ودخل يوسف في مجتمعٍ جديدٍ يختلف كليّاً عن المجتمع الَّذي عاش فيه؛ فهذا مجتمعٌ لا يؤمن بالله، ويتعبَّد للأصنام، بينما كان مجتمع يوسف منفتحاً على النبوَّة الَّتي تدعو إلى الإسلام المطلق لله، وترفض الأوثان جملةً وتفصيلاً. وكان يعيش حريَّته الشَّخصيَّة في أسرته المؤمنة الَّتي منحته المحبَّة والكرامة، وتركت له الحريَّة في حياته الخاصَّة من دون خضوعٍ استعباديّ لأيّ شخصٍ، بل كانت إنسانيَّته هي سرّ حركته في رعاية أمِّه وأبيه له، بحيث أطلقا له إرادته فيما يحبّه ويهواه في الخطِّ الأخلاقيّ الإيمانيّ السَّليم.
العزيز يكرِّم يوسف(ع)
وجاء به المصريّ الَّذي اشتراه، وقدَّمه إلى زوجته الَّتي ربّما لاحظت أنّه لا يمثِّل حاجةً من حاجات الخدمة في البيت ممّا يقوم به العبيد، لصغر سنّه، ولكنَّ زوجها حاول إقناعها بقبوله وبحاجتها إليه في مستقبل عمره، عندما ينمو في بيتها ويتربّى على أخلاقها، بحيث يصبح جزءاً من الأسرة. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، فقد أعجبه هذا الغلام، ونفذ إلى قلبه بحسنه ووداعته وصفاته الرّوحيّة والأخلاقيّة الَّتي اكتسبها من تربيته في الأسرة النبويَّة، ولا سيَّما من أبيه النّبيّ يعقوب الَّذي صاغه صياغةً إنسانيّةً كاملةً رائعةً، فرأى المصريّ الَّذي اشتراه أنَّ عناصر شخصيَّته المميَّزة لا تجتمع في العبيد الَّذين يعرضهم النخّاسون في سوق النّخاسة، فأراد من امرأته ألا تعامله بالشدَّة والقسوة الَّتي كان يُعامَل بها العبيد، بل أراد لها معاملته باللّطف والإكرام كإنسانٍ يستحقّ الإعزاز والرّعاية واحترام الذَّات في المعنى الإنسانيّ، ليُنتفع به في المستقبل عندما يشتدّ عوده، ويُعتمد عليه في الأمور الخاصَّة، فيكون موضع سرّه الَّذي يأتمنه على خصوصيَّات البيت وأسراره، أو يتبنَّاه كولدٍ ينتسب إليه في حاجته إلى الأبوَّة الَّتي حرم منها، لأنَّه كان عقيماً لا ولد له. وهذا ما حاول إقناع امرأته به في عمليَّة إيحائيَّةٍ، وذلك قوله تعالى:
{عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}.
وهذا ما أراد الله أن يهيِّئه ليوسف من وضعيَّةٍ كريمةٍ تمكِّنه من السَّير في اتّجاه تقوية مركزه، ودعم مكانته في البيت الَّذي انتقل إليه، ولا سيَّما بعد أن يتجاوز، بنجاح، الظّروف المثيرة والأحداث الصَّعبة، ليستفيد ممّا ألهمه الله إيَّاه من علم تفسير الأحلام، في فرصة الاعتماد عليه في تفسير الحلم الكبير لملك مصر، لأنَّ الله قد ألهمه تأويل الأحاديث بطريقةٍ تسمح له بجلاء الكثير من غوامضها.
