خطّة يوسف(ع) لاستبقاء أخيه

خطّة يوسف(ع) لاستبقاء أخيه

بدأ يوسف يدبّر الخطّة الخفيّة الّتي قد لا تنسجم مع طبيعة الواقع، والّتي تبتعد بعناصرها عن الحقيقة، ليكون له من خلالها العذر القانونيّ في استبقاء أخيه عنده، والحجَّة الّتي تبرّر ذلك أمام إخوته، من دون حاجةٍ إلى استعمال الوسائل المباشرة في مواجهتهم، مع أنّه كان يملك القوّة التي تتيح له الضَّغط عليهم، ولكنَّه لم يُرد إبطال الفكرة الطيِّبة التي حملوها عنه في الشّخصيّة المفتوحة على الإحسان إليهم بالأسلوب العادل.

اتّهام القافلة بالسّرقة

وكان يحاول استخدام الوسيلة القانونيَّة التي تتيح له تحقيق غايته بطريقة سلميّة شرعيّة، بحسب الشَّكل الظّاهريّ للقانون المتّبع في المنطقة التي يحكمها ويدير أمورها، وخصوصاً أمام المجتمع الّذي ينفّذ فيه خطّته، بحيث يرى النّاس في حركته حركة الإنسان العادل الّذي لا يتصرّف إلا بشكلٍ متوازنٍ لا يبتعد عن الحقّ.

وبدأت الخطّة، إذ أمر فتيانه بأن يجعلوا السِّقاية الّتي يملكها في متاع أخيه، {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}، وصاح رافعاً صوته للإعلام بشيءٍ مفقودٍ في رحل القافلة: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ}، أي القافلة الرّاحلة التي تزوَّدت بما حصلت عليه من الطّعام، {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}[1]، فقد فقدنا سقاية الملك، وربّما كانت لديكم في ما تحملونه من متاعكم، وفي ذلك كلّ الخيانة بعد الأمانة الّتي منحناكم إيّاها ووضعناها في عهدتكم، بعد أن أدَّينا إليكم كلَّ ما تحتاجون إليه كاملاً غير منقوص.

ويبدأ السّؤال في المسألة القانونيَّة: هل كان ذلك حكماً عليهم بالسَّرقة؟ وكيف كان ذلك وهم لم يسرقوا؟ فهل هو واردٌ ـ في واقع الأمر ـ على سبيل التَّورية، على أساس سرقتهم ليوسف من أبيهم وبيعهم له، أو أنّه مجرَّد توجيه تهمةٍ شكليّةٍ واردة على سبيل الاستفهام من أجل ما توخّاه يوسف من ضمّ أخيه إليه؟ وقد لا يكون في ذلك أيّة مشكلة ما دامت الغاية نظيفةً، والمسألة مهمّةً بحسب المقارنة بين الوسيلة والغاية، وخصوصاً أنَّ سلبيَّة الوسيلة لا تضرّ أحداً، لأنَّ القضيَّة لا تعدو أن تكون مجرَّد ضغطٍ نفسيٍّ على إخوة يوسف، بما يتضمَّنه الموقف من إحراجٍ لهم أمام أبيهم من دون أن يؤذيهم في شيء، بل قد ينفِّس عقدتهم ضدَّ يوسف وأخيه، فقد تكون المسألة فرصةً للتشفّي من هذا الأخ الّذي حلَّ محلَّ يوسف في قلب أبيه، من دون أن يملكوا فعل شيء حياله، ولا سيَّما أنَّ الأب ما زال يعيش همَّ يوسف في نظراته إليهم التي لا تخلو من ملامح الاتّهام، كما أنّه يختزن حضوره في مشاعره وأحاسيسه كما لو كان حاضراً معهم، بحيث يشعرون بوجوده بينهم في عقله وقلبه وحركته بينهم في الحياة.

وقد نستوحي من تلك الحادثة، أو تلك الطريقة الخاصَّة، فكرة أنَّ الغاية تبرِّر الوسيلة إذا كانت الغاية أعظم من ناحية الأهميّة؛ لأنّها بذلك تنظِّف الوسيلة، وتجمِّد سلبيَّاتها لمصلحة إيجابيَّة الغاية، وتطهِّرها ممّا قد يكون فيها من القذارة.

موقف إخوة يوسف(ع)

وهكذا واجه إخوة يوسف اتّهامهم بالسّرقة، وواجهوا التّهمة الشّنيعة الّتي لا تتناسب مع كرامتهم وأمانتهم ونظرة المجتمع الّذي كانوا فيه إليهم، ولا سيَّما من خلال تقدير العزيز لهم، وإكرامهم عنده في الموقع المميَّز الّذي حصلوا عليه. وفوجئ هؤلاء الشَّباب بالتّهمة الكاذبة، فهم لم يسرقوا، لأنّهم ليسوا بحاجةٍ إلى السَّرقة، فقد كانوا تجّاراً يملكون المال الّذي يتداولونه في معاملاتهم مع الآخرين، كأيّ تاجرٍ أمينٍ ناجحٍ يستهدف الثّقة بالواقع الاقتصاديّ الذي يحترمه بشكلٍ متوازن، إضافةً إلى أنّهم يعرفون ما قاموا به وما فعلوه؛ الأمر الَّذي يثبت براءتهم عند أنفسهم. أمَّا أخوهم غير الشَّقيق، فليس في تاريخه حالة سرقة كمثل ما اتّهم به، ما جعلهم يجزمون بأنَّ التّهمة ناشئة من سوء تفاهم، أو من سوء تقديرٍ للواقع. وهكذا كان النّداء صدمةً كبيرةً لهم ومفاجأةً سيِّئةً، ولا سيَّما أنَّ المسألة قد تحوَّلت إلى عمليّة تشهيرٍ واتّهامٍ بالخيانة.

{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ}[2]، لتتَّهمونا بالسّرقة التي نحن أبرياء منها؟ {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}، وهو مكياله المميَّز الّذي لا يُمكن أن يُتسامح به، لأنّه يخصّ الملك، لذا فإنّ الحصول عليه أمر في غاية الأهمّية، ولمن جاء به جائزة كبيرة: {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطّعام، {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ}[3]، أي كفيل؛ قالها المنادي للإيحاء بالثّقة بأنّه هو الّذي يتعهّد ويضمن حصول من يأتي بالصّواع على الجائزة إذا لم يستطع الوصول إلى الملك الّذي أمر به بشكلٍ مباشر. وربّما كان في ذلك ما يخفِّف من وقع التّهمة، فقد تحرّك إعلان المنادي بالشَّكل الّذي يوحي وكأنَّ فقدان الصّواع قد لا يكون نتيجة سرقة، بل نتيجة ضياعه بين الأدوات خطأً أو شبه خطأ، ولهذا حاولوا أن يدافعوا عن أنفسهم ويطهّروا ساحتهم: {قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ}، فقد عرفتم سلوكنا وطريقتنا في التَّعامل معكم.

وربّما يذكر بعض المفسّرين أنّ إخوة يوسف أعادوا البضاعة الّتي وضعها يوسف في رحالهم، ظنّاً منهم أنَّ في الأمر خطأً ما، ما يوحي بأمانتهم، ولكنَّ مثل هذا غير دقيق، بلحاظ كلامهم مع أبيهم الّذي كان يوحي بأنّهم كانوا مقتنعين بأنَّ هذه البضاعة قد رُدَّت إليهم إحساناً وترغيباً لهم في الرّجوع. ومهما كانت المسألة، فها هم يقفون ليشهدوهم بأنّهم لم يأتوا ليفسدوا في الأرض بالعبث بأملاك الملك عن طريق السّرقة، {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}[4]، في الماضي لنسرق في الحاضر، لأنَّ ذلك ليس من أخلاقنا ولا من عاداتنا.

التّدبير الخفيّ ليوسف

ولم يعلّق فتيان يوسف على ذلك، بل تركوا لهم أن يتحدَّثوا بما يشاؤون، ولكنَّهم ـ بوحيٍ من يوسف، صاحب الخطّة ـ الّذي كان يعرف شريعة يعقوب في عقاب السَّارق، سألوهم عن ذلك، {قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ}[5]، في دعواكم الأمانة وإنكاركم للسَّرقة، لأنّنا لا نريد أن نعاقب السَّارق بمقتضى شريعتنا، بل نريد أن نلزمكم بما تفرضه شريعتكم، لتعلموا أنَّنا لا نقصد استغلال موقعكم الضَّعيف عندنا، بأن نفرض عليكم ما نريد، بل نترك الأمر لكم في اكتشاف المسألة وفي الحكم عليها، {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ}، وذلك بأن يُسترقّ ويُستعبد أو يؤسر، ليفعل به صاحب المال ما يشاء، وتلك كانت شريعة يعقوب في معاقبة السَّارق، {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[6] الّذين ظلموا غيرهم بالاعتداء على أموالهم، وظلموا أنفسهم بالانحراف عن أمر الله.

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ}، وبدأ التَّفتيش في أغراض إخوة يوسف، ولكن بشكلٍ دقيق، لإبعاد أيّة شبهةٍ توحي بأنَّ هناك معرفةً مسبقةً بأنَّ شقيق يوسف هو السّارق ـ حسب الخطّة ـ فبدأ ببضاعة كلِّ واحدٍ منهم، حتى وصل الأمر إلى وعاء أخيه، ليبدو الأمر طبيعيّاً لهم، فلا يثير أيَّ شكٍّ لديهم بوجود خطّة لإبقاء أخيه عنده، فلم يجد في أوعيتهم شيئاً، ما أثار في نفوسهم الاطمئنان إلى أنَّ الأمر لا يعدو أن يكون اشتباهاً. وهنا كانت المفاجأة الّتي تنتظرهم، {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ}، ووقفوا جميعاً حائرين أمام هذه الصَّدمة الكبيرة، لا يعرفون ماذا يفعلون وكيف يفسِّرون الأمر، بعد أن واجهتهم الحقيقة الصَّارخة.

وهكذا تمّت الخطّة الموضوعة الّتي كانت بتدبيرٍ من الله، حيث قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}، ودبَّرنا له الحيلة للوصول إلى هذه النّتيجة المطلوبة الّتي كان يحبّها ويرتضيها؛ إنّه التَّدبير الخفيّ، {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}، لأنَّ شريعة الملك تفرض أن يُسجَن السَّارق أو يُعاقَب، ولكنَّ الله ألهمه أن يلزمهم بما تفرضه شريعة يعقوب، فحصل ما أراد. ولعلَّ هذا هو المقصود بقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ}، فإذا شاء أمراً هيَّأ أسبابه، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء}، كما رفعنا مكانة يوسف بالعلم والتَّقوى والأسباب الّتي تفتح له أبواب الرّفعة والدّرجة العليا، فبلغ ما بلغه من الشَّأن العظيم، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[7]، حسب ما تفرضه طبيعة اختلاف الدَّرجة في الظّروف الّتي تفتح للإنسان أبواب المعرفة. وربّما كان في هذا بعض الإيحاء بما يميِّز يوسف عن إخوته في العلم، لأنهم كانوا يحملون بعض العلم حسب ما ذكره المفسِّرون.

اتّهام يوسف بالسّرقة

وأُسقط في أيديهم أمام هذا الدَّليل الصَّارخ والحجَّة القاطعة، ولكنَّهم أرادوا وضع أنفسهم في موقعٍ يميّزهم على صعيد مستوى الأمانة والشَّرف عن أخويهم الآخرين من غير أمّهم، لئلاّ تنـزل مكانتهم عند العزيز، وكأنّهم يريدون أن يقولوا له: لقد أتينا إليك في المرّة الأولى، ولم يحدث فيها ما حدث الآن، لأنّنا لم نقم ولا نقوم بمثل هذه الأعمال الّتي قام بها أخونا هذا وأخوه الّذي سبقه إلى القيام بهذا العمل من قبل، ولكنّها إرادتك الحاسمة الّتي فرضت علينا المجيء به إليك دون أن نعرف طبيعة العدوى التي سرت إليه من أخيه. وربّما كان هذا ما يفكِّرون فيه عندما تحدّثوا من باب الغمز من تاريخ يوسف، كما قال تعالى: {قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}.

وحاول المفسِّرون أن يبحثوا في تاريخ يوسف عن هذه السَّرقة الَّتي ألصقوها به، كما لو كانت حقيقةً، ولم يدر في أذهانهم أنَّ المسألة قد تكون مجرّد كذبةٍ استثارها حقدهم على يوسف وأخيه، وعقدتهم الَّتي يحملونها في داخل نفوسهم، وإلا فما معنى الحديث عن يوسف؟! وما هي المناسبة الَّتي تفرضها طبيعة المشكلة الّتي يعيشونها في مسألة السرقة ليتحدَّثوا بهذا الأسلوب؟! {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}، وحاول أن يسيطر على انفعالاته التي كاد يطلقها ليواجههم بأكاذيبهم، وليردَّ لهم الكيل كيلين، لأنّه لا يريد لخطّته الّتي وضعها للوصول إلى هدفه الكبير، في ضمِّ  أخيه إليه، واستقدام أبويه، وحلِّ المشكلة نهائيّاً بينه وبين إخوته، أن تفشل، مع ما يتضمَّنه ذلك من معاناة كبيرة في الضَّغط على المشاعر وتحمّل المتاعب، ولكنَّه في الوقت نفسه واجههم من موقعه الكبير ليحمّلهم المسؤوليَّة كمجموعة، لأنّهم يتحمَّلونها في العمق في تاريخهم معه، وإن لم يكونوا مسؤولين عن السَّرقة في ما دبّر من أمر.

فقد أطلق الكلمة الصَّارخة الَّتي تدينهم وتُبعد أخاه، كما تبعده عن مجرى اتّهامهم: {قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} في تفكيركم وعملكم، فليس لكم أن تواجهوا المسألة بهذه الطّريقة التي تحاولون ـ من خلالها ـ أن تلصقوا الشرّ بالآخرين وتبرّئوا أنفسكم منه، {وَاللهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ}[8]، في اتّهامكم للآخرين. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 70].

[2]  [يوسف: 71].

[3]  [يوسف: 72].

[4]  [يوسف: 73].

[5]  [يوسف: 74].

[6]  [يوسف: 75].

[7]  [يوسف: 76].

[8]  [يوسف: 77].

بدأ يوسف يدبّر الخطّة الخفيّة الّتي قد لا تنسجم مع طبيعة الواقع، والّتي تبتعد بعناصرها عن الحقيقة، ليكون له من خلالها العذر القانونيّ في استبقاء أخيه عنده، والحجَّة الّتي تبرّر ذلك أمام إخوته، من دون حاجةٍ إلى استعمال الوسائل المباشرة في مواجهتهم، مع أنّه كان يملك القوّة التي تتيح له الضَّغط عليهم، ولكنَّه لم يُرد إبطال الفكرة الطيِّبة التي حملوها عنه في الشّخصيّة المفتوحة على الإحسان إليهم بالأسلوب العادل.

اتّهام القافلة بالسّرقة

وكان يحاول استخدام الوسيلة القانونيَّة التي تتيح له تحقيق غايته بطريقة سلميّة شرعيّة، بحسب الشَّكل الظّاهريّ للقانون المتّبع في المنطقة التي يحكمها ويدير أمورها، وخصوصاً أمام المجتمع الّذي ينفّذ فيه خطّته، بحيث يرى النّاس في حركته حركة الإنسان العادل الّذي لا يتصرّف إلا بشكلٍ متوازنٍ لا يبتعد عن الحقّ.

وبدأت الخطّة، إذ أمر فتيانه بأن يجعلوا السِّقاية الّتي يملكها في متاع أخيه، {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}، وصاح رافعاً صوته للإعلام بشيءٍ مفقودٍ في رحل القافلة: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ}، أي القافلة الرّاحلة التي تزوَّدت بما حصلت عليه من الطّعام، {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}[1]، فقد فقدنا سقاية الملك، وربّما كانت لديكم في ما تحملونه من متاعكم، وفي ذلك كلّ الخيانة بعد الأمانة الّتي منحناكم إيّاها ووضعناها في عهدتكم، بعد أن أدَّينا إليكم كلَّ ما تحتاجون إليه كاملاً غير منقوص.

ويبدأ السّؤال في المسألة القانونيَّة: هل كان ذلك حكماً عليهم بالسَّرقة؟ وكيف كان ذلك وهم لم يسرقوا؟ فهل هو واردٌ ـ في واقع الأمر ـ على سبيل التَّورية، على أساس سرقتهم ليوسف من أبيهم وبيعهم له، أو أنّه مجرَّد توجيه تهمةٍ شكليّةٍ واردة على سبيل الاستفهام من أجل ما توخّاه يوسف من ضمّ أخيه إليه؟ وقد لا يكون في ذلك أيّة مشكلة ما دامت الغاية نظيفةً، والمسألة مهمّةً بحسب المقارنة بين الوسيلة والغاية، وخصوصاً أنَّ سلبيَّة الوسيلة لا تضرّ أحداً، لأنَّ القضيَّة لا تعدو أن تكون مجرَّد ضغطٍ نفسيٍّ على إخوة يوسف، بما يتضمَّنه الموقف من إحراجٍ لهم أمام أبيهم من دون أن يؤذيهم في شيء، بل قد ينفِّس عقدتهم ضدَّ يوسف وأخيه، فقد تكون المسألة فرصةً للتشفّي من هذا الأخ الّذي حلَّ محلَّ يوسف في قلب أبيه، من دون أن يملكوا فعل شيء حياله، ولا سيَّما أنَّ الأب ما زال يعيش همَّ يوسف في نظراته إليهم التي لا تخلو من ملامح الاتّهام، كما أنّه يختزن حضوره في مشاعره وأحاسيسه كما لو كان حاضراً معهم، بحيث يشعرون بوجوده بينهم في عقله وقلبه وحركته بينهم في الحياة.

وقد نستوحي من تلك الحادثة، أو تلك الطريقة الخاصَّة، فكرة أنَّ الغاية تبرِّر الوسيلة إذا كانت الغاية أعظم من ناحية الأهميّة؛ لأنّها بذلك تنظِّف الوسيلة، وتجمِّد سلبيَّاتها لمصلحة إيجابيَّة الغاية، وتطهِّرها ممّا قد يكون فيها من القذارة.

موقف إخوة يوسف(ع)

وهكذا واجه إخوة يوسف اتّهامهم بالسّرقة، وواجهوا التّهمة الشّنيعة الّتي لا تتناسب مع كرامتهم وأمانتهم ونظرة المجتمع الّذي كانوا فيه إليهم، ولا سيَّما من خلال تقدير العزيز لهم، وإكرامهم عنده في الموقع المميَّز الّذي حصلوا عليه. وفوجئ هؤلاء الشَّباب بالتّهمة الكاذبة، فهم لم يسرقوا، لأنّهم ليسوا بحاجةٍ إلى السَّرقة، فقد كانوا تجّاراً يملكون المال الّذي يتداولونه في معاملاتهم مع الآخرين، كأيّ تاجرٍ أمينٍ ناجحٍ يستهدف الثّقة بالواقع الاقتصاديّ الذي يحترمه بشكلٍ متوازن، إضافةً إلى أنّهم يعرفون ما قاموا به وما فعلوه؛ الأمر الَّذي يثبت براءتهم عند أنفسهم. أمَّا أخوهم غير الشَّقيق، فليس في تاريخه حالة سرقة كمثل ما اتّهم به، ما جعلهم يجزمون بأنَّ التّهمة ناشئة من سوء تفاهم، أو من سوء تقديرٍ للواقع. وهكذا كان النّداء صدمةً كبيرةً لهم ومفاجأةً سيِّئةً، ولا سيَّما أنَّ المسألة قد تحوَّلت إلى عمليّة تشهيرٍ واتّهامٍ بالخيانة.

{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ}[2]، لتتَّهمونا بالسّرقة التي نحن أبرياء منها؟ {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}، وهو مكياله المميَّز الّذي لا يُمكن أن يُتسامح به، لأنّه يخصّ الملك، لذا فإنّ الحصول عليه أمر في غاية الأهمّية، ولمن جاء به جائزة كبيرة: {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطّعام، {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ}[3]، أي كفيل؛ قالها المنادي للإيحاء بالثّقة بأنّه هو الّذي يتعهّد ويضمن حصول من يأتي بالصّواع على الجائزة إذا لم يستطع الوصول إلى الملك الّذي أمر به بشكلٍ مباشر. وربّما كان في ذلك ما يخفِّف من وقع التّهمة، فقد تحرّك إعلان المنادي بالشَّكل الّذي يوحي وكأنَّ فقدان الصّواع قد لا يكون نتيجة سرقة، بل نتيجة ضياعه بين الأدوات خطأً أو شبه خطأ، ولهذا حاولوا أن يدافعوا عن أنفسهم ويطهّروا ساحتهم: {قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ}، فقد عرفتم سلوكنا وطريقتنا في التَّعامل معكم.

وربّما يذكر بعض المفسّرين أنّ إخوة يوسف أعادوا البضاعة الّتي وضعها يوسف في رحالهم، ظنّاً منهم أنَّ في الأمر خطأً ما، ما يوحي بأمانتهم، ولكنَّ مثل هذا غير دقيق، بلحاظ كلامهم مع أبيهم الّذي كان يوحي بأنّهم كانوا مقتنعين بأنَّ هذه البضاعة قد رُدَّت إليهم إحساناً وترغيباً لهم في الرّجوع. ومهما كانت المسألة، فها هم يقفون ليشهدوهم بأنّهم لم يأتوا ليفسدوا في الأرض بالعبث بأملاك الملك عن طريق السّرقة، {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}[4]، في الماضي لنسرق في الحاضر، لأنَّ ذلك ليس من أخلاقنا ولا من عاداتنا.

التّدبير الخفيّ ليوسف

ولم يعلّق فتيان يوسف على ذلك، بل تركوا لهم أن يتحدَّثوا بما يشاؤون، ولكنَّهم ـ بوحيٍ من يوسف، صاحب الخطّة ـ الّذي كان يعرف شريعة يعقوب في عقاب السَّارق، سألوهم عن ذلك، {قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ}[5]، في دعواكم الأمانة وإنكاركم للسَّرقة، لأنّنا لا نريد أن نعاقب السَّارق بمقتضى شريعتنا، بل نريد أن نلزمكم بما تفرضه شريعتكم، لتعلموا أنَّنا لا نقصد استغلال موقعكم الضَّعيف عندنا، بأن نفرض عليكم ما نريد، بل نترك الأمر لكم في اكتشاف المسألة وفي الحكم عليها، {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ}، وذلك بأن يُسترقّ ويُستعبد أو يؤسر، ليفعل به صاحب المال ما يشاء، وتلك كانت شريعة يعقوب في معاقبة السَّارق، {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[6] الّذين ظلموا غيرهم بالاعتداء على أموالهم، وظلموا أنفسهم بالانحراف عن أمر الله.

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ}، وبدأ التَّفتيش في أغراض إخوة يوسف، ولكن بشكلٍ دقيق، لإبعاد أيّة شبهةٍ توحي بأنَّ هناك معرفةً مسبقةً بأنَّ شقيق يوسف هو السّارق ـ حسب الخطّة ـ فبدأ ببضاعة كلِّ واحدٍ منهم، حتى وصل الأمر إلى وعاء أخيه، ليبدو الأمر طبيعيّاً لهم، فلا يثير أيَّ شكٍّ لديهم بوجود خطّة لإبقاء أخيه عنده، فلم يجد في أوعيتهم شيئاً، ما أثار في نفوسهم الاطمئنان إلى أنَّ الأمر لا يعدو أن يكون اشتباهاً. وهنا كانت المفاجأة الّتي تنتظرهم، {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ}، ووقفوا جميعاً حائرين أمام هذه الصَّدمة الكبيرة، لا يعرفون ماذا يفعلون وكيف يفسِّرون الأمر، بعد أن واجهتهم الحقيقة الصَّارخة.

وهكذا تمّت الخطّة الموضوعة الّتي كانت بتدبيرٍ من الله، حيث قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}، ودبَّرنا له الحيلة للوصول إلى هذه النّتيجة المطلوبة الّتي كان يحبّها ويرتضيها؛ إنّه التَّدبير الخفيّ، {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}، لأنَّ شريعة الملك تفرض أن يُسجَن السَّارق أو يُعاقَب، ولكنَّ الله ألهمه أن يلزمهم بما تفرضه شريعة يعقوب، فحصل ما أراد. ولعلَّ هذا هو المقصود بقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ}، فإذا شاء أمراً هيَّأ أسبابه، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء}، كما رفعنا مكانة يوسف بالعلم والتَّقوى والأسباب الّتي تفتح له أبواب الرّفعة والدّرجة العليا، فبلغ ما بلغه من الشَّأن العظيم، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[7]، حسب ما تفرضه طبيعة اختلاف الدَّرجة في الظّروف الّتي تفتح للإنسان أبواب المعرفة. وربّما كان في هذا بعض الإيحاء بما يميِّز يوسف عن إخوته في العلم، لأنهم كانوا يحملون بعض العلم حسب ما ذكره المفسِّرون.

اتّهام يوسف بالسّرقة

وأُسقط في أيديهم أمام هذا الدَّليل الصَّارخ والحجَّة القاطعة، ولكنَّهم أرادوا وضع أنفسهم في موقعٍ يميّزهم على صعيد مستوى الأمانة والشَّرف عن أخويهم الآخرين من غير أمّهم، لئلاّ تنـزل مكانتهم عند العزيز، وكأنّهم يريدون أن يقولوا له: لقد أتينا إليك في المرّة الأولى، ولم يحدث فيها ما حدث الآن، لأنّنا لم نقم ولا نقوم بمثل هذه الأعمال الّتي قام بها أخونا هذا وأخوه الّذي سبقه إلى القيام بهذا العمل من قبل، ولكنّها إرادتك الحاسمة الّتي فرضت علينا المجيء به إليك دون أن نعرف طبيعة العدوى التي سرت إليه من أخيه. وربّما كان هذا ما يفكِّرون فيه عندما تحدّثوا من باب الغمز من تاريخ يوسف، كما قال تعالى: {قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}.

وحاول المفسِّرون أن يبحثوا في تاريخ يوسف عن هذه السَّرقة الَّتي ألصقوها به، كما لو كانت حقيقةً، ولم يدر في أذهانهم أنَّ المسألة قد تكون مجرّد كذبةٍ استثارها حقدهم على يوسف وأخيه، وعقدتهم الَّتي يحملونها في داخل نفوسهم، وإلا فما معنى الحديث عن يوسف؟! وما هي المناسبة الَّتي تفرضها طبيعة المشكلة الّتي يعيشونها في مسألة السرقة ليتحدَّثوا بهذا الأسلوب؟! {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}، وحاول أن يسيطر على انفعالاته التي كاد يطلقها ليواجههم بأكاذيبهم، وليردَّ لهم الكيل كيلين، لأنّه لا يريد لخطّته الّتي وضعها للوصول إلى هدفه الكبير، في ضمِّ  أخيه إليه، واستقدام أبويه، وحلِّ المشكلة نهائيّاً بينه وبين إخوته، أن تفشل، مع ما يتضمَّنه ذلك من معاناة كبيرة في الضَّغط على المشاعر وتحمّل المتاعب، ولكنَّه في الوقت نفسه واجههم من موقعه الكبير ليحمّلهم المسؤوليَّة كمجموعة، لأنّهم يتحمَّلونها في العمق في تاريخهم معه، وإن لم يكونوا مسؤولين عن السَّرقة في ما دبّر من أمر.

فقد أطلق الكلمة الصَّارخة الَّتي تدينهم وتُبعد أخاه، كما تبعده عن مجرى اتّهامهم: {قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} في تفكيركم وعملكم، فليس لكم أن تواجهوا المسألة بهذه الطّريقة التي تحاولون ـ من خلالها ـ أن تلصقوا الشرّ بالآخرين وتبرّئوا أنفسكم منه، {وَاللهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ}[8]، في اتّهامكم للآخرين. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 70].

[2]  [يوسف: 71].

[3]  [يوسف: 72].

[4]  [يوسف: 73].

[5]  [يوسف: 74].

[6]  [يوسف: 75].

[7]  [يوسف: 76].

[8]  [يوسف: 77].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية