مظاهر الإعجاز في رسالة النبيّ عيسى(ع)

مظاهر الإعجاز في رسالة النبيّ عيسى(ع)

ما زلنا نواصل الحديث حول تجربة النّبيّ عيسى(ع)، فلقد تحدّث القرآن الكريم أنَّ السيِّد المسيح عيسى بن مريم قد قدّم نفسه إلى قومه (بني إسرائيل)، كرسولٍ يأتي بالآيات المعجزة الَّتي تثبت شخصيَّته الرسوليَّة، لأنها لا تلتقي بقدرة البشر، بل هي من مظاهر قدرة الله الَّذي قد يمنح بعض مفرداتها الإعجازيَّة لمن يصطفيه من رسله، بأن يأذن له بالحركة الخاصّة الصّادرة عنه، فيرى فيها الناسُ السرَّ الغيبـيّ الَّذي لا يملكون تفسيره بالطّرق الطّبيعيَّة المعتادة لهم.

سرّ الإعجاز عند موسى(ع)

ولكن قد يثير البعض تساؤلاً حول حديث النبيّ عيسى(ع) عن سرِّ الإعجاز في مضمون رسوليَّته، وهو: هل إنّه حقَّق ممّا ادّعاه من الإعجاز شيئاً أمام النَّاس؛ فهل اجتمع النّاس من حوله وقدَّموا إليه ـ بطريقة التحدّي ـ ميتاً ليبعث فيه الرّوح، فعادت إليه؟ وهل طلبوا منه أن يضع تمثال طيرٍ من الطّين لينفخ فيه فتعود الحياة إليه؟ وهل جاؤوا إليه بالأعمى فأبصر بلمسة يده، وبالأبرص فأذهب مرضه؟ وهل حدَّثهم عمّا يأكلونه أو ما يدَّخرونه في بيوتهم، مما لا سبيل له للاطّلاع عليه إلا من خلال القدرة العجائبيَّة التي أعطاه إيّاها الله، الَّذي يملك القدرة المطلقة في الوجود كلّه، وفي الإحياء والإماتة، والصحّة والمرض، وخفايا الغيب في حياة الإنسان الخاصّة، أو أنهم لم يعتبروا طروحاته جديّةً، فأعرضوا عن الاهتمام بها، ورأوا أنها مجرَّد ادّعاءات لا واقع لها في إمكاناته البشريّة الذاتيّة، فاستهانوا به، وأنكروا عليه دعواه وكفروا به؟

إنَّ ما يوحي به الظّاهر القرآني، يدلّ على أنَّ النبيّ عيسى لم يتكلّم بما تكلّم به أمام قومه الّذين يريد الحصول على إيمانهم واقتناعهم برسالته، دون أن يكون لديه القدرة على إثبات ما يقول، باعتبار أنَّ عدم قدرته الفعليَّة على ذلك، سيجعل النَّاس يبادرون إلى تكذيبه في دعواه الرَّسوليَّة، عندما يواجهونه بالتَّحدّي الصَّارخ ليثبت لهم قدرته على تحقيق ما ادَّعاه، فيعجز عن إثبات ذلك بطريقة واقعيّة، وبذلك يسقط من أعينهم، ويزيد احتقارهم له وكفرهم به، لأنه ادَّعى المستحيل ليخدعهم بأساليبه الخادعة.

ونحن نعرف أنَّ العقلاء الّذين يحترمون أنفسهم، لا يسلكون مثل هذا المسلك، ولا يجعلون مواقعهم عرضةً للسخرية والاستهزاء والرّفض لما لا يملكون القدرة عليه، فيسقطون أمام التحدّي عندما يظهر عجزهم عن تطبيق ذلك في الواقع بشكلٍ فعليّ.

