أدرك يوسف أنَّ الملك يستقدمه لحاجته إليه، الّتي تتيح له التعرّف إلى الأشياء الخفيَّة التي لا يدركها إلا الّذين يعرفون بواطن الأمور، بما في ذلك الأحلام الغامضة. وكان يوسف يدرك أنَّ الملك سوف يطلب منه مساعدته فيما يحتاج إليه من إدارة أمور المملكة، لأنّه فهم أنَّ الملك لا يملك المساعدين العارفين والإداريّين الأمناء، ولكنّه شعر بأنَّ المستقبل ينتظره من موقع الحاجة إلى ما يحمله من المعرفة، ولم يلهث وراء ما يراد له، ولم ينبهر به، ولكنَّه في الوقت نفسه، كان يطمح إلى أن يتسلَّم المسألة الواسعة في إدارة أمور الدَّولة، ولا سيّما الماليَّة منها، غير أنّه أراد أن يلتقي الملك وهو نقيّ الثّوب في عصمةٍ أخلاقيّة، وخصوصاً فيما أثير حوله من أمورٍ اختلف النّاس عليه فيها، وهذا ما جعله يضغط لإظهار الحقيقة العفيفة الّتي جسَّدها في امتناعه عن خضوعه للإغراءات النّسائيّة.
الاعتراف ببراءة يوسف
ولهذا، قال للرّسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}[1]، مراودةً له، باعتبار أنَّ ذلك من كيد النّساء في أسلوبهنّ في اجتذاب الرّجل إليهنّ لفعل الفاحشة.
واستدعى الملك النّساء متسائلاً: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ}، فاعترفْنَ بأنّهنّ لم يعلمْن عليه من سوء، {قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}، بل كان في أعلى درجات العفَّة لامتناعه عن الاستجابة لهنّ. أمَّا امرأة العزيز الّتي أرادت أن تضغط عليه، فقد عاشت الصَّحوة الأخلاقيّة، {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}، وانكشفت حقائق الأمور، {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[2]، فقد صدق في تبرئة نفسه مما نُسب إليه، وإثبات الجريمة عليَّ.
وهكذا حصل يوسف على الاعتراف الواضح الصَّريح الّذي لا يقبل الشّكّ ببراءته، ليبرز إلى المجتمع شخصيّةً أخلاقيّةً في أعلى درجات العفَّة من النّاحية الجنسيّة، بالرّغم من كلّ الإغراءات الشّديدة التي تجتذب النّفوس الضّعيفة، وقد عبّرت امرأة العزيز عن أنّها كانت تحترم إرادته القويّة، وأنّها لم تخنه بالغيب، {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}، فلم أتحدَّث عنه بسوءٍ في غيبته، ولم يحصل منّي ضدّه أيّ كلامٍ سيّئ، إلا ما قلته في حضوره عند تهديدي له، فقد أخطأت معه، ولكنّي لم أخن سمعته، لأنّي أعلم أنَّ الخيانة لا تجدي نفعاً، وأنَّ الخائن لا بدَّ من أن تظهر خيانته. {وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[3]، بل يكشف كيدهم بأيّة وسيلة، فيقفون موقف الخزي والعار أمام الجميع، وهذا ما لا أريده لنفسي.
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}، فأنا لا أدَّعي البراءة لنفسي بما عملته وأقدمت عليه، لأنّها ككلّ النّفوس الضّعيفة أمام غرائزها الّتي تدفع أصحابها إلى الخطيئة. {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، بما قد يكمن في داخلي من أنواع السّوء وتهاويله، {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} بما يثيره في نفس الإنسان من عوامل الهداية، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[4]، يغفر الذّنب لمن تاب إليه، ويرحم عبده الّذي يسقط أمام نقاط الضَّعف في نفسه وفي مجتمعه، عندما يحاول أن يستقيم ليتابع السَّير في خطّ الطّاعة. وهذا الاعتراف من هذه المرأة قد يوحي بأنّها التزمت بالإيمان وبخوفها من الله ورجوعها إليه.
وهكذا، وقفت هذه المرأة المتمرّدة المتعالية خاشعةً أمام الله في حركة الحقيقة، في موقف نقدٍ ذاتيّ، بعد أن واجهت الظّروف الصَّعبة التي أحاطت بها في موقفها من يوسف، بحيث دفعها إلى الاعتراف العلنيّ أمام المجتمع، والجهر بالحقيقة الّتي كانت تحاول إخفاءها وإلصاق تهمة التمرّد بيوسف، مرتكزةً في ذلك على القيم الفاسدة للمجتمع الّتي تمنح القويّ الحقّ في العبث بالضَّعيف في أخلاقه وكرامته، بحيث يملك أن يدخله السِّجن لذنبٍ لم يرتكبه، ليبقى القويّ في النّظرة الاجتماعيّة العامّة خارج دائرة الإدانة، لأنّه فوق مستوى الاتّهام، على أساس القوانين الطبقيَّة الّتي تجعل العدالة خاضعةً للتَّمييز العنصريّ، ولا سيّما في قضيَّة السَّادة والعبيد، لأنَّ العبد مجرّد شيءٍ من الأشياء الّتي يملكها السيِّد، بحيث يملك الحريّة في أن يفعل به ما يشاء من دون قاعدة إنسانيَّة.
نتائج الثَّبات على الحقّ
وقد كان لثبات يوسف على إيمانه القويّ، والتزامه الأخلاقيّ، وشعوره بالقوّة الإنسانيّة الكبيرة في داخل ذاته، في رساليَّته الّتي تشمل كلَّ كيانه، وإصراره على تحمّل أقسى الآلام وأشدّ الأوضاع، ما جعله يؤكِّد استقامته في خطِّ الرّسالة، أكبر الأثر في إخضاع المجتمع الّذي كانت امرأة العزيز تمثِّل القمَّة فيه. كما أنَّ حاجة الملك إليه، أضافت إلى رصيده عنصر قوّة قرّبه من مستوى الطّبقة الّتي أدانته، إن لم تكن رفعته فوقها، ما أحدث هزّةً عنيفةً في داخل الشّعور، وحركةً يقظةً في أعماق الضَّمير، وهذا هو العنصر القويّ الّذي أدَّى إلى إيضاح الحقيقة وإعلانها أمام الملأ، ولا سيَّما أنَّ الملك الّذي يخضع الجميع له، كان يريد ذلك، وقد دعاه من أجل أن يستخلصه لنفسه.
ولم تقف القضيَّة عند حاجة الملك، بل امتدَّت إلى داخل الرّوح، لتتحوَّل إلى حركة مناجاةٍ ذاتيّةٍ خفيّةٍ تضع الظّاهرة المنحرفة في موقعها الطّبيعيّ من حركة الغرائز في داخل الجسد، لأنَّ الغرائز عندما تستيقظ في الجسد وتلتهب، توحي إلى النَّفس بمختلف الأفكار والأهواء، وتدفعها إلى التمرّد والعصيان والانحراف، ولكنَّها لا تقف أمام ذلك في دائرة القضاء الحتميّ الّذي لا فكاك منه، بل يمكن لها أن تتحرَّر منه في آفاق رحمة الله الّتي توحي إلى النَّفس بالهداية، وإلى الخطوات بالاستقامة، وإلى الإرادة المنحرفة بالتّراجع عن الانحراف بالاتّجاه نحو الإرادة المستقيمة.
وهذا ما يعيشه الإنسان بين يدي الله في وقفته الخاشعة في حال التّوبة الّتي تتعلّق بطلب المغفرة الإلهيّة والرّحمة الرّبوبيّة، ليفسح لها في المجال في رضوانه، ويقبلها في مواقع هداه.
وقد نستوحي من موقف يوسف المتعالي على السِّجن، الواثق بنفسه، كيف يمكن للمؤمن العامل في سبيل الله، الدّاعي إلى دينه، أن يملك الإصرار على موقفه في مواقع التحدّي، ويتحمَّل الألم والحرمان، فلا يضعف عنفوانه أمام حاجة السّلطة العليا إليه، ليعطي الصّورة الواضحة عن الموقف الإيمانيّ المرتكز على المبادئ القويمة من خلال تأكيد العقيدة الحقَّة، وليدفع الآخرين إلى التّراجع عن مواقفهم المهزوزة، والانتقال إلى الخطِّ الصَّحيح الّذي يؤدِّي بهم إلى الخير والرّحمة والفلاح.
إدارة الشّؤون الاقتصاديّة
والتقى النّبيّ يوسف بالملك، وتحدَّثا طويلاً في أكثر من قضيَّة من قضايا الدَّولة والمشاكل التي كانت تواجه الملك في المسائل الإداريّة والاقتصاديّة، وشعر الملك بأنَّ هذا الشّابّ يملك الخزّان من المعرفة في الشّؤون العامَّة، كما يملك الكثير من الأمانة والصِّدق، ما يحفظ للدّولة ماليّتها، ويؤمّن لها النّظام الإداريّ بطريقةٍ متوازنةٍ مما لم يعرفه في تاريخه من خلال موظّفيه ومساعديه، الأمر الَّذي كان يجلب له المشاكل ويتعبه في عمليَّة الإدارة والحماية لأموال الدَّولة.
ولذلك، بادره قائلاً: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}[5]، حفيظ على الأمانة، وصاحب منزلةٍ وكرامةٍ عندنا، لأنّنا وجدنا عندك الصّدق والخبرة والأمانة، فماذا تقترح في الموقع الّذي تتسلّمه؟ {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ}[6]، في إدارة الشّؤون الاقتصاديّة، لأنّه يملك المؤهّلات والخبرة الّتي تمكّنه من إنجاح خطّته المرسومة لتخفيف الأعباء الثّقيلة الّتي تواجه البلد.
وهكذا كان، فقد عهد إليه الملك إدارة الشّؤون الماليَّة والاقتصاديَّة، وأصبح بذلك في موقعٍ كبيرٍ يستطيع من خلاله تحقيق هدفه في إقامة العدل ورعاية المستضعفين، فهو ليس من الّذين يزحفون إلى المواقع المتقدّمة في المجتمع أو في الدَّولة لأجل طموحاتٍ ذاتيّة، ولو كان يسعى إلى شيءٍ من هذا القبيل، لاستطاع تخفيف الكثير من الآلام والمشاكل الّتي تحمَّلها في السّجن وفي خارجه، ولكنَّه لم يأخذ بذلك، ليبقى في ساحة الإيمان بعيداً عن كلِّ أجواء الانحراف، لأنّه صاحب رسالة، ولهذا، فإنّه يعمل على توفير الامتداد لها في حياة النَّاس من خلال بعض المواقع المتقدِّمة.
لقد نظر إلى وظيفته الجديدة الواسعة كوسيلةٍ لإقامة العدل ونصرة المظلوم وإسقاط الظّالم، وهذا جزءٌ من رسالته لتحقيق هدفه الأسمى، وهو هدف الرّسالات، بأن يقوم النّاس حاكماً ومحكوماً بالعدل. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [يوسف: 50].
[2] [يوسف: 51].
[3] [يوسف: 52].
[4] [يوسف: 53].
[5] [يوسف: 54].
[6] [يوسف: 55].