يمثِّل التَّوحيد لله الأصل الإيمانيّ لرسالات الأنبياء الّتي كلَّفهم الله بإبلاغها للنَّاس، وحمّلهم مسؤوليَّة التّأكيد الفكريّ على أن تكون هذه الرّسالة هي القاعدة الممتدّة في حياتهم كلِّها على مستوى الفكر والعاطفة والحياة، ولذلك، التقى الخطاب الرّساليّ الموجَّه إلى النّاس بخطّ الدّعوة: {
اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}
[1]، فهو المعبود الَّذي لا معبود غيره، والإله الَّذي لا إله غيره. ولم يؤكِّد هذا الخطاب الرّساليّ عنواناً للعقيدة والعبادة والطَّاعة إلا في نطاق التَّوحيد، ولذلك، أطلق الله سبحانه احتمال أن يغفر لمن يشاء إذا كان يوحِّده، بقطع النّظر عن السَّلبيّات في التَّفاصيل العقديَّة والانحرافات العمليَّة، بينما منع مغفرته عن المشركين الّذين أنكروا توحيده وأشركوا به غيره، وذلك هو قوله تعالى: {
إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}
[2].
ولهذا، فإنّ شخصيّة النبيّ عيسى بن مريم المثيرة للجدل في موقعه الروحيّ، والّذي امتلك قدرةً كبيرةً من خلال الآيات الَّتي أجراها الله على يديه، ممّا لا يمكن لبشر عاديّ أن يملكه، مهما كانت قدرته، أثارت الكثير من التّصوّرات المنحرفة في أذهان الناس، وصلت إلى درجة تأليهه بطريقةٍ بسيطةٍ أو معقّدة فلسفيّاً، وهذا ما أبطله المنهج القرآنيّ واعتبره كفراً، الأمر الَّذي أدَّى إلى تنوّع الأساليب القرآنيّة في تأكيد بشريّته الّتي لا تختلف عن بشريّة النّاس في الطّبيعة الإنسانيّة، وعبوديّته المطلقة الخالصة لله.
خصائص عيسى(ع)
حتّى إنَّ أوَّل كلمة صدرت عنه ـ وكان لا يزال في المهد ـ التزامه الفكريّ والرّوحيّ بعبوديَّته لله، وذلك في قوله تعالى الّذي حكاه عنه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ}، فليس في ذاتي الخاصَّة أيّ عنصرٍ من عناصر الألوهيَّة بأيّة نسبةٍ كانت ممّا قد يتداوله النّاس، الأمر الّذي يجعل كلّ حياتي، في نشاطاتها المتنوّعة، خاضعةً لعبوديَّتي لله، ويجعلني لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً إلا بالله. وليست هذه العبوديَّة في وجودي الإنساني انتقاصاً من كرامتي وإنسانيَّتي، بل هي عنوانٌ للحريَّة الّتي تنطلق من عنصر الإرادة الحرَّة، والاختيار الذّاتي، والعقل الحرّ، والحركة المسؤولة، لأنَّ عبوديّتي انطلقت من خالقيَّته لي، الَّتي جعلته يملكني ويملك ما أملكه، كما أراد لي أن أكون حرّاً مع العالم وعبداً له وحده في رعايته لي ولطفه بأموري كلِّها ومالكيَّته لحياتي وموتي.