ولكنَّ بعض المفسِّرين ـ ومنهم صاحب المنار ـ أصرَّ على تأويل المعجزات الَّتي ذكرها القرآن للمسيح بشكلٍ من الأشكال، ومن ذلك، قوله إنَّ المسيح اكتفى بمجرّد الادّعاء بأنّه يفعل هذه الأمور المعجزة بإذن الله، ولكنَّه لم يفعل من ذلك شيئاً أبداً.

تفسير الإعجاز

وربّما يتصوَّر هذا البعض أنَّ المسيح كان يريد أن يوحي إلى قومه بما يملكه من القدرة الممنوحة له من خلال الغيب الإلهيّ، ليكون ذلك بمنـزلة الصَّدمة الَّتي تجعلهم يشعرون بالسرّ العجائبـيّ الكامن في شخصيَّته، من دون أن يجرؤوا على الطَّلب منه أن يخضع للتّجربة الفعليَّة، لأنهم يخافون من موقعه الخارق الّذي يتحدَّث عنه، ويخشون من نتائجه السّلبيَّة عليهم، وتأثيره في أوضاعهم، تماماً كما هو الشَّخص الّذي يسيطر على الحالة النفسيَّة للآخرين، فتهتزّ أمام شعورهم بقوَّته، ما يجعلهم يسقطون أمامه.

وربما كان الأساس في هذا الرّأي، استبعاد حدوث المعجزات من البشر ـ حتى لو كانوا من الأنبياء ـ في طبيعتها الخارقة للعادة الَّتي لا تنسجم مع القوانين الطّبيعيَّة الَّتي تحكم الأوضاع الإنسانيَّة في قضاياها المعقَّدة أو المستحيلة، في الحياة والموت، والعافية والمرض، مما لا يصدر عن غير الله بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، ما يفرض على الباحث تأويلها بالطّريقة الّتي تتوافق مع القوانين الطّبيعيّة بشكلٍ وبآخر.

وهذا ما درجت عليه بعض المدارس الإسلاميَّة الفكريَّة أو التفسيريَّة، الّتي حاولت أن تقدِّم المضمون القرآنيّ أو الدّينيّ بطريقةٍ عقليّةٍ أو علميّة، بما لا يتنافى مع التصوّر الطّبيعيّ العام الّذي ينفتح على الأمور والأحداث بطريقة الحسابات المادّيَّة، بينما نرى أنَّ بعض ما جاء في القرآن من المعجزات، كعصا موسى الّتي تحوَّلت إلى ثعبان يلقف ما يأفكون، وكاليد البيضاء لموسى، هو ممّا لا يخضع للتَّأويل أو للتَّفسير الطبيعيّ المادّيّ، ولذلك خضع السَّحرة لها، وسجدوا لله بعد إدراكهم أنها ليست من فعل موسى، ولكنَّها من مظاهر قدرة الله الّتي تمثَّلت بهذه الظَّاهرة الإعجازيَّة الّتي لا تخضع لأيِّ حسابات مادّيّة من السِّحر الّذي امتهنوه وعرفوا أسراره الخادعة في مظاهرها للنّاس.

ثم إنّنا نتساءل عن السَّبب الَّذي يفرض إنكار المعجزة كظاهرة غيبيَّة يأذن الله بها لبعض عباده المرسلين؛ هل هو الاستبعاد لخرق قوانين الطَّبيعة الّذي يجري على يد الأنبياء؟ وكيف ينطلق هذا الاستبعاد عندما يتَّصل بإذن الله الّذي يوحي به إلى النّبيّ، كما يوحي به إلى حركة الكون في نظامه الّذي يتحرّك بقدرته الّتي خلق بها كلَّ شيء، وحوّل فيها النّار برداً وسلاماً على إبراهيم، وأحيا بها الموتى في يوم البعث، ومنح الإنسان القدرة على اختراق حواجز الأسرار الذاتيَّة في عالم الخفاء؟

ثمّ، أليس الدِّين حالةً غيبيّةً تنطلق من الأسلوب غير العاديّ في إنزال الوحي على الأنبياء، وحتّى النّظام الكونيّ في حركة الكون كلّه؛ في إنزال المطر من السَّماء، وفي إحياء الأرض بعد موتها، وفي الزّوجيَّة في الكون، وفي القوانين الطّبيعيَّة في حركة الرياح وتفجير الينابيع وطريقة خلق الإنسان... إلى غير ذلك من مظاهر القدرة الإلهيَّة في خلقه، مما كان قبل وجوده غيباً لا يخضع فيه المسبّب للسّبب، إلا من خلال السرّ الّذي ربط الله به الأشياء بعضها ببعض؟!

