أدَّت الحاجة الملحَّة بيعقوب إلى الموافقة على رغبة أولاده، لأنَّ القضيَّة وصلت ـ في تلك الظّروف ـ إلى ما يشبه المجاعة، من خلال الجدب الّذي أصاب المنطقة الَّتي كان يسكنها يعقوب وأولاده، ما جعل المجتمع يصل إلى درجة صعبة من الجوع والحرمان، فلم يستطع يعقوب الامتناع عن الرّخصة لأولاده في السّفر للحصول على حاجاتهم الغذائيَّة، بحيث تغلّب هذا الوضع الصَّعب على الحالة العاطفيّة الأبويّة والقلق النّفسيّ، فأرسل أخاهم الّذي هو الشّقيق ليوسف، والّذي كان يوسف يخطِّط لاستقدامه إليه وضمّه إلى دائرته، نظراً إلى العلاقة الأخويّة الحميمة الّتي كانت بينهما، وذلك في نطاق الخطّة الخفيَّة الّتي كان يخطِّط فيها للوصول إلى الهدف المنشود.
إقناع يعقوب بسفر ابنه
وفرح إخوة يوسف بذلك بعد أن كاد اليأس ينفذ إليهم، لما يعرفونه من الحالة الخاصَّة الّتي يعيشها أبوهم الّذي كان يحبّ يوسف وأخاه حبّاً شديداً، ما جعل إخوتهما لا يرتاحون إلى ذلك، بحيث وصلت المسألة عندهم إلى ما يُشبه مستوى الرَّفض النفسي لذلك، والحسد لهذه العلاقة الّتي كانت بمثابة العقدة في نفوسهم.
وكانت المفاجأة غير المنتظرة، عندما وجدوا أنَّ عزيز مصر قد منحهم البضاعة، وردَّ إليهم المال الّذي دفعوه كعوضٍ عمّا حصلوا عليه منها، فأقبلوا إلى أبيهم فرحين مسرورين بهذه العطيّة المجانيّة، لأنَّ العزيز لم يأخذ منهم بدلاً ماليّاً لبضاعتهم، فهذا هو المتاع الّذي دفعوه للعزيز بدلاً من الطَّعام الَّذي اشتروه منه، يؤكِّد الحجَّة القاطعة على ما يدلِّل على الثّقة به وحسن إخلاصه لهم، وأنّه لا يريد لهم السّوء، بل يريد لهم الخير والإحسان، وهذا ما جاء به قوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا}، وما نُريد أكثر من هذا الَّذي فوجئنا به الآن، ولم نكن على علمٍ به ولم يحدّثنا العزيز عنه، ومنّ به علينا ليقوّي علاقتنا به من أجل أن يشجِّعنا على الرّجوع إليه والإتيان بأخينا معنا. فلننطلق على بركة الله من موقع الثّقة الجديدة بينك وبيننا، بقلبٍ قويّ مطمئنّ، ومستقبلٍ مفتوح على الحصول على حاجاتنا الاقتصاديّة، {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}، ونجلب لهم الطّعام لنسدَّ حاجاتهم من خلال مسؤوليَّتنا عن رعايتهم والعناية بهم.
{وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بما نحفظ به أنفسنا، لأنَّ العقدة التي كانت كامنةً في نفوسنا تجاهه، من خلال الحبِّ الّذي تمنحه له ولأخيه بما يزيد عن حبّك لنا، زالت ولم تعد موجودة، لأنَّ الأوضاع الأسريّة قد تغيّرت، ولأنّ الأمور قد تطوّرت تطوّراً كبيراً بفعل الحالات الدّاخليّة والخارجيّة والمشاكل المتنوّعة التي أحاطت بنا وبالمنطقة، فأصبح واحداً منّا، له ما لنا وعليه ما علينا، فهو يشاركنا مسؤوليّاتنا العائليّة في كلّ المسائل التي تتّصل بالأسرة. وهكذا سوف يكون معنا كواحدٍ منّا في رحلتنا هذه التي تحقّق لنا حاجات أهلنا، {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}[1]، بما نأمله من كرم العزيز الَّذي عرفناه وشاهدناه في إحسانه إلينا.
ميثاقٌ بين يعقوب(ع) وأولاده
ولكنَّ يعقوب لم يكتفِ بما قدَّموه إليه من مبرّرات بشكل موثّق، بل أراد أن يأخذ عليهم العهد والميثاق، بأن يلتزموا التزاماً ميثاقيّاً أمام الله بالمحافظة عليه، من أجل أن يطمئنَّ إلى مستقبل ولده الحبيب، {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ}، فقد كان القلق يفترس مشاعره، ويأكل قلبه، ما جعله يعيش الصِّراع النفسيّ بين الإذن لهم باصطحابه معهم والامتناع عن ذلك، لأنَّ تجربته السَّابقة معهم الّتي كانت لا تزال حاضرةً في ذهنه وقلبه، توحي إليه بعدم الثّقة بهم، لذا، فقد كان يبحث عن أساسٍ للثّقة بهم، وهو ما لا مجال لتحصيله إلا بالكشف عن المستقبل من خلال الغيب الّذي لا يملك آفاقه، فطلب منهم أن يعطوه الثّقة بالعهد والميثاق أمام الله على الالتزام بحمايته بكلِّ ما يملكون من وسائل وإمكانات، بحيث يستنفدون كلَّ إمكاناتهم في هذا السَّبيل، فلا يبقى لهم مجال لاستخدام أيّ وسيلة ممكنة، إلا إذا كان هناك جمع كبير يحيط بهم في عمليَّة حصارٍ شديد، بحيث لا يستطيعون الثّبات أمامه، وهذا ما يُعذَر به النّاس في مثل هذه الأمور.
وعلى الرّغم من أنَّ يعقوب قد عاش بعض التّجربة القلقة في الماضي، إلا أنّه ربّما كان يتصوّر أنّهم لن يعاهدوا الله ويتجرّؤوا على تحدّي الميثاق الإلهيّ في التزاماتهم أمام الله، بالرّغم من بعض انحرافاتهم الأخرى.
وهكذا طلب منهم أن يحلفوا بالله ويؤكِّدوا العهد على ذلك كلّه، {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ}، واطمأنَّ إلى صدقهم في كلامهم، {قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[2]، فهو الشَّاهد على هذه الاتّفاقيّة الميثاقيَّة، وهو الكفيل بإتمامها، لأنَّه المهيمن على الأمر كلّه.
وصيّة يعقوب لأولاده
وبذلك استطاع أن يوحي إلى نفسه بالثّقة، فارتاحت مشاعره من الشكّ والقلق، وانسابت عاطفته لتحتوي أولاده الباقين من جديد عندما أراد أن يودّعهم، فقد خاف عليهم حسد الحاسدين، لما يُمكن أن يثيره دخولهم دفعةً واحدةً إلى المجلس الّذي يجتمع إليه النّاس من الدهشة والإعجاب بهذه المجموعة من الرّجال الإخوة الذين يملكون القوّة الجسديّة والتوافق في الرأي والوحدة في الشّكل والموقف، فأراد أن ينصحهم نصيحةً أبويّةً تبعدهم عن أجواء الحاسدين الذين يعيشون العقدة ضدَّ المحسودين، فيكيدون لهم، وربّما يتآمرون عليهم، كما هو شأن الحاسد ضدَّ المحسود، {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ}، فإنَّ ذلك قد يشكِّل بعض أنواع الإثارة الحاقدة ضدّكم، فيؤدِّي إلى ما لا تحمد عقباه، {وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ}، لتضيع الصّورة الحقيقيَّة القويَّة بذلك، ولا تلفتوا الأنظار إليكم.
وليس هذا ممّا يمنع القضاء إذا أراد الله أن يحدُث شيئاً، ولكنَّه قلق الوالد على أولاده، الذي يبحث عن وسيلةٍ لحمايتهم عبر رعايته المباشرة أو غير المباشرة لهم، من خلال تزويدهم بوصايا ونصائح تكفل لهم ذلك، {وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ} في كلّ أمور عباده، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري، {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[3]، في إرجاع كلّ القضايا إليه إذا ضاقت عليهم الأمور عند الأوضاع الصَّعبة التي يعجزون عنها، فهو المعوَّل عليه في الشدّة والرّخاء.
دخول مصر
{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم}، من أكثر من باب، تماماً كما لو كانوا أشخاصاً متفرّقين لا علاقة ببعضهم البعض. ولم تكن المسألة مسألة وسيلة طبيعيَّة تمنع ما قد يصيبهم من السّوء بسبب النظرة السلبيَّة التي ربّما كان ينظر بها إليهم الحاقدون الحاسدون، بل إنَّ الأوضاع السيِّئة خاضعة لما قد يحدث لهم بفعل الأشياء الخفيّة المتنوّعة التي ربّما يقضي بها الله من غامض علمه، {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ}، لأنَّ مثل هذه الوسائل لا تمنع الخطّة المرسومة التي يريد الله للنّاس أن يخضعوا لها في قضائه وقدره، في علاقة المسبّبات بالأسباب، فإذا أراد الله شيئاً هيَّأ أسبابه.
وهكذا، لم يفكّر يعقوب في أن يغيّر القضاء أو يعطّل الأسباب، لأنّه لا قدرة له على ذلك من خلال إمكاناته الذاتيّة، {إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}، ممّا كان يدور في نفسه من الحالة القلقة التي يختزنها في داخل ذاته، فيما كان يريد لهم من تحفّظٍ يبعدهم عن المشاكل من بعض النَّواحي. ولم نعرف من خلال القرآن نوعيَّة هذه الحاجة بالتّحديد، لكن ربّما كانت حالةً من الرّغبة في تحصيل الطّمأنينة الدّاخليّة الخاصّة التي يعيشها في نفسه، ممّا كان يعتمل في مشاعر هذا الشَّيخ الكبير الذي دفع بأولاده إلى رحلة غير مأمونة العواقب... وربّما كان الهاجس الدّاخليّ الخفيّ الذي كان يحدس به، هو أنَّ هذا التحرّك في هذه القضيَّة الغريبة في أحداثها وطلباتها، ستنتهي برجوع يوسف إليه. وقد يكون الضَّمير في كلمة (قضاها) راجعاً إلى الله، لا إلى يعقوب ـ كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين ـ مع بُعد مثل هذا الاحتمال.
وربّما كانت هذه الحاجة شيئاً لا نعلمه ممّا قد يكون معلوماً لدى يعقوب ممّا علّمه الله إيّاه من أسرار علمه، ليفتح قلبه على الأمل في المستقبل في عودتهم إليه جميعاً، وهو ما يُمكن أن نستوحيه من قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ}، عندما كان أولاده يخبرونه بأنّ الذئب قد أكل يوسف، وهو من العلم الخاصّ الذي يلهم الله به أنبياءه، أو يوحي به إليهم ممّا يرى الحكمة في انفتاحهم عليه، ممّا لا يريد أن يبيِّنوه للنّاس، لأنّه ليس من الأمور العامّة المرتبطة بالرّسالة، بل هي متَّصلة بمسألة شخصيَّة خاصَّة بالنّبيّ في شؤونه الذاتيّة، وربّما يتحدَّث عنه بأسلوب الإشعار أو الإيحاء لمصلحةٍ هناك، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[4]، لأنّهم يتعاملون مع الأمور من خلال الرّؤية المحدودة للأشياء، الأمر الّذي يحجب عنهم الكثير من الأسرار الّتي تختفي في غيب المستقبل أو خلفيَّات الحاضر.
{وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ}، الّذي لم يلتقِ به منذ زمنٍ طويل، وكانت هناك علاقة حميمة وثيقة بينهما في مواجهة التّعقيدات التي أحاطت بهما. وقد عاش هذا الأخ الشّقيق الشّوق إلى أخيه، وربّما أصابه اليأس من اللّقاء به، فانفتح عليه، و{قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[5]، وسوف أضمّك إلى أسرتي ـ كما كنّا ـ وسنعيش معاً، وستزول الآلام التي عشناها في هذا الزّمن الطّويل.
وبدأ يوسف يفكِّر بالطّريقة الّتي يضمّ بها أخاه إليه ويفصله عن بقيَّة إخوته. وهذا ما حدّثنا الله عنه في خطّةٍ فريدةٍ أثارت الجوّ بينه وبين إخوته بطريقة شرعيَّة حسب القانون الذي يحكم مصر من النّاحية التنفيذيّة، أو حسب شريعتهم من خلال إلزامهم بها... وهذا ما نتحدَّث عنه في حديثٍ آخر، إن شاء الله تعالى. والحمد لله ربّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [يوسف: 65].
[2] [يوسف: 66].
[3] [يوسف: 67].
[4] [يوسف: 68].
[5] [يوسف: 69].