ثم كانت الكلمة الثّانية الَّتي أراد من خلالها أن يشرح دوره الحركيّ في الدَّعوة إلى توحيد الله، وإبلاغ رسالته الّتي أوحى الله بها إليه لإبلاغها للنَّاس، من أجل إصلاح أمورهم، وإبعادهم عمَّا يفسد حياتهم، ولتنظيم أوضاعهم وعلاقاتهم وشؤونهم العامَّة والخاصَّة، وتحديد مسؤوليَّاتهم في إدارة الواقع الَّذي يتحركون في داخله أمام التطوّرات والمتغيّرات، وهكذا عرَّفهم أنّه رسولٌ من الله، ونبيٌّ في الدَّعوة والتّبليغ، وفي الوحي الَّذي أنزله الله عليه كتاباً هادياً في آياته وتعاليمه، وهذا ما نطق به فيما حكاه الله عنه: {آتَانِيَ الْكِتَابَ ـ وهو الإنجيل ـ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}[3]، داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ثمَّ أكَّد(ع) في كلمته الثَّالثة، أنّه الإنسان الَّذي جعل الله البركة في حركته فيما يعود بالنَّفع على النّاس، من خلال إدارته لأوضاعهم بالخير، ومساعدتهم على استقامة أمورهم، والنّصح لهم، وتقديم المساعدة إليهم فيما يثقل عليهم القيام به، والسَّير بهم نحو الدّرجة العليا الَّتي تعينهم على حلِّ مشاكلهم وتعقيداتهم النفسيَّة الصَّعبة، وتقريبهم من الله، وحصولهم على رضوانه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ}، وهذا ممّا لم يتحدَّد في زمانٍ أو مكان، في الخطِّ الَّذي يدعو النّاس إليه لإيصالهم إلى موقع السَّعادة الروحيَّة والعمليّة، بل إنّه يتّسع لكلّ مراحل حياته، أينما كان، لأنّها مسؤوليّاته الرساليّة التي تنفتح على كلّ المواقع في الحياة.
ثمّ كانت الكلمة الرّابعة التي عبّر من خلالها عن التزامه بحركة العبادة، في امتثال الأمر الإلهيّ فيما أوصاه به من الصَّلاة، الَّتي هي معراج المؤمن إلى الله بروحه، والّتي تجعله يعيش الإحساس الشّعوريّ في كيانه الإنسانيّ بالحضور الإلهيّ في وجوده كما لو كان يراه؛ في التّضرّع إليه، والاعتراف بربوبيَّته، والخضوع له في الأمور كلِّها، ليتجدَّد إيمانه في المعاني الروحيَّة للصّلاة، وليؤكِّد عبوديَّته في مظهر الانسحاق الذَّاتيّ في ركوعه وسجوده الّذي يلتصق بالأرض، تدليلاً على المعنى المطلق للذّوبان في خضوعه له.
وهكذا في الوصيّة بالزكاة، الَّتي هي مظهرٌ من مظاهر العبادة، في امتثال أمر الله في الإنفاق من مال الله الّذي رزقه للنّاس، والانفتاح على حاجات النّاس وآلامهم في العطاء المادّيّ الّذي يتمثّل بالالتزام بمسؤوليّته عنهم، قربةً إلى الله، وطلباً لنيل رضوانه، لتكون حياته كلّها حركةً في العبادة الروحيَّة والماديّة، وليكون الإنسان الّذي يبادر إلى بذل الخير لمن يحتاج إليه: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}[4].
ثم استعمل الكلمة الخامسة المعبّرة عن البرّ بوالدته والإحسان إليها، للدَّلالة على الاعتراف بالجميل لهذه الإنسانة الوالدة الَّتي حملته وهناً على وهن، ووضعته بشراً سويّاً، وأرضعته من حليبها، وربّته في أحضانها، في رعايتها الأموميَّة لنموّه وانفتاحها على حياته، فكان الإنسان الطيّب الخيّر في كماله الأخلاقيّ، ولم يعش معها عيشة الجبَّار ممّا يقال في صفة الإنسان الّذي يجبر نقيصته بادّعاء منزلةٍ من التّعالي لا يستحقّها، وهذا لا يقال إلا من باب الذمّ، وقد يقال للقاهر غيره "جبّار". وهو أيضاً ابتعد عن الاتِّصاف بالشّقاوة الدّنيويّة والأخرويّة، وذلك قوله تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}[5].
وفي كلمته السّادسة، انفتح على السَّلام في عناصر الإنسانيَّة في نفسه، وفي علاقته بالله، وفي حال الوفاة الّتي يواجه فيها الموت كما يواجهه أيّ بشر، وفي حال البعث عندما يبعث الله في جسده الحياة بعد الموت، ليواجه مصيره أمام الله في سلام الرّضوان واللّطف والرّحمة في يوم القيامة، الّذي يقوم النّاس فيه لربِّ العالمين، {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}[6].