وأين الاستحالة في أن يحرّك الله قدرته المطلقة ليهيِّئ السّبل لرسله في الوقوف أمام التحدّيات بقوّة، ليكونوا في الموقع الأعلى لا الأسفل، من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الكافرين هي السّفلى، كما قال الله تعالى للنّبيّ موسى(ع): {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}[1]، ولتقوم بهم الحجَّة على النَّاس.

المعجزة آية الله لأنبيائه

إنَّ الغيب هو من أمر الله، كما هو الشّهود من أمره، والله يحرّك غيبه في مواقع إرادته كما يحرّك الشّهود، لأنّه يتساوى لديه عالم الغيب وعالم الحسّ والشهادة، فهما معاً من أسرار إبداعه وامتداد قدرته وحكمته في خلقه.

ولذلك، لا بدَّ لنا من أن نتقبّل المعجزة في معناها الغيبـي الإلهيّ بإيمانٍ وتسليمٍ، كما نتقبّل الأمور الطبيعية الأخرى، وقد أرادنا الله أن نتوجَّه إليه بالدّعاء في أمورنا كلّها، ممّا نملك الوسائل فيه ومما لا نملكه، مما يرتبط بأسرار الغيب الإلهيّ واللّطف الربوبيّ والرحمة الخفيّة، بل إنَّ الإيمان بالله والانفتاح عليه والاتصال الروحي به، هو من عالم الرّوح الّذي لا يخضع للمادّة، فهو وحده المطلق في كلِّ سرّ الوجود، فلا حدَّ لأيّ صفةٍ من صفاته، وليس كمثله شيء، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فهل نفلسف ذات الله ومعنى ألوهيَّته بالأسباب المادّيّة والقوانين الطّبيعيّة، وهي المخلوقة الَّتي خلقها وأعطاها وجودها ومعنى هذا الوجود؟

وإذا كان الآخرون لا يسلّمون بالأمور الغيبيّة في الدّنيا، من خلال المعجزة التي يجريها الله على أيدي رسله، أو الكرامة الّتي قد يكرّم بها أولياءه، فيحاولون إنكارها، حتى لو حاولنا إقناعهم بها بطريقة مادّية، فكيف يمكن إقناعهم بالغيب في عالم الألوهيّة، أو في عالم الآخرة؟!

هذا من النّاحية العامَّة، أمَّا في الجانب القرآني الخاصّ، فإنَّ النصّ في سورة المائدة يؤكِّد حدوث هذه الأمور من النبيّ عيسى(ع)، وذلك في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ}، إلى أن قال: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي}[2].

وجاء في مجمع البيان: "وقيل إنّه أحيا أربعة أنفس: (عازر)، وكان صديقاً له، وكان قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، ثم قال: اللَّهمَّ ربَّ السّماوات السّبع، وربّ الأرضين السّبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم بأنّي أحيي الموتى. فأحيا عازر، فخرج من قبره، وبقي وولد له. و(ابن العجوز)، مرَّ به ميتاً على سريره، فدعا الله عيسى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرّجال، ولبس ثيابه، ورجع إلى أهله، وبقي وولد له. و(ابنة العاشر) قيل له: أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله فعاشت، وبقيت وولدت. و(سام بن نوح)، دعا عليه باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، ولكنّي دعوتك باسم الله الأعظم...