علم تأويل الأحاديث
وقد كانت هذه أوّل انطلاقةٍ في مسيرة يوسف، في تطوّر أوضاعه، واستقرار موقعه، وانفتاح حياته على أفقٍ جديد،
{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ}، فجعلناه في الموقع الّذي يتدرّج فيه في التَّعقيدات التي تتحرَّك به في أموره، {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}، لتكون لديه المعرفة الدَّقيقة فيما قد يحتاج النَّاس إليه في كشف غوامض الأحاديث، ولا سيَّما الأحلام التي تثير لديهم الكثير من الهواجس والمخاوف، لأنّهم لا يعرفون سرّها في إيحاءاتها فيما يستقبلونه من حياتهم من خيرٍ أو شرّ ممّا تدلّ عليه، لاعتقادهم أنّها ليست مجرّد أضغاث أحلام لا تعبّر عن شيء، بل هي منطلقة من شأنٍ يتعلّق بأوضاعهم الخاصّة أو العامّة. وبذلك يتهيّأ ليوسف المدخل الطّبيعيّ للنّفاذ إلى ذلك المجتمع الكبير المعقَّد الّذي لا يسمح لأحدٍ بدخوله وحلوله في موقع الدَّرجات العليا، إلا من باب الامتيازات المعرفيَّة والقدرات الفكريّة التي تمثِّل الحاجة لديهم ممّا يملكه الشَّخص في شخصيّته.
{وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، فيما يريد أن يبلغه من شؤون خلقه، وينفِّذه من مشيئته وإرادته في خلقه، وفيما يلهمهم من العلم الَّذي يفتح عقولهم على كثيرٍ من الأسرار، والمزيد من شؤون المعرفة العلميَّة، فلا رادَّ لمشيئته في جميع الأمور.
وهذا ما يجب على النَّاس أن يؤمنوا به ويعتقدوه ويعرفوه، في أنَّ لله القدرة المطلقة في التصرّف في كلِّ مخلوقاته، بما يقوِّي معرفتهم، ويفتح عقولهم، ويوحي إليهم بطريقة إلهاميَّة إيحائيَّة كلّ ما يمنحهم آفاق العلم الواسعة في مختلف القضايا الّتي تشتبه فيها الأمور على النَّاس. وهذا من أصول العقيدة التوحيديَّة في شؤون الحركة الخالقة الغيبيَّة الّتي لا يملكها غيره.
{وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}1، فلا يعرفون علاقة كلّ شيءٍ في الوجود بالله، لأنَّ الأسباب مهما تعدَّدت وتنوّعت، فإنَّ أمرها ينتهي إليه، فهو القادر على تغييرها من حالٍ إلى حال، وتوجيهها بالاتجاه الّذي يريده، وهو الّذي يمنح العالم علمه، والعاجز قدرته، ولكنَّه مما لا يلتفت إليه الكثير من النَّاس في غفلتهم عن خصائص الموجودات عند تقدير عواقب الأمور.
نشأة طفوليَّة مميَّزة
وعاش يوسف في طفولته، لا كما يعيش الأطفال حياة اللَّهو والعبث، بل عاش في وحدته الذاتيّة الّتي كان يخلو فيها إلى نفسه، حياة فكرٍ وعلمٍ وتأمّلٍ بقدر ما كان يسمح له نموّه العقليّ، في دراسةٍ واقعيّةٍ للسَّاحة التي كانت تحيط به، لما تقتضيه الحكمة من معايشةٍ للواقع، وفهمٍ له، وملاحقةٍ لخصوصيَّات التّجارب المختلفة في المجتمع الّذي نشأ فيه وعاش، ليُصدر حكمه على الأشياء من قاعدة الوعي العميق لطبيعتها وطبيعة انطلاقها وحركتها. وقد وهبه الله من فضله ما يكفل له وصوله إلى الغايات الَّتي يستهدفها من حركته في الحياة في خطِّ رسالته وتدبيره، لأنّه أحسن النيَّة وصدق العمل، وسلك الطَّريق المستقيم.
وممّا نلاحظه، أنَّ سلوكه في البيت الَّذي انتقل إليه، والمستوى الأخلاقيّ الّذي كان عليه، جعل أصحاب البيت يعجبون به ويرتاحون إليه، ولا سيَّما أنّه ملأ حياتهم بروحٍ جديدةٍ لم يعهدوها من قبل، لأنَّ شخصيّته لم تكن شخصيّة عبدٍ مملوك، بل شخصيَّة إنسانٍ منفتح على أعلى القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة، تماماً كما لو كان من أهل البيت، الّذين يعترف لهم بالجميل في رعايتهم له واحترامهم إيَّاه.
وهكذا كانت نشأته الطّفوليَّة نشأةً مميّزةً، يربّي فيها عناصر شخصيَّته ممّا اكتسبه من أسرته الّتي كانت تعيش آفاق النبوَّة الّتي ترتفع إلى آفاق المعرفة الإلهيَّة والرّوحانيَّة الربّوبيَّة.
إيتاء يوسف العلم والحكمة
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً}2، فأصبح من أولي الحكم الَّذين يُقصَدون للحكم من موقعٍ فكريٍّ عميقٍ واسع، وعلمٍ غزيرٍ شامل، جزاءً لصبره وإحسانه، لما يمثِّله الصَّبر في حياة الإنسان، من تعميقٍ للفكر، وتوسيعٍ له أمام مصاعب الحياة ومشاكلها الَّتي لا يتحمَّلها إلا الصَّابرون، لأنَّ الصَّبر يمنح الصَّابر حالةً عميقةً واسعةً من الهدوء الفكريّ والنّفسيّ، ويتيح له أن يفكّر بطريقةٍ منفتحة، فلا تطغى عليه المشاكل، ولا تسقطه مصاعب البلاء، ولا تشغله نوازع الآلام.
أمَّا الإحسان الَّذي يرتفع به الإنسان إلى الإخلاص في العبوديَّة لله والانفتاح على حاجات النّاس ومشاكلهم وآلامهم، فيتمثَّل بالانفتاح على الكون في حاضر الحياة ومستقبلها، بالشَّكل الّذي يغني التّجربة الّتي تشدّه إلى أوضاع النَّاس وقضاياهم، ويوسِّع الأفق الّذي يجعله يتحرّك في المدى الّذي يلاحق فيه الأمور، في عمليَّة إيجاد الحلول النَّاجعة للمشاكل الّتي تفترسها وتطبق عليها، ويوحي بالامتداد، لأنَّه لا يعيش في زاويةٍ ضيِّقةٍ من زوايا الذَّات ليختنق في داخلها في الدَّائرة الضيِّقة.
وهكذا بدأ ينفتح على اللّطف الإلهيّ، بعد أن استكمل قوَّته الجسديَّة وقدرته العقليَّة، بحيث أمكنه أن يمتدَّ في حركة العلم الّذي وهبه الله إيَّاه، ليفتح منه علماً واسعاً متحرّكاً ينفذ به إلى الوجدان الإنسانيّ فيما يحصل له من غوامض الأمور، ليوضحها لهم، ولينطلق من خلال ذلك إلى إبلاغ رسالته للنَّاس، مستفيداً من الموقع الّذي يمنحه إيَّاه علمه عندهم...
وهكذا أعطاه الله ثقافة الحكم بين النَّاس، ليحلّ لهم مشاكلهم المعقّدة، وليصلح بينهم فيما اختلفوا فيه وتنازعوا عليه، لأنَّ ذلك شأن الرّسل في رعايتهم النّاس وإصلاحهم أمورهم. وربّما كان هذا الحكم الّذي آتاه الله إيّاه، والعلم الّذي فتح من خلاله عقله، هو الانطلاقة الأولى في الاصطفاء الإلهيّ له بالرّسالة، ولكن في موقعٍ محدودٍ يتَّسع كلّما اتّسعت الظّروف الّتي تفرضها أوضاعه في التّأويل والوعظ والإدارة.
تجربة الإغراء الصَّعبة
وبدأت التَّجربة الصَّعبة القاسية التي تتحدَّى أخلاقيَّته ومبادئه وتقواه في حياته، في البيت الَّذي نشأ فيه وضمَّه إليه وربَّاه في ساحته؛ فها هو يواجه الإغراء بأشدِّ صوره، وأجلى مظاهره، وأقسى حالاته، بما لا يملك ـ من ناحيةٍ واقعيَّة ـ الامتناع عن الخضوع له والاستسلام لتأثيره إذا أراد لحياته أن تستمرَّ في النَّعيم الَّذي يتقلَّب فيه، والامتيازات الّتي يملكها، ممّا هيّأه له المالكون له، فإذا امتنع عن الدّعوة الإغرائيّة، فقد ذلك كلّه، مع الخطر على الحريّة التي يعيش فيها، والخوف على حياته من الهلاك الّذي لا يملك سبيلاً لتفاديه لو أراد هؤلاء النَّاس أن ينزلوه به.
إنّه في سنّ المراهقة الّتي تتفتَّح فيها الغرائز في فضاء الشَّهوة، وتضيع فيها المشاعر في أجواء العاطفة، ويلتهب فيها الجسد في نيران الأحاسيس اللاهبة، ويتحرَّك فيها الإنسان في غيبوبة الأحلام الضّبابيَّة المبهمة التي تثير الجوَّ الدَّاخليّ في ذاته، ليحسَّ الإنسان معها بأنّه يسبح في بحورٍ من الجنس الغريزيّ والخيال الملتهب، مواجهاً المزيد من أمواج الحسّ الّتي تطغى على فكره وحكمته، فيسقط لديه الفكر العاقل، وتضيع الحكمة العميقة.
وفي البيت امرأةٌ تضجُّ شهوةً وعاطفةً إزاء هذا الشّابّ الّذي يعيش في داخل بيتها، فتصبح وتمسي لتجده أمامها، وهو في أعلى درجات الحسن والجمال الّتي تجتذب في أيّة امرأة حالةً العشق الجسديّ والشّعوريّ، وهو ـ في الوقت نفسه ـ يعيش تحت سلطتها القويَّة، باعتباره مملوكاً مستعبداً لها لا يملك أن يعصي لها أمراً، ما يجعل حصولها على إرواء ظمئها الجنسيّ الّذي ربّما حرمت منه من زوجها، مسألةً لا صعوبة فيها، لأنّها امرأة تتبوَّأ في بيتها ومجتمعها موقع السّلطة والقوَّة وهيمنة القدرة، فلا يردّ أحدٌ لها طلباً، ولا تمتنع عنها رغبة من أيِّ مخلوق، سواء كان ذلك من خلال الموقع الاجتماعيّ لزوجها الّذي يملك ميزةً اجتماعيّةً، أو من قِبَل أصحاب النّفوذ الذين يحيطون بها ويخطبون ودَّها، أو من خلال الثّروة الضَّخمة التي تملكها ممّا يحتاجه النَّاس إليها.
فكيف بهذا الشّابِّ الّذي لا حول له ولا قوَّة إلا من خلالها، لأنَّه عبدٌ مملوك اشتراه زوجها بماله ليخدمه ويخدمها ويستجيب لكلِّ طلباتهما ورغباتهما؟! وكانت تشعر بأنَّ ما تريده من قضاء الشّهوة معه، لا يمثِّل إلا بعض الرّغبات الطبيعيّة التي يجب عليه تلبيتها كعبدٍ مطيعٍ لأسياده، ولا سيّما أنَّه هو الشابّ الَّذي لم يعش التّجربة في العمليّة الجنسيّة، ما يجعله يستجيب لرغبتها بشغفٍ وإقبالٍ غريزيّ.
وبدأت عمليَّة الإغراء والمعاناة معاً، وتحرّكت كلّ الضّغوط الجسديّة والخارجيَّة لتضغط على إرادته، وتلاحق صلابة صموده، حتّى يسقط ـ في النِّهاية ـ أمام التّجربة الإغرائيَّة.
فكيف واجه ذلك؟ وكيف تصرّفت معه؟ هذا ما سنعرفه في الأسبوع القادم، إن شاء الله تعالى، والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشَّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة
1 [يوسف: 21].
2 [يوسف: 22].