كانت حياة النبيّ يوسف في شبابه متحرّكةً في مواجهة أكثر من حالةٍ من حالات التّحدّي الأخلاقيّ، الّتي لو عاشها أيّ شابٍّ لاهتزَّت أوضاعه وتصرّفاته، بحيث يخرج من توازنه الرّوحيّ. ولكنَّ يوسف(ع) صمد أمام الإغراء من جهة، وأمام الإرهاب من جهةٍ أخرى، فظهرت شخصيّته شخصيّةً متوازنةً متماسكةً، وذلك من خلال الملكة الّتي حكمت وعيه، وجعلته يدرك آفاق الالتزام الرّساليّ الّذي تربّى عليه، وكانت حياته في موقع الصّفاء والنّقاء الّذي ارتفع به إلى الدّرجة العليا الَّتي جعلته الإنسان الكامل الّذي تميّز بالعصمة في كلّ أوضاعه، فلم يسقط في إنسانيّته، بل أعطى الإنسانيَّة في ذاته المثل الأعلى الّذي يمثِّل القدوة الصَّالحة والموقع القويّ في شجاعة الموقف وصلابة الحركة.
صورة يوسف(ع) في القرآن
وهذا ما جعل الله سبحانه يمدحه في القرآن بأنّه من المخلصين الّذين أخلصوا لله في التّوحيد والعبادة والامتداد في الطّاعة، وبأنّه من الصدِّيقين الّذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه في الكلمة والحركة والموقف، فلم يبتعد عن قيمة الصّدق في كلِّ أحواله، وبأنَّه من المحسنين الّذين أحسنوا لله في الإيمان الصّافي النّقيّ، وأحسنوا إلى النّاس في رعاية أوضاعهم الخاصَّة والعامَّة، بما يحقّق لهم ضروراتهم الحياتيّة وحاجاتهم الإنسانيّة بالعدل والإنصاف والمحبّة المنفتحة على محبّته لهم، باعتبار أنَّ العطاءَ الّذي صدر عنه كان ينطلق من روحه ومن أخلاقه، بكلِّ عفويّة الإنسان الكريم الّذي يصدر عنه العطاء بأسلوبٍ أخلاقيّ يلتزم القيمة ويتحرّك بالخير كلّه. وقد أفاض الله عليه من لطفه، وآتاه حكماً وعلماً من تأويل الأحاديث، بالمستوى الَّذي انفتح به على أسرار تفسير الأحلام، بحيث كان يفسّر للنّاس المتحيّرين أحلامهم الغامضة، بما ينفتح على حقائق الواقع.
وقد اجتباه الله، وأتمَّ نعمته عليه، وألحقه بالصَّالحين من الأنبياء، فكان النبيّ الصَّالح المتحرّك في المواقع المميَّزة، وقد تميَّز عن الأنبياء الآخرين في ظروفه وتحدّيات الواقع له ومواجهته لهذه التّحدّيات، الأمر الّذي جعله نموذجاً جديداً في الخطوط الرّساليَّة للرّسل، ما جعلنا نتابع معه التنوّع الحركيّ للرّسل والرّسالات، وهذا ما أوحى به القرآن الكريم في صفاته في حياته العامَّة والخاصَّة.
القصَّة في التَّوراة
أمَّا في التّوراة الحاضرة، فقد قالت التَّوراة: "وكان بنو يعقوب اثني عشر، بنو ليئة رأوبين بكر يعقوب، وشمعون ولاوي ويهودا ويساكر وزنولون، وابنا راحيل يوسف وبنيامين، وابنا لهفة جارية راحيل دان ونفتالي، وابنا زلفا جارية ليئة جاد وأشير. هؤلاء أبناء يعقوب الّذين ولدوا في فدان أرام[1].
قالت التّوراة: إنّ يوسف كان ابن سبع عشرة سنةً، وكان يرعى مع أخوته الغنم وهو غلامٌ عند بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه، وأتى يوسف بنميمتهم الرديّة إلى أبيهم. وأمّا إسرائيل، فأحبّ يوسف أكثر من سائر بنيه، لأنّه ابن شيخوخته، فصنع له قميصاً ملوَّناً، فلمَّا رأى أخوته أباهم أحبّه أكثر من جميع أخوته، أبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلِّموه بسلام.
وحلم يوسف حلماً، فأخبر أخوته، فازدادوا أيضاً بغضاً له، فقال لهم: اسمعوا هذا الحُلم الَّذي حلمت به، فها نحن حازمون حزماً في الحفل، وإذا حزمتي قامت وانتصبت، فاحتاطت حِزَمكم وسجدت لحزمتي. فقال له أخوته: ألعلَّك تملك علينا مُلكاً أم تتسلَّط علينا، وازدادوا أيضاً بغضاً له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه[2].
ثم حلم حلماً آخر وقصَّه على أخوته، فقال: وإذا الشَّمس والقمر وأحد عشر كوكباً ساجدة لي، وقصَّه على أبيه وعلى أخوته، فانتهره أبوه وقال له: ما هذا الحلم الَّذي حلمت، هل يأتي أنا وأمّك وأخوتك لنسجد لك إلى الأرض؟! فحسده أخوته، وأمَّا أبوه فحفظ الأمر.
ومضى أخوته ليرعوا غنم أبيه عند شكيم، فقال إسرائيل ليوسف: أليس أخوتك يرعون عند شكيم؟ تعال فأرسلك إليهم، فقال له: هأنذا، فقال له: اذهب انظر سلامة أخوتك وسلامة الغنم وردَّ لي خبراً. فأرسله من وطاء حبرون، فأتى إلى شكيم، فوجده رجلٌ، فإذا هو ضالّ في الحقل، فسأله الرّجل قائلاً: ماذا تطلب؟ فقال: إنّي طالبٌ أخوتي أين يرعون؟ فقال الرّجل: قد ارتحلوا من هنا، لأني سمعتهم يقولون: لنذهب إلى دوثان. فذهب يوسف وراء أخوته فوجدهم في دوثان، فلمَّا أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم، احتالوا له ليميتوه، فقال بعضهم لبعض: هو هذا صاحب الأحلام قادمٌ، هلمّ نقتله ونطرحه في إحدى هذه الآبار ونقول: وحش رديّ أكله، فنرى ماذا يكون أحلامه. فسمع رأوبين وأنقذه من أيديهم وقال: لا نقتله، وقال لهم رأوبين: لا تسفكوا دماً. اطرحوه في هذه البئر في البريّة، ولا تمدّوا إليه يداً، لكي ينقذه من أيديهم ليردّه إلى أبيه. فكان لما جاء يوسف إلى أخوته، أنّهم خلعوا عن يوسف قميصه الملوَّن الّذي عليه، وأخذوه وطرحوه في البئر، وأمَّا البئر، فكانت فارغةً ليس فيها ماء.
ثم جلسوا ليأكلوا طعاماً، فرفعوا عيونهم ونظروا، وإذا قافلة إسماعيليّين مقبلة من جلعاد، وجمالهم حاملة كتيراء وبلساناً ولادناً ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر، فقال يهوذا لأخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه، تعالوا فنبيعه للإسماعيليّين، وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليّين بعشرين من الفضّة. فأتوا بيوسف إلى مصر، ورجع رأوبين إلى البئر، وإذا يوسف ليس في البئر، فمزَّق ثيابه، ثم رجع إلى أخوته وقال: الولد ليس موجوداً، وأنا إلى أين أذهب؟ فأخذ قميص يوسف، وذبحوا تيساً من المعزى، وغمسوا القميص في الدَّم، وأرسلوا القميص الملوَّن وأحضروه إلى أبيهم وقالوا: وجدنا هذا، حقّق قميص ابنك هو أو لا؟ فتحقَّقه وقال: قميص ابني وحشٌ رديّ أكله، افترس يوسف افتراساً. فمزّق يعقوب ثيابه، ووضع مسحاً على حقويه، وناح على ابنه أيّاماً كثيرةً، فقام جميع بنيه وبناته ليعزّوه، فأبى أن يتعزَّى وقال: إنّي أنزل إلى ابني نائحاً إلى الهاوية، وبكى عليه أبوه[3].
[4]: وأمّا يوسف، فأنزل إلى مصر، واشتراه فوطيفار، خصيّ فرعون رئيس الشّرط، رجلٌ مصريّ، من يد الإسماعيليّين الّذين أنزلوه إلى هناك. وكان الربّ مع يوسف، فكان رجلاً ناجحاً، وكان في بيت سيّده المصريّ. ورأى سيّده أنَّ الرّبّ معه، وأنّ كلّ ما يصنع كان الربّ ينجحه بيده، فوجد يوسف نعمةً في عينيه وخَدَمه، فوكله إلى بيته، ودفع إلى يده ما كان له. وكان من حين وكّله على بيته وعلى كلِّ ما كان له في البيت وفي الحفل، فترك كلَّ ما كان له في يد يوسف، ولم يكن يعرف معه شيئاً إلا الخبز الّذي يأكل، وكان يوسف حسن الصّورة، حسن المنظر.
وحدث بعد هذه الأمور، أنَّ امرأة سيّده رفعت عينيها إلى يوسف، وقالت: اضطجع معي، فأبى، وقال لامرأة سيّده: هوذا سيِّدي لا يعرف معي ما في البيت، وكلّ ماله دفعه إلى يدي، ليس هو في البيت، ولم يمسك عني شيئاً غيرك، لأنّك امرأته، فكيف أصنع هذا الشّرّ العظيم وأخطئ إلى الله؟! وكانت إذ كلّمت يوسف يوماً فيوماً، أنّه لم يسمح لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها.
ثم حدث نحو هذا الوقت، أنّه دخل البيت ليعمل عمله، ولم يكن إنسانٌ من أهل البيت هناك، فأمسكته بثوبه قائلةً: اضطجع معي، فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج. وكان لمّا رأت أنّه ترك ثوبه في يدها وهرب إلى خارج، أنّها نادت أهل بيتها وكلّمتهم قائلةً: انظروا، قد جاء إلينا برجلٍ عبرانيّ ليداعبنا، دخل إليَّ ليضطجع معي. فصرخت بصوتٍ عظيم، وكان لمّا سمع أنّي رفعت صوتي وصرخت أنّه ترك ثوبه بجانبي وهرب وخرج إلى خارج، فوضعت ثوبه بجانبي. حتّى جاء سيّده إلى بيته، فكلّمته بمثل هذا الكلام قائلةً: دخل إليّ العبد العبرانيّ الّذي جئت به إلينا ليداعبني، وكان لمّا رفعت صوتي وصرخت، أنّه ترك ثوبه بجانبي وهرب إلى خارج.
فكان لمّا سمع سيّده كلام امرأته الّذي كلّمته به قائلةً بحسب هذا الكلام: صنع بي عبدك أن غضبه حمي، فأخذ يوسفَ سيّدُه ووضعه في بيت السّجن.
وكان الربّ مع يوسف، وبسط إليه لطفاً، وجعل نعمةً له في عيني رئيس بيت السِّجن، فدفع رئيس بيت السِّجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الّذين في بيت السِّجن، وكلّ ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل، ولم يكن رئيس بيت السِّجن ينظر شيئاً البتّة مما في يده، لأنَّ الربَّ كان معه، ومهما صنع كان الربّ ينجحه".
هذا بعض ما ورد في التّوراة حول قصَّة يوسف، وسنستكمل في العدد القادم بقيّة هذه القصّة وملاحظاتنا عليها. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة
[1] [الإصحاح، 35 من سفر التكوين. تذكر التوراة أنَّ ليئة وراحيل امرأتي يعقوب بنتا لابان الأرامي، وأنّ راحيل أم يوسف ماتت حين وضعت بنيامين].
[2] [الإصحاح، 37 من سفر التكوين].
[3] [الإصحاح، 37 من سفر التكوين].
[4] [الإصحاح، 39 من سفر التكوين].