وقال الكلبي: كان يحيي الموتى بـ"يا حيّ يا قيّوم". وإنما خُصّ عيسى بهذه المعجزات، لأنّ الغالب كان في زمانه الطبّ، فأراهم الله الآيات من جنس ما هم عليه، لتكون المعجزة أظهر، كما أنَّ الغالب لما كان في زمن موسى السّحر، أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثله، وكان الغالب في زمان نبيِّنا(ص) البيان والبلاغة والفصاحة، فأراهم الله تعالى المعجزة بالقرآن الّذي بهرهم ما فيه من عجائب النّظم وغرائب البيان، ليكون أبلغ في باب الإعجاز بأن يأتي كلاً من أمم الأنبياء بمثل ما هم عليه ويعجزون عن الإتيان بمثله، إذ لو أتاهم بما لا يعرفونه، لكان يجوز أن يخطر ببالهم أنَّ ذلك مقدور للبشر، غير أنهم لا يهتدون إليه[3].

وقد أراد الله ذلك آيةً لهم تؤكِّد لهم خطَّ الإيمان بالله ـ وحده ـ مصدر كلّ خلق، والفاعل لكلّ شيء، لأنَّ النبيَّ الّذي يعيش ضعف بشريّته في كلِّ حاجاته وأوضاعه الخاصَّة، لا يملك شيئاً من كلِّ ما يصدر عنه من معاجز وكرامات خارقة للعادة بنفسه، لأنّه لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلا بالله، بل إنَّ الله هو الفاعل لذلك كلّه، وهو الَّذي يجري المعاجز على يد نبيّه، والكرامات على يد وليّه، من خلال المصلحة الّتي يحدِّدها بحكمته ويؤكِّدها بقدرته.

وهذا هو التَّوحيد الخالص الأصيل الّذي لا يجعل لأحدٍ من المخلوقين أيَّ منـزلةٍ تقترب من ذات الله في موقعه الإلهيّ وربوبيَّته الشَّاملة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [طه: 68].

[2]  [المائدة: 110].

[3]  تفسير مجمع البيان، الشّيخ الطبرسي، ج 2، ص 299.

ما زلنا نواصل الحديث حول تجربة النّبيّ عيسى(ع)، فلقد تحدّث القرآن الكريم أنَّ السيِّد المسيح عيسى بن مريم قد قدّم نفسه إلى قومه (بني إسرائيل)، كرسولٍ يأتي بالآيات المعجزة الَّتي تثبت شخصيَّته الرسوليَّة، لأنها لا تلتقي بقدرة البشر، بل هي من مظاهر قدرة الله الَّذي قد يمنح بعض مفرداتها الإعجازيَّة لمن يصطفيه من رسله، بأن يأذن له بالحركة الخاصّة الصّادرة عنه، فيرى فيها الناسُ السرَّ الغيبـيّ الَّذي لا يملكون تفسيره بالطّرق الطّبيعيَّة المعتادة لهم.

سرّ الإعجاز عند موسى(ع)

ولكن قد يثير البعض تساؤلاً حول حديث النبيّ عيسى(ع) عن سرِّ الإعجاز في مضمون رسوليَّته، وهو: هل إنّه حقَّق ممّا ادّعاه من الإعجاز شيئاً أمام النَّاس؛ فهل اجتمع النّاس من حوله وقدَّموا إليه ـ بطريقة التحدّي ـ ميتاً ليبعث فيه الرّوح، فعادت إليه؟ وهل طلبوا منه أن يضع تمثال طيرٍ من الطّين لينفخ فيه فتعود الحياة إليه؟ وهل جاؤوا إليه بالأعمى فأبصر بلمسة يده، وبالأبرص فأذهب مرضه؟ وهل حدَّثهم عمّا يأكلونه أو ما يدَّخرونه في بيوتهم، مما لا سبيل له للاطّلاع عليه إلا من خلال القدرة العجائبيَّة التي أعطاه إيّاها الله، الَّذي يملك القدرة المطلقة في الوجود كلّه، وفي الإحياء والإماتة، والصحّة والمرض، وخفايا الغيب في حياة الإنسان الخاصّة، أو أنهم لم يعتبروا طروحاته جديّةً، فأعرضوا عن الاهتمام بها، ورأوا أنها مجرَّد ادّعاءات لا واقع لها في إمكاناته البشريّة الذاتيّة، فاستهانوا به، وأنكروا عليه دعواه وكفروا به؟

إنَّ ما يوحي به الظّاهر القرآني، يدلّ على أنَّ النبيّ عيسى لم يتكلّم بما تكلّم به أمام قومه الّذين يريد الحصول على إيمانهم واقتناعهم برسالته، دون أن يكون لديه القدرة على إثبات ما يقول، باعتبار أنَّ عدم قدرته الفعليَّة على ذلك، سيجعل النَّاس يبادرون إلى تكذيبه في دعواه الرَّسوليَّة، عندما يواجهونه بالتَّحدّي الصَّارخ ليثبت لهم قدرته على تحقيق ما ادَّعاه، فيعجز عن إثبات ذلك بطريقة واقعيّة، وبذلك يسقط من أعينهم، ويزيد احتقارهم له وكفرهم به، لأنه ادَّعى المستحيل ليخدعهم بأساليبه الخادعة.

ونحن نعرف أنَّ العقلاء الّذين يحترمون أنفسهم، لا يسلكون مثل هذا المسلك، ولا يجعلون مواقعهم عرضةً للسخرية والاستهزاء والرّفض لما لا يملكون القدرة عليه، فيسقطون أمام التحدّي عندما يظهر عجزهم عن تطبيق ذلك في الواقع بشكلٍ فعليّ.

ولكنَّ بعض المفسِّرين ـ ومنهم صاحب المنار ـ أصرَّ على تأويل المعجزات الَّتي ذكرها القرآن للمسيح بشكلٍ من الأشكال، ومن ذلك، قوله إنَّ المسيح اكتفى بمجرّد الادّعاء بأنّه يفعل هذه الأمور المعجزة بإذن الله، ولكنَّه لم يفعل من ذلك شيئاً أبداً.

تفسير الإعجاز

وربّما يتصوَّر هذا البعض أنَّ المسيح كان يريد أن يوحي إلى قومه بما يملكه من القدرة الممنوحة له من خلال الغيب الإلهيّ، ليكون ذلك بمنـزلة الصَّدمة الَّتي تجعلهم يشعرون بالسرّ العجائبـيّ الكامن في شخصيَّته، من دون أن يجرؤوا على الطَّلب منه أن يخضع للتّجربة الفعليَّة، لأنهم يخافون من موقعه الخارق الّذي يتحدَّث عنه، ويخشون من نتائجه السّلبيَّة عليهم، وتأثيره في أوضاعهم، تماماً كما هو الشَّخص الّذي يسيطر على الحالة النفسيَّة للآخرين، فتهتزّ أمام شعورهم بقوَّته، ما يجعلهم يسقطون أمامه.

وربما كان الأساس في هذا الرّأي، استبعاد حدوث المعجزات من البشر ـ حتى لو كانوا من الأنبياء ـ في طبيعتها الخارقة للعادة الَّتي لا تنسجم مع القوانين الطّبيعيَّة الَّتي تحكم الأوضاع الإنسانيَّة في قضاياها المعقَّدة أو المستحيلة، في الحياة والموت، والعافية والمرض، مما لا يصدر عن غير الله بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، ما يفرض على الباحث تأويلها بالطّريقة الّتي تتوافق مع القوانين الطّبيعيّة بشكلٍ وبآخر.

وهذا ما درجت عليه بعض المدارس الإسلاميَّة الفكريَّة أو التفسيريَّة، الّتي حاولت أن تقدِّم المضمون القرآنيّ أو الدّينيّ بطريقةٍ عقليّةٍ أو علميّة، بما لا يتنافى مع التصوّر الطّبيعيّ العام الّذي ينفتح على الأمور والأحداث بطريقة الحسابات المادّيَّة، بينما نرى أنَّ بعض ما جاء في القرآن من المعجزات، كعصا موسى الّتي تحوَّلت إلى ثعبان يلقف ما يأفكون، وكاليد البيضاء لموسى، هو ممّا لا يخضع للتَّأويل أو للتَّفسير الطبيعيّ المادّيّ، ولذلك خضع السَّحرة لها، وسجدوا لله بعد إدراكهم أنها ليست من فعل موسى، ولكنَّها من مظاهر قدرة الله الّتي تمثَّلت بهذه الظَّاهرة الإعجازيَّة الّتي لا تخضع لأيِّ حسابات مادّيّة من السِّحر الّذي امتهنوه وعرفوا أسراره الخادعة في مظاهرها للنّاس.

ثم إنّنا نتساءل عن السَّبب الَّذي يفرض إنكار المعجزة كظاهرة غيبيَّة يأذن الله بها لبعض عباده المرسلين؛ هل هو الاستبعاد لخرق قوانين الطَّبيعة الّذي يجري على يد الأنبياء؟ وكيف ينطلق هذا الاستبعاد عندما يتَّصل بإذن الله الّذي يوحي به إلى النّبيّ، كما يوحي به إلى حركة الكون في نظامه الّذي يتحرّك بقدرته الّتي خلق بها كلَّ شيء، وحوّل فيها النّار برداً وسلاماً على إبراهيم، وأحيا بها الموتى في يوم البعث، ومنح الإنسان القدرة على اختراق حواجز الأسرار الذاتيَّة في عالم الخفاء؟

ثمّ، أليس الدِّين حالةً غيبيّةً تنطلق من الأسلوب غير العاديّ في إنزال الوحي على الأنبياء، وحتّى النّظام الكونيّ في حركة الكون كلّه؛ في إنزال المطر من السَّماء، وفي إحياء الأرض بعد موتها، وفي الزّوجيَّة في الكون، وفي القوانين الطّبيعيَّة في حركة الرياح وتفجير الينابيع وطريقة خلق الإنسان... إلى غير ذلك من مظاهر القدرة الإلهيَّة في خلقه، مما كان قبل وجوده غيباً لا يخضع فيه المسبّب للسّبب، إلا من خلال السرّ الّذي ربط الله به الأشياء بعضها ببعض؟!

وأين الاستحالة في أن يحرّك الله قدرته المطلقة ليهيِّئ السّبل لرسله في الوقوف أمام التحدّيات بقوّة، ليكونوا في الموقع الأعلى لا الأسفل، من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الكافرين هي السّفلى، كما قال الله تعالى للنّبيّ موسى(ع): {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}[1]، ولتقوم بهم الحجَّة على النَّاس.

المعجزة آية الله لأنبيائه

إنَّ الغيب هو من أمر الله، كما هو الشّهود من أمره، والله يحرّك غيبه في مواقع إرادته كما يحرّك الشّهود، لأنّه يتساوى لديه عالم الغيب وعالم الحسّ والشهادة، فهما معاً من أسرار إبداعه وامتداد قدرته وحكمته في خلقه.

ولذلك، لا بدَّ لنا من أن نتقبّل المعجزة في معناها الغيبـي الإلهيّ بإيمانٍ وتسليمٍ، كما نتقبّل الأمور الطبيعية الأخرى، وقد أرادنا الله أن نتوجَّه إليه بالدّعاء في أمورنا كلّها، ممّا نملك الوسائل فيه ومما لا نملكه، مما يرتبط بأسرار الغيب الإلهيّ واللّطف الربوبيّ والرحمة الخفيّة، بل إنَّ الإيمان بالله والانفتاح عليه والاتصال الروحي به، هو من عالم الرّوح الّذي لا يخضع للمادّة، فهو وحده المطلق في كلِّ سرّ الوجود، فلا حدَّ لأيّ صفةٍ من صفاته، وليس كمثله شيء، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فهل نفلسف ذات الله ومعنى ألوهيَّته بالأسباب المادّيّة والقوانين الطّبيعيّة، وهي المخلوقة الَّتي خلقها وأعطاها وجودها ومعنى هذا الوجود؟

