مرّت أيّام طويلة منذ أن ابتعد يوسف(ع) عن أهله، وابتعدوا عنه، وربّما نسيهم بعد انقطاع أخبارهم عنه، وربّما نسوه بعد انقطاع أخباره عنهم، وتحوّل الجميع لدى بعضهم بعضاً إلى ذكرى تغيب عن الفكر أمام ضغط الأحداث المتلاحقة.
سيطرة يوسف على مصر
لقد سيطر النّبيّ يوسف(ع) على مصر وثرواتها الزراعيّة، وأصبح في موقع الإدارة الواسعة التي تنظّم للنّاس أرزاقهم، ولا سيّما في الحبوب، وبدأ الناس من مصر وخارجها يقصدونه للحصول على حاجاتهم. وجاءت السّنوات العجاف، وأجدبت الأرض في المناطق المحيطة بمصر، وقلّ النتاج لديها أو انعدم، وضاقت أحوال النّاس في أرضهم الَّتي يسكنون فيها، وبدؤوا يبحثون عن الطّعام في مناطق أخرى لم يزحف إليها الجدب، أو لم يترك أثره الكبير فيها، كما في المناطق الَّتي تتمتّع بوفرة الماء الّذي يغذّي الزرع.
وكانت فلسطين، الّتي كان النبيّ يعقوب(ع) وأهله يقيمون فيها، من المناطق الَّتي عرض لها الجدب، واشتدّ فيها الأمر على النّاس، وربّما سمعوا أنَّ عزيز مصر قد فتح خزائن الحبوب للنّاس، وأنّه يوزّعها بطريقة عادلة.
وقد كانت مصر الخصبة بشكلٍ طبيعيّ في أرضها ونيلها، سوقاً للمناطق القريبة منها المحيطة بها، وهكذا أراد النبيّ يعقوب(ع) لأولاده أن يعدّوا العدّة للسّفر إليها، ليجلبوا الطّعام إلى أهلهم، وذلك بطريقة تجاريّة بأسعارٍ معقولة، يستبدلون فيها بضاعةً ببضاعة أو بنقد.
تكريمه لأخوته
{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ}، لأنّه كان المسؤول عن توزيع الطّعام وإدارته، بناءً على الخطّة الاقتصاديّة التي وضعها، ما يفرض أن يكون المشرف على عمليّة التّنفيذ، فكان يستقبل القادمين للشّراء، ويتفاوض معهم على مقدار ما يطلبونه من الطّعام وما يدفعونه من المال.
{فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[1]، لأنّه كان صغيراً عندما فارقوه، وربّما تغيّرت الكثير من ملامحه الَّتي كانت ظاهرةً في طفولته، وربّما لم يعرفوه كونهم لم يحتملوا وجوده في هذا الموقع، لأنّ طبيعة الظروف الّتي أحاطت به ـ منذ إلقائه في الجبّ ـ لم تكن تسمح بذلك، ولا سيّما أنّ القافلة عثرت عليه وباعته كعبدٍ يتداوله الباعة في أسواق النّخاسة، الأمر الذي جعلهم يستبعدون فكرة وصوله إلى هذا الموقع الكبير، حتى لو قرّبتها إلى أذهانهم بعض الملامح البارزة في وجهه، لو حاولوا اكتشاف ذلك. ومن المعلوم أنّ حال الاستذكار تحتاج إلى حالةٍ ذهنيّةٍ معيّنة قادرة على ربط معطيات الماضي البعيد ـ الّذي تكاد تغيب ملامحه الدّقيقة ـ بالحاضر، وإلا بقي الواقع مجرّد حالة حياديّة لا توحي إلا بما يتحرّك حولها من أحاسيس محدودة بالواقع الحاضر.
أمَّا بالنِّسبة إلى يوسف، فقد كانت ملامحهم عالقةً في ذهنه، لأنَّهم كانوا كباراً عندما فارقهم، ولم يحدث في حياتهم تغيير يذكر بعد الصّورة البارزة لديه، لهذا كانت رؤيته لهم بمثابة الصّدمة التي أعادته إلى الماضي، وربّما يكون قد ساهم في ذلك أنّهم قد ذكروا أسماءهم ومواقع بلادهم عند قدومهم إليه، فمن المتعارف لدى النّاس سؤال الغرباء عن هويّتهم وبلادهم.
وهكذا، عرضوا على يوسف ما جاؤوا لأجله، فقدّم إليهم كلّ ما يريدونه، وزاد لهم في الكيل وأكرم وفادتهم، وربّما كان من الطبيعي أن يدور بينه وبينهم حديثٌ عن حياتهم وعن أبيهم وأهلهم، لاتّصال ذلك باهتمامات يوسف، فكان لا بدَّ من أن يسأل، بعد أن عرفهم، عن التّفاصيل الّتي تهمّه من أمرهم ومن أمر من يحبّهم، بالطّريقة الّتي لا تثير انتباههم واستغرابهم، وقد يكون الحديث قد وصل بهم إلى ذكر أخٍ شقيق لهم وأخٍ غير شقيق، عندما حدّثوه عن عددهم وعن أشياء أخرى لم يتعرّض لها القرآن، لأنّ أسلوبه في القصّة يتناول المواقف المهمّة في حركة الشّخص أو القصّة، دون الدّخول في التفاصيل الصّغيرة.
خطَّته للقاء أخيه
وكانت الصّدمة العنيفة تنتظرهم: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ}، وأرادوا أن يرحلوا إلى بلادهم، وجاؤوا ليودّعوه، وعرف منهم أنّهم سيعودون من جديد ليأخذوا مقداراً من الطّعام، لأنّ مشكلة فقدان الغذاء التي يعيشون فيها ستستمرّ لفترة طويلة، {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ}، لأتعرّف إليه كما تعرّفت إليكم، ولأكرم وفادته كما أكرمت وفادتكم، لأنّ هذا التعارف بيننا قد أوجد رابطةً وثيقةً، ولا بدّ لذلك من أن يمتدّ إلى جميع أفراد العائلة.
{أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ}، فقد أعطيتكم حقّكم وافياً، ولم أستغلّ حاجاتكم إليّ لأنقص من كيلكم كما يفعل المحتكرون، {وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}[2]، باستضافتي لكم في المنـزل الرّحب الّذي وجدتم فيه كلّ إعزازٍ وإكرام، {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ}[3]، فهذا هو شرط استمرار التعاون بيننا، فامتناعكم عن المجيء به إليّ لأتعرّف إليه، يوحي بعدم الثّقة بي، ويدلّ على عدم احترامكم لطلباتي الّتي أحاول من خلالها توثيق الصّلة بكم.
ولعلَّ أخوة يوسف قد استغربوا هذا الطّلب، أو فهموه كدليلٍ من دلائل المودَّة الَّتي يُظهرها يوسف لهم، ولكنّهم أثاروا الحديث معه حول صعوبة تنفيذ هذا الطّلب، لأنّ هذا الولد ـ وهو الأخ الشّقيق ليوسف ـ محبوب لدى أبيه إلى درجة عدم مقدرته على مفارقته له، وقد لا يثق بنا في المحافظة عليه، لأنّه أخٌ غير شقيق. ووعدوه بالتّجربة لتحقيق طلبه، {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}[4]، من أجل تنفيذ طلبك الهادف إلى تعميق الثّقة بيننا، واستمرار علاقتنا في المستقبل.
وأراد يوسف أن يؤكِّد الجوَّ الحميم لعلاقته بهم، ليدفعهم إلى العودة إليه بعد أن يؤكّدوا طبيعة الصلة الوثيقة التي تربطه بهم لدى أهلهم. {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} الَّذين يساعدونه في إدارة عمليّة التّجارة، {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ}، وأرجعوها إليهم حتى يكون ما أخذوه مجّاناً، {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ}، فيجدون فيها المفاجأة الكريمة الَّتي توحي بالثّقة وتدفع إلى العودة، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[5]، إلينا في سفرة جديدة.
محاولة إقناع يعقوب(ع)
وعاد إخوة يوسف من مصر إلى بلادهم يحملون الطّعام إلى أهلهم، كما يحملون همّ إقناع أبيهم بإرسال أخيهم "بنيامين" معهم إلى عزيز مصر، ليتمكّنوا من الاستمرار في التجارة الرّابحة التي وجدوا فيها الحلّ لمشكلتهم الاقتصاديّة، لأنّ توثيق العلاقة بالعزيز يسهّل عليهم ذلك، ويمدّهم بحاجاتهم الضروريّة، ويُبعد عنهم المعاناة التي واجهوها في حال الجدب، بينما يؤدّي تعقيد العلاقة به إلى مزيدٍ من الخسارة والحرمان وفقدان الفرصة الواسعة في أوضاعهم كلّها.
لقد كانوا يعيشون هذا الهمّ في نفوسهم، لأنّهم كانوا يعرفون أنّ أباهم لا يثق بهم، ولا بأنّهم سيحافظون على أخيهم، فقد سبق أن وافقهم على خروج أخيهم يوسف معهم، فجاؤوا إليه في المساء يحملون قميصه الملطّخ بدمٍ كاذب، زاعمين زوراً وبهتاناً أنَّ الذئب قد أكله. ولكنّهم اتفقوا على مواجهة الموضوع الجديد بحزمٍ عاطفيّ معه، مقتنعين بأنّه سيخضع لهذا الطّلب تحت تأثير الظّروف الصّعبة والحاجة النّاشئة من الأزمة العامّة التي يعيشها الجميع.
فرجعوا إلى أبيهم، واستراحوا إليه، وأخذوا يحدّثونه عمّا قالوه وعمّا عملوه وما جاؤوا به من الطّعام، وما لقوه من العزيز من حسن وفادة وجميل رعاية، حتى إذا وصلوا إلى حديث العودة من جديد للحصول على ما يحتاجون إليه من الطّعام مرّةً ثانيةً بعد نفاد ما جاؤوا به، ذكروا له الشّرط الصّعب الَّذي اشترطه العزيز عليهم، {قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} في المرّة القادمة، إلا أن يكون معنا أخونا غير الشَّقيق، ليكتمل عددنا أمام العزيز، {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} الطّعام الَّذي نحتاج إليه، لأنّ ذلك هو السَّبيل الوحيد للحصول على الكيل، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[6]، في تأكيدٍ يستهدف زرع الثّقة في نفسه، من خلال المواثيق الَّتي يقدّمونها إليه لإذهاب القلق من نفسه.
{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ}، فقد أكّدتم لي ما تحاولون تأكيده الآن بالأيمان المغلَّظة والمواثيق المؤكَّدة، ولكن سقطت كلّ تأكيداتكم أمام المأساة الَّتي لم تستطيعوا أن تقيموا حجّةً قاطعةً لي تثبت براءتكم منها فيما أقدمتم عليه أو فيما قصّرتم فيه. ولكن ماذا أفعل أمام إلحاحكم الشّديد في ظلّ ما نعيشه من أزمةٍ خانقةٍ لا تسمح لي بحريّة اختيار موقفي السّلبي.
ولكنّ تعجّبي من هذا الشّرط لا ينقضي، فما هي علاقة العزيز بأخيكم؟ وما دخل عمليّة الكيل التي هي عمليّة تجارية محض بهذا كلّه؟ فلأسلّم أمري إلى الله فأرسله معكم، مبتهلاً إليه تعالى أن يحفظه من كيد الكائدين وبغي الظّالمين، فهو الملاذ في كلّ الأحوال، {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[7]، فليس لنا إلا رحمته الّتي وسعت كلّ شيء، فمنها وجودنا، ومنها استمرار كلّ نعم الحياة من حولنا. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [يوسف: 58].
[2] [يوسف: 59].
[3] [يوسف: 60].
[4] [يوسف: 61].
[5] [يوسف: 62].
[6] [يوسف: 63].
[7] [يوسف: 64].