إنَّ كون الخمس متعلّقاً بفاضل أرباح المكاسب يترتب عليه أَنَّ أرباح المكاسب التي ذكرناها لا يجب فيها الخمس فوراً، بل يلحظ فيها مرور سنة من بداية إنتاج المكلّف لها، والهدف من ذلك إفساح المجال له من أجل الإنفاق على حاجاته لمعاشه ولتجارته، فإن فضل من هذه الأرباح شيئاً بعد ذلك خمسها على رأس الحول، وعليه فإننا لا بُدَّ أن نستعرض ما يدخل في هذه المؤنة ليكون مستثنى من تلك الأرباح وغير معتبر منها فنقول:
المؤنة المستثناة من الأرباح أمران:
الأول: مؤنة تحصيل الربح، وهي ما يغرمه الإنسان في سبيل الحصول على الربح، من صيانة ووقود وما يبذل من أجرة النقل والمحاسبة والحراسة ومستودع التخزين ومحل العرض والبيع والضرائب ونحوها، فإنَّ جميع هذه المصاريف تستثنى من الأرباح، سواء صرفت بين حين وآخر خلال سنة الإنتاج أو كان المطلوب دفعها في آخر السنة، مثل الضرائب والصيانة الدورية ونحوهما.
هذا وإنَّ السماح باستثناء مؤنة تحصيل الربح لا يختص بصورة الربح في سنة الإنفاق، فلو لم يربح إلاَّ في السنة الثانية أو الثالثة كان له استثناء ما أنفقه عليه في السنة الأولى، كذلك فإنَّ ديون التجارة داخلة في المؤنة المستثناة إجمالاً، وسيأتي بيان مفصل لهذين الموضوعين في القسم الخاص بخمس التجارة.
الثاني: مؤنة السنة: وهي كلّ ما يصرفه في سنته في معاش نفسه وعياله المناسب له، أو ما يصرفه في صدقاته وهداياه وجوائزه، أو ما يبذله في ضيافته أو في وفاء الحقوق الواجبة عليه بنذر أو كفارة أو أداء دين أو تعويض عن جناية أو عمّا أتلفه عمداً أو خطأ، ويدخل في المؤنة ما يحتاج إليه من سيارة وخادم وأثاث، ولو كان مما يعدّ زينة، كالرسوم والأزهار وطيور الزينة ونحوها، بل يدخل فيها ما ينفق لتزويج الأولاد وإسكانهم وتأمين مصالح يعتاشون منها، وكذا يستثنى ما ينفق على الطاعات كالحج وزيارة الأماكن المقدسة، واجباً كان ذلك أو مستحباً، وأمور أخرى كثيرة تختلف بين عصر وعصر، وبين مجتمع وآخر، والقاعدة فيها: كلّ مصرف متعارف له، سواء كان الصرف فيه على نحو الوجوب أو الإستحباب أو الكراهة أو الإباحة.
ولكن استثناء هذه المؤنة مشروط بكونها قد صرفت فعلاً، وتحقّق البذل من أجلها من الأرباح، فلو تبرع له متبرع بنفقته كلّها أو بعضها، أو أنه قتَّر على نفسه فوفّر ـ مثلاً ـ ربح ما يصرفه سنوياً وبقي عنده مدَّخَراً، لم يُعفَ من دفع خمس هذا المبلغ لأنه وفره من مؤنته أو تبرع به عنه متبرع، بل ما دامت هذه الأرباح لم تصرف فعلاً في حاجاته فهي زائدة عن المؤنة وواجبة التخميس. ومثل ذلك في الحكم ما كان قد أعدّه من مالٍ للحج أو الزيارة فعدل عنه لعذر أو عصياناً، فإنَّ ذلك المال يعدّ زائداً ويجب تخميسه إذا بقي إلى آخر السنة دون أن يصرفه في حاجة أخرى من حاجاته.
م ـ 1125: يكثر في عصرنا استخدام (الشيكات) في دفع الأموال إلى مستحقيها عبر البنوك، فلو فرض أنَّ المكلّف أصدر شيكاً بمبلغ معين في مؤنته ونحوها، وذلك على أن يقتطع من حسابه قبيل رأس سنته، فتأخر اقتطاع المبلغ بسبب طول المدّة التي تستغرقها المعاملة الخاصة بهذا الإقتطاع، فمرّت السنة والمبلغ ما يزال في حساب صاحبه، فإنَّ عليه خمسه في هذه الحالة، لأنَّ إصدار (شيك) بالصرف لا يخرج المال عن ملك صاحبه إلاَّ بعد اقتطاعه من حسابه وتحويله إلى حساب المستحق.
م ـ 1126: إذا تجاوز المكلّف الحّد المتعارف من أمثاله في الإنفاق على حاجاته، عُدَّ ما صرفه من نوع الإسراف والتبذير، ومنه ما يصرفه في الحرام، كشرب الخمر ولعب القمار ونحوهما، وحينئذ لا يصح احتسابه من المؤنة ولا يستثنى من الأرباح، بل يجب على المكلّف تقدير ما أتلفه وصرفه من الأموال من أجل ذلك واعتباره كأنه موجود وتخميسه.
ومن ذلك، المصرفُ الذي يدفع في مثل التبرع للمشاريع الخيرية أو الجهاد أو الإنفاق على الضيوف ونحوها، فإنه لا يعتبر من المؤنة ولا يستثنى من الأرباح إن كان المقدار المبذول فيها مما لا يتعارف دفعه ممن هو في مثل حالته وإلا صح استثناؤه.
م ـ 1127: قد ظهر مما سبق أنَّ الشيء لا يكون مؤنة إلاَّ إذا كان حاجة للمكلّف في معاشه، ولا تنفك الحاجة ـ عادة ـ عن استعمال ذلك الشيء في تلك الحاجة، فالاستعمال هو ممارسة تلك الحاجة وفعلها خارجاً، لذا فإنَّ كلمة "الاستعمال" سوف تتردّد معنا كثيراً، حيث نقصد بها استخدام الإنسان أمواله في مؤنته خلال السنة الواحدة، فلو كان عند المكلّف مال لم يصرفه في حاجاته، أو ثوب لم يلبسه، أو بيت لم يسكنه، رغم كونه محتاجاً إليه، فإنه ـ بعدم الاستعمال هذا ـ يصبح المال النقدي أو العيني فاضلاً عن مؤنته ويجب عليه تخميسه. ويشترط في الإستعمال تحقّقه من قبل المالك أو من قبل أحد أفراد عائلته المحسوبين عليه والمعتبرين من شؤونه، فلا يشمل ما لو أعاره لصديقه ـ مثلاً ـ أو نحو ذلك مما لا يعدّ استعمالاً له من قبل المالك.
ويستثنى من ذلك ما لو كان المكلّف غير قادر على تحقيق حاجته إلاَّ تدريجاً، كبناء المنزل وتجهيز العروس، ونحوهما، فإنَّ ما ينجزه خلال السنة من أجزاء تلك الحاجة يعتبر ضرورة للمكلّف ومؤنة له رغم عدم تمكنه من استعماله في تلك الحاجة، ولكن بشرط دفع المال فعلاً لإنجاز ذلك الجزء من تلك الحاجة، كما سنبينه فيما بعد.
كذلك يستثنى ما يكون حاجة فعلية للمكلّف ولكن وقوعها مرهون بالطوارىء، كمثل الأثاث والأدوات المعدّة للضيوف، فإذا مرّ العام على شرائها دون قدوم ضيف يستخدمها، لم يضر ذلك في كونها مؤنة مستثناة من الخمس. ومثلها كتب العلم التي يحتاجها الطالب عادة وصادف عدم احتياجه لها في تلك السنة، أو ثياب الشتاء التي اشتراها بعد الموسم فحل رأس سنته من دون أن يلبسها، ونحو ذلك كثير.
والقاعدة في هذا الاستثناء هي: كلّما كانت الحاجة بطبيعتها أوسع من دورة السنة كما في الضيوف أو كتب العلم، ونحوهما، أو كلّما كانت الحاجة أكبر من قدرة المكلّف على تحقيقها من ربح سنة واحدة، فإنَّ الاستعمال حينئذ لا يعدّ شرطاً في المؤنة المستثناة في تلك السنة.
وقد يرد في ثنايا المباحث القادمة مزيد من التفصيل لأحكام هذا الموضوع.
م ـ 1128: لا تنحصر المؤنة المستثناة بالمال الذي ربحه وصرفه فعلاً في حاجاته، بل تشمل الديون التي اقترضها لتغطية نفقات يحتاجها في مؤنته، كعلاج مرض أو شراء سيارة ونحوهما، أو لتغطية نفقات استحقت عليه لأسباب دينية، كالكفارات وردّ المظالم ونحوهما، مما هو من مؤنة سنته الحالية، فإذا دفع دينه هذا من أرباحه خلال السنة فهي مستثناة، بل يستثنى كلّ دين لمؤنته من سنين سابقة إذا دفعه من أرباح سنته هذه، ما عدا دين الخمس الذي له حكم خاص نبينه في المسألة التالية، وأمّا إذا لم يدفع ما عليه من الديون، بل بقي في ذمته إلى آخر السنة، عازماً على عدم دفعه من ربح هذه السنة، فإن كان الدين لمؤنة سنة الربح هذه استثناه في آخر السنة وأعفي من التخميس ما يوازي مقدار ما عليه من الديون، بلا فرق بين ما لو كان الإقتراض قبل أن يكسب شيئاً من إنتاجه أو كان بعدما كسب وظهر ربحه، وإن كان الدين عن السنين السابقة فإنه لا يعفى ما يوازيه إذا لم يدفعه إلى مستحقيه، وبعبارة أخرى: إنَّ دين المؤنة الذي لا يريد المكلّف دفعه من أرباح سنة الاقتراض له الحقّ في استثنائه من هذه الأرباح، فإن جاءت السنة الثانية ولم يدفعه فيها لم يكن له استثناؤه مرة ثانية، وهكذا.
م ـ 1129: ذكرنا فيما سبق أنَّ الخمس المستحق على المكلّف من سنين سابقة له حكم خاص، وكنّا قد أجلنا الكلام فيه إلى هذه المسألة، فنقول:
قد يجب الخمس على المكلّف في أرباح سنته ولا يدفعه فيها، وذلك إمّا عن عذر يستأذن فيه الحاكم الشرعي فيسمح له بالتأخير والدفع فيما بعد، وإمّا عن عصيان وتهاون، فتمر السنون ولا يدفع، ثُمَّ يتوب، فيبقى ذلك الخمس مطلوباً منه ويصير ديناً مستحقاً عليه عند الاقتدار، سواء في ذلك حالتا العذر وعدمه.
فإذا أراد وفاء ما عليه من الخمس من أرباح سنته الثانية أو التي بعدها فإنه لا يكون دائماً مستثنى من الأرباح ومعفى من الخمس، بل إنَّ له من هذه الجهة حالتين:
الأولى: أن تكون العين التي وجب فيها الخمس موجودة عنده غير تالفة، وذلك كالدار والأرض والسيارة والكتاب والنقد ونحوها من الأعيان التي تبقى عند المكلّف حتى لحظة دفع الخمس المستحق عليها منذ السنة الماضية أو التي قبلها، فإنَّ عليه ـ حينئذ ـ تخميس مقدار الخمس الذي يريد دفعه، أي ما يساوي مجموعه مقدار الربع تقريباً.
ومثال ذلك:
اشترى داراً للتجارة، أو للسكن ولم يسكن فيها، بخمسين ألفاً، فلم يدفع خمسها البالغ عشرة آلاف في سنة الشراء، لا من نفس العين ولا من مال آخر ربحه في سنته، وظلّت العين عنده، فإذا ربح في سنته الثانية مالاً وأراد دفع الخمس منه لزمه دفع العشرة مضافاً إليها خمس هذه العشرة، وهو ألفان، فيكون مجموع ما يجب دفعه إثني عشر ألفاً، وهو مقدار ربع الخمسين ألفاً تقريباً.
ومثال آخر: رجل ربح ألفاً فلم يخمسها وظلّت موجودة عنده إلى السنة الثانية، فربح مالاً جديداً وأراد وفاء خمس السنة الماضية من ربح هذه السنة، فإنَّ عليه دفع ماءتين هي خمس الألف مع زيادة أربعين هي خمس الماءتين.
ففي جميع فروض هذه المسألة يجب على المكلّف دائماً دفع الربع تقريباً، إلاَّ أن يدفع الخمس من نفس العين، أو يدفع بدل خمس العين مالاً من أرباح سنة الاستحقاق المخمسة.
والسبب في ذلك أنَّ المكلّف لما ظلّت العين موجودة عنده مع خمسها ومرّت عليها السنة الثانية ولم يدفع منها الخمس، فإنَّ معنى ذلك أنَّ مقدار الخمس منها لم يصرفه كي يعدّ من مؤنته، فإذا أراد دفع بدله من أرباح السنة الثانية لم يعف من الخمس كسائر ديونه، بل عليه تخميسه أولاً ثُمَّ دفعه ديناً عمّا عليه من خمس تلك العين الموجودة.
الثانية: أن تكون العين التي وجب فيها الخمس قد تلفت بعد مضي سنة الربح، فيتحول الخمس إلى دين في ذمته، فإن ربح في سنته الثانية أو التي بعدها وأدّى ذلك الخمس من أرباح هذه السنة لم يكن عليه إلاَّ دفع الخمس فقط لا الربع، أي يدفع الخمس من دون تخميس، وليس ذلك إلاَّ لأنَّ ما يقابل هذا الخمس من العين قد انعدم وزال وصرف، فيعدّ ـ حينئذ ـ هذا الخمس الدين من المؤنة فيعفى من الخمس ويستثنى من أرباح السنة التي دفع فيها.
ومثال ذلك:
رجل اشترى كتباً للإقتناء أو للتجارة، وبعدما استحق فيها الخمس تلفت بعد رأس السنة قبل دفع الخمس، فإذا أراد دفع الخمس من ربح السنة الثانية لم يكن عليه إلاَّ مقدار الخمس دون زيادة.
وكذا لو كان ربحه نقداً فصرفه بعد استقرار الخمس فيه وقبل دفعه، فإنه ليس عليه إلاَّ مقدار الخمس الذي كان عليه دفعه من ذلك المال قبل تلفه.
هذا وإنه لا يختلف الحكم في الحالتين الآنفتين بين الخمس الذي يكون ديناً عن مال التجارة أو عن غيره مما أعد للمؤنة وفضل عنها.
م ـ 1130: لا فرق في مؤنة السنة بين ما يتلف وتذهب عينه بالاستعمال، من قبيل الأكل والشرب والوقود ونحوها، وبين ما تبقى عينه بالاستعمال، كالمنزل والأثاث والآلات ونحوها، فكما يستثنى النوع الأول من المؤنة كذلك يستثنى النوع الثاني ما دام قد استعمله في سنة الشراء وكان محتاجاً إليه، حتى لو بقي للسنين القادمة.
م ـ 1131: كما يجب تخميس أرباحه النقدية أو العينية التي لم يصرفها في المؤنة في آخر السنة، فإنه يجب عليه تخميس ما يبقى من المؤنة التي تذهب عينها بالإستعمال، مثل الحنطة والزيت والوقود ونحوها، وهو ما يصطلح عليه بـ (فاضل المؤنة)، لأنَّ المستثنى منها هو ما احتاجه وصرفه في حاجته، فإن بقي شيء منها خمّسه.
أمّا ما تبقى عينه بالاستعمال كالثياب والأثاث فإنها تعفى من الخمس ما دامت موضع حاجته بمرور السنين، فإن استغنى عنه، كالمنزل يضيق به فينتقل إلى الأوسع والأنسب به، وكالحلي للمرأة عندما تستغني عنها في شيخوختها، ونحو ذلك، فالظاهر وجوب الخمس فيه.
م ـ 1132: إذا كان عند المكلّف مال لا يجب فيه الخمس أو وجب فيه وخمّسه، ومال آخر من ربح هذه السنة، فإنه لا يجب عليه الصرف في حاجاته من المال المخمس، بل يجوز له احتساب جميع مصاريف مؤنته من أرباح سنته هذه كي تكون مستثناة من الخمس. وعليه فإنه لو فرض أنَّ له في البنك مالاً، بعضه مخمّس وبعضه غير مخمّس، وكان يأخذ منه من دون أن ينوي في نفسه أنه من أحد المالين، فإنه يصح أن يعتبر بعد ذلك أنَّ ما أخذه إنما هو من المال غير المخمّس، فضلاً عن أنه يصح له نية ذلك قبل الأخذ من دون أن يضر بذلك اختلاط المالين.
م ـ 1133: إذا كانت حاجته لمؤنته لا تتحقّق من ربح سنة واحدة، كبناء منزله أو تهيأة متطلبات تجهيز أبنائه وبناته للزواج، ونحوهما مما لا يحصل من أمثاله إلاَّ من أرباح سنين متعدّدة، فهنا إن كان قد أدخر مالاً نقداً من ربح كلّ سنة فإنه يجب عليه تخميس ذلك المال الذي يدخره مما دارت عليه السنة أو السنون، ويستثنى من ذلك المقدار الذي يدخره في آخر سنة إذا اشترى فيها تلك الحاجة واستخدمها أو اشترى بعض أجزائها مقدمة لشراء الباقي. وأمّا إذا كان يشتري بذلك المال قبل حلول رأس سنته في كلّ سنة جزءاً من تلك الحاجة، كأن يشتري في السنة الأولى أرض البناء، وفي السنة الثانية يقيم الأساس والعمدان والسقف، وفي الثالثة يبني الجدران، وهكذا، إمّا بتعهد ذلك بنفسه أو بالدفع إلى تاجر البناء الذي يتدرج له بالبناء بتدرج دفعه له، فإنه في مثل هذه الحالة وأشباهها لا يجب عليه دفع خمس ما ينجزه من أجزاء بناء المنزل في كلّ سنة ما دام غير قادر على تحقيق حاجته إلاَّ بهذه الطريقة، فيدخل ذلك في مؤنته ويعدّ منها ويستثنى من الخمس رغم أنه لن يتمكن من استخدامه في حاجته إلاَّ بعد مرور عدّة سنين.
وكذلك الأمر فيما لو كان البناء لأبنائه ما داموا لا يقدرون على ذلك بأنفسهم بحيث يعد ذلك من شؤون الأب ومن توابع مؤنته.
م ـ 1134: الدواجن والمواشي والأشجار التي تقتنى من أجل المؤنة لا يجب الخمس في أعيانها ما دامت تعدّ من حاجات الإنسان التي ينتفع بها ولو بنحو غير مباشر، فإنَّ الانتفاع ببيض الدجاج وحليب الماشية وثمر الأشجار هو انتفاع بنفس الأعيان، لذا لا يجب خمس تلك الأعيان إذا اشتراها من أرباح السنة، أي من مال لم يتعلّق به الخمس بعد، وأمّا نماؤها فإن استهلكه وأكله فلا كلام، وإن بقي منه شيء لم يستهلك إلى آخر السنة، فهنا حالتان:
الأولى: أن يكون النماء قد دخل في حاجة المكلّف، كما لو صارت الفراخ بيَّاضة وكان المكلّف بحاجة إلى نتاجها الجديد من البيض في مؤنته، فلا يخمسها حينئذ.
الثانية: أن لا يكون قد دخل في المؤنة بذلك المعنى، كما لو كانت الفراخ غير منتجة أو تطلب للحمها لا لبيضها، أو كان النماء من قبيل الفاكهة والخضار واللبن والبيض ونحوه من أنواع النماء المنفصل، وبقي شيء منه إلى رأس السنة، فإنه في مثل هذه الحالات يلزمه تخميسه.
ونفس الحكم يثبت في طيور الزينة، فإنها لو تناسلت وصارت فراخها من الزينة المناسبة له لم يخمّس ذلك النماء وإلاَّ وجب تخميسه.
والحكم في مثل هذه الأمور ثابت حتى لمن كان مستغنياً بدخله من وظيفته أو تجارته وكان قادراً على شراء مؤنته منها من مصدر آخر.
م ـ 1135: الأراضي التي يزرعها الإنسان خضروات أو حبوباً أو يشجرها زيتوناً أو فاكهة من أجل مؤنته لا تعتبر من المؤنة، بل تعامل الأرض والأشجار المغروسة فيها بستاناً معاملة رأس المال ويجري عليها حكمه، سواء اعتمد عليها في معاشه كلياً أو جزئياً، فهي بذلك تختلف عن بقرة الحليب أو دجاج البيض أو عن مثل الشجرة أو الشجرات التي تزرع عادة في حديقة المنزل للاستفادة من نمائها، كشجرة الحامض أو بعض أشجار الفاكهة، مما لا يعد بستاناً يعتاش منه. وسيأتي مزيد بيان لذلك في أحكام التجارة.
م ـ 1136: ما يتلف من مال نقدي أو عيني في مؤنة الإنسان من أرباح سنته، وكذا ما يتلف من الأعيان المستعملة في مؤنته، لا يجبر ولا يعوض من الربح الباقي عنه آخر السنة، فلو احترق شيء من أثاث بيته، أو أصلح سيارة ركوبه، أو نحو ذلك من الطوارىء على المؤنة، فإنه إذا اشترى بدله من أرباحه خلال السنة عدّ من مؤنته وكان مستثنى من أرباحه، أمّا إذا لم يشتر بدله فإنه لا يصح له أن يعزل قيمة بدله من النقد من أرباحه كتعويض وجَبْرٍ لهذه الخسارة التي وقعت على السيارة أو على الأثاث مثلاً ويعفيه من الخمس.
نعم إذا كان عنده مال مخمس مدخر من أرباح السنة الماضية واحتاجه لمؤنته فإنه إذا ربح في سنته وفضل عنه شيء جاز له استثناء مقدار ما أخذه من ذلك المال المدخر وتعويضه من هذا الربح الباقي وعدم تخميسه حينئذ.
م ـ 1137: إذا أراد المكلّف إخراج الخمس من المال الذي تعلّق به فهو بالخيار بين إخراجه من نفس العين وبين إخراج ما يساوي قيمته من غيرها، نقداً كان أو غيره. وفي هذه المسألة تفاصيل وفروع نذكرها في مكان آخر أنسب بها.
إنَّ كون الخمس متعلّقاً بفاضل أرباح المكاسب يترتب عليه أَنَّ أرباح المكاسب التي ذكرناها لا يجب فيها الخمس فوراً، بل يلحظ فيها مرور سنة من بداية إنتاج المكلّف لها، والهدف من ذلك إفساح المجال له من أجل الإنفاق على حاجاته لمعاشه ولتجارته، فإن فضل من هذه الأرباح شيئاً بعد ذلك خمسها على رأس الحول، وعليه فإننا لا بُدَّ أن نستعرض ما يدخل في هذه المؤنة ليكون مستثنى من تلك الأرباح وغير معتبر منها فنقول:
المؤنة المستثناة من الأرباح أمران:
الأول: مؤنة تحصيل الربح، وهي ما يغرمه الإنسان في سبيل الحصول على الربح، من صيانة ووقود وما يبذل من أجرة النقل والمحاسبة والحراسة ومستودع التخزين ومحل العرض والبيع والضرائب ونحوها، فإنَّ جميع هذه المصاريف تستثنى من الأرباح، سواء صرفت بين حين وآخر خلال سنة الإنتاج أو كان المطلوب دفعها في آخر السنة، مثل الضرائب والصيانة الدورية ونحوهما.
هذا وإنَّ السماح باستثناء مؤنة تحصيل الربح لا يختص بصورة الربح في سنة الإنفاق، فلو لم يربح إلاَّ في السنة الثانية أو الثالثة كان له استثناء ما أنفقه عليه في السنة الأولى، كذلك فإنَّ ديون التجارة داخلة في المؤنة المستثناة إجمالاً، وسيأتي بيان مفصل لهذين الموضوعين في القسم الخاص بخمس التجارة.
الثاني: مؤنة السنة: وهي كلّ ما يصرفه في سنته في معاش نفسه وعياله المناسب له، أو ما يصرفه في صدقاته وهداياه وجوائزه، أو ما يبذله في ضيافته أو في وفاء الحقوق الواجبة عليه بنذر أو كفارة أو أداء دين أو تعويض عن جناية أو عمّا أتلفه عمداً أو خطأ، ويدخل في المؤنة ما يحتاج إليه من سيارة وخادم وأثاث، ولو كان مما يعدّ زينة، كالرسوم والأزهار وطيور الزينة ونحوها، بل يدخل فيها ما ينفق لتزويج الأولاد وإسكانهم وتأمين مصالح يعتاشون منها، وكذا يستثنى ما ينفق على الطاعات كالحج وزيارة الأماكن المقدسة، واجباً كان ذلك أو مستحباً، وأمور أخرى كثيرة تختلف بين عصر وعصر، وبين مجتمع وآخر، والقاعدة فيها: كلّ مصرف متعارف له، سواء كان الصرف فيه على نحو الوجوب أو الإستحباب أو الكراهة أو الإباحة.
ولكن استثناء هذه المؤنة مشروط بكونها قد صرفت فعلاً، وتحقّق البذل من أجلها من الأرباح، فلو تبرع له متبرع بنفقته كلّها أو بعضها، أو أنه قتَّر على نفسه فوفّر ـ مثلاً ـ ربح ما يصرفه سنوياً وبقي عنده مدَّخَراً، لم يُعفَ من دفع خمس هذا المبلغ لأنه وفره من مؤنته أو تبرع به عنه متبرع، بل ما دامت هذه الأرباح لم تصرف فعلاً في حاجاته فهي زائدة عن المؤنة وواجبة التخميس. ومثل ذلك في الحكم ما كان قد أعدّه من مالٍ للحج أو الزيارة فعدل عنه لعذر أو عصياناً، فإنَّ ذلك المال يعدّ زائداً ويجب تخميسه إذا بقي إلى آخر السنة دون أن يصرفه في حاجة أخرى من حاجاته.
م ـ 1125: يكثر في عصرنا استخدام (الشيكات) في دفع الأموال إلى مستحقيها عبر البنوك، فلو فرض أنَّ المكلّف أصدر شيكاً بمبلغ معين في مؤنته ونحوها، وذلك على أن يقتطع من حسابه قبيل رأس سنته، فتأخر اقتطاع المبلغ بسبب طول المدّة التي تستغرقها المعاملة الخاصة بهذا الإقتطاع، فمرّت السنة والمبلغ ما يزال في حساب صاحبه، فإنَّ عليه خمسه في هذه الحالة، لأنَّ إصدار (شيك) بالصرف لا يخرج المال عن ملك صاحبه إلاَّ بعد اقتطاعه من حسابه وتحويله إلى حساب المستحق.
م ـ 1126: إذا تجاوز المكلّف الحّد المتعارف من أمثاله في الإنفاق على حاجاته، عُدَّ ما صرفه من نوع الإسراف والتبذير، ومنه ما يصرفه في الحرام، كشرب الخمر ولعب القمار ونحوهما، وحينئذ لا يصح احتسابه من المؤنة ولا يستثنى من الأرباح، بل يجب على المكلّف تقدير ما أتلفه وصرفه من الأموال من أجل ذلك واعتباره كأنه موجود وتخميسه.
ومن ذلك، المصرفُ الذي يدفع في مثل التبرع للمشاريع الخيرية أو الجهاد أو الإنفاق على الضيوف ونحوها، فإنه لا يعتبر من المؤنة ولا يستثنى من الأرباح إن كان المقدار المبذول فيها مما لا يتعارف دفعه ممن هو في مثل حالته وإلا صح استثناؤه.
م ـ 1127: قد ظهر مما سبق أنَّ الشيء لا يكون مؤنة إلاَّ إذا كان حاجة للمكلّف في معاشه، ولا تنفك الحاجة ـ عادة ـ عن استعمال ذلك الشيء في تلك الحاجة، فالاستعمال هو ممارسة تلك الحاجة وفعلها خارجاً، لذا فإنَّ كلمة "الاستعمال" سوف تتردّد معنا كثيراً، حيث نقصد بها استخدام الإنسان أمواله في مؤنته خلال السنة الواحدة، فلو كان عند المكلّف مال لم يصرفه في حاجاته، أو ثوب لم يلبسه، أو بيت لم يسكنه، رغم كونه محتاجاً إليه، فإنه ـ بعدم الاستعمال هذا ـ يصبح المال النقدي أو العيني فاضلاً عن مؤنته ويجب عليه تخميسه. ويشترط في الإستعمال تحقّقه من قبل المالك أو من قبل أحد أفراد عائلته المحسوبين عليه والمعتبرين من شؤونه، فلا يشمل ما لو أعاره لصديقه ـ مثلاً ـ أو نحو ذلك مما لا يعدّ استعمالاً له من قبل المالك.
ويستثنى من ذلك ما لو كان المكلّف غير قادر على تحقيق حاجته إلاَّ تدريجاً، كبناء المنزل وتجهيز العروس، ونحوهما، فإنَّ ما ينجزه خلال السنة من أجزاء تلك الحاجة يعتبر ضرورة للمكلّف ومؤنة له رغم عدم تمكنه من استعماله في تلك الحاجة، ولكن بشرط دفع المال فعلاً لإنجاز ذلك الجزء من تلك الحاجة، كما سنبينه فيما بعد.
كذلك يستثنى ما يكون حاجة فعلية للمكلّف ولكن وقوعها مرهون بالطوارىء، كمثل الأثاث والأدوات المعدّة للضيوف، فإذا مرّ العام على شرائها دون قدوم ضيف يستخدمها، لم يضر ذلك في كونها مؤنة مستثناة من الخمس. ومثلها كتب العلم التي يحتاجها الطالب عادة وصادف عدم احتياجه لها في تلك السنة، أو ثياب الشتاء التي اشتراها بعد الموسم فحل رأس سنته من دون أن يلبسها، ونحو ذلك كثير.
والقاعدة في هذا الاستثناء هي: كلّما كانت الحاجة بطبيعتها أوسع من دورة السنة كما في الضيوف أو كتب العلم، ونحوهما، أو كلّما كانت الحاجة أكبر من قدرة المكلّف على تحقيقها من ربح سنة واحدة، فإنَّ الاستعمال حينئذ لا يعدّ شرطاً في المؤنة المستثناة في تلك السنة.
وقد يرد في ثنايا المباحث القادمة مزيد من التفصيل لأحكام هذا الموضوع.
م ـ 1128: لا تنحصر المؤنة المستثناة بالمال الذي ربحه وصرفه فعلاً في حاجاته، بل تشمل الديون التي اقترضها لتغطية نفقات يحتاجها في مؤنته، كعلاج مرض أو شراء سيارة ونحوهما، أو لتغطية نفقات استحقت عليه لأسباب دينية، كالكفارات وردّ المظالم ونحوهما، مما هو من مؤنة سنته الحالية، فإذا دفع دينه هذا من أرباحه خلال السنة فهي مستثناة، بل يستثنى كلّ دين لمؤنته من سنين سابقة إذا دفعه من أرباح سنته هذه، ما عدا دين الخمس الذي له حكم خاص نبينه في المسألة التالية، وأمّا إذا لم يدفع ما عليه من الديون، بل بقي في ذمته إلى آخر السنة، عازماً على عدم دفعه من ربح هذه السنة، فإن كان الدين لمؤنة سنة الربح هذه استثناه في آخر السنة وأعفي من التخميس ما يوازي مقدار ما عليه من الديون، بلا فرق بين ما لو كان الإقتراض قبل أن يكسب شيئاً من إنتاجه أو كان بعدما كسب وظهر ربحه، وإن كان الدين عن السنين السابقة فإنه لا يعفى ما يوازيه إذا لم يدفعه إلى مستحقيه، وبعبارة أخرى: إنَّ دين المؤنة الذي لا يريد المكلّف دفعه من أرباح سنة الاقتراض له الحقّ في استثنائه من هذه الأرباح، فإن جاءت السنة الثانية ولم يدفعه فيها لم يكن له استثناؤه مرة ثانية، وهكذا.
م ـ 1129: ذكرنا فيما سبق أنَّ الخمس المستحق على المكلّف من سنين سابقة له حكم خاص، وكنّا قد أجلنا الكلام فيه إلى هذه المسألة، فنقول:
قد يجب الخمس على المكلّف في أرباح سنته ولا يدفعه فيها، وذلك إمّا عن عذر يستأذن فيه الحاكم الشرعي فيسمح له بالتأخير والدفع فيما بعد، وإمّا عن عصيان وتهاون، فتمر السنون ولا يدفع، ثُمَّ يتوب، فيبقى ذلك الخمس مطلوباً منه ويصير ديناً مستحقاً عليه عند الاقتدار، سواء في ذلك حالتا العذر وعدمه.
فإذا أراد وفاء ما عليه من الخمس من أرباح سنته الثانية أو التي بعدها فإنه لا يكون دائماً مستثنى من الأرباح ومعفى من الخمس، بل إنَّ له من هذه الجهة حالتين:
الأولى: أن تكون العين التي وجب فيها الخمس موجودة عنده غير تالفة، وذلك كالدار والأرض والسيارة والكتاب والنقد ونحوها من الأعيان التي تبقى عند المكلّف حتى لحظة دفع الخمس المستحق عليها منذ السنة الماضية أو التي قبلها، فإنَّ عليه ـ حينئذ ـ تخميس مقدار الخمس الذي يريد دفعه، أي ما يساوي مجموعه مقدار الربع تقريباً.
ومثال ذلك:
اشترى داراً للتجارة، أو للسكن ولم يسكن فيها، بخمسين ألفاً، فلم يدفع خمسها البالغ عشرة آلاف في سنة الشراء، لا من نفس العين ولا من مال آخر ربحه في سنته، وظلّت العين عنده، فإذا ربح في سنته الثانية مالاً وأراد دفع الخمس منه لزمه دفع العشرة مضافاً إليها خمس هذه العشرة، وهو ألفان، فيكون مجموع ما يجب دفعه إثني عشر ألفاً، وهو مقدار ربع الخمسين ألفاً تقريباً.
ومثال آخر: رجل ربح ألفاً فلم يخمسها وظلّت موجودة عنده إلى السنة الثانية، فربح مالاً جديداً وأراد وفاء خمس السنة الماضية من ربح هذه السنة، فإنَّ عليه دفع ماءتين هي خمس الألف مع زيادة أربعين هي خمس الماءتين.
ففي جميع فروض هذه المسألة يجب على المكلّف دائماً دفع الربع تقريباً، إلاَّ أن يدفع الخمس من نفس العين، أو يدفع بدل خمس العين مالاً من أرباح سنة الاستحقاق المخمسة.
والسبب في ذلك أنَّ المكلّف لما ظلّت العين موجودة عنده مع خمسها ومرّت عليها السنة الثانية ولم يدفع منها الخمس، فإنَّ معنى ذلك أنَّ مقدار الخمس منها لم يصرفه كي يعدّ من مؤنته، فإذا أراد دفع بدله من أرباح السنة الثانية لم يعف من الخمس كسائر ديونه، بل عليه تخميسه أولاً ثُمَّ دفعه ديناً عمّا عليه من خمس تلك العين الموجودة.
الثانية: أن تكون العين التي وجب فيها الخمس قد تلفت بعد مضي سنة الربح، فيتحول الخمس إلى دين في ذمته، فإن ربح في سنته الثانية أو التي بعدها وأدّى ذلك الخمس من أرباح هذه السنة لم يكن عليه إلاَّ دفع الخمس فقط لا الربع، أي يدفع الخمس من دون تخميس، وليس ذلك إلاَّ لأنَّ ما يقابل هذا الخمس من العين قد انعدم وزال وصرف، فيعدّ ـ حينئذ ـ هذا الخمس الدين من المؤنة فيعفى من الخمس ويستثنى من أرباح السنة التي دفع فيها.
ومثال ذلك:
رجل اشترى كتباً للإقتناء أو للتجارة، وبعدما استحق فيها الخمس تلفت بعد رأس السنة قبل دفع الخمس، فإذا أراد دفع الخمس من ربح السنة الثانية لم يكن عليه إلاَّ مقدار الخمس دون زيادة.
وكذا لو كان ربحه نقداً فصرفه بعد استقرار الخمس فيه وقبل دفعه، فإنه ليس عليه إلاَّ مقدار الخمس الذي كان عليه دفعه من ذلك المال قبل تلفه.
هذا وإنه لا يختلف الحكم في الحالتين الآنفتين بين الخمس الذي يكون ديناً عن مال التجارة أو عن غيره مما أعد للمؤنة وفضل عنها.
م ـ 1130: لا فرق في مؤنة السنة بين ما يتلف وتذهب عينه بالاستعمال، من قبيل الأكل والشرب والوقود ونحوها، وبين ما تبقى عينه بالاستعمال، كالمنزل والأثاث والآلات ونحوها، فكما يستثنى النوع الأول من المؤنة كذلك يستثنى النوع الثاني ما دام قد استعمله في سنة الشراء وكان محتاجاً إليه، حتى لو بقي للسنين القادمة.
م ـ 1131: كما يجب تخميس أرباحه النقدية أو العينية التي لم يصرفها في المؤنة في آخر السنة، فإنه يجب عليه تخميس ما يبقى من المؤنة التي تذهب عينها بالإستعمال، مثل الحنطة والزيت والوقود ونحوها، وهو ما يصطلح عليه بـ (فاضل المؤنة)، لأنَّ المستثنى منها هو ما احتاجه وصرفه في حاجته، فإن بقي شيء منها خمّسه.
أمّا ما تبقى عينه بالاستعمال كالثياب والأثاث فإنها تعفى من الخمس ما دامت موضع حاجته بمرور السنين، فإن استغنى عنه، كالمنزل يضيق به فينتقل إلى الأوسع والأنسب به، وكالحلي للمرأة عندما تستغني عنها في شيخوختها، ونحو ذلك، فالظاهر وجوب الخمس فيه.
م ـ 1132: إذا كان عند المكلّف مال لا يجب فيه الخمس أو وجب فيه وخمّسه، ومال آخر من ربح هذه السنة، فإنه لا يجب عليه الصرف في حاجاته من المال المخمس، بل يجوز له احتساب جميع مصاريف مؤنته من أرباح سنته هذه كي تكون مستثناة من الخمس. وعليه فإنه لو فرض أنَّ له في البنك مالاً، بعضه مخمّس وبعضه غير مخمّس، وكان يأخذ منه من دون أن ينوي في نفسه أنه من أحد المالين، فإنه يصح أن يعتبر بعد ذلك أنَّ ما أخذه إنما هو من المال غير المخمّس، فضلاً عن أنه يصح له نية ذلك قبل الأخذ من دون أن يضر بذلك اختلاط المالين.
م ـ 1133: إذا كانت حاجته لمؤنته لا تتحقّق من ربح سنة واحدة، كبناء منزله أو تهيأة متطلبات تجهيز أبنائه وبناته للزواج، ونحوهما مما لا يحصل من أمثاله إلاَّ من أرباح سنين متعدّدة، فهنا إن كان قد أدخر مالاً نقداً من ربح كلّ سنة فإنه يجب عليه تخميس ذلك المال الذي يدخره مما دارت عليه السنة أو السنون، ويستثنى من ذلك المقدار الذي يدخره في آخر سنة إذا اشترى فيها تلك الحاجة واستخدمها أو اشترى بعض أجزائها مقدمة لشراء الباقي. وأمّا إذا كان يشتري بذلك المال قبل حلول رأس سنته في كلّ سنة جزءاً من تلك الحاجة، كأن يشتري في السنة الأولى أرض البناء، وفي السنة الثانية يقيم الأساس والعمدان والسقف، وفي الثالثة يبني الجدران، وهكذا، إمّا بتعهد ذلك بنفسه أو بالدفع إلى تاجر البناء الذي يتدرج له بالبناء بتدرج دفعه له، فإنه في مثل هذه الحالة وأشباهها لا يجب عليه دفع خمس ما ينجزه من أجزاء بناء المنزل في كلّ سنة ما دام غير قادر على تحقيق حاجته إلاَّ بهذه الطريقة، فيدخل ذلك في مؤنته ويعدّ منها ويستثنى من الخمس رغم أنه لن يتمكن من استخدامه في حاجته إلاَّ بعد مرور عدّة سنين.
وكذلك الأمر فيما لو كان البناء لأبنائه ما داموا لا يقدرون على ذلك بأنفسهم بحيث يعد ذلك من شؤون الأب ومن توابع مؤنته.
م ـ 1134: الدواجن والمواشي والأشجار التي تقتنى من أجل المؤنة لا يجب الخمس في أعيانها ما دامت تعدّ من حاجات الإنسان التي ينتفع بها ولو بنحو غير مباشر، فإنَّ الانتفاع ببيض الدجاج وحليب الماشية وثمر الأشجار هو انتفاع بنفس الأعيان، لذا لا يجب خمس تلك الأعيان إذا اشتراها من أرباح السنة، أي من مال لم يتعلّق به الخمس بعد، وأمّا نماؤها فإن استهلكه وأكله فلا كلام، وإن بقي منه شيء لم يستهلك إلى آخر السنة، فهنا حالتان:
الأولى: أن يكون النماء قد دخل في حاجة المكلّف، كما لو صارت الفراخ بيَّاضة وكان المكلّف بحاجة إلى نتاجها الجديد من البيض في مؤنته، فلا يخمسها حينئذ.
الثانية: أن لا يكون قد دخل في المؤنة بذلك المعنى، كما لو كانت الفراخ غير منتجة أو تطلب للحمها لا لبيضها، أو كان النماء من قبيل الفاكهة والخضار واللبن والبيض ونحوه من أنواع النماء المنفصل، وبقي شيء منه إلى رأس السنة، فإنه في مثل هذه الحالات يلزمه تخميسه.
ونفس الحكم يثبت في طيور الزينة، فإنها لو تناسلت وصارت فراخها من الزينة المناسبة له لم يخمّس ذلك النماء وإلاَّ وجب تخميسه.
والحكم في مثل هذه الأمور ثابت حتى لمن كان مستغنياً بدخله من وظيفته أو تجارته وكان قادراً على شراء مؤنته منها من مصدر آخر.
م ـ 1135: الأراضي التي يزرعها الإنسان خضروات أو حبوباً أو يشجرها زيتوناً أو فاكهة من أجل مؤنته لا تعتبر من المؤنة، بل تعامل الأرض والأشجار المغروسة فيها بستاناً معاملة رأس المال ويجري عليها حكمه، سواء اعتمد عليها في معاشه كلياً أو جزئياً، فهي بذلك تختلف عن بقرة الحليب أو دجاج البيض أو عن مثل الشجرة أو الشجرات التي تزرع عادة في حديقة المنزل للاستفادة من نمائها، كشجرة الحامض أو بعض أشجار الفاكهة، مما لا يعد بستاناً يعتاش منه. وسيأتي مزيد بيان لذلك في أحكام التجارة.
م ـ 1136: ما يتلف من مال نقدي أو عيني في مؤنة الإنسان من أرباح سنته، وكذا ما يتلف من الأعيان المستعملة في مؤنته، لا يجبر ولا يعوض من الربح الباقي عنه آخر السنة، فلو احترق شيء من أثاث بيته، أو أصلح سيارة ركوبه، أو نحو ذلك من الطوارىء على المؤنة، فإنه إذا اشترى بدله من أرباحه خلال السنة عدّ من مؤنته وكان مستثنى من أرباحه، أمّا إذا لم يشتر بدله فإنه لا يصح له أن يعزل قيمة بدله من النقد من أرباحه كتعويض وجَبْرٍ لهذه الخسارة التي وقعت على السيارة أو على الأثاث مثلاً ويعفيه من الخمس.
نعم إذا كان عنده مال مخمس مدخر من أرباح السنة الماضية واحتاجه لمؤنته فإنه إذا ربح في سنته وفضل عنه شيء جاز له استثناء مقدار ما أخذه من ذلك المال المدخر وتعويضه من هذا الربح الباقي وعدم تخميسه حينئذ.
م ـ 1137: إذا أراد المكلّف إخراج الخمس من المال الذي تعلّق به فهو بالخيار بين إخراجه من نفس العين وبين إخراج ما يساوي قيمته من غيرها، نقداً كان أو غيره. وفي هذه المسألة تفاصيل وفروع نذكرها في مكان آخر أنسب بها.