وإذا كان الآخرون لا يسلّمون بالأمور الغيبيّة في الدّنيا، من خلال المعجزة التي يجريها الله على أيدي رسله، أو الكرامة الّتي قد يكرّم بها أولياءه، فيحاولون إنكارها، حتى لو حاولنا إقناعهم بها بطريقة مادّية، فكيف يمكن إقناعهم بالغيب في عالم الألوهيّة، أو في عالم الآخرة؟!

هذا من النّاحية العامَّة، أمَّا في الجانب القرآني الخاصّ، فإنَّ النصّ في سورة المائدة يؤكِّد حدوث هذه الأمور من النبيّ عيسى(ع)، وذلك في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ}، إلى أن قال: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي}[2].

وجاء في مجمع البيان: "وقيل إنّه أحيا أربعة أنفس: (عازر)، وكان صديقاً له، وكان قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، ثم قال: اللَّهمَّ ربَّ السّماوات السّبع، وربّ الأرضين السّبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم بأنّي أحيي الموتى. فأحيا عازر، فخرج من قبره، وبقي وولد له. و(ابن العجوز)، مرَّ به ميتاً على سريره، فدعا الله عيسى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرّجال، ولبس ثيابه، ورجع إلى أهله، وبقي وولد له. و(ابنة العاشر) قيل له: أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله فعاشت، وبقيت وولدت. و(سام بن نوح)، دعا عليه باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، ولكنّي دعوتك باسم الله الأعظم...

وقال الكلبي: كان يحيي الموتى بـ"يا حيّ يا قيّوم". وإنما خُصّ عيسى بهذه المعجزات، لأنّ الغالب كان في زمانه الطبّ، فأراهم الله الآيات من جنس ما هم عليه، لتكون المعجزة أظهر، كما أنَّ الغالب لما كان في زمن موسى السّحر، أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثله، وكان الغالب في زمان نبيِّنا(ص) البيان والبلاغة والفصاحة، فأراهم الله تعالى المعجزة بالقرآن الّذي بهرهم ما فيه من عجائب النّظم وغرائب البيان، ليكون أبلغ في باب الإعجاز بأن يأتي كلاً من أمم الأنبياء بمثل ما هم عليه ويعجزون عن الإتيان بمثله، إذ لو أتاهم بما لا يعرفونه، لكان يجوز أن يخطر ببالهم أنَّ ذلك مقدور للبشر، غير أنهم لا يهتدون إليه[3].

وقد أراد الله ذلك آيةً لهم تؤكِّد لهم خطَّ الإيمان بالله ـ وحده ـ مصدر كلّ خلق، والفاعل لكلّ شيء، لأنَّ النبيَّ الّذي يعيش ضعف بشريّته في كلِّ حاجاته وأوضاعه الخاصَّة، لا يملك شيئاً من كلِّ ما يصدر عنه من معاجز وكرامات خارقة للعادة بنفسه، لأنّه لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلا بالله، بل إنَّ الله هو الفاعل لذلك كلّه، وهو الَّذي يجري المعاجز على يد نبيّه، والكرامات على يد وليّه، من خلال المصلحة الّتي يحدِّدها بحكمته ويؤكِّدها بقدرته.

وهذا هو التَّوحيد الخالص الأصيل الّذي لا يجعل لأحدٍ من المخلوقين أيَّ منـزلةٍ تقترب من ذات الله في موقعه الإلهيّ وربوبيَّته الشَّاملة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [طه: 68].

[2]  [المائدة: 110].

[3]  تفسير مجمع البيان، الشّيخ الطبرسي، ج 2، ص 299.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية