيم التي عاشوها، بحيث إنّك لا تحتاج إلى أن تقرأ كلماتهم، بل تحتاج إلى أن تستغرق في حركتهم في الواقع، لأنَّ حركتهم هي التي تغني كلماتهم، بدلاً من أن تكون الكلمات هي الّتي تغني الحركة.

وهكذا، نجد في النّساء في كلّ التّاريخ، نقاطاً مضيئةً تستطيع أن تعرّفنا ما يمكن للمرأة أن تختزنه في حياتها من غنى في الرّوح، ومن امتداد في الحركة، ومن انطلاق في الفكر، ومن صلابة في الموقف.

هل المرأة عنوانٌ للضّعف؟!

ربما نحتاج إلى أن نستقدم من التّأريخ، أو نلملم من الحاضر، بعض النماذج النسائيّة التي تجسّد بعض القيم، إن لم تجسّدها كلّها، لأنّ هناك حديثاً لا زال التخلّف يردِّده، ولا زالت الأوضاع المتخلّفة تحرسه، وهو أنّ المرأة إنسان من الدَّرجة الثّانية أو الثّالثة، وأنّ التّاريخ للرّجل، والإبداع والقوّة للرّجل، فالمرأة هي عنوان الضّعف. هكذا يتحدّثون، وهي عنوان الإنسان المنفعل، وهي عنوان الإنسان الذي لا يستطيع أن يقف في قلب السّاحة.

ربما نحتاج إلى بعض النماذج الحيّة في التأريخ، لنتمكّن من أن نواجه مثل هذه الأفكار من خلال التّجربة، لأنّ الإنسان في كثير من الحالات، إذا أراد أن يعالج المسألة بطريقة تحليليّة في أكثر من موضوع، فإنّه قد يغرق في متاهات الجدل الذي يمكن له أن يصوّر الفكرة بأكثر من صورة من دون أن ينزل إلى عمقها، ولكنّ التجربة الحيّة تعطيك الواقع الذي يبدع الفكرة.

فأنت لا تحتاج لأن تؤصّل الفكرة في الوعي إلّا من خلال أن تقدّم الفكرة وهي تعيش واقعاً حيّاً متحركاً في الأرض وفي الإنسان.

ونحن نعرف أنَّ التجربة هي أحد المنهجين في عمليّة المعرفة، فإذا كان العقل التأمّلي يمثّل نافذةً على المعرفة، فإنّ التّجربة تمثّل نافذةً واسعة، وربما لا يستطيع العقل أن يبدع الحقيقة إلّا في تفاعله مع التّجربة، كما أنّ التّجربة لا تستطيع أن تحقّق امتداداً للفكرة إلا من خلال العقل. ومن هنا، فإنّنا نتصوّر أنّ المعرفة لا تتحرّك في منهجين منفصلين، بل هناك تمازج بين المنهج العقليّ والمنهج التجريبيّ.

وعلى ضوء هذا، يمكن لنا أن نطلّ على عنوان محاضرتنا اليوم؛ من هي الزّهراء؟

علاقتها بالرّسول (ص)

هي، كما نعرف جميعاً، ابنة النبيّ محمّد (ص)، وهي الإنسانة التي عاشت كلّ حياتها القصيرة التي يتردَّد المؤرّخون بين أن تكون ثمانية عشر عامًا أو ثمانية وعشرين عامًا من هذه الحياة، كانت فيها الإنسانة المتعدّدة الأبعاد، المتنوّعة القيم، المتحركة في أجواء الرّسالة، من دون أن تأخذ شيئاً من ذاتها لذاتها في هذه الأجواء.

لقد كانت إنسانة طبيعيّة، لم تستعرض نسبها في علاقاتها بمجتمعها، ولم تتعقّد ذاتياً لتنتفخ شخصيّتها من خلال هذا المجد الكبير الّذي كان يزحف في حياتها كلّما امتدَّت الرّسالة في الواقع، بل كانت إنسانةً تعيش روحيّة الإنسانيّة في إنسانيّتها، حتى وهي طفلة، كانت بنت الخامسة على بعض الرّوايات، أو بنت العاشرة، وكان أبوها يعاني اضطهاد المشركين له، كما عانى فقد زوجته التي كانت السّاعد الأيمن له، وهي أمّ المؤمنين خديجة، أمّها، كما أنّه افتقد عمّه أبا طالب الّذي كان يرعاه ويدافع عنه ويقف معه ولم يكن معه أحد.

كان وحده، وكان اليتم لا يزال يعيش في زاوية من زوايا إحساسه، لأنّه بشر يتحسَّس أحاسيس البشر وآلامهم، فيتألم لما يتألمون منه، ويفرح لما يفرحون منه، وقد عاش يتيم الأب وهو جنين، ويتيم الأمّ وهو رضيع، فافتقد حنان الأمومة. ونحن نعرف أنّ حنان الأمومة يغذّي عقل الإنسان وقلبه وإحساسه بطريقة لا يتحسّس لها الإنسان إلّا بعد حين، حتى إنَّ الإنسان يبقى يشعر بطفولته مع أمّه وهو في الخمسين، فإذا ماتت أمّه وهو في الخمسين أو السّتين، شعر فجأةً بالشيخوخة تزحف إلى حياته، لأنّ حنان أمّه كان ينمّي طفولته، فالأمّ، كما يقال، تبقى تحسّ بولدها مهما تقدّم العمر به، تحسّ به تماماً كما لو كان في أحضانها أو كان يزحف بين يديها.

لم يعش حنان الأمّ والأب، وفقد حنان الزَّوجة والعمّ، وعاش كلّ قسوة المجتمع من حوله، وكان المجتمع قاسياً، لم يكن مجتمعه عقلانيّاً، بينما كان (ص) يطلق العقلانيّة، كان يحدِّثهم: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق}[العلق: 1]، كان يحدّثهم: {ويتفكّرون في خلق السّموات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً}[آل عمران: 191]، كان يطلب أن ينفتحوا على الكون كلّه: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض}[يونس: 101]، كان يدعوهم إلى أن يقارعوا الحجّة بالحجّة {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}[البقرة: 111]، كان يريد منهم أن يدخلوا معه ليحاجّوه، وكان يقول لهم: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ علم}[آل عمران: 66].

كان (ص) يعمل على أن يرفع مستوى العقل عندهم، لأنَّ العقل عندما يرتفع بمستواه، فإنَّه يفتح ألف نافذةٍ للحياة، ليرفعها من خلال الفكر الّذي ينتجه، ويحرّك الحياة لأن تكون شيئاً يعطي الفكر من كلّ مفرداته ومن كلّ غناه. ولكن كانوا يقولون له ساحر، كذَّاب، شاعر، كاهن... حتى اتّهموه في عقله، فقالوا إنّه مجنون، وقال لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}، أراد أن ينقذهم من المنهج المتخلِّف في نظرتهم إلى الأشياء، حدَّثهم عن العقل الجمعيّ، لو كان هناك عقل جمعيّ، أو الشخصيّة الاجتماعيّة للمجتمع، إذا لم يكن هناك عقل جمعيّ على حسب النّظريّات، قال لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا - تفرّقوا عن جوّ الحماس والانفعال الذي يبعدكم عن شخصيّتكم الذاتية المستقلّة في التّفكير، لأنّكم عندما تجتمعون في هذه الحمّى الجماعيّة، فإنّكم لا تفكّرون بشكل مستقلّ - مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[سبأ: 46].

طفلةٌ تحتضن أباه

كان (ص) يعيش كلّ هذه الأجواء، ونحن نعرف أنّه كان يختزن في داخله كلّ هذا الفراغ العاطفيّ، وكلّ هذه المأساة العاطفيّة، وكلّ هذا الجوّ الروحيّ الذي يجعل الإنسان يعيش في حالة نفسيّة صعبة... كانت ابنته تحتضنه قبل أن يضمّها إليه، كانت تبتسم له عندما تلمح الكآبة في وجهه، كانت تهدهد روحه، وكانت ترعاه وتملأ عليه بيته.

قد لا تكون لنا مثل هذه التّفاصيل في مفردات تأريخ السّيرة، ولكنّنا نلتقطها من خلال الإنسان الّذي عبَّر عنها بأنّها "أمّ أبيها". هذه الكلمة تعطينا فكرةً كم كان النبيّ بحاجةٍ إلى أمّه لتحضن كلّ آلامه وكلّ مشاعره وكلّ عواطفه، فوجد أمّه في ابنته. ونحن نعرف أنَّ الأمومة ليست مجرّد حالة في الجسد، ولكنّها حالة في الروح وفي القلب وفي الإحساس والحركة والشّعور. نحن لا نحسّ بأمومة أمّهاتنا من خلال أنهنّ وضعننا، ولكن نحسّ بأمومتهنّ من خلال هدهدتهنّ ونحن في السّرير، ومن خلال هذا الاحتضان والمناغاة والهدهدات والابتسامات... هذه هي الأمومة؛ تلك أمومة في التَّكوين، وهذه هي أمومة في الإنسانيّة والروح.

تصوّروا طفلة في الخامسة أو في العاشرة، تملأ نفس هذا الإنسان العظيم بالجانب العاطفيّ! كم هي هذه العاطفة التي يمكن لها أن تملأ روح هذا الإنسان العظيم، بحيث يشعر بالامتلاء العاطفيّ، بعد أن كان يعيش فراغ العاطفة كإنسان!

ثم بعد ذلك، وهو في المدينة، كانت تفهم معنى كلّ نظراته، وكانت تستوحي كلّ حركته لتعرف ماذا يريد. جاء ذات يوم قادماً من سفر، وكان، كما يقول المؤرّخون، إذا سافر، فآخر النّاس عهداً به ابنته فاطمة، وإذا قدم من سفر، فأوّل الناس عهداً به ابنته فاطمة.

اندماجها الرّساليّ مع أبيها (ص)

جاء مرّة من سفر يريد أن يدخل بيتها، ثم رجع، وحاولت الزهراء أن تفكّر ما الذي حدث، لا بدَّ أنّ هناك شيئاً أثقل رسول الله في شعوره. تطلّعت، ورأت أنها نصبت ستاراً ربما كان فيه شيء من التّرف أهداه إليها عليّ مما غنمه من المعارك، أو في رواية، رأت أنّها لبست سواراً أهداها إيّاه عليّ (ع)، أخذت السّتار ولفّته، أو أخذت السّوار، وأرسلته مع ولديها الحسنين (ع)، وكانا طفلين، وقالت لهما: اذهبا إلى أبي، وقولا له ما أحدثنا بعدك غير هذا، فافعل به ما تشاء.

وذهبا به وهو في المسجد، وقدّماه إليه، وهزّت الأريحيّة رسول الله، وشعر بالاعتزاز بابنته التي تعيش روحيّته في روحيّة الرسالة، فقال: "فداها أبوها، فداها أبوها، فداها أبوها، ما لآل محمّد وللدنيا، فإنهم خلقوا للآخرة" .

طبعا، ًهو ليس حراماً، فهو ملكها أهداها إيّاه زوجها مما حصل عليه بطريقة شرعيّة، ولم يكن زوجها مترفاً، بل كان من أفقر النّاس، ولم تكن مترفةً، بل كانت من أفقر النّاس، ولكنّ المسألة كانت أنَّ هناك فقراء كان يرعاهم رسول الله يبيتون على جانب المسجد، وكان لا يريد أن يكون في بيته مظهر ترف أو ما يشبه التّرف حتى بهذا المستوى، ولذلك باعه رسول الله وقدّمه إلى الفقراء.

إنّ المسألة هنا ليست في أنها قدَّمت ما عندها للفقراء، لكنّ المسألة هي أنها كانت تلتقط مشاعر رسول الله قبل أن تسمع كلمته، ما يوحي بهذا الاندماج الرّوحيّ به.

وهكذا، كانت تتحرّك في هذا الجوّ الرّساليّ الروحيّ، حتى دنت الوفاة من رسول الله (ص)، وأنا أذكر هذا لأعبّر عن هذا التّمازج الروحيّ بينها وبين رسول الله، بالمستوى الذي كانت تشعر بأنّها قطعة من روحه كما هو قطعة من روحها، ولذلك نفهم كلمته المرويّة عنه: "فاطمة بضعة مني... يؤذيني ما آذاها" .

سرٌّ بين فاطمة (ع) وأبيها (ص)

عندما دنت منه الوفاة، ضمَّها إلى صدره فبكت، ثم ضمَّها إلى صدره ثانيةً فضحكت. قيل لها: ما أسرع الضّحك إلى البكاء! قالت: "ما كنت لأفشي سرّ رسول الله في حياته" . وحدّثتهم بعد وفاته أنّه قال لها في المرّة الأولى إنّه سينتقل إلى الرّفيق الأعلى فبكت، ثم قال لها إنها ستكون أوّل أهل بيته لحوقاً به فضحكت. لنتصوَّر، مهما كان حبّ البنت لأبيها، وهي الأمّ الشابَّة، وهي الزّوجة الشابَّة، وهي الإنسانة الشابّة، والشّباب يفتح للإنسان أبواب الحياة على أجنحة الأمل، مهما كانت محبّتها لأبيها، فهل يمكن لفتاة أن تفرح إذا أخبرها أبوها أنها ستموت بعده بقليل؟! ولكنَّها فرحت بذلك بقدر ما بكت على فراقه.

إنَّ هذا يدلّنا على أنَّ هذه العلاقة الروحيّة كانت تمثِّل قيمةً إنسانيّةً كبرى في هذا التّمازج الإنسانيّ بين الأب الّذي هو في أعلى مواقع العظمة، وبين البنت التي في أعلى مواقع العاطفة.

هذا جانبٌ من شخصيّتها؛ الجانب الّذي جعلها تحضن أباها، حتى وهو في آخر حياته، بعاطفتها وإنسانيّتها، ولا سيَّما أنَّ أباها رسول الله (ص). وكم يمكن للبنات الواعيات أن يقتدين بهذه الإنسانة في كيف يتمثّلن رعاية الأبوّة، ولا سيّما إذا كانت الأبوّة تعيش المأساة في بعض مواقع حياتها، ولا سيّما إذا كان الأب يتحمّل مسؤوليّة كبرى تثقل قلبه وحياته، فيحتاج إلى لمسة حنان من أقرب الناس إليه.

الزّوجة والأمّ المثاليّة

البعد الثاني الذي عاشته الزّهراء (ع) هو البعد العائليّ. لم يكن البيت مشكلةً لها، ولم يكن سجناً في إحساسها بهذا البيت، ولم تكن الأمومة أو الزّوجيّة عبئاً، لأنّنا ربما نلتقي بنماذج في المجتمع قد يشعرن أمام العنوان الفضفاض للحريّة، بأنّ البيت أو الزوجيّة أو الأمومة، ولا سيَّما إذا تحركت لتقسو على المرأة بكثير من الأعباء والمشاكل والآلام، عبء ثقيل على أكتافهنّ، أو يشعرن بالضّغط الرّوحيّ على أرواحهنّ، فيعشن العقدة إن لم يستطعن أن يعشن التمرّد.

لكنّ الزهراء كانت تعرف أنّ البيت لم يختره لها أحد، وأنّ الزوجيّة لم تكن عنصر ضغط في المجتمع عليها، وأنَّ الأمومة لم تكن خياراً صعباً في حياتها، بحيث كانت تفقد إرادتها أمامها؛ هي اختارت أن ترعى البيت، وهي اختارت أن تكون زوجةً ترعى زوجها ليرعاها زوجها، وهي اختارت أن تكون أمّاً، وليس اختيارها حالة ذاتيّة مختنقة في مسألة العادات والتّقاليد، ولكنّها مسألة الحياة.. الزوجيّة قانون في الحياة كلّها، وهو عمليّة تكامل، وليس عمليّة مصادرة إنسان لإنسان، والأمومة هي سرّ امتداد الإنسانيّة في الحياة. فإذا كان بعض الناس ينظر إلى البيت على أنّه سجن، فيمكن أن ينظر إلى الجانب الثاني من الصّورة، أنّ البيت هو المحضن الذي انطلق منه عندما كان طفلاً، ليحتضن الآخرين بعد أن صار كبيراً، لأنّ قضيّة إحساسنا بالأشياء من حولنا، يختلف باختلاف طبيعة نظرتنا إلى الأشياء.

بعض النّاس ينظرون إلى جانب من الصّورة ويصدرون الحكم عليها. ولكنَّنا إذا نظرنا إلى الصّورة من جميع جوانبها، فإنَّ السلبيّات قد تلتقي بالإيجابيّات، وعند ذلك، لا تكون المسألة سلبيّةً مطلقةً توحي بالسّقوط، أو تكون إيجابيّة توحي باللاواقعيّة.

لذلك، قصّة أن تكون المرأة زوجة، كقصّة أن يكون الرّجل زوجاً، وقصّة أن تكون المرأة أمّاً، كقصّة أن يكون الرّجل أباً، وإذا كانت الأمومة تضغط على المرأة باعتبارها شيئاً يعيش في داخل جسدها، فإنّ الأبوَّة تضغط على الرّجل عندما يتحمّل مسؤوليّة البيت الزوجيّ، ليعاني ويهاجر ويتشرّد ويسقط تحت تأثير القضايا.

وإذا كانت القضيّة تختلف في طبيعة الشَّكل، فإنها تتّفق في طبيعة الجوهر فيما هو الضّغط، وفيما هي الآلام والمشاكل، إذا أردنا أن ننظر إلى الصّورة من جانبيها في هذا المجال.

لذلك، كانت أمّاً تعاني كلّ قسوة الأمومة في متاعبها، وكانت زوجة تعيش كلّ مسؤولية الزوجة، وكانت ربة بيت. ومن الطّرائف أنّ عليّاً وفاطمة (ع) تقاضيا إلى رسول الله لتقسيم الأدوار فيما بينهما، فجعل للزهراء أن تطحن وتعجن وتخبز، وجعل لعليّ أن يكنس البيت ويستقي ويحتطب...

وهكذا كانت المسألة، وأحس عليّ (ع) بثقل المسؤوليّة على الزهراء (ع)، لأنها كانت ضعيفة البدن، فقال لها: هلّا ذهبنا إلى رسول الله لنطلب منه خادماً، فقد أثقلك عبء الأولاد وعبء البيت؟! وجاءا إلى رسول الله، وكان رسول الله لا يريد أن يميّز ابنته عن بقيّة المسلمين والمسلمات، ولذلك قال لهما: "أفلا أعلّمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما، فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبِّرا أربعاً وثلاثين" . وبقي هذا الذّكر يحمل اسم تسبيح الزّهراء (ع).

وربما نجد بعض أصدقائنا يقولون إنّ هذا دليل على أنّ الدّين أفيون الشّعوب، باعتبار أنّ الانسان يتخدّر. ولكنّنا نقول إنَّ الإنسان يقوى، لأنّه يمثّل الحقيقة التي تعمِّق الإيمان في نفس الإنسان. ونحن نعرف أنَّ الإنسان كلّما كان قويّ الإيمان أكثر، كان قويّ الموقف أكثر، وكان صلباً في مواجهة التحدّيات أكثر. وقصّة النّضال والجهاد والكفاح والشّهداء والأحرار، هي قصّة إيمان يحوّل الإنسان إلى طاقة حديديّة تستعصي عن الانحناء والسّقوط.

دورها في المجتمع

وهكذا، عندما ننطلق إلى الزّهراء في نشاطاتها الأخرى، نجد أنّها كانت تعطي دروساً لنساء المهاجرين والأنصار، ولم تكن هذه طريقة معروفة في دور المرأة في ذلك المجتمع، حتى ينقل صاحب دائرة المعارف الإسلاميّة، أنها افتقدت بعض أوراقها التي كانت تلقي الدّروس من خلالها، فقالت لصاحبتها فضَّة، وكانت تساعدها في البيت: ابحثي عنها، فإنها تعدل عندي حسنا ًوحسيناً.

إننا نرى في هذه الرواية، كم كانت الزّهراء (ع) تعظّم العلم، ونعرف ذلك عندما نعرف كم كانت محبّتها للحسن والحسين (ع). وكانت لها حلقة ممتدّة يجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار لتحاورهنّ وتتحدّث معهنّ في كلّ ما يهمّها من أمور الرّسالة وأمور الحياة.

وعندما ننطلق إلى جانب آخر، فنحن نعرف أنَّ المسلمين عاشوا مشاكل معيَّنة بعد وفاة رسول الله (ص)، وهي قضيّة الصّراع في الخلافة. ومن الطبيعيّ أنّ الزهراء (ع) كانت تعتقد أنَّ الحقّ إلى جانب عليّ (ع)، ولذلك، لم تجلس في بيتها، بل انطلقت إلى مسجد رسول الله، وألقت خطبة تشتمل على أسرار التّشريع والحيثيّات القانونيّة، وعلى كلّ الأبعاد التي كان المسلمون يعيشونها، بحيث إنها سيطرت على الموقف كلّه، وعندما دخل الآخرون معها في حوار، أجابتهم، ولم يكن هناك للمجتمع عهد، ولا سيّما في هذا الموقع، أن تتحدّث المرأة في مجتمع الرّجال عن قضايا نسمّيها اليوم قضايا سياسية وتشريعية.

وهذا هو الّذي يؤكِّد أنَّ مسألة دخول المرأة في الواقع السياسيّ، ومواجهتها للصِّراعات السياسيَّة، من خلال ما تعتقده وتؤمن به، هو أمر لا يبتعد عن الشرعيّة في الإسلام، لأنَّ فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص)، هي التي انطلقت في هذا المجال بكلّ ما يمكنها، حتى إنّها لعبت الكثير من الأدوار، ولا سيَّما في خطاباتها للنساء، وفي جولتها على المهاجرين والأنصار، كما تذكر السّيرة.

وبذلك، نجد أن مسؤوليّتها البيتيّة لم تبعدها عن مسؤوليّتها السياسية والاجتماعية والتربوية.

روحيّة الرساليّين

أمّا روحيّتها، حيث يكبر الإنسان بالرّوح في معنى إنسانيّتها، فيحدّثنا ولدها الإمام الحسن (ع)، يقول: كنت أجلس إلى أمّي فاطمة وهي تقوم اللّيل لتصلّي لربها حتى تتورّم قدماها، وكنت أسمعها تدعو لجيرانها ولأقربائها وللنّاس من حولها، وكانت، وهي ضعيفة الجسم، لا تدعو لنفسها، فقلت لها: يا أمّاه، لم لا تدعين لنفسك؟! قالت: "يا بنيّ، الجار ثم الدّار" .

المنطق الإنسانيّ يقول اجعل جارك كنفسك، ومنطق الزّهراء (ع) يقول اجعل جارك قبل نفسك، فكّر فيه قبل أن تفكّر في نفسك، وادع له قبل أن تدعو لنفسك، وهذا ما ندركه أيضاً عندما نستمع إلى الآية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}[الإنسان: 8-9]، الّتي نزلت في عليّ وفاطمة، عندما نذرا إن شفي الحسن والحسين، وكانا مريضين، أن يصوما ثلاثة أيّام شكراً لله، وقدّما في الأيّام الثّلاثة إفطارهما، ونزلت هذه الآية فيما يرويه المفسّرون جميعاً من كلّ طوائف المسلمين.

هذا هو سرّهم؛ أنهم يتحركون في كلّ عطاءاتهم في الحياة، وفي كلّ نشاطاتهم فيها لوجه الله، لا يريدون جزاءً ولا شكوراً. وتلك هي قمّة الإنسانيّة في معنى العطاء الإنسانيّ؛ الإنسان الّذي يعطي تماماً كما تعطي الشّمس الإشراق على كلّ أرض من دون أن تفكّر ماذا أخذت منهم، تماماً كما هو الينبوع عندما يتفجَّر فيعطي الماء للأرض خصبةً كانت أو جديبة... المسألة أن يعيش الإنسان العطاء كجزء من ذاته.

شخصيّة متكاملة

وهكذا نجد، أيّها الأحبّة، أنّ الزّهراء (ع) عاشت في أبعاد متنوّعة من حركتها في داخل نفسها ومن خارج نفسها، وأنّ البعد الرّوحيّ لم يغلق الأبواب عن البعد الاجتماعيّ والسياسيّ والتربويّ والعائليّ. إن الإنسان يمثل طاقة واسعة متنوّعة، ويمكن له أن يتحرّك من خلال عدّة أبعاد في الحياة، فلا يحصر نفسه في بعد واحد. ولذلك، يمكن أن تكوني أنت شخصيّة تتحرّك في أكثر من بعد، لأنّ تنوّع طاقاتنا يفرض علينا تنوّع عطاءاتنا وأبعادنا في الحياة.

لذلك، إننا عندما نتحدّث عن الزهراء القدوة، فإننا نتحدّث عن الروح عندما تسمو، وعن الإنسان الذي يتحمّل المسؤوليّة في الدائرة الصغيرة وفي الدائرة الكبيرة، ويخلص للمسؤوليّة هناك ويخلص للمسؤوليّة هنا، لا تشغله الدائرة الصغيرة عن الدائرة الكبيرة، ولا تجعله الدائرة الكبيرة يفكّر بتفاهة الدائرة الصغيرة، لأنّ الحياة في دوائرها الصغيرة والكبيرة تتكامل، لأنّ طبيعة الوجود هي كذلك؛ صغار ينفتحون على كبار، وكبار ينفتحون على صغار.. القضايا الصغيرة هي الأساس للقضايا الكبيرة، والقضايا الكبيرة هي التي ترعى القضايا الصّغيرة.

الزّهراء مثال الإنسان الكامل

لذلك، ليست القضيّة فقط الزّهراء القدوة والمرأة الكاملة، القصّة الزّهراء القدوة والإنسان الكامل، لأننا نتصوّر المرأة في إنسانيّتها كما نتصوّر الرجل في إنسانيّته، الأنوثة والذكورة حالة في الجسد من خلال التنوّع الإنسانيّ، ولكنّ الإنسانيّة حالة في العقل والروح والقلب.. وفي حركة الحياة، يتكامل الرّجل والمرأة في مسألة بناء المعرفة الإنسانيّة وبناء حركة الإنسان وبناء روحيّة الإنسان.

أن نتطلّع إلى الله، فلا يشغلنا التطلّع إلى الله عن التطلّع إلى الناس، وأن نتطلّع إلى الناس، فلا يشغلنا التطلّع إلى الناس عن التطلّع إلى الحياة.

إنّ كلّ أفق يمكن له أن يفتح لنا أفقاً آخر. أحبّوا الله لتحبّوا خلقه، وأحبوا النّاس لتحبّوا الحياة. الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله.

فلننفتح على ما يغنين

وهكذا، أيّها الأحبّة، يمكن لنا أن نفتح عقولنا للإبداع، وقلوبنا للعاطفة وللمحبة، وأن نفتح طاقتنا لكلّ حركة تغني الإنسان والحياة.

أن لا يعيش الإنسان في إنسانيّته مجرّد صورة للآخرين، لأنَّ الآخرين صنعوا صورتهم من خلال إبداعهم، وعلينا أن نصنع نحن صورتنا، أن نجسّد إنسانيّتنا في صلابة إرادتنا، أن ننتج الإنسان فينا لا أن نكون مستهلكين.

مشكلة الكثيرين منّا من نساء ورجال، أنهم يستهلكون ما ينتجه الآخرون، الآخرون يصنعون لهم طعامهم وشرابهم وثيابهم وأزياءهم وأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم؛ العصر هكذا، الوقت هكذا، الناس هكذا، لكن أنا ماذا؟! هل يفكّر أحدنا أنا ماذا؟ هل نختار حياتنا وشكلنا وطريقة حياتنا، أو أنّ الآخرين يختارون لنا ذلك؟

لا نزال نحدّق ماذا من جديد في واشنطن وباريس، وماذا من جديد في لندن وغيرها، ماذا من جديد في صرعة الأزياء والأفكار والسياسات وما إلى ذلك؟!

نحن لا نريد أن نرفض الآخرين، ولا نريد أن نعيش العقدة ضدّ الآخرين، لكن لماذا نعمل دائماً على أن نكون صورة الآخرين؟! نحن نريد أن نكون نحن، أن نكون صورتنا، أن نكون إرادتنا، أن نكون ذاتنا، عقلنا، وعند ذلك، يمكن لنا أن نصنع الصّورة للآخرين من خلالنا، أو نتكامل مع الآخرين بما لدينا وبما لديهم.

لنكن الأقوياء

إنّ الحياة هي تكامل، والحضارات كذلك. لذلك، هل تريدون أن تكونوا الأمّة التي تنحني للأقوياء لأنها عاشت الضّعف، ولأنها تقبّلت الضّعف، ولأنها أدمنت الضّعف، وبذلك أصبحت تخاف أن تكون قويّة، فتمعن في تخليد ضعفها، تماماً كما يمعن الذي يتناول المخدّر في تذويب نفسه؟!

القصة هي أن نكون الأقوياء في مجتمع لا يحترم إلا الأقوياء. لا تصدّقوا أن الفكر وحده يمكن أن يصل إلى أهدافه بعيداً من القوّة. اصنعوا القوّة للفكر، واصنعوا القوّة للحركة، واصنعوا القوّة للحياة، حتى إذا أردنا أن نتعاون مع الآخرين، فيكون تعاون القويّ مع القويّ، لأنكم تعرفون ما معنى تعاون القويّ مع الضّعيف، ما معنى تحالف القويّ مع الضّعيف؛ هل هو إلا صيغة قانونية لسيطرة القويّ على الضّعيف؟!

قصّة إنسانيّتنا فيما نصنعه، قصّة التاريخ الذي لا نريد أن نستغرق فيه، ولكنّنا نريد أن نأخذ منه بعض النقاط المضيئة التي ليست هي نقاط التاريخ، ولكنّها نقاط الحقيقة في الحياة. تلك هي الزهراء، وذلك هو الإنسان في خطّ الزّهراء، وقد قال أحمد شوقي بيتاً من الشّعر يتحدّث عنها:

ما تَمَنّى غَيرَها نَسلاً وَمَن يَلِدِ الزّهراءَ يَزهَد في سِواه

والحمد لله ربِّ العالمين.

* محاضرة ألقاها سماحته في كلّية الطبّ في الجامعة اللّبنانيّة، بتاريخ: 24/ 11/ 1994م.

لماذا يُتحدَّث دائماً عن القدوة؟ هذه الكلمة التي توحي بأنَّ هناك إنساناً يتحرّك في الحياة، فتتحرَّك القيمة في عقله لتتمثّل في حياته سلوكاً لا يسقط أمام التحدّي، وانفتاحاً لا يمكن أن يصير إلى انغلاق بفعل الضّغوط الّتي تحيط به. تكبر القيمة في عقله، وتذوب في روحه، ليكون التّجسيد للقيمة، ليعطينا واقعيّة القيمة.

الحاجة إلى القدوة

وتلك هي المشكلة في كثيرٍ من العناوين الكبرى التي تجتذبنا إلى السّاحة أو تجتذب السّاحة، وهي: ما هي مدى حركة العنوان الكبير في الواقع؟ حتّى نؤمن بأنَّ العنوان يمكن أن يتمثّل حياةً متحرّكةً في حياتنا. من هنا، قد نحتاج إلى القدوة من خلال النَّاس الذين يمنحوننا الإحساس بواقعيَّة القيمة، بدلاً من البقاء في العنوان الفكريّ.

لذلك، فنحن دائماً نبحث في السّاحة، أيّ ساحة، عن الإنسان الذي لا يطغيه المال لينحرف عن مبادئه من خلال ضغط المال عليه، والإنسان الذي لا يطغيه الجاه، والإنسان الذي يمكن أن يحقّق التّوازن في حياته بين ما هو روحيّ وما هو مادّيّ، بين ما هو فرديّ وما هو اجتماعيّ، لأنّ الكثيرين من النّاس قد يحدّثونك عن سقوط هذا التّمازج بين المادّة والروح، أو هذا التّمازج بين الشخصيّة الفرديّة والشخصيّة الاجتماعيّة، ليستشهدوا لك عن روحيّ عاش وحول المادّة، حتى لا تجد شيئاً للرّوح في حياته، وشخصيّة اجتماعيّة عاشت الفرديّة في كلّ تطلّعاتها ونشاطاتها، حتى لا تجد هناك للعنوان المجتمعيّ شيئاً في شخصيّتها وحركتها.

لذلك، نحن بحاجة إلى أن نرصد واقع القيمة في واقع النّاس الّذين يتحركون في خطّ القيمة. وفي الرّجال، هناك الكثيرون ممن لا تزال الإنسانيّة تغترف من القيم التي عاشوها، بحيث إنّك لا تحتاج إلى أن تقرأ كلماتهم، بل تحتاج إلى أن تستغرق في حركتهم في الواقع، لأنَّ حركتهم هي التي تغني كلماتهم، بدلاً من أن تكون الكلمات هي الّتي تغني الحركة.

وهكذا، نجد في النّساء في كلّ التّاريخ، نقاطاً مضيئةً تستطيع أن تعرّفنا ما يمكن للمرأة أن تختزنه في حياتها من غنى في الرّوح، ومن امتداد في الحركة، ومن انطلاق في الفكر، ومن صلابة في الموقف.

هل المرأة عنوانٌ للضّعف؟!

ربما نحتاج إلى أن نستقدم من التّأريخ، أو نلملم من الحاضر، بعض النماذج النسائيّة التي تجسّد بعض القيم، إن لم تجسّدها كلّها، لأنّ هناك حديثاً لا زال التخلّف يردِّده، ولا زالت الأوضاع المتخلّفة تحرسه، وهو أنّ المرأة إنسان من الدَّرجة الثّانية أو الثّالثة، وأنّ التّاريخ للرّجل، والإبداع والقوّة للرّجل، فالمرأة هي عنوان الضّعف. هكذا يتحدّثون، وهي عنوان الإنسان المنفعل، وهي عنوان الإنسان الذي لا يستطيع أن يقف في قلب السّاحة.

ربما نحتاج إلى بعض النماذج الحيّة في التأريخ، لنتمكّن من أن نواجه مثل هذه الأفكار من خلال التّجربة، لأنّ الإنسان في كثير من الحالات، إذا أراد أن يعالج المسألة بطريقة تحليليّة في أكثر من موضوع، فإنّه قد يغرق في متاهات الجدل الذي يمكن له أن يصوّر الفكرة بأكثر من صورة من دون أن ينزل إلى عمقها، ولكنّ التجربة الحيّة تعطيك الواقع الذي يبدع الفكرة.

فأنت لا تحتاج لأن تؤصّل الفكرة في الوعي إلّا من خلال أن تقدّم الفكرة وهي تعيش واقعاً حيّاً متحركاً في الأرض وفي الإنسان.

ونحن نعرف أنَّ التجربة هي أحد المنهجين في عمليّة المعرفة، فإذا كان العقل التأمّلي يمثّل نافذةً على المعرفة، فإنّ التّجربة تمثّل نافذةً واسعة، وربما لا يستطيع العقل أن يبدع الحقيقة إلّا في تفاعله مع التّجربة، كما أنّ التّجربة لا تستطيع أن تحقّق امتداداً للفكرة إلا من خلال العقل. ومن هنا، فإنّنا نتصوّر أنّ المعرفة لا تتحرّك في منهجين منفصلين، بل هناك تمازج بين المنهج العقليّ والمنهج التجريبيّ.

وعلى ضوء هذا، يمكن لنا أن نطلّ على عنوان محاضرتنا اليوم؛ من هي الزّهراء؟

علاقتها بالرّسول (ص)

هي، كما نعرف جميعاً، ابنة النبيّ محمّد (ص)، وهي الإنسانة التي عاشت كلّ حياتها القصيرة التي يتردَّد المؤرّخون بين أن تكون ثمانية عشر عامًا أو ثمانية وعشرين عامًا من هذه الحياة، كانت فيها الإنسانة المتعدّدة الأبعاد، المتنوّعة القيم، المتحركة في أجواء الرّسالة، من دون أن تأخذ شيئاً من ذاتها لذاتها في هذه الأجواء.

لقد كانت إنسانة طبيعيّة، لم تستعرض نسبها في علاقاتها بمجتمعها، ولم تتعقّد ذاتياً لتنتفخ شخصيّتها من خلال هذا المجد الكبير الّذي كان يزحف في حياتها كلّما امتدَّت الرّسالة في الواقع، بل كانت إنسانةً تعيش روحيّة الإنسانيّة في إنسانيّتها، حتى وهي طفلة، كانت بنت الخامسة على بعض الرّوايات، أو بنت العاشرة، وكان أبوها يعاني اضطهاد المشركين له، كما عانى فقد زوجته التي كانت السّاعد الأيمن له، وهي أمّ المؤمنين خديجة، أمّها، كما أنّه افتقد عمّه أبا طالب الّذي كان يرعاه ويدافع عنه ويقف معه ولم يكن معه أحد.

كان وحده، وكان اليتم لا يزال يعيش في زاوية من زوايا إحساسه، لأنّه بشر يتحسَّس أحاسيس البشر وآلامهم، فيتألم لما يتألمون منه، ويفرح لما يفرحون منه، وقد عاش يتيم الأب وهو جنين، ويتيم الأمّ وهو رضيع، فافتقد حنان الأمومة. ونحن نعرف أنّ حنان الأمومة يغذّي عقل الإنسان وقلبه وإحساسه بطريقة لا يتحسّس لها الإنسان إلّا بعد حين، حتى إنَّ الإنسان يبقى يشعر بطفولته مع أمّه وهو في الخمسين، فإذا ماتت أمّه وهو في الخمسين أو السّتين، شعر فجأةً بالشيخوخة تزحف إلى حياته، لأنّ حنان أمّه كان ينمّي طفولته، فالأمّ، كما يقال، تبقى تحسّ بولدها مهما تقدّم العمر به، تحسّ به تماماً كما لو كان في أحضانها أو كان يزحف بين يديها.

لم يعش حنان الأمّ والأب، وفقد حنان الزَّوجة والعمّ، وعاش كلّ قسوة المجتمع من حوله، وكان المجتمع قاسياً، لم يكن مجتمعه عقلانيّاً، بينما كان (ص) يطلق العقلانيّة، كان يحدِّثهم: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق}[العلق: 1]، كان يحدّثهم: {ويتفكّرون في خلق السّموات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً}[آل عمران: 191]، كان يطلب أن ينفتحوا على الكون كلّه: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض}[يونس: 101]، كان يدعوهم إلى أن يقارعوا الحجّة بالحجّة {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}[البقرة: 111]، كان يريد منهم أن يدخلوا معه ليحاجّوه، وكان يقول لهم: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ علم}[آل عمران: 66].

كان (ص) يعمل على أن يرفع مستوى العقل عندهم، لأنَّ العقل عندما يرتفع بمستواه، فإنَّه يفتح ألف نافذةٍ للحياة، ليرفعها من خلال الفكر الّذي ينتجه، ويحرّك الحياة لأن تكون شيئاً يعطي الفكر من كلّ مفرداته ومن كلّ غناه. ولكن كانوا يقولون له ساحر، كذَّاب، شاعر، كاهن... حتى اتّهموه في عقله، فقالوا إنّه مجنون، وقال لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}، أراد أن ينقذهم من المنهج المتخلِّف في نظرتهم إلى الأشياء، حدَّثهم عن العقل الجمعيّ، لو كان هناك عقل جمعيّ، أو الشخصيّة الاجتماعيّة للمجتمع، إذا لم يكن هناك عقل جمعيّ على حسب النّظريّات، قال لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا - تفرّقوا عن جوّ الحماس والانفعال الذي يبعدكم عن شخصيّتكم الذاتية المستقلّة في التّفكير، لأنّكم عندما تجتمعون في هذه الحمّى الجماعيّة، فإنّكم لا تفكّرون بشكل مستقلّ - مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[سبأ: 46].

طفلةٌ تحتضن أباه

كان (ص) يعيش كلّ هذه الأجواء، ونحن نعرف أنّه كان يختزن في داخله كلّ هذا الفراغ العاطفيّ، وكلّ هذه المأساة العاطفيّة، وكلّ هذا الجوّ الروحيّ الذي يجعل الإنسان يعيش في حالة نفسيّة صعبة... كانت ابنته تحتضنه قبل أن يضمّها إليه، كانت تبتسم له عندما تلمح الكآبة في وجهه، كانت تهدهد روحه، وكانت ترعاه وتملأ عليه بيته.

قد لا تكون لنا مثل هذه التّفاصيل في مفردات تأريخ السّيرة، ولكنّنا نلتقطها من خلال الإنسان الّذي عبَّر عنها بأنّها "أمّ أبيها". هذه الكلمة تعطينا فكرةً كم كان النبيّ بحاجةٍ إلى أمّه لتحضن كلّ آلامه وكلّ مشاعره وكلّ عواطفه، فوجد أمّه في ابنته. ونحن نعرف أنَّ الأمومة ليست مجرّد حالة في الجسد، ولكنّها حالة في الروح وفي القلب وفي الإحساس والحركة والشّعور. نحن لا نحسّ بأمومة أمّهاتنا من خلال أنهنّ وضعننا، ولكن نحسّ بأمومتهنّ من خلال هدهدتهنّ ونحن في السّرير، ومن خلال هذا الاحتضان والمناغاة والهدهدات والابتسامات... هذه هي الأمومة؛ تلك أمومة في التَّكوين، وهذه هي أمومة في الإنسانيّة والروح.

تصوّروا طفلة في الخامسة أو في العاشرة، تملأ نفس هذا الإنسان العظيم بالجانب العاطفيّ! كم هي هذه العاطفة التي يمكن لها أن تملأ روح هذا الإنسان العظيم، بحيث يشعر بالامتلاء العاطفيّ، بعد أن كان يعيش فراغ العاطفة كإنسان!

ثم بعد ذلك، وهو في المدينة، كانت تفهم معنى كلّ نظراته، وكانت تستوحي كلّ حركته لتعرف ماذا يريد. جاء ذات يوم قادماً من سفر، وكان، كما يقول المؤرّخون، إذا سافر، فآخر النّاس عهداً به ابنته فاطمة، وإذا قدم من سفر، فأوّل الناس عهداً به ابنته فاطمة.

اندماجها الرّساليّ مع أبيها (ص)

جاء مرّة من سفر يريد أن يدخل بيتها، ثم رجع، وحاولت الزهراء أن تفكّر ما الذي حدث، لا بدَّ أنّ هناك شيئاً أثقل رسول الله في شعوره. تطلّعت، ورأت أنها نصبت ستاراً ربما كان فيه شيء من التّرف أهداه إليها عليّ مما غنمه من المعارك، أو في رواية، رأت أنّها لبست سواراً أهداها إيّاه عليّ (ع)، أخذت السّتار ولفّته، أو أخذت السّوار، وأرسلته مع ولديها الحسنين (ع)، وكانا طفلين، وقالت لهما: اذهبا إلى أبي، وقولا له ما أحدثنا بعدك غير هذا، فافعل به ما تشاء.

وذهبا به وهو في المسجد، وقدّماه إليه، وهزّت الأريحيّة رسول الله، وشعر بالاعتزاز بابنته التي تعيش روحيّته في روحيّة الرسالة، فقال: "فداها أبوها، فداها أبوها، فداها أبوها، ما لآل محمّد وللدنيا، فإنهم خلقوا للآخرة" .

طبعا، ًهو ليس حراماً، فهو ملكها أهداها إيّاه زوجها مما حصل عليه بطريقة شرعيّة، ولم يكن زوجها مترفاً، بل كان من أفقر النّاس، ولم تكن مترفةً، بل كانت من أفقر النّاس، ولكنّ المسألة كانت أنَّ هناك فقراء كان يرعاهم رسول الله يبيتون على جانب المسجد، وكان لا يريد أن يكون في بيته مظهر ترف أو ما يشبه التّرف حتى بهذا المستوى، ولذلك باعه رسول الله وقدّمه إلى الفقراء.

إنّ المسألة هنا ليست في أنها قدَّمت ما عندها للفقراء، لكنّ المسألة هي أنها كانت تلتقط مشاعر رسول الله قبل أن تسمع كلمته، ما يوحي بهذا الاندماج الرّوحيّ به.

وهكذا، كانت تتحرّك في هذا الجوّ الرّساليّ الروحيّ، حتى دنت الوفاة من رسول الله (ص)، وأنا أذكر هذا لأعبّر عن هذا التّمازج الروحيّ بينها وبين رسول الله، بالمستوى الذي كانت تشعر بأنّها قطعة من روحه كما هو قطعة من روحها، ولذلك نفهم كلمته المرويّة عنه: "فاطمة بضعة مني... يؤذيني ما آذاها" .

سرٌّ بين فاطمة (ع) وأبيها (ص)

عندما دنت منه الوفاة، ضمَّها إلى صدره فبكت، ثم ضمَّها إلى صدره ثانيةً فضحكت. قيل لها: ما أسرع الضّحك إلى البكاء! قالت: "ما كنت لأفشي سرّ رسول الله في حياته" . وحدّثتهم بعد وفاته أنّه قال لها في المرّة الأولى إنّه سينتقل إلى الرّفيق الأعلى فبكت، ثم قال لها إنها ستكون أوّل أهل بيته لحوقاً به فضحكت. لنتصوَّر، مهما كان حبّ البنت لأبيها، وهي الأمّ الشابَّة، وهي الزّوجة الشابَّة، وهي الإنسانة الشابّة، والشّباب يفتح للإنسان أبواب الحياة على أجنحة الأمل، مهما كانت محبّتها لأبيها، فهل يمكن لفتاة أن تفرح إذا أخبرها أبوها أنها ستموت بعده بقليل؟! ولكنَّها فرحت بذلك بقدر ما بكت على فراقه.

إنَّ هذا يدلّنا على أنَّ هذه العلاقة الروحيّة كانت تمثِّل قيمةً إنسانيّةً كبرى في هذا التّمازج الإنسانيّ بين الأب الّذي هو في أعلى مواقع العظمة، وبين البنت التي في أعلى مواقع العاطفة.

هذا جانبٌ من شخصيّتها؛ الجانب الّذي جعلها تحضن أباها، حتى وهو في آخر حياته، بعاطفتها وإنسانيّتها، ولا سيَّما أنَّ أباها رسول الله (ص). وكم يمكن للبنات الواعيات أن يقتدين بهذه الإنسانة في كيف يتمثّلن رعاية الأبوّة، ولا سيّما إذا كانت الأبوّة تعيش المأساة في بعض مواقع حياتها، ولا سيّما إذا كان الأب يتحمّل مسؤوليّة كبرى تثقل قلبه وحياته، فيحتاج إلى لمسة حنان من أقرب الناس إليه.

الزّوجة والأمّ المثاليّة

البعد الثاني الذي عاشته الزّهراء (ع) هو البعد العائليّ. لم يكن البيت مشكلةً لها، ولم يكن سجناً في إحساسها بهذا البيت، ولم تكن الأمومة أو الزّوجيّة عبئاً، لأنّنا ربما نلتقي بنماذج في المجتمع قد يشعرن أمام العنوان الفضفاض للحريّة، بأنّ البيت أو الزوجيّة أو الأمومة، ولا سيَّما إذا تحركت لتقسو على المرأة بكثير من الأعباء والمشاكل والآلام، عبء ثقيل على أكتافهنّ، أو يشعرن بالضّغط الرّوحيّ على أرواحهنّ، فيعشن العقدة إن لم يستطعن أن يعشن التمرّد.

لكنّ الزهراء كانت تعرف أنّ البيت لم يختره لها أحد، وأنّ الزوجيّة لم تكن عنصر ضغط في المجتمع عليها، وأنَّ الأمومة لم تكن خياراً صعباً في حياتها، بحيث كانت تفقد إرادتها أمامها؛ هي اختارت أن ترعى البيت، وهي اختارت أن تكون زوجةً ترعى زوجها ليرعاها زوجها، وهي اختارت أن تكون أمّاً، وليس اختيارها حالة ذاتيّة مختنقة في مسألة العادات والتّقاليد، ولكنّها مسألة الحياة.. الزوجيّة قانون في الحياة كلّها، وهو عمليّة تكامل، وليس عمليّة مصادرة إنسان لإنسان، والأمومة هي سرّ امتداد الإنسانيّة في الحياة. فإذا كان بعض الناس ينظر إلى البيت على أنّه سجن، فيمكن أن ينظر إلى الجانب الثاني من الصّورة، أنّ البيت هو المحضن الذي انطلق منه عندما كان طفلاً، ليحتضن الآخرين بعد أن صار كبيراً، لأنّ قضيّة إحساسنا بالأشياء من حولنا، يختلف باختلاف طبيعة نظرتنا إلى الأشياء.

بعض النّاس ينظرون إلى جانب من الصّورة ويصدرون الحكم عليها. ولكنَّنا إذا نظرنا إلى الصّورة من جميع جوانبها، فإنَّ السلبيّات قد تلتقي بالإيجابيّات، وعند ذلك، لا تكون المسألة سلبيّةً مطلقةً توحي بالسّقوط، أو تكون إيجابيّة توحي باللاواقعيّة.

لذلك، قصّة أن تكون المرأة زوجة، كقصّة أن يكون الرّجل زوجاً، وقصّة أن تكون المرأة أمّاً، كقصّة أن يكون الرّجل أباً، وإذا كانت الأمومة تضغط على المرأة باعتبارها شيئاً يعيش في داخل جسدها، فإنّ الأبوَّة تضغط على الرّجل عندما يتحمّل مسؤوليّة البيت الزوجيّ، ليعاني ويهاجر ويتشرّد ويسقط تحت تأثير القضايا.

وإذا كانت القضيّة تختلف في طبيعة الشَّكل، فإنها تتّفق في طبيعة الجوهر فيما هو الضّغط، وفيما هي الآلام والمشاكل، إذا أردنا أن ننظر إلى الصّورة من جانبيها في هذا المجال.

لذلك، كانت أمّاً تعاني كلّ قسوة الأمومة في متاعبها، وكانت زوجة تعيش كلّ مسؤولية الزوجة، وكانت ربة بيت. ومن الطّرائف أنّ عليّاً وفاطمة (ع) تقاضيا إلى رسول الله لتقسيم الأدوار فيما بينهما، فجعل للزهراء أن تطحن وتعجن وتخبز، وجعل لعليّ أن يكنس البيت ويستقي ويحتطب...

وهكذا كانت المسألة، وأحس عليّ (ع) بثقل المسؤوليّة على الزهراء (ع)، لأنها كانت ضعيفة البدن، فقال لها: هلّا ذهبنا إلى رسول الله لنطلب منه خادماً، فقد أثقلك عبء الأولاد وعبء البيت؟! وجاءا إلى رسول الله، وكان رسول الله لا يريد أن يميّز ابنته عن بقيّة المسلمين والمسلمات، ولذلك قال لهما: "أفلا أعلّمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما، فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبِّرا أربعاً وثلاثين" . وبقي هذا الذّكر يحمل اسم تسبيح الزّهراء (ع).

وربما نجد بعض أصدقائنا يقولون إنّ هذا دليل على أنّ الدّين أفيون الشّعوب، باعتبار أنّ الانسان يتخدّر. ولكنّنا نقول إنَّ الإنسان يقوى، لأنّه يمثّل الحقيقة التي تعمِّق الإيمان في نفس الإنسان. ونحن نعرف أنَّ الإنسان كلّما كان قويّ الإيمان أكثر، كان قويّ الموقف أكثر، وكان صلباً في مواجهة التحدّيات أكثر. وقصّة النّضال والجهاد والكفاح والشّهداء والأحرار، هي قصّة إيمان يحوّل الإنسان إلى طاقة حديديّة تستعصي عن الانحناء والسّقوط.

دورها في المجتمع

وهكذا، عندما ننطلق إلى الزّهراء في نشاطاتها الأخرى، نجد أنّها كانت تعطي دروساً لنساء المهاجرين والأنصار، ولم تكن هذه طريقة معروفة في دور المرأة في ذلك المجتمع، حتى ينقل صاحب دائرة المعارف الإسلاميّة، أنها افتقدت بعض أوراقها التي كانت تلقي الدّروس من خلالها، فقالت لصاحبتها فضَّة، وكانت تساعدها في البيت: ابحثي عنها، فإنها تعدل عندي حسنا ًوحسيناً.

إننا نرى في هذه الرواية، كم كانت الزّهراء (ع) تعظّم العلم، ونعرف ذلك عندما نعرف كم كانت محبّتها للحسن والحسين (ع). وكانت لها حلقة ممتدّة يجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار لتحاورهنّ وتتحدّث معهنّ في كلّ ما يهمّها من أمور الرّسالة وأمور الحياة.

وعندما ننطلق إلى جانب آخر، فنحن نعرف أنَّ المسلمين عاشوا مشاكل معيَّنة بعد وفاة رسول الله (ص)، وهي قضيّة الصّراع في الخلافة. ومن الطبيعيّ أنّ الزهراء (ع) كانت تعتقد أنَّ الحقّ إلى جانب عليّ (ع)، ولذلك، لم تجلس في بيتها، بل انطلقت إلى مسجد رسول الله، وألقت خطبة تشتمل على أسرار التّشريع والحيثيّات القانونيّة، وعلى كلّ الأبعاد التي كان المسلمون يعيشونها، بحيث إنها سيطرت على الموقف كلّه، وعندما دخل الآخرون معها في حوار، أجابتهم، ولم يكن هناك للمجتمع عهد، ولا سيّما في هذا الموقع، أن تتحدّث المرأة في مجتمع الرّجال عن قضايا نسمّيها اليوم قضايا سياسية وتشريعية.

وهذا هو الّذي يؤكِّد أنَّ مسألة دخول المرأة في الواقع السياسيّ، ومواجهتها للصِّراعات السياسيَّة، من خلال ما تعتقده وتؤمن به، هو أمر لا يبتعد عن الشرعيّة في الإسلام، لأنَّ فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص)، هي التي انطلقت في هذا المجال بكلّ ما يمكنها، حتى إنّها لعبت الكثير من الأدوار، ولا سيَّما في خطاباتها للنساء، وفي جولتها على المهاجرين والأنصار، كما تذكر السّيرة.

وبذلك، نجد أن مسؤوليّتها البيتيّة لم تبعدها عن مسؤوليّتها السياسية والاجتماعية والتربوية.

روحيّة الرساليّين

أمّا روحيّتها، حيث يكبر الإنسان بالرّوح في معنى إنسانيّتها، فيحدّثنا ولدها الإمام الحسن (ع)، يقول: كنت أجلس إلى أمّي فاطمة وهي تقوم اللّيل لتصلّي لربها حتى تتورّم قدماها، وكنت أسمعها تدعو لجيرانها ولأقربائها وللنّاس من حولها، وكانت، وهي ضعيفة الجسم، لا تدعو لنفسها، فقلت لها: يا أمّاه، لم لا تدعين لنفسك؟! قالت: "يا بنيّ، الجار ثم الدّار" .

المنطق الإنسانيّ يقول اجعل جارك كنفسك، ومنطق الزّهراء (ع) يقول اجعل جارك قبل نفسك، فكّر فيه قبل أن تفكّر في نفسك، وادع له قبل أن تدعو لنفسك، وهذا ما ندركه أيضاً عندما نستمع إلى الآية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}[الإنسان: 8-9]، الّتي نزلت في عليّ وفاطمة، عندما نذرا إن شفي الحسن والحسين، وكانا مريضين، أن يصوما ثلاثة أيّام شكراً لله، وقدّما في الأيّام الثّلاثة إفطارهما، ونزلت هذه الآية فيما يرويه المفسّرون جميعاً من كلّ طوائف المسلمين.

هذا هو سرّهم؛ أنهم يتحركون في كلّ عطاءاتهم في الحياة، وفي كلّ نشاطاتهم فيها لوجه الله، لا يريدون جزاءً ولا شكوراً. وتلك هي قمّة الإنسانيّة في معنى العطاء الإنسانيّ؛ الإنسان الّذي يعطي تماماً كما تعطي الشّمس الإشراق على كلّ أرض من دون أن تفكّر ماذا أخذت منهم، تماماً كما هو الينبوع عندما يتفجَّر فيعطي الماء للأرض خصبةً كانت أو جديبة... المسألة أن يعيش الإنسان العطاء كجزء من ذاته.

شخصيّة متكاملة

وهكذا نجد، أيّها الأحبّة، أنّ الزّهراء (ع) عاشت في أبعاد متنوّعة من حركتها في داخل نفسها ومن خارج نفسها، وأنّ البعد الرّوحيّ لم يغلق الأبواب عن البعد الاجتماعيّ والسياسيّ والتربويّ والعائليّ. إن الإنسان يمثل طاقة واسعة متنوّعة، ويمكن له أن يتحرّك من خلال عدّة أبعاد في الحياة، فلا يحصر نفسه في بعد واحد. ولذلك، يمكن أن تكوني أنت شخصيّة تتحرّك في أكثر من بعد، لأنّ تنوّع طاقاتنا يفرض علينا تنوّع عطاءاتنا وأبعادنا في الحياة.

لذلك، إننا عندما نتحدّث عن الزهراء القدوة، فإننا نتحدّث عن الروح عندما تسمو، وعن الإنسان الذي يتحمّل المسؤوليّة في الدائرة الصغيرة وفي الدائرة الكبيرة، ويخلص للمسؤوليّة هناك ويخلص للمسؤوليّة هنا، لا تشغله الدائرة الصغيرة عن الدائرة الكبيرة، ولا تجعله الدائرة الكبيرة يفكّر بتفاهة الدائرة الصغيرة، لأنّ الحياة في دوائرها الصغيرة والكبيرة تتكامل، لأنّ طبيعة الوجود هي كذلك؛ صغار ينفتحون على كبار، وكبار ينفتحون على صغار.. القضايا الصغيرة هي الأساس للقضايا الكبيرة، والقضايا الكبيرة هي التي ترعى القضايا الصّغيرة.

الزّهراء مثال الإنسان الكامل

لذلك، ليست القضيّة فقط الزّهراء القدوة والمرأة الكاملة، القصّة الزّهراء القدوة والإنسان الكامل، لأننا نتصوّر المرأة في إنسانيّتها كما نتصوّر الرجل في إنسانيّته، الأنوثة والذكورة حالة في الجسد من خلال التنوّع الإنسانيّ، ولكنّ الإنسانيّة حالة في العقل والروح والقلب.. وفي حركة الحياة، يتكامل الرّجل والمرأة في مسألة بناء المعرفة الإنسانيّة وبناء حركة الإنسان وبناء روحيّة الإنسان.

أن نتطلّع إلى الله، فلا يشغلنا التطلّع إلى الله عن التطلّع إلى الناس، وأن نتطلّع إلى الناس، فلا يشغلنا التطلّع إلى الناس عن التطلّع إلى الحياة.

إنّ كلّ أفق يمكن له أن يفتح لنا أفقاً آخر. أحبّوا الله لتحبّوا خلقه، وأحبوا النّاس لتحبّوا الحياة. الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله.

فلننفتح على ما يغنين

وهكذا، أيّها الأحبّة، يمكن لنا أن نفتح عقولنا للإبداع، وقلوبنا للعاطفة وللمحبة، وأن نفتح طاقتنا لكلّ حركة تغني الإنسان والحياة.

أن لا يعيش الإنسان في إنسانيّته مجرّد صورة للآخرين، لأنَّ الآخرين صنعوا صورتهم من خلال إبداعهم، وعلينا أن نصنع نحن صورتنا، أن نجسّد إنسانيّتنا في صلابة إرادتنا، أن ننتج الإنسان فينا لا أن نكون مستهلكين.

مشكلة الكثيرين منّا من نساء ورجال، أنهم يستهلكون ما ينتجه الآخرون، الآخرون يصنعون لهم طعامهم وشرابهم وثيابهم وأزياءهم وأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم؛ العصر هكذا، الوقت هكذا، الناس هكذا، لكن أنا ماذا؟! هل يفكّر أحدنا أنا ماذا؟ هل نختار حياتنا وشكلنا وطريقة حياتنا، أو أنّ الآخرين يختارون لنا ذلك؟

لا نزال نحدّق ماذا من جديد في واشنطن وباريس، وماذا من جديد في لندن وغيرها، ماذا من جديد في صرعة الأزياء والأفكار والسياسات وما إلى ذلك؟!

نحن لا نريد أن نرفض الآخرين، ولا نريد أن نعيش العقدة ضدّ الآخرين، لكن لماذا نعمل دائماً على أن نكون صورة الآخرين؟! نحن نريد أن نكون نحن، أن نكون صورتنا، أن نكون إرادتنا، أن نكون ذاتنا، عقلنا، وعند ذلك، يمكن لنا أن نصنع الصّورة للآخرين من خلالنا، أو نتكامل مع الآخرين بما لدينا وبما لديهم.

لنكن الأقوياء

إنّ الحياة هي تكامل، والحضارات كذلك. لذلك، هل تريدون أن تكونوا الأمّة التي تنحني للأقوياء لأنها عاشت الضّعف، ولأنها تقبّلت الضّعف، ولأنها أدمنت الضّعف، وبذلك أصبحت تخاف أن تكون قويّة، فتمعن في تخليد ضعفها، تماماً كما يمعن الذي يتناول المخدّر في تذويب نفسه؟!

القصة هي أن نكون الأقوياء في مجتمع لا يحترم إلا الأقوياء. لا تصدّقوا أن الفكر وحده يمكن أن يصل إلى أهدافه بعيداً من القوّة. اصنعوا القوّة للفكر، واصنعوا القوّة للحركة، واصنعوا القوّة للحياة، حتى إذا أردنا أن نتعاون مع الآخرين، فيكون تعاون القويّ مع القويّ، لأنكم تعرفون ما معنى تعاون القويّ مع الضّعيف، ما معنى تحالف القويّ مع الضّعيف؛ هل هو إلا صيغة قانونية لسيطرة القويّ على الضّعيف؟!

قصّة إنسانيّتنا فيما نصنعه، قصّة التاريخ الذي لا نريد أن نستغرق فيه، ولكنّنا نريد أن نأخذ منه بعض النقاط المضيئة التي ليست هي نقاط التاريخ، ولكنّها نقاط الحقيقة في الحياة. تلك هي الزهراء، وذلك هو الإنسان في خطّ الزّهراء، وقد قال أحمد شوقي بيتاً من الشّعر يتحدّث عنها:

ما تَمَنّى غَيرَها نَسلاً وَمَن يَلِدِ الزّهراءَ يَزهَد في سِواه

والحمد لله ربِّ العالمين.

* محاضرة ألقاها سماحته في كلّية الطبّ في الجامعة اللّبنانيّة، بتاريخ: 24/ 11/ 1994م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية