عانى فرعون وقومه معاناةً كبرى من حركة الصِّراع مع موسى(ع)، والَّذي استطاع أن يحصل على أكثر من ميزان للقوّة، ولا سيَّما أنّه استطاع أن يجمع بني إسرائيل وقومه إلى موقعه الجديد، بعد أن أكَّد لهم أنَّ الله سوف ينصرهم على الطّاغية الَّذي استعبدهم، وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه في حوار موسى مع قومه من المستضعفين، قال تعالى: {
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ}، وهو المعين الوحيد للمظلومين المقهورين من عباده، وارجعوا إليه في موقف استغاثةٍ واستعانةٍ ورجوعٍ إلى رحمته الَّتي يرحم بها عباده المؤمنين به.
الدَّعوة إلى الصَّبر
{وَاصْبِرُو} على البلاء الَّذي حلَّ بكم مما واجهتموه من اضطهادٍ وعدوان، لأنّه لم يبقَ أمامكم إلا القليل من الزَّمن الَّذي سوف يأذن الله فيه بسقوط الطّغيان، ويسلبه ملكه ويخرجه من الأرض ذليلاً مُهاناً، بحيث يسقط صريعاً أمام تحدّي الموت، وسترثون الأرض من بعده، وتكون لكم السَّيطرة فيها: {إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، فليس هناك أيّ شخصٍ أو أيّة جماعةٍ تملك الخلود فيها، وتمتدُّ في سيطرتها عليها، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[1]، الَّذين يراقبون الله في مواقعِ طاعته، فاتَّقوه وأطيعوه لتحصلوا على النّتائج الكبرى فيما تستقبلونه من أموركم العامَّة.
ولكنَّهم كانوا يستذكرون الظّلم الَّذي حلَّ بهم من فرعون وقومه، والأذى الَّذي أصابهم من تعسّفه في سلطانه، وهم يواجهون الأذى الّذي أصابهم بعد مجيء موسى، بما توعَّدهم به الطّاغية من قتل أبنائهم واستحياء نسائهم، وإنزال أشدِّ حالات القهر بهم، {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَ}.
وقد كان ذلك كلّه منهم بسبب الضَّعف الشَّديد الّذي عاشوه في تاريخهم وواجهوه في حاضرهم، الأمر الَّذي جعلهم يستبعدون تحوّل حال اليأس لديهم إلى حال أمل، ككلّ المستضعفين الّذين لا يملكون في واقعهم المستضعف أيَّ عنصرٍ من عناصر القوَّة.
ولكنَّ موسى(ع) الواثق بربّه، والمطمئنّ إلى وعده، بادرهم بإظهار الرّجاء بما يخبِّئه لهم المستقبل في حركة الزّمن، من الفتح المبين الّذي ينفتحون فيه على النّصر بإهلاك عدوّهم الطّاغي، واستخلافهم في الأرض وسيطرتهم عليها، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ}، فتكونوا ملوكاً بعد الملوك، لا لتمثّل مسألة الملك امتيازاً ذاتيّاً لأيّ واحدٍ منكم، أو موقعاً متقدِّماً لمواقعكم القبليَّة، بل لتواجهوا المسؤوليَّة في تقوى الله، والعدل بين النّاس، والاستقامة في خطِّ الحركة الإنسانيّة الرساليّة، ليحاسبكم الله على ما تعملونه من خيرٍ أو شرّ، {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[2]، لأنَّ الله لا يقرِّب أحداً لامتيازاته الماديّة، بل لحركته الرساليَّة العمليَّة.
خطّة الخروج
وكانت نهاية المطاف، عندما قرَّر فرعون بعد كلِّ تلك المعاناة الطّويلة في صراعه مع موسى، أن يلجأ إلى حشد جماهيره، ليستعين بهم للقضاء على موسى وهارون وأتباعهما بالقوَّة القاهرة المسلَّحة، بعد أن ضاقت به السّبل في الانتصار عليهم، ليحفظ هيبة موقعه الربوبي وقوّة ملكه. وبدأ يعدّ العدّة لذلك، وأوحى الله إلى موسى بالأمر ليعدَّ للأمر عدّته: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}، من بني إسرائيل ومن آمن بدعوتك، للخروج من مصر من دون استشارة فرعون، لأنّك ـ في هذه المرحلة ـ في موقع القوّة لا في موقع الضّعف الّذي قد يضطرك إلى أخذ موافقته، باعتباره السّلطان الذي يملك حدود البلدة في خروج أهلها منها أو قدومهم إليها، وذلك من أجل أن لا تصطدم به في مجابهة مسلَّحة قرّر مجابهتك بها، وليكن السّير ليلاً، {إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ}، مطاردون من خلال الجموع الغفيرة التي بدأ يحشدها ويدعوها إلى القيام بتلك المهمة العدوانيّة ضدكم.
وهكذا استجاب موسى(ع) لنداء ربّه، وعبّأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرُّك في الاتّجاه الّذي حدَّده لهم، واختار اللَّيل لتنفيذ هذه الخطَّة المرسومة، لتكون نافذةً بدون أيّة إشكالات وتحدّيات.
ولكنَّ قوم فرعون اكتشفوا الأمر، فرفعوه إليه، ما جعله يشعر بخطورة المسألة وتأثيرها السَّلبيّ في سلطانه، لأنَّ جماعة موسى كانوا يمثّلون قوّةً عدديةً كبيرةً تستطيع مواجهته في حال التحدّي إذا بدأت المعركة بينه وبين قيادتهم المتمثّلة بالنبيّ موسى(ع)، ولهذا، بدأ بالتعبئة الجماهيريّة ليوازن بها القوَّة الطارئة المخيفة. {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[3]، أخذ يجمع النَّاس ويحشرهم في ساحات ملكه، لتصل بلاغاته إلى المدن القريبة بسرعة، وتتحرّك القوى المعدَّة فوراً، وتؤدِّي مقدّمة الجيش مهمّتها، لتتبعها بقيَّة الأفواج في المدن الأخرى المتَّصل بعضها ببعض بالتّدريج.
وقد حاول في نداءاته التعبويّة أن يهوّن من شأن موسى(ع) وقومه بطريقة إعلانيَّة مضلِّلة، {إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}[4] ـ وكلمة "شرذمة" في الأصل تعني القلّة من الجماعة، كما تعني ما تبقّى من الشّيء، فلن يكلّفنا القضاء عليهم جهداً كبيراً ولا مدّةً طويلةً، لأنّهم جماعة قليلة لا تمثّل أيَّ قوّة في العدد والعدّة والموقع، {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}[5]، أي يأتون بالأعمال والمواقف التي تجلب لنا الغيظ، وتربك نظام المجتمع، وتمزِّق وحدته، وتثير فيه المشاكل، وتؤدِّي بالواقع إلى النّتائج السيّئة على حياة الناس وأوضاعهم الحيويّة العامّة، على مستوى قضايا الدِّين الّذي نؤمن وتؤمنون به، كما يشكِّل خطراً على استقرارنا وثباتنا في أرضنا، الّتي قد يخطِّطون بسحرهم لإخراجنا منها، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}[6]، نؤكِّد الحذر من خطورة مواقفهم، ما يفرض علينا متابعة التحدّيات في مواقعها الكبيرة والصَّغيرة، لنهزمهم، ولندمِّر كلَّ مواقع قوّتهم قبل أن يطبقوا علينا بالخطّة الموضوعة المرسومة، الّتي يهدف أصحابها من خلالها إلى اغتيالنا وتدمير مصالحنا بطريقةٍ وبأخرى.
تفاصيل الخطّة
وهكذا، اندفع الجيش الفرعونيّ لملاحقة موسى(ع) وقومه، {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ}[7]، أي في وقت شروق الشّمس، ليلاحقوهم في ضوء النّهار، وكانوا قد قطعوا مرحلةً كبيرةً في مسيرتهم باللّيل، {فَلَمَّا فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ}، ودنا بعضهم من بعض، وأبصر بعضهم بعضاً، واستعدّ فرعون وجيشه للهجوم، شعر قوم موسى بالخطر المتمثِّل بضخامة جيش فرعون بالعدَّة والعديد، فاندفعوا للتّعبير عن القلق الّذي ساورهم من هذا الواقع العنيف.
{قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى}، الذين عاشوا القهر والاستعباد التّاريخيّ من هذا الطاغية المستكبر، بحيث تأصَّل الخوف منه في نفوسهم، وتعمّق الرّعب منه في قلوبهم، ففقدوا الثقة بأنفسهم، وابتعدوا عن التفكير في رعاية الله لهم وقوّته المطلقة في الكون كلّه، {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}[8]، فسيدركنا فرعون بجنوده، وسيقبضون علينا ويقتلوننا أو يرجعوننا إلى العبوديّة من جديد.
لكنَّ موسى كان مطمئنّاً هادئ البال، وكان يعرف أنَّ وعد الله بهلاك فرعون وقومه حقّ، وأنَّ الله لن يخلف وعده لرسله. {قَالَ كَلَّ}، فلن يستطيعوا اللّحاق بنا مهما حاولوا، لأنَّ القضيّة ليست في مستوى القضايا العاديّة المرتكزة على القدرة البشريّة، بل هي في مستوى التدبير الإلهيّ الّذي لا يخضع للأمور المألوفة في قوانين الطبيعة الماديّة، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[9]، فهو الحافظ لي من الأعداء، وهو النّاصر لي عليهم فيما وعدني في بداية الرّسالة، ولذلك، فإني واثقٌ بأنه سيدلّني إلى الطّريق الآمن الّذي لن يستطيعوا الوصول إليه واللّحاق بي من خلاله.
ولكنَّه ـ في الوقت نفسه ـ رجع إلى الله، في هذه الحال الصَّعبة التي يقبل فيها مع قومه على تجربة لا تخلو من الخطورة، لأنَّه يتحرَّك نحو الدّخول في بحرٍ خضمٍّ متلاطم الأمواج، عميق الغور، ممتدّ المساحة، وتلك هي عادته في الرّجوع إلى الله في مثل هذه الحالات، منذ حركته الأولى بعد خروجه من مصر، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ}[10]، فقد تأصَّلت الجريمة في كيانهم، حتى لم تعد تنفع في هدايتهم أيّة وسيلة من وسائل الترغيب والترهيب، وأيّة حجّة من حجج الإقناع بالحقّ الصَّادر عنك، وستتحرّك الجريمة من خلالهم لتمتدَّ في المستقبل لتحكم حياة الأجيال القادمة، لأنَّ هؤلاء سوف يمنعون امتداد الحقّ إلى الآخرين، عندما ينصبون الحواجز أمام الرّسول والرسالة، لأنّهم يملكون كلَّ مواقع القوّة في مراكز السلطة العليا، وفي ساحات الواقع الشامل لكلّ نشاطات الحياة.
وهكذا استجاب الله دعاءه في تلك اللحظة الحرجة، في خطَّة إلهيّة أراد من خلالها أن يدفع موسى إلى مواجهة الموقف بمعجزة، ليلاحقهم فرعون وقومه في البحر، فيغمرهم الماء بشكلٍ نهائيّ، ويقضي عليهم قضاءً نهائيّاً.
ويقول تعالى في موضعٍ آخر: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} إلى أرض الحرّية الجديدة، بعيداً عن سطوة فرعون، فقد أصبحت في موقع القوَّة، وأصبح هو في موقع الضّعف، وستجد أمامك معجزة جديدة، فستدخل البحر من دون أن يكون هناك جسر تقطعه، ولا سفينة تقلك وقومك، وسيحوّل الله البحر إلى أرض يابسة تنتهي إلى الشاطئ الآخر، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَس}، فإذا ضربت البحر بعصاك، فسينشقّ الماء أمامك، وتبدو الأرض بشكل مفاجئ معجز، {لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى}[11]؛ لأنّك تسير بأمان الله، فلا تخاف من لحوق فرعون وجيشه بك.
وبدأت التَّعليمات تنـزل على موسى(ع) في بداية الخطَّة وانطلاقة المسير: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ}[12]، فسيلاحقكم فرعون وجنوده، لأنَّك نفَّذت شعارك في إنقاذ بني إسرائيل وتحريرهم من استعباده لهم، وهو أمر خطير بالنّسبة إلى سلطته الاستكباريّة، لأنَّ في ذلك نوعاً من السّقوط السّياسيّ لمواقعه القويّة، باعتبار أنَّ هؤلاء المستضعفين يمثّلون القوّة الاحتياطيّة لسلطانه في حروبه الداخليّة والخارجيّة، {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ}[13]، أي اتركه ساكناً بعد أن ينفتح أمامكم وتنحسر المياه عن أرضه، في تدبيرٍ إلهيٍّ تتمثّل فيه المعجزة الخارقة التي لا يملك أيُّ بشرٍ القيام بها، لتقطعوا البحر إلى الجانب الآخر، وذلك بأن تقرِّبه بعصاك التي كانت إنذاراً وتحدّياً في المرحلة الأولى، وهي اليوم رحمة ونجاة وانتصار، فتتركه مفتوحاً ساكناً في أرضٍ يابسةٍ تغري المطاردين بدخوله لملاحقة الهاربين، {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ}. فالخطَّة المرسومة تقضي برجوع الماء إلى موقعه بعد دخول آخر جنديّ من جماعة فرعون، وخروج آخر شخصٍ إلى الأرض الطبيعيّة اليابسة من قوم موسى.
نجاة قوم موسى
وجاء تفصيل الخطَّة في آيات أخرى أكثر صراحةً، كما في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ـ وانشقّ ـ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ ـ والفرق هو القطعة المنفصلة من الماء ـ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[14]، أي كالجبل العظيم في ارتفاعه. وهكذا، فإنّ الله الَّذي ينفذ أمره في كلّ شيء، وبأمره تموج البحار، وتتصرَّف الرياح، وتتحرك العواصف، وكلّ شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته وتدبير أمره، خضع البحر لأمره، وانطلقت الأمواج بعيداً عن الأرض بإرادته، فالتحمت وتراكم بعضها إلى بعض، وظهرت ما بينها طرق سالكة يابسة لا ماء عليها، فمرّت كلّ فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق.
وهكذا سيطر موسى(ع) على البحر اليابس، ودفع قومه إلى الاندفاع في ساحاته، فلم يصبهم شيء من الماء بالرغم من إحاطته بهم من كلِّ جانب. إلا أنَّ فرعون وأتباعه، بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة التي لم يعهدوا لها مثيلاً حتى في تصوّراتهم، لم يذعنوا للحقّ ويؤمنوا بالله الذي لا يملك أحد غيره أن يدبِّر الأمر بمثل هذه الطريقة، ولم ينـزلوا عن مركب غرورهم، فاتبعوا موسى(ع) ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما جاء في قوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ}[15]، وهم فرعون وجنوده، وقرّبناهم إلى المنطقة الّتي سار فيها موسى وقومه حتى شعروا بالأمن في ملاحقتهم لهم، {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ}[16]، فأخرجناهم من البحر إلى البرّ، وانتقلوا إلى الجانب الآخر الّذي وجدوا الأمن والطّمأنينة عنده، {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}[17]. فقد انطبق البحر عليهم، وعاد كما كان في تلاطم الأمواج العالية الّتي انهالت عليهم فجأةً، فهلك فرعون وقومه في البحر، وصار كالقشَّة في وسط هذه الأمواج الّتي نقلتهم من مكانٍ إلى مكان، في حال الموت الّتي حلّت بهم كأنهم أعجاز نخل خاوية.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}[18]، فقد رفضوا كلَّ ما يقدِّمه لهم موسى من آياتٍ وبيِّنات، من دون أن يكون لهم أيّ أساس وأيّة قاعدة للإنكار، فكان جزاؤهم العقاب في الدّنيا والآخرة، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[19]، فلا يستطيع أحد أن ينتقص من عزَّته، كما أنَّ رحمته تتّسع لجميع خلقه من خلال مشيئته.
وفي سورة طه، يُبيّن الله تعالى أنَّ طريق فرعون كان طريق الضّلال لقومه، الأمر الذي انتهى بهم إلى الغرق، بينما كان طريق موسى(ع) طريق الهداية إلى برِّ الأمان، قال تعالى بعد حديثه عن خطّة النجاة عن طريق البحر: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ}، وقد هالهم ما استطاع موسى(ع) أن يبلغه من تنفيذ خطّته دون رضاهم، وساروا خلفه، وقد رأوا البحر مفتوحاً أمامه؛ حتّى إذا استكملوا عددهم ولم يبق منهم أحد في الشّاطئ، جاءهم الموج من كلّ مكان، {فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}[20]، وماتوا جميعاً غرقاً، {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ}، وضيَّع عليهم الدّنيا والآخرة بما عاشوه من كفرٍ وطغيان، {وَمَا هَدَى}[21]؛ لأنّه استغلَّ حياتهم لذاته، فلم يهدهم سواء السّبيل.
نهاية المستكبرين
وكانت نهاية المطاف لهؤلاء المستكبرين من السّلطة الفرعونيَّة، أنهم ذهبوا في متاهات الزّمن وتجاهل التّاريخ، وصاروا عبرةً لمن بعدهم من الَّذين ينهجون نهجهم ويلتزمون أفكارهم ويستكبرون في الأرض. وقد تحدَّث الله عن هذه النّهاية بقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[22]، من تلك الحقول المترامية المثقلة بالثّمار الجنيَّة والفواكه الشهيَّة المنفتحة على الخضرة الحلوة السّاحرة، ومن تلك الينابيع المتدفِّقة بالمياه العذبة التي تروي العطشى، وتفجِّر الخصب في الأرض، {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[23]، أي مساكن جميلة زاهية، {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}[24]، مستأنسين ومتمتّعين بها كما يتمتَّع الإنسان بالفاكهة، بما تثيره من الإحساس باللذَّة.
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}[25]، لتكون هناك تجربة جديدة لبعض النّاس الجدد في حكم هذه الأرض، {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ ـ لأنهم لا يمثّلون أيّة قيمة في ميزان الحقّ والخير والعدل، ولا يملكون أيّة درجةٍ في آفاق الرّوح المتصلة بالله، ليُحدِث فقدهم من ساحة المسؤوليّة فراغاً كبيراً بالنّسبة إلى الحياة والإنسان، لتحزن عليهم السَّماء والأرض ـ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}[26]. فإذا جاء الأجل الَّذي قدَّره الله لهم في نهاياتهم الحتميّة، فإنّه ينفذ من دون تأخير، لأنَّ مصلحة الحياة تفرض الموقف الّذي يوحي بالابتعاد عن الواقع المتمثِّل فيها، انطلاقاً من الحكمة الإلهيَّة الّتي حدَّدت لهم مواقعهم في الوجود.
وهكذا نجح موسى(ع) في تحقيق هدفه التّحريريّ في إنقاذ قومه من طغيان فرعون، فأنجاهم الله بفضل رعايته الّتي شمل بها هؤلاء المستضعفين، وقد جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[27]، الّذي تمثَّل بظلم الطّاغية لهم واستخدامهم في تثبيت سلطانه، من دون أيّة مراعاة لحقوقهم الإنسانيّة بذبح الأبناء واستحياء النّساء، {مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ}[28]، فقد كان يعيش عقدة العلوّ في الأرض مما لم يكن يملك معه أساساً جوهريّاً في عمق القيمة في شخصيَّته، أو في سعة المعرفة في فكره، أو في سموّ الرّوح في روحيَّته، بحيث تحوَّلت طموحاته الذاتيّة إلى عقدةٍ استكباريّة تتحرَّك في نزعة اضطهادٍ للآخرين واحتقارٍ لإنسانيَّتهم، كما كان يعيش الإسراف في ظلمه وطغيانه وقوانينه التعسُّفية الّتي تحطِّم المعنى الإنساني في حياة النّاس بما يتجاوز الحدود المعقولة.
أمَّا فرعون، فقد كان له شأن آخر في إعلان إيمانه بالله عندما أدركه الغرق وبانت له الحقيقة، {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[29]، ولكنَّه آمن حيث لا ينفع الإيمان عندما عاين النِّهاية في حالة الموت، فالتَّوبة إنما تنفع في موقع الاختيار العميق الّذي يملك فيه الإنسان عقله ونفسه في واقع الحياة الطّبيعيّة الّتي يحياها ويختار فيها التزاماته الإيمانيَّة، ولذلك، جاءه الجواب الحاسم الرّافض لهذا الإيمان الاضطراريّ، في قوله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}[30]، لتكون عبرةً لمن اعتبر، وعِظةً لمن اتَّعظ، وليعرف النَّاس أنَّ الامتداد في الضَّلال والعلوّ في الأرض والتمرّد على الله، لا يبلغ المدى الّذي يريده أصحابه، بل يقف في نهاية المطاف عند حدٍّ لا يتعدّاه.
وفي ختام الموقف، يصوِّر الله لنا عاقبة فرعون وقومه يوم القيامة: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}[31]، فسوف يواجهون العطايا السيِّئة التي لا تحقِّق لهم أيَّ هدف مما كانوا يرجونه، لجهة قضاء حوائجهم من خلال فرعون، بل يحصلون على ما هو خلاف ذلك، على نارٍ محرقةٍ مهلكة وقودها النّاس والحجارة أعدَّت للكافرين.
وفي آيةٍ أخرى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ}[32].
وانتقل موسى وقومه إلى أرضٍ أخرى، فكيف كانت أوضاعهم؟ وكيف واجه موسى هؤلاء النّاس في دعوتهم إلى الإيمان بالرّسالة؟! والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [الأعراف: 128].
[2] [الأعراف: 129].
[3] [الشعراء: 53].
[4] [الشعراء: 54].
[5] [الشعراء: 55].
[6] [الشعراء: 56].
[7] [الشّعراء: 60].
[8] [الشّعراء: 61].
[9] [الشعراء: 62].
[10] [الدّخان: 22].
[11] [طه: 77].
[12] [الدُخان: 23].
[13] [الدُخان: 24].
[14] [الشّعراء: 63].
[15] [الشعراء: 64].
[16] [الشعراء: 65].
[17] [الشعراء: 66].
[18] [الشعراء: 67].
[19] [الشعراء: 68].
[20] [طه: 78].
[21] [طه: 79].
[22] [الدُخان: 25].
[23] [الدُخان: 26].
[24] [الدُخان: 27].
[25] [الدُخان: 28].
[26] [الدُخان: 29].
[27] [الدُّخان: 30].
[28] [الدُخان: 31].
[29] [يونس: 90].
[30] [يونس: 91، 92].
[31] [هود: 98، 99].
[32] [القصص: 41، 42].