{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[1]، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[2]، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[3].
هكذا كانت صورته في القرآن؛ كانت الصّورة الَّتي تعبّر عن عمق إنسانيَّته في كلّ إنسان دعاه إلى الله وعاش معه، وفي كلِّ إنسانٍ أعطاه وحاوره. كان الإنسان الَّذي تتفايض إنسانيَّته من عقله، فيتحرك عقله بكلّ الفكر الإنسانيّ المنفتح على الحقّ كلّه، وكانت إنسانيّته تتفايض من قلبه، فكان قلبه القلب اللّيِّن الرقيق الطيّب، الّذي ينفتح على أعدائه ليحبّ لهم الهداية، كما ينفتح على أوليائه ليحبّ لهم الاستزادة من الإيمان والتّقوى.
كانت إنسانيَّته(ص) تتفايض في كلِّ حركته، فكانت تتفايض في يديه بالعطاء، وفي رجليه عندما يسير بهما إلى أن يُغيث ملهوفاً، وإلى أن يُنقذ بائساً، وإلى أن يزور مريضاً، وإلى أن يتحرَّك في كلّ ما يرتفع بالإنسان في أعلى الدَّرجات.
ونحن عندما نتذكَّر رسول الله(ص) في ذكرى مولده، فإنّنا مهما تحدَّثنا عنه، مما تحدّث الناس عنه في صفاته في نفسه، فإننا لن نستطيع أن نبلغ ما تحدَّث به الله سبحانه عنه.
لذلك، نحن هنا من أجل أن نعيش مع رسول الله أخلاقه وإسلامه وإيمانه وجهاده وشريعته، لأنَّ رسول الله(ص) ليس مجرّد إنسان عاش في التاريخ، ولكنّه أيضاً نبيٌّ بقي في عقولنا عقلاً، وفي قلوبنا قلباً، وفي حركتنا دعوةً وجهاداً وعطاءً، لذلك، نحن نولد دائماً برسول الله عندما يعيش رسول الله فينا.
وهكذا، ينبغي أن يكون فينا شيءٌ من رسول الله ومن إيمانه وروحانيّته وخلُقه وكلّ سيرته، وقد قال لنا الله سبحانه وتعالى، إنَّ عليكم أن تضعوا رسول الله نصب أعينكم في كلماته وسيرته وفي كلِّ ما عاشه وفكَّر فيه، عندما تعيشون مشاكل الحياة، وعندما تفقدون الطّريق المستقيم، وعندما تكثر عليكم الضّغوط، وعندما يتحدّاكم الكافرون والمستكبرون.
وربما يضعف بعضكم، ويسقط بعضكم، ويخاف بعضكم أن يتحدَّث عنه النّاس بسوءٍ، أو يتّهمه النّاس بغير الحقيقة. اقتدوا برسول الله، فلقد قالوا عنه إنّه ساحر وكاهن وكاذب وشاعر، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}[4]، ولكنَّ رسول الله(ص) ـ وهو يستمع إلى ذلك ـ رفع عينيه إلى السَّماء، ولم يسمع كلَّ هذه الكلمات، ولم يواجه كلَّ هؤلاء، بل قال لربِّه في ابتهالٍ خاشع: "إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي"[5].
الرّسول القدوة
وتركها رسول الله لكلِّ داعية ومصلح ومجاهد من بعده، عندما ينطلق الَّذين يسبّون ويشتمون ويتَّهمون، ليقول لربّه ـ وهو في زحمة كلِّ ذلك ـ "إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي"، وهذا هو التّوحيد الّذي يدخل في العقل، ليجعل العقل ثابتاً في الله، ويدخل في القلب ليجعله نابضاً بالله، ويدخل في كلِّ حركة الحياة ليجعلها متحركة باسم الله. علينا أن نواجه الحياة كلَّها باسم الله، لأنَّ الله وحده هو الّذي يرعى مسيرتنا، وقد قالها رسول الله(ص) ومعه صاحبه في ليلة الهجرة، والقوم يقتربون منه خطوةً خطوة، وليست هناك إلا بضع خطوات بينه وبينهم، وكان صاحبه يهتزّ ويرتعد ويخاف ويعيش الحزن، وكان رسول الله الإنسان الّذي عاش السّكينة الروحيّة في قلبه والطّمأنينة الإيمانيّة في عقله، كان يشعر بالفرح والقوم يتحاورون: هل ندخل؟ كان الهادئ، {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا}[6].
الرَّحمة الإلهيَّة
هذا هو الخطّ ـ أيّها الأحبّة ـ عندما نواجه المستكبرين والظّالمين والكافرين وكلّ المنحرفين، "إنّ الله معنا" في عقولنا يشرق فيها ليسدِّد عقولنا، معنا في قلوبنا ينبض فيها ليوازن عواطفنا في قلوبنا، معنا في كلِّ الطّريق: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً}[7].
لتكن أقواله هي المنهج في كلِّ أقوالكم، لتكن أعماله المنهج في كلِّ ما تعملون، وعلينا أن نعيش معه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ ـ الَّذين آمنوا به، والَّذين جاهدوا وهاجروا معه، فعاشوا عقله وروحه، واقتدوا به ـ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ـ ليست شدَّة القسوة والعقدة، ولكنَّها صلابة الموقف أمام كفر الكافرين الّذين يضلِّلون الإنسان في الحياة كلّها ـ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، قد يختلفون في عوائلهم وفي مصالحهم التجارية ـ وهم كانوا المختلفين في كثير من أوضاعهم وأفكارهم ـ ولكنّهم جمّدوا ذلك، أو أنهم أعطوه جرعةً من الإيمان، فكانوا يختلفون في العائليَّة وفي ماليّاتهم، ولكنَّهم كانوا يعملون على أن يكون الإيمان هو الحكم.
فقد كانوا يسمعون قول الله عندما يختلفون ـ واسمعوها جيّداً ـ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[8].. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[9]. وهكذا، كانت الرّحمة الإلهيّة المتحركة في الرّحمة الإسلاميَّة في السيرة النبويَّة، المنهج الَّذي سيطروا فيه على عصبيّاتهم وخلافاتهم، إيماناً وحكماً وشرعاً ومنهجاً للحياة، ونحن إذا سرنا على هذا المنهج، فسنكون معه.
ثم {تَرَاهُمْ ـ وهم يخشعون أمام الله ويعيشون الوعي لمقام ربهم ـ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، وهكذا نعيش مع رسول الله(ص) كلَّ أخلاقه وكلَّ القيم الكبيرة، "ألا أدلّكم على خير أخلاق الدّنيا والآخرة؟ ـ وهي صعبة جدّاً، ولكنَّ ثمنها كبير عند الله ـ تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك"[10]، أن تكون الإنسان الّذي يعيش روح العطاء، حتى لو حرمه الآخرون، ويعيش روح المواصلة، حتى لو قطعه الآخرون، ويعيش روح العفو، حتى لو ظلمه الآخرون؛ إنها الروح التي تتسامى عن ردّ الفعل، لأنَّ الإسلام يريد للإنسان المؤمن أن يعيش الفعل في كلِّ حياته.
طبيعة الحرب في الإسلام
وهكذا نواجه الحياة كما واجهها، فقد أراد للدّعوة أن تكون سلماً لا حرباً، وأراد لها أن تكون عقلاً لا غريزةً، وأراد لها أن تكون محبّة لا عداوة، ولكنّ القوم زرعوا الألغام في طريقه، ونصبوا له الحواجز، فاضطرّ إلى أن يحارب في سبيل المستضعفين، وأن يقاتل الّذين قاتلوه، فالحرب في الإسلام لم تكن عدوانيَّة، بل كانت حرباً وقائيّة ودفاعيّة، كان يحبّ للنّاس أن يأتوا إليه ليحاورهم ويحاوروه، وينفتح عليهم وينفتحوا عليه، كما كانت حياته قبل الهجرة أذىً وشتماً وسباباً وإغراءً، وكان هو هو.. كان(ص) ـ عندما يقدِّم الناس له الإغراء ـ يقول لعمّه أبي طالب: "والله يا عمّ، لو وضعوا الشّمس في يميني والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
أين نحن من رسول الله(ص)؟
أيّها الأحبّة، هذا رسول الله في كلّ سيرته، فأين نحن الآن؟ لقد مضى رسول الله إلى ربّه، وقال الله لنا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ}[11]، فهل ننقلب على أعقابنا، فنسير يميناً وشمالاً، ونلعن ونقاتل ونسبّ بعضنا بعضاً؟ وهل ننقلب على أعقابنا لنتنازع فنفشل وتذهب ريحنا، والله يقول {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[12]؟!
إنَّ الإسلام أمانة الله وأمانة رسوله في أعناقنا، فعلينا أن نحميه بما نحمي أنفسنا، وعلينا أن ندعو أولادنا وأهالينا وكلَّ النّاس من حولنا، إلى أن يكون كلّ واحدٍ منّا ـ كلٌّ بحجم ثقافته وإمكاناته ـ داعيةً لله وللإسلام في كلِّ مجال، وأن ننطلق لنجاهد في سبيل الله كما جاهد، وأن نعيش الإسلام كلَّه في كلِّ حياتنا، كما أرادنا الإمام زين العابدين(ع): "ووفّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه، وفي جميع أيّامنا، لاستعمال الخير، وهجران الشّرّ، وشكر النّعم، واتّباع السّنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحقّ وإعزازه، وإرشاد الضالّ، ومعاونة الضّعيف، وإدراك اللّهيف"[13].
إنّ العالم المستكبر المتحالف مع العالم الكافر، يعمل بكلِّ ما عنده في سبيل أن يُسقط الإسلام في عقيدته وشريعته، وفي قيمه وفي أرضه وأهله وأمّته، لذلك، علينا أن نقف مع الإسلام في كلِّ قيمه وأهله، "من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"[14]، لنقول لرسول الله(ص) في ذكرى مولده: يا رسول الله، إنَّنا إذا لم نبلغ زمنك، فإنّنا سنكون من أصحابك وأتباعك، سنكون الأشدّاء على الكفّار الرّحماء بيننا، سنكون المعتصمين بحبل الله، وسنستجيب لقول الله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[15].
يا رسول الله، إنّنا معك عقلاً في عقلك، وقلباً في قلبك، وحركةً في جهادك، اُدعُ الله أن يسدّد لنا خطواتنا، وأن يجمعنا على الخير والتّقوى، وأن يجمعنا على الإسلام كلّه، وأن يوحِّد قلوبنا، وأن يُسدِّدنا بالقول والعمل.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتّقوا الله في أمر الإسلام وأهله، واعملوا على أن يكون الإسلام قوَّةً في العالم، كما أراده الله، ليكون الدّين كلّه لله، فقد أراد الله لرسوله أن يكون كافّة للنّاس بشيراً ونذيراً، ورحمةً للعالمين. لذلك، لا بدَّ من أن نعيش الإسلام ـ كلٌّ في موقعه وإمكاناته ـ حتى يمكن للأرض كلّها أن تنطق باسم الإسلام في كلِّ مكان، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالّتي هي أحسن، والجهاد بأيديكم وألسنتكم وأموالكم.
اتّقوا الله في أمر المسلمين، فلا تتنازعوا وتتفرّقوا، حتى لو اختلفتم مذاهب. إنّنا ـ كمسلمين ـ نلتقي على الله في توحيده، ونلتقي على رسول الله في رسالته، ونلتقي على القرآن في تنزيله، ونلتقي على الإيمان باليوم الآخر، ونلتقي على الإيمان والمحبّة لأهل البيت(ع)، وإن اختلفنا في بعض التَّفاصيل، فإنَّ المسألة هي أن نلتقي على مواقع اللّقاء لنتوحّد، حتى لو اختلفنا مذاهب وأعراقاً وألواناً وقوميّات.. إنَّ العالم المستكبر يطلب رأس الإسلام كلّه في عقيدته وشريعته ومنهجه، وفي اقتصاده وأمنه وسياسته، ويريد أن يحوِّلنا إلى مزقٍ متناثرةٍ لا علاقة بين بعضها البعض، لذلك، علينا أن نعيش همَّ الأمّة كلّها.
وهكذا، لا بدَّ لكلّ مؤمن ولكلّ مؤمنة، من أن يكون له الوعي السياسيّ في كلّ واقعه الّذي يعيش فيه في البلد والمنطقة والعالم، لا بدَّ من أن يكون لنا وعي اقتصاديّ وأمنيّ وسياسيّ، لنعرف كيف تتحرّك ثروات المسلمين، وكيف ينهبها المستكبرون، لا بدَّ من أن يكون لنا وعي أمني لنعرف كيف يفترس الآخرون أمننا في كلِّ شيء.
ولذلك، لا بدَّ لكم ـ وأنتم تستمعون إلى الإذاعات أو تقرأون الصّحف ـ من أن تفكّروا في كلّ خبر تقرأونه أو تسمعونه، وهذا ما ينبغي لنا أن نعيشه مجتمعين، ولعلَّ الله تعالى أراد من تشريع صلاة الجمعة في كلِّ أسبوع ـ فجعلها فرضاً على كلّ من يستطيع أن يحضر ـ أن يجتمع الناس، ويستمعوا إلى كلِّ قضاياهم ومشاكلهم، ليزدادوا وعياً لقضاياهم، وقوّةً في مواقفهم، ووحدةً بينهم.. وها نحن نحاول أن نلاحق الأحداث حدثاً حدثاً:
عجز الأمم المتّحدة
لقد أدانت الأمم المتّحدة السّياسة الاستيطانيَّة لإسرائيل، ولكنَّ الأمم المتحدة لا تملك أية وسيلة لتنفيذ قراراتها، وإنّنا في الوقت الّذي نرى في هذه الإدانة صورةً للعزلة الإسرائيليّة في الموقف العالميّ منها، مما يُعتبر انتصاراً معنويّاً للعرب، إلا أنَّ المشكلة أنَّ الدّول التي صوّتت ضدّ إسرائيل، لا تُطبّق ما تصوّت عليه في علاقاتها الثنائيّة مع إسرائيل! ولذلك، فإنّ إسرائيل تنظر بسخرية إلى هذه القرارات، ولا سيّما مع وقوف أميركا معها في رفض هذه القرارات، وتأييد كلّ الخطوات العمليّة للاستيطان التي تغيّر الواقع على الأرض، فلا يبقى للفلسطينيّين أيّ شيء يفاوضون عليه.
إنّ العدوّ يعمل للمحافظة على مكتسباته السياسيّة والاقتصاديّة، من خلال اتفاقاته العربيّة، ولتحصين الداخل الإسرائيليّ على حساب الواقع العربيّ، مستفيداً من الضّعف العربيّ والفلسطينيّ بشكلٍ خاصّ، ولذلك استعمل سياسة التّهديد الّتي رضخ لها الفلسطينيّون في إيقاف الانتفاضة الشعبيّة في "الخليل".
يوم الأسير اللّبنانيّ
ونتوقّف عند مناسبة "يوم الأسير اللّبناني" في المعتقلات الصهيونيّة، هذا اليوم الذي لا يزال يوماً للذّكرى والاحتجاج والمطالبة ـ الخجولة ـ بإطلاق الأسرى اللّبنانيّين في "الخيام"[16] وفلسطين.. ولا تزال الدّولة في غياب شبه كاملٍ عن هؤلاء الأسرى، من حيث إثارة هذا الموضوع في الساحة السّياسيّة، ومن حيث رعاية عوائلهم، ولا سيَّما أنَّ معظمهم قضى أكثر من عشر سنوات في المعتقلات الصهيونيّة من دون محاكمة، مما يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان.
ونحن نلاحظ دائماً أنَّ أميركا الّتي تطوف العالم كلّه لتتحدَّث عن حقوق الإنسان، ولترجم هذه الدّولة المعارضة لها أو تلك بأنها ضدّ حقوق الإنسان، هي ذاتها حقوق الإنسان عندها تقف عند إسرائيل، فلا مانع ـ أميركيّاً ـ من أن تقتل إسرائيل الأطفال، وأن تكسر عظامهم، وأن تقتل النّساء والشّيوخ والشباب، وأن تُدخل النّاس سجونها من دون محاكمة، فلا مشكلة عند أميركا... ونحن علينا أن نُبقي شبابنا المجاهدين في ذاكرتنا بالدّعاء والعمل المتواصل، من أجل إطلاق سراحهم بكلِّ الوسائل الممكنة.
الجزائر: الحلّ بالحوار
وبالانتقال إلى الملفّ الجزائري، فإنّنا نقدِّر المبادرة في إطلاق عباس مدني[17]، ونأمل استكمال ذلك بإطلاق سراح سائر قادة "الجبهة الإسلاميَّة للإنقاذ"، إذا كان النِّظام جادّاً في الوصول إلى حلول معيَّنة، كما أنّنا نرجو أن يعود الحوار السياسيّ الجادّ بين "الجبهة" والسّلطة، ولا نجد في حديث هذه السّلطة عن إغلاق ملفّ "الجبهة" نهائيّاً، وأنّه لم يعد لها مكان في الجزائر، حديثاً يساعد على الحلِّ الواقعيّ الّذي يرتكز ـ دائماً ـ على الاعتراف بكلِّ القوى السياسيّة في الجزائر، ولا سيَّما القوى الإسلاميَّة، لأنَّ الإسلاميّين لا يزالون قوّة كبيرة هناك، ما يجعل من إبعادهم عن الواقع السياسيّ أمراً لا يخدم قضيّة إيقاف دورة العنف في الجزائر، وإنّنا نرجو أن يوفّق الإسلاميّون لخطّة واقعيّة لإنقاذ الوضع هناك من مسلسل العنف الدّامي الذي لا معنى له.
ليقف الجميع مع المقاومة
أما على المستوى اللبنانيّ، فإننا نلاحظ أنَّ التصعيد الإسرائيلي ضدّ المدنيين في الجنوب، هو من أجل الضّغط على لبنان، ولإشعار الجانب اللّبنانيّ بعدم الارتياح لحركة المقاومة ضدّ جنودها، وربما كانت إسرائيل تعمل للتفلّت من "تفاهم نيسان"، لأنّه لم يعد ملائماً لسياستها في الضغط على المقاومة بقصف المدنيّين، بعد أن أثبتت المقاومة قدرتها على إرباك العدوّ، وإزعاج حركته في قصف المواقع القريبة من مستوطناته، كخطوة تحذيريّة للعدوّ بأنَّ مستوطناته ليست بعيدة عن القصف.
وقد لاحظنا تأثير عمليّات المقاومة في الواقع النفسيّ لجنود الاحتلال، حتى إنَّ بعضهم كان يُطلق النّار على نفسه للهروب من الخدمة في لبنان.. كما لاحظ العدوّ قوّة التلاحم بين أهالي الجنوب والمقاومة، ما أدَّى بالعدوّ إلى معاقبة هؤلاء الأهالي بقصف مواقعهم المدنيّة.
إنّنا نريد للشّعب اللّبناني ـ بكلِّ فئاته ـ أن يقف مع المقاومة ومع الصَّامدين من أهلنا في الجنوب والبقاع الغربي، فإنَّ الواقع ليس واقع طائفة معيّنة، بل هو واقع اللّبنانيّين جميعاً، لأنَّ لبنان يمثّل وحدة وطنيَّة شاملة في جميع قضايا السياسة والأمن.. وهذا هو الّذي يجب أن يفهمه جيش العملاء، بأنهم يتحركون خارج الإرادة الشَّعبيّة الوطنيَّة، لأنّهم يمثّلون قوّة للاحتلال، لا قوّة لوطنهم.
أمّا "لجنة المراقبة"، فقد تحوّلت إلى حائط مبكى يساوي بين المحتلّ والمحرّر، كوسيلة للمساواة بين الضحيّة والمجرم، ولذلك، لم يعد لها معنى في حساب السّيطرة على الواقع الأمنيّ في الجنوب.
أين الخطّة الاقتصادية في لبنان؟!!
وأخيراً، لقد تحدَّثت الحكومة عن التحسّن في الأوضاع الداخليّة، من دون الإشارة إلى أية نقطة إيجابيّة في هذا المجال، لأننا لم نرَ خطة اقتصاديّة متكاملة لحلّ المشاكل المعيشيّة بشكل متوازن.. ونلاحظ أنَّ الحكومة سائرة في إثقال البلد بالمزيد من الديون الخارجيّة الّتي لم يستطع المسؤولون أن يُقنعوا الشعب بقدرتهم على إيفائها، بعيداً عن الضَّرائب التّصاعديّة التي تُفرض على المواطنين، في غياب برنامج اقتصاديّ إنتاجيّ يصبّ في خدمة الشّعب، بدلاً من أن يكون عبئاً عليه.
إنَّ الشَّعب مستعدّ ليصبر على جوعه وحرمانه مدّة من الوقت، إذا عرف أنَّ هناك خطة اقتصاديّة لحلِّ مشاكله.. ولكنّ السؤال: أين هذه الخطّة؟! إنّ الدّولة تتحرك في اللاخطّة، تستدين وتستدين وتنطلق من خلال ردود الفعل بعيداً عن الفعل، ويبقى الجائعون والمحرومون يعانون، ويبقى الكثيرون في الدّولة يثرون على حساب الشعب، فتتضخّم ثرواتهم، بقدر ما يفتقر الشّعب في كلّ ذلك إلى ثرواته.
خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيِّد محمد حسين فضل الله
[1] [الفتح: 29].
[2] [التوبة: 128].
[3] [القلم: 4].
[4] [الفرقان: 5].
[5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 19، ص 23.
[6] [التوبة: 40].
[7] [الأحزاب: 21].
[8] [النساء: 65].
[9] [الأحزاب: 36].
[10] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 107.
[11] [آل عمران: 144].
[12] [آل عمران: 103].
[13] الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه عند الصباح والمساء.
[14] وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 16، ص 337.
[15] [آل عمران: 104].
[16] معتقل الخيام هو المعتقل الرّئيس الّذي تعتقل فيه إسرائيل وعملاؤها المجاهدين اللّبنانيّين، ولا سيّما مجاهدي المقاومة الإسلاميّة.
[17] عباس مدني، أحد القادة البارزين في جبهة الإنقاذ الجزائريّة.