بشريّة عيسى
وهكذا، أعلن بشريَّته في عناصرها الذاتيَّة، ليؤكِّد للنّاس الطبيعة البشريّة لوجوده في مستقبل أمره، عندما يعيش مع النّاس ويعيشون معه، ليروا فيه صورة الإنسان وحاجاته الحيَّة كأيِّ واحدٍ منهم، وليؤكِّدوا معه أنّهم مربوبون لله الَّذي خلقهم وأنعم عليهم بالحياة والرّزق والتّربية الوجوديّة والرّعاية الإلهيّة، وأنّه لا فرق بينه وبينهم في ربوبيَّة الله له ولهم، فليس هو الإله الَّذي ارتفعت درجته إلى مستوى الألوهيّة أو تجسّد الإله فيه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}، لأنّه وحده المعبود الّذي يستحقّ العبادة من خلقه، ولا معبود غيره، {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[7]، بما يتضمَّنه التَّوحيد من خطِّ الاستقامة، باعتبار أنّه الحقيقة الأصيلة الّتي تؤكِّد الخالقيَّة للوجود الكوني كلّه، وتقود الإنسان إلى السّير في الاتّجاه الصَّحيح للعقيدة والفكر والحياة.
وهذا ما جاء أيضاً في سورة آل عمران، في قول الله تعالى في حكايته عن دعوة عيسى النّاس إلى الإيمان بالله: {إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[8].
وهكذا نلتقي بهذا المضمون في حوار الله معه، في يوم الحساب، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ}، فهناك من الناس فرقة تؤمن بألوهيَّتك وألوهيّة أمّك، ولا تعتقد بالله الواحد الّذي لا شريك له ولا عديل، وأنت تعرف أنّكما بشران مخلوقان لله ليس فيهما أيّ عنصر إلهيٍّ؟!
وكان جواب عيسى(ع) الرّفض لتلك الفكرة الباطلة المدَّعاة من قِبَل المنحرفين عن خطّ الاستقامة في العقيدة: {قَالَ سُبْحَانَكَ}، أنت الربّ الأحد الّذي تتمثّل في ذاته العظمة المطلقة والربوبيَّة الحقيقيَّة، فلا يقترب منك أحد من خلقك الّذين أنشأتهم من العدم، ومنحتهم سرَّ الوجود، فكيف يمكن أن يصدر عنّي قولٌ مثل هذا القول الباطل الّذي يعبِّر عن الكفر والجحود للحقّ، وأنا الإنسان المعترف بوحدانيَّتك، الخاضع لك بكلّ كياني، في حقارة بشريّتي وافتقارها المطلق إليك.
{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، فلا مبرّر لديَّ في تفكيري المنفتح على الحقّ أن أتحدَّث بهذه الطريقة، وأن أدعو النّاس إلى ذلك، {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، لأنّك تعلم السرَّ وأخفى، وتعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}، ممّا يصدر عني في السرِّ والعلانية، {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}[9]. وقد كانت دعوتي إليهم بالحقِّ الصَّريح الواضح الَّذي أمرتني بإبلاغه للنَّاس، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}، من الرّسالة التي حمّلتني مسؤوليَّتها، {أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}، فقد عرّفتهم أنّني لا أختلف عنهم في شؤون عبادة الله الَّذي هو ربّ الخلق كلّهم، وأنّه لا فرق بيني وبينهم في أنّك أنت ربي وربّهم، {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}، في نصحي لهم، ورقابتي عليهم، ورفضي كلّ انحراف صادر عنهم، تماماً كما هو الرّسول الشّاهد على أمّته. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} وفرضت عليَّ الموت الّذي أنهى دوري الرّساليّ في مسؤوليّتي عن الأمَّة، {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[10]، فقد كان عليَّ البلاغ وقد بلّغت، وعليك الحساب، فإن شئت أن تغفر، فأنت وليُّ المغفرة، وإن شئت أن تعذِّب، فأنت العدل في عذابهم.
المسيح عبد الله
وقد تحدَّث الله عن المسيح في اعتزازه بعبوديّته لله، كما تحدَّث عن الملائكة المقرَّبين في هذا الأمر، وهذا هو قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً}[11]، فليس لأيِّ مخلوق أن يستنكف عن عبادة الله طغياناً واستكباراً، ومن يفعل ذلك فسيقف في لحظة الحساب أمام الله ليواجه عذابه.
وقد أكَّد القرآن القدرة الإلهيّة في خلق عيسى، تماماً كما هي القدرة في خلق آدم، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[12]، فالإرادة التكوينيّة المطلقة في خلق الأشياء، ليست بحاجةٍ إلى سببٍ ماديٍّ لتحقيق المراد، وهذا ما يجمع آدم والمسيح، في أنَّ الله خلقهما بإرادته في الأصالة التكوينيَّة، فهما مخلوقان بشريّان يخضعان لما يخضع له البشر في حاجاتهما الجسديّة، وفي ضروراتهما الحياتيّة، بالرّغم من أنَّ خلقهما يختلف عن القانون الطّبيعيّ في خلق النّاس، وهذا ما جاء في قوله تعالى ـ عن عيسى وأمّه ـ {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[13]، فقد كانا يعيشان حاجاتهما الغذائيَّة كما يعيشها النّاس الآخرون، تأكيداً للجانب البشريّ المادّيّ في شخصيّتهما الإنسانيّة.
وقد تحدَّث القرآن في أكثر من آية عن رسوليَّته، وذلك في قوله تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}[14]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ}[15]، وقوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}[16].
البشارة بالنبيِّ محمَّد(ص)
كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}[17]، ونلاحظ في هذه الآية، أنَّ المنهج القرآني يبيّن أنَّ كلّ رسولٍ يأتي، يصدِّق ما بين يديه من وحي الله، ويبشِّر بالرّسول الآتي من بعده، في عمليَّة تكاملٍ بين الرّسالات، وتأكيدٍ لارتباطها التّاريخيّ بعضها ببعض، وهذا ما أعلنه في بشارته بالنبيّ محمّد(ص) في رسوليّته، وقد كان النبيّ محمّد(ص) يحدِّث قريش والمشركين عن عيسى، وعن الآية الّتي تمثّلت في خلقه، والقدرة الّتي منحه الله إيّاها في الأمور المعجزة، فاستكبروا ورفضوا ذلك، وهذا هو قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ}[18].
وهكذا، قدَّم إلينا القرآن السيِّد المسيح عبداً لله، مخلوقاً له بإرادته، ورسولاً إلى النّاس كافّةً، رافضاً تربيب النَّاس له.
الصدّيقة(ع) الطَّاهرة
أمّا مريم بنت عمران، فقد تحدَّث عنها القرآن بما لم يتحدَّث عن أيّة امرأة أخرى، في رعاية الله لها، وتكفّله بها، وقبوله إيَّاها بقبولٍ حسن، وجعلها ـ مع ابنها ـ آيةً للنّاس، ومظهراً لقدرته تعالى في حملها من دون زوج، وخلقه ابنها عيسى من دون أب، وقربها منه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}[19]، وذلك في فلسطين الَّتي ولد فيها السيِّد المسيح، والتي استقرّا في موقعها، واطمأنَّت حياتهما فيها، وعاشا إلى جانب النَّبع الصّافي الّذي يتفجَّر من أعماق الأرض ويمتدّ في أرجائها.
وقد تحدَّث الله عنها بأنّها "صدِّيقة"، لأنها صدَّقت الله بإيمانها، وأخلصت له في العبادة والموقف، وواجهت كلَّ التّحدّيات بروح المؤمنة الصَّادقة التقيَّة، ولم يكن لديها أيّ سرٍّ من أسرار القداسة الغيبيّة الّتي توحي بعبادتها من قِبَل النّاس، بل كانت قداستها الروحيّة قداسةً إنسانيّةً، بإخلاصها لله في معاناتها الإيمانيّة، وصدقها مع ربها ومع نفسها ومع النّاس، كأيّة مؤمنة تقيّة أخرى، ولكن في الدرجة العالية من التّقوى وعمق المعرفة بالله، ولذلك اصطفاها الله وطهَّرها وفضَّلها على نساء العالمين فيما منحها من الكرامة الإعجازيّة.
وقد ضربها الله مثلاً للّذين آمنوا من الرّجال والنِّساء، لأنَّ قيمتها الرّوحيَّة والعمليَّة لم تكن محصورةً في الإطار الأنثويّ، بل إنَّ هذه القيمة انطلقت من إنسانيَّتها الّتي يقتدي بصفاتها كلّ إنسان، فقد أحصنت فرجها، فلم تنشئ أيّ علاقة بأيّ رجل في الجانب الجنسيّ، بل بقيت في عذريّتها الطّاهرة المنفتحة على أعلى درجات العفَّة التي تمتدّ في كلّ مشاعرها وغرائزها الذاتيَّة، وقد أكرمها الله بأن نفخ فيها من روحه، ليكون حملها العجائبي مظهراً لتأكيد القدرة الإلهيّة في الخلق الإعجازيّ، وتدليلاً على طهارتها الإنسانيّة التي أفاضها الله عليها بلطفه، ورعاها برعايته في تحدّيها لقومها.
وكانت ـ إلى جانب ذلك ـ تملك المعرفة بكلمات الله وكتبه، في ثقافة رساليَّة ترفع من مستوى تفكيرها ووعيها للأمور، فكان قنوتها لله وخضوعها له من خلال عمق المعرفة بتوحيده وعظمته، وهذا هو قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[20].
مثال العفّة والطّهر
وهكذا بقيت هذه الإنسانة الطّاهرة مثلاً لكلّ الناس في الطّهر والإيمان، والمعرفة بالله، والتّصديق بكلمات الله وكتبه، والسّير في خطِّ طاعته، لتكون النّموذج الأمثل الّذي يعبّر عن قدرة المرأة على الارتفاع إلى آفاق السموّ ومواقع القرب من الله، فتنتصر على كلِّ نوازع الضّعف التي توحي إليها بالانحراف، وتتمرَّد عليها بالإيمان الخالص والإرادة القويّة، لتكون قدوةً للرّجال والنّساء من المؤمنين والمؤمنات في كلِّ زمانٍ ومكان.
ولكنَّ اليهود أساؤوا إلى مكانتها وطهارتها وأخلاقيَّتها الروحيَّة وعفَّتها الأخلاقيَّة، فنسبوا إليها فعل الفاحشة التي نزّهها الله عنها، ما يجعل من كلامهم الحاقد بهتاناً عظيماً، لأنّها ليست كذبةً بسيطةً تتعلَّق ببعض الشّؤون العامّة العاديّة، ولكنَّها كذبة تتعلّق بقضيَّة الشّرف في اتّهام المرأة التي هي في المستوى العظيم من الطّهر والشّرف، ما يوحي بأنّهم لا يتورّعون عن أيّ شيء مما يتَّصل بأحقادهم الدَّفينة ومطامعهم الدّنيئة وأهوائهم الفاسدة، وهذا ما تحدَّث الله عنه: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً}[21].
ولكنَّ مؤامراتهم الخبيثة سقطت أمام الحقيقة النّاصعة في شخصيّة المرأة الّتي بقيت في مدى الزمن كلِّه، وفي وعي النّاس كلّهم، المرأة الطّاهرة التي لم تعلق بها أيّة قذارة، بل كانت المثل الأعلى للخطّ الأخلاقيّ الإنسانيّ في العفَّة والطّهارة. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشَّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة
[1] [الأعراف: 59].
[2] [النّساء: 48].
[3] [مريم: 30].
[4] [مريم: 31].
[5] [مريم: 32].
[6] [مريم: 33].
[7] [مريم: 36].
[8] [آل عمران: 51].
[9] [المائدة: 116].
[10] [المائدة: 117].
[11] [النساء: 172].
[12] [آل عمران: 59].
[13] [المائدة: 75].
[14] [آل عمران: 49].
[15] [النساء: 171].
[16] [المائدة: 110].
[17] [الصف: 6].
[18] [الزخرف: 57 ـ 59].
[19] [المؤمنون: 50].
[20] [التحريم: 12].
[21] [النساء